التفسير الواضح

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٨

وحده متى تأتى؟ وما أنا إلا بشير ونذير ، وليس لي علم بالغيب إلا ما أطلعنى الله عليه فقط ، على أن إخفاء الساعة من دعائم الحياة في الدنيا ، ولو أننا نعلم متى نفارقها لكان لنا نظام آخر في معيشتنا وحياتنا ، ولكن الله الحكيم العليم أخفاها لأسرار وحكم هو يعلمها ، ولعل إخفاءها لنستعد في كل وقت ، وما يدريك؟ لعل الساعة يكون قريبا حدوثها ، لقد ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «بعثت أنا والسّاعة كهاتين» وأشار إلى السبابة والوسطى.

إن الله لعن الكافرين وطردهم من رحمته وأعد لهم عذاب جهنم ، نارا مسعرة خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا يلي أمورهم ، ولا نصيرا ينصرهم يوم تقلب وجوههم في النار التي وقودها الناس والحجارة ، وخصت الوجوه بالذكر لأنها طالما عصت ربها ، وآذت رسوله ، وتكبرت على عباده المؤمنين.

واذكر يوم يقولون : يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسول!! ندموا على ما فرط منهم حين رأوا العذاب المعد لهم ، ندموا ولات ساعة مندم؟

وقالوا معتذرين : يا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فهم الذين قادونا إلى هذا العذاب وأضلونا عن سواء السبيل.

ربنا آتهم ضعفين من العذاب ، ضعف لكفرهم ، وسوء أعمالهم ، وضعف لأنهم أضلونا وقادونا إلى هذا. ربنا اطردهم من رحمتك وأبعدهم عن جنابك بعدا كبيرا فهم يستحقون ذلك ، وكثيرا ما ينازعون ، ويلقى كل منهم التبعة على الآخر والكل سواء في العذاب المهين ؛ لأن الله خلق عقلا وفكرا مستقلا فآثر طريق الشيطان والهوى على طريق الحق والهدى فكان هذا جزاءه ومأواه ، وبئس مأوى الظالمين مأواهم.

توجيهات وعظات

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً (٦٩)

١٢١

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (٧١)

المفردات :

(وَجِيهاً) الوجيه : العظيم القدر ، الرفيع المنزلة ، المعروف بكرم الفعال (سَدِيداً) : صوابا.

المعنى :

سبق أن بين الحق ـ تبارك وتعالى ـ أن إيذاء الله يوجب اللعن والطرد من رحمة الله ، وهذا الإيذاء يجر إلى الكفر ، وهناك نوع منه يجر إلى الإثم ، نهى الله المؤمنين عنه قائلا :

يا أيها المؤمنون لا تتقدموا إلى رسولكم بإيذاء أيا كان نوعه حتى لا تكونوا كالذين آذوا موسى ، فبرأه الله مما قالوا ، وأعد لمن آذاه عذابا شديدا. وكان موسى عند الله وجيها.

وقد ورد أن بعض الناس لم يرض بقسمة الرسول ، وبحكمه في الفيء ، وهذا بلا شك إيذاء.

أما إيذاء موسى فحسبك ما رواه القرآن من أن بعض بنى إسرائيل قالوا لموسى : اذهب أنت وربك فقاتلا. وقولهم : لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة. وقولهم : لن نصبر على طعام واحد ، وقيل : إنهم كانوا يصفونه بأنه آدر.

فأراد الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن يرشد المؤمنين إلى طريق الخير ، وينبههم إلى مواضع الخطر ، حتى لا يكونوا كبني إسرائيل مع موسى ، فإذا أمرهم الرسول بقتال لا يقولون : اذهب أنت وربك فقاتلا ، ولا يليق بالمؤمنين أن يسألوا ما لم يؤذن لهم فيه ،

١٢٢

وإذا أمروا بأمر أن يأتوا منه ما استطاعوا ، وقد برأه الله من قولهم : إنه آدر ، حيث كشف عورته قهرا عنه فرأوه سليما صحيحا ، وقد برأه مما قالوا حيث قطع حججهم ، وأبطل كيدهم ، ثم ضرب عليهم الذلة والمسكنة ، وكان موسى عند الله وجيها وكريما محبوبا.

فاحذروا أيها المؤمنون ، ولا تكونوا كمن سبقكم ، فهذا الرسول الكريم على الله مبرأ من كل دنس وعيب وآل بيته الكرام ، فكفوا عن الأذى ، واتبعوا ما أنزل عليكم ، وأطيعوا الله ورسوله لعلكم تفلحون.

ويا أيها المؤمنون اتقوا الله ، وقولوا قولا سديدا ، قولا صوابا فيه خيركم ، ولا تقولوا ما فيه ضلالكم وما به عذابكم من كل قول فيه إثم وفحش وزور وبهتان ، فإن تتقوا وتصلحوا أنفسكم ، وتقولوا الخير كالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر : يصلح لكم أعمالكم في الدنيا والآخرة ويغفر لكم ذنوبكم.

فيا عباد الله : إن تتقوا الله يصلح لكم أعمالكم ، ويمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ، ويؤت كل ذي فضل فضله في الآخرة ، والله على كل شيء قدير ، ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما.

أمانة التكاليف وحملها

إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (٧٢) لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٣)

١٢٣

(الْأَمانَةَ) : المراد بها التكاليف (فَأَبَيْنَ) : امتنعن خوفا وإشفاقا.

وهذا ختام رائع لتلك السورة التي جمعت أوامر عالية ، وآدابا سامية وحكما ومواعظ رائعة كلها من تكاليف الإسلام بل هي لبابه ، وفي هذه الآيات بيان أن التكاليف ليست هينة ، وإنما هي عظائم الأمور التي نأت عنها السموات والأرضون.

المعنى :

إنا عرضنا الأمانة ـ التكاليف كلها من طاعات وفرائض ـ عرضناها على السموات والأرض والجبال فلم تطقها وأبين أن يحملنها وحملها الإنسان على ما بها ؛ إنه كان ظلوما جهولا.

الله ـ سبحانه وتعالى ـ عرض التكاليف على السموات وما فيها ، والأرض وما عليها من جبال وسهول ونبات وغيره ، فأدت ما طلب منها فورا ، وأبت كل هذه الأشياء أن تحمل الأمانة وتؤخر الوفاء بها ، ألا ترى إلى الملائكة؟! هل هم يحملون الأمانة؟ أم هم يقومون بما عليهم فورا ، ولا يحملون شيئا ، الملائكة على هذا الاعتبار لم يحملوا الأمانة ، ولأضربن لك مثلا بسيطا : إذا وجب الظهر وجبت عليك صلاته في وقته ، فإن أديته فورا صدق عليك أنك لم تحمل أمانته بل أديتها في وقتها كالرجل الذي عنده وديعة إلى أجل إذا حل الأجل لم يحملها ، بل يعطيها لصاحبها ، وإذا تأخرت عن الصلاة حتى فات الوقت كنت حاملا للأمانة ، والله أعلم. فالسماوات والأرض والجبال ومن فيهن وما عليهن لا يحملون الأمانة أبدا بل يقومون بما طلب منهم فورا ساعة طلبه.

أما الإنسان ، أى : بعضه فقد حمل الأمانة على ما بها من جزاء العاملين وعذاب المقصرين بهذا المعنى السابق ، ولم يأب حملها ، ولم يشفق منها ومن عذابها إنه كان ظلوما لنفسه جهولا لم يعمل ما يقيه من العذاب المعد لمن خان الأمانة ، ولم يوف بالعهد.

وكان من نتائج أن الله حمله تلك التكاليف فحملها : أن الله يعذب المشركين والمنافقين على أعمالهم السيئة ، وعلى خيانتهم للأمانة وعدم وفائهم بالعهود.

وكان من نتائج ذلك أيضا أن الله يتوب على المؤمنين ، ويثيبهم على ما عملوا من صالح الأعمال ، وعلى ما أدوا من أمانات ووفوا بالتزامات ، وكان الله غفورا رحيما.

١٢٤

سورة سبأ

مكية كلها إلا آية (٦) : (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) الآية .. فقيل فيها : إنها مكية وقيل : هي مدنية. وآياتها أربع وخمسون آية. ويدور محور الكلام فيها على البعث ، ونقاش المشركين في أعمالهم وعقائدهم ، وخاصة إثبات البعث ، وفي خلال ذلك سيقت بعض القصص للعبرة والتسلية ..

إثبات البعث وبيان دواعيه على منكريه

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ

١٢٥

الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (٨) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٩)

المفردات :

(يَلِجُ) : يدخل فيها (يَعْرُجُ فِيها) : يصعد فيها (لا يَعْزُبُ) : لا يغيب (مُعاجِزِينَ) : عاجزه وأعجزه : سبقه وغالبه (مُزِّقْتُمْ) : قطعتم قطعا صغيرة (نَخْسِفْ) خسف المكان : ذهب في الأرض ، وخسف به الأرض غاب به فيها (كِسَفاً) جمع كسفة : وهي القطعة (مُنِيبٍ) : راجع إلى ربه.

وهذا افتتاح لسورة سبأ وهي سورة مكية عنيت بإثبات البعث والرد على منكريه ، كما ذكرنا.

المقصود من هذه الآيات إثبات البعث ، وقدم له الحق ـ تبارك وتعالى ـ بمقدمة غاية في الدقة ، ونهاية في الحسن والجمال ، إذ نعم الله تنحصر في الجملة في نعمتين : نعمة الإيجاد والإبقاء في الدنيا ، ونعمة الإعادة والدوام في الآخرة ، ونرى أن السورة التي بدأت بالحمد في القرآن خمس : اثنتان في النصف الأول هما الأنعام والكهف ، واثنتان في النصف الثاني هما سبأ وفاطر ، والخامسة الفاتحة وهي توضع في الأول والآخر.

١٢٦

وفي أول سورة الأنعام الإشارة إلى نعمة الإيجاد (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) وفي أول الكهف الإشارة إلى الإبقاء (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ) ولا تبقى الدنيا بلا قانون وأحكام دستور ونظام ولذا تكلم فيها عن القرآن ، وهنا الإشارة إلى الإعادة والبعث بدليل قوله : (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) وفي أول سورة فاطر الإشارة إلى دوام وبقاء الحياة الآخرة (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ) والملائكة كلها لا تكون رسلا إلا يوم القيامة (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ).

وسورة الفاتحة جمعت البدء والإعادة معا فقرئت في البدء والختام للقرآن.

المعنى :

الحمد لله حمدا يوازى نعماءه ، ويكافئ فضله ، فهو الله الذي لا إله إلا هو له الحمد المطلق في الأولى ، وله الحمد في الآخرة ، وله وحده الحكم ، وإليه وحده ترجعون ، الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض ملكا وخلقا وعبيدا وتصريفا فهو وحده صاحب النعم ؛ لأنه المالك للكل ؛ فهو إذن المستحق للحمد في الأولى والآخرة ، وهو الحكيم الخبير بكل كائن.

يعلم كل ما يلج في الأرض ويدخل فيها من بذور وماء وثمار وكنوز ودفائن وأجسام ، ويعلم كل ما يخرج منها من نبات وأشجار ، وحيوان ومياه ومعادن وأحجار ، ويعلم ما ينزل من السماء من مطر وثلوج وصواعق وأرزاق وما يعرج فيها ويصعد إليها من الملائكة وأعمال العباد.

وهو مع ذلك كله الغفور الرحيم ، لمن يفرط في واجب الشكر والثناء لصاحب هذه النعم.

ثم بين القرآن أن هذه النعمة التي يستحق بها الحمد وهي نعمة الحياة الآخرة أنكرها قوم وكفروا بها فقال :

وقال الذين كفروا من المشركين وغيرهم الذين ينكرون البعث والحياة الآخرة قالوا لا : لا تأتينا الساعة أبدا. فرد الله عليهم بقوله لنبيه : قل لهم : بلى ستأتيكم أيها

١٢٧

المنكرون ثم أقسم على ذلك مؤكدا فقال : وربي لتأتينكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين.

يا أخى : قف معى عند قوله تعالى : (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ ، وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ) أليست معجزة القرآن حيث ذكر تفتيت الذرة من أربعة عشر قرنا؟! (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) [سورة فصلت آية ٥٣].

لم يكتف الله بالقسم على إتيان يوم الساعة بل ذكر الدليل على ذلك فقال : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) بعد قوله : (عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) ولعل هذا هو السر في اختيار وصف الله بالعلم هنا ، ووجه الدلالة أنهم كانوا يفهمون أن البعث محال لتفتت الأجسام وضياع الأجزاء فكيف يتأتى جمعها بعد تفريقها؟ والله يرد عليهم بأنه عالم يعلم السر وأخفى ، وهو العليم بكل الجزئيات التي في السموات والأرضين ، على أنه حكيم ومن الحكمة أن يجازى المحسن على إحسانه ، ويعاقب المسيء على إساءته ، وأن الدنيا ليست محل جزاء بل هي موضع ابتلاء (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) (١) فربك يوم القيامة يجزى الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالجنة ، أولئك البعيدون في درجات الكمال الذين يشار إليهم بالبنان لأنهم آمنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة من الله ورضوان ، ولهم رزق كريم لا يتبعه من ولا ألم ، وليس صاحبه مهددا بفقر أو موت.

والذين سعوا جاهدين في إبطال آياتنا حالة كونهم معتقدين عجزنا وأننا لن نحيط بأعمالهم ، وفي قراءة (معاجزين) أى : مسابقين الله ، وإن كان هذا مما لا يتصور إلا أن المكذبين بآيات الله لما قدروا في أنفسهم وطمعوا أن كيدهم في الإسلام يتم لهم شبهوا بمن يسابق الله بحسب زعمهم.

والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من رجز ـ وهو أسوأ العذاب ـ أليم غاية الألم ، إذا لا بد من البعث ليأخذ كل جزاءه على ما قدم.

__________________

١ ـ سورة النجم آية ٣١.

١٢٨

تلك مقالة الكفار والرد عليها ، أما الذين أوتوا العلم ، وهدوا إلى الطيب من القول فيرون أن الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ، وهو يهدى إلى صراط العزيز الحميد ، وفيه الإخبار بالبعث وأحوال يوم القيامة فهو حق لا شك فيه.

وانظر إلى الكفار يقولون على سبيل السخرية والاستهزاء : هل ندلكم على رجل يخبركم بالبعث إذا مزقتم كل ممزق؟! أبعد هذا التمزيق وأننا نضل في الأرض نبعث على خلق جديد إن هذا لعجيب؟!! تلك مقالة الكفار ثم يتبعونها بقولهم : أهذا الرجل يفترى على الله الكذب عمدا ، أم هو رجل مجنون قد اختلط عقله فما يدرى ما يقول؟!

بل أنتم أيها الكفار قوم ليس عندكم استعداد للإيمان بالآخرة ، وأنتم في العذاب بسبب أعمالكم والضلال البعيد لاعتقادكم الباطل؟

أعموا فلم يروا ما بين أيديهم ، وما خلفهم ، وما على جوانبهم في السماء والأرض من آيات شاهدة وأدلة ناطقة على قدرة الله القادرة ، وعلى علمه الكامل المحيط بكل صغيرة وكبيرة ، وأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قادر على أن يخسف بهم الأرض كما خسف بقارون لما بغى ، أو يسقط عليهم كسفا من السماء كما فعل بأصحاب الأيكة لما ظلموا ، إن في ذلك كله لآيات لكل عبد منيب تواب يرجع إلى الله.

داوود وسليمان

وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ

١٢٩

رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (١٢) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (١٣) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (١٤)

المفردات :

(أَوِّبِي) التأويب : التسبيح (سابِغاتٍ) المراد : دروعا سابغات ، وهي الدروع الكوامل. يقال : سبغ الدرع والثوب وغيرهما : إذا غطى كل ما هو عليه وفضل منه (وَقَدِّرْ) من التقدير ، أى : قدر تقديرا حسنا يجمع بين الخفة والمتانة (فِي السَّرْدِ) أى : نسج الدروع المحكمة ، بمعنى أن تكون حلقها متوالية غير مختلفة (أَسَلْنا) : جعلناها سائلة (عَيْنَ الْقِطْرِ) : هو النحاس المذاب (يَزِغْ مِنْهُمْ) زاغ عن الأمر : ابتعد وعدل عنه (مَحارِيبَ) جمع : محراب ، وهو البناء المرتفع ، ومنه محراب الصلاة ، لأنه يرفع ويعظم (وَتَماثِيلَ) : جمع تمثال وهو كل شيء مثلته بشيء ، أى : صورته بصورته سواء كان حيوانا أو غيره (وَجِفانٍ) : جمع جفنة ، وهي القصعة الكبيرة ، والمراد إناء للأكل كبير (كَالْجَوابِ) : جمع جابية : وهي الحفرة الكبيرة يجيء إليها الماء ، أى : يجتمع فيها الماء (راسِياتٍ) المراد أنها ثابتات لا تتحرك لعظمها (دَابَّةُ الْأَرْضِ) : وهي دويبة تأكل الخشب يقال لها الأرضة (مِنْسَأَتَهُ) أى : عصاه (خَرَّ) : سقط.

المعنى :

كان داود في عصر حروب ونزاع بينه وبين الملك المعاصر حتى أتيحت له الفرصة

١٣٠

فقتل داود جالوت ، وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ، وخاصة ما يتعلق بالحروب كعمل الدروع السابغات وغير ذلك.

ولقد آتينا داود منا فضلا كبيرا يظهر في نواح كثيرة أظهرها أنا قلنا : يا جبال أوبى معه وسبحي (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ* وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) [سورة ص ١٨ ، ١٩]. وهذا أمر يدل على عظم شأن داود وكبرياء سلطانه حيث جعل الله الجبال عقلاء منقادين لأمره في نفاذ مشيئته ، تسبيح إذا سبح ، وتكبر إذا كبر ، ولقد سخرنا لداود الطير ، وألنا له الحديد ، ولا شك أن إلانة الحديد بدون نار معجزة لداود ، وهي مناسبة لحاله ، وهو في أشد الحاجة لها هو وقومه ، وأمرناه : أن اعمل دروعا سابغات كاملات تحفظك من بطش العدو ، وتقيك إذا اشتد الحرب وحمى الوطيس.

وقدر في نسجها تقديرا حسنا يجمع بين خفتها ومتانتها ، وأن تكون متتابعة متلاحقة ، ولعل هذا هو السر في قوله : (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) إذ السرد يعطى معنى التتابع.

واعملوا يا آل داود بعد هذا صالحا من الأعمال فإنه لا نجاح ولا فوز على العدو بالقوة المادية فقط ، بل لا بد من العمل الصالح الذي يقوم النفوس ويطهر الأرواح ، ويحصنها حتى لا تكبو ، ومن المطلع على خفايا النفوس؟ إنه الله عالم الغيب والشهادة إنه بما تعملون بصير فاحذروه.

وسخرنا لسليمان الريح تجرى رخاء حيث أصاب ، ريح مسرعة مع الهدوء والسكون تقطع في الغداة ما يقطعه المسافر النشيط في شهر وتقطع في الرواح ما يقطعه المسافر في شهر ، فغدوها شهر ورواحها شهر ، والله على كل شيء قدير.

وأسلنا لسليمان عين القطر ، وأجرينا له عينا تخرج نحاسا مذابا بلا نار ولا فحم يستخدمه في أغراضه ، وتكون معجزة له أمام بنى إسرائيل.

ويظهر ـ والله أعلم ـ أن داود كافح وقاتل حتى خلص الملك من الأعداء فمدته كانت مدة حرب وجلاد ، ولذلك كان مشغولا بعمل الدروع السوابغ ، وفي أيام سليمان كان الهدوء مخيما على المملكة فكان سليمان ينتقل على بساطه الذي يحمله الريح

١٣١

ليشرف على أطراف المملكة الواسعة الأرجاء ، والشعب كان مشغولا بالبناء والصناعة وتأسيس الدور والمعابد ، ولذلك من الله عليه بإذابة النحاس له ، وتسخير الجن يعملون له ما يشاء من محاريب ، وتماثيل ، وقصاع كالجوابى ، وقدور واسعة ثقيلة لا تنقل بل هي راسيات كالجبال.

وكانت الجن تعمل بين يديه ما يريده بإذن ربه ، وهي مهددة فمن يزغ منهم عن أمر الله : يملّ عنه يذقه عذابا شديدا من عذاب السعير.

فيا آل داود : هذه بعض نعم الله عليكم ، وهي نعم سابغة كثيرة ، ومن أعطى هذا فليعمل لله شكرا ، وقليل من عباده الشكور ، نعم قليل ما هم ، فقليل من تصفو نفسه ويطهر قلبه ، ويقابل الإحسان بالشكر والنعمة بالحمد «إن الإنسان لربه لكنود».

وخذوا أيها الناس العبرة من داود وسليمان ، عبدا ربهما وشكرا وأخلصا فمن الله عليهما بالنعم التي لا تحصى ، وأجرى على أيديهما المعجزات.

فلما قضينا على سليمان بالموت ، وحكمنا عليه به ، ما دل الجن التي كانت تعمل مسخرة تحت أمره على موته إلا دويبة صغيرة كانت تأكل من عصاه فسقط على الأرض بعد موته بسنة ـ كما ورد ـ.

فلما سقط تبينت الجن أمر موته ، وتبين لهم وللناس أنهم لا يعلمون الغيب ولو أنهم يعلمونه لعلموا بموته ولما لبثوا في العذاب المهين الذي هم فيه ، وهو عذاب التسخير ، ومن هنا يمكننا أن نتبصر فيما يقال عن الجن وعلمهم الغيب حتى لا نكون فريسة لأوهام المضللين الفسقة.

فاعتبروا يا أولى الأبصار بتلك القصص فإنها عبرة وعظة.

قصة سبأ وسيل العرم

لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ

١٣٢

(١٥) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (١٧) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١٨) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (١٩) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٢١)

المفردات :

(لِسَبَإٍ) : قبيلة من قبائل العرب العاربة كانت تسكن بلاد اليمن ، وتعتبر أصلا تفرع منها عدة فروع في الجزيرة (سَيْلَ الْعَرِمِ) : جمع عرمة وهو ما يمسك الماء من بناء وغيره كالسد (ذَواتَيْ) مثنى ذات (أُكُلٍ) بمعنى : مأكول (خَمْطٍ) : مر بشع ، وقيل : كل شجر له شوك وليس له ثمر (وَأَثْلٍ) : نبات ينتفع بخشبه وليس له ثمر و (سِدْرٍ) : نوع من الشجر ، قيل : له ثمر يؤكل وهو النبق ، وقيل : لا ثمر له.

ومنه الضار ، وهو المراد هنا (وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) : فرقناهم في البلاد الغريبة (سلطان) : من حجة في اتباعه.

١٣٣

لما بين الله حال المؤمنين الأوابين بذكر قصة داود وسليمان بين هنا حال الكفار الضالين الذين قابلوا النعم بالعصيان ، فكان جزاؤهم الحرمان.

المعنى :

لقد كان لسبأ في مساكنهم باليمن آية وعلامة على قدرة الله التي تحيى الأرض بعد موتها ، والتي تخرج من الحبة شجرة يانعة الثمار ذات قطوف دانية ، وهذه الآية جنتان عن يمين بلدهم وشماله ، وليس المراد بستانين فقط ، بل المراد نوعان من البساتين : نوع عن اليمين وآخر على الشمال ، وبعض العلماء يفسر الآية في قوله : (آية جنتان) بأنها قصة السبئيين وأنهم قوم أنعم الله عليهم بالنعم ثم أعرضوا فأرسل الله عليهم ما أهلكهم وبدد شملهم ، وفي هذا عبرة وعظة فهل من مدكر؟!

والسبئيون قوم سكنوا بلاد اليمن وأسسوا مدنا عظيمة ذات حصون وقلاع وقصور شامخة ، وقد أنعم الله عليهم بالخصب والمطر ، وقد هداهم تفكيرهم إلى إقامة سد عال بين جبلين حجزوا به الماء في الوادي ، وصرفوه بحكمة وهندسة ، فأخصبت أراضيهم ، وزرعوا الزروع ، وأنشأوا الحدائق الفيحاء ذات الثمار الكثيرة ، روى أنه كانت المرأة منهم تسير وسط الحدائق حاملة مكتلها ـ المقطف المصنوع من الخوص ـ فوق رأسها فلا تمضى في السير مدة حتى يمتلئ المكتل من الثمار المتساقطة من الشجر.

اتسعت لديهم النعمة ، وفاض عندهم الخير ، فأكلوا من رزق ربهم ، وتمتعوا بنعمه ، وقيل لهم على ألسنة الرسل : اشكروا ربكم الذي أنعم عليكم!!

وهذه الرقعة من الأرض ـ بلا شك ـ بلدة طيبة الثمار والهواء ، كثيرة الخيرات والبركات ، والمنعم بها عليكم رب غفور ستار يستر الذنوب ، ويعفو عن السيئات. فكان أهل سبأ خلقاء أن يشكروا الله على نعمه ، وأن يحمدوه على ما أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ، ورزقهم من الطيبات ، ولكنهم لم يسيروا في الطريق المستقيم بل كذبوا وأعرضوا ، وغرتهم الدنيا بزخارفها وغرهم بالله الغرور ، كذبوا رسلهم وأعرضوا عن نصائحهم ، فأراد ربك أن يذيقهم وبال أمرهم ، وأن يريهم عاقبة كفرهم ليكونوا عبرة لغيرهم ، وآية ناطقة لمن تحدثه نفسه أن يفعل فعلتهم ويسلك مسلكهم ، فأرسل عليهم سيل العرم فتهدم السد ، وتقوض البناء الذي كان يحجز المياه لهم لوقت

١٣٤

الحاجة ، ولم يستطيعوا أن يحجزوا السيول المتدفقة بل ضاعت سدى في وقت الفيضان في جوف الصحراء بعد أن هدمت مساكنهم وعاد الوادي قطعة من الصحراء الجرداء لا نبات به سوى أشجار لا تثمر إلا كل مر بشع ، وأثل لا غناء فيه ولا نفع ، ولم يبق إلا شيء من سدر قليل ، فقد بدل الله أفراحهم أتراحا ونعيمهم بؤسا وسرورهم حزنا ، وهربت العصافير والبلابل ، وخلفتها البوم والغربان تصحيح فوق الخرائب والقصور المتهدمة.

أما الأهلون الذين كانوا يرفلون في ثوب النعيم والاستقرار فقد نزحوا عن الديار ، وتفرقوا في البلاد حتى ضرب بهم المثل فقالوا : (تفرقوا أيدى سبأ).

ذلك ـ أى : التبديل والانتقال من حال النعيم إلى البؤس ـ جزاء بما كانوا يعملون ، فقد أعرضوا وكذبوا وكفروا بالله ورسله ، فكان هذا ، وهل نجازي إلا الكفور؟. فاعتبروا يا أهل مكة بهؤلاء!!

وبعد أن كانوا آمنين مطمئنين ينتقلون بين قراهم ومدنهم المتجاورة الآمنة بلا مشقة ولا خوف للرحلة والنزهة والتجارة القريبة ، فكانوا يسيرون فيها ليالي ذوات العدد ، وأياما قليلة في أمان وهدوء ، تعير الحال وتبدل ، وقالوا كفرا وبطرا : ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم ، فحق عليهم العذاب ، وتمت كلمة ربك فيهم ، وجعلناهم أحاديث للناس يضرب بهم المثل ، ومزقناهم كل ممزق ، وفرقناهم في صحراء العرب ، فكان منهم الغساسنة في الشام ، وقبائل أنمار في يثرب ، وجذام في تهامة والأزد في عمان.

إن في ذلك لآيات لكل صبار كثير الصبر على النعمة وغرورها ، شكور لله على ما تفضل ، فكثير من الناس أبطرتهم النعمة ، وأضلهم المال وغرهم بالله الغرور ، فاعتبروا يا أهل مكة ، ولا يغرنكم بالله الغرور!!

ولقد صدق عليهم إبليس ظنّا ظنه فيهم ، فإنه قال : لأغوينهم جميعا ، وقال لما طرد : لأحتنكن ذريته ، أى : آدم إلا قليلا ، فصدق ظنه فيهم ، واتبعوه في إغوائه إلا فريقا منهم هم المؤمنون (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) (١).

وما كان لإبليس عليهم من سلطان وحجة تتسلط عليهم ، لكن كان ذلك لنعلم علم

__________________

١ ـ سورة الحجر آية ٤٢.

١٣٥

مشاهدة من يؤمن بالآخرة حقّا ممن هو في شك منها ، وربك على كل شيء حفيظ ، وقد قطع الله عليهم وعلى أمثالهم حجتهم في أن يقولوا : وماذا نعمل ، وقد أغوانا الشيطان وأضلنا؟ لا. ما جعل الله لإبليس عليكم سلطانا فالعيب عيبكم ، وقد حذر كم ربكم مرارا فلم ترجعوا عن غوايتكم ..

مناقشة المشركين في اتخاذهم من دون الله آلهة

شفعاء لهم

قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٢٣) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٢٦) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٨)

١٣٦

وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٩) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (٣٠)

المفردات :

(مِثْقالَ ذَرَّةٍ) : وزن ذرة (ظَهِيرٍ) : معين (فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) : من التفزيع ، وهو إزالة الفزع والخوف عن قلوبهم (أَجْرَمْنا) : أذنبنا ، من الجرم وهو الذنب (يَفْتَحُ) : يحكم ، والفتاح : الحاكم لأنه يفتح طريق الحق ويظهره (كَلَّا) : كلمة ردع لهم (كَافَّةً) أى : مانعا لهم ، من الكف وهو المنع ، أو جامعا لهم ، مأخوذة من الكف بمعنى الجمع ، والتاء للمبالغة ، والمراد : جامعا للناس في الإبلاغ.

وهذا رجوع إلى خطاب الكفار والمشركين الذي مضى أول السورة بعد ذكر طرف من قصة داود وسليمان ، وما أنعم الله به عليهما ، وذكر قصة قوم سبأ ، وفي هذا من آيات القدرة ما فيه ، ومن دلائل تفرد الله بالوحدانية ما هو غنى عن البيان .. وهو خطاب توبيخ وتأنيب لهم ، وخاصة بعد ما تقدم!

المعنى :

قل يا محمد لهؤلاء المشركين الضالين سواء السبيل : ادعوا الذين عبدتموهم من دون الله من الأصنام والملائكة ، وسميتموهم آلهة ، وزعمتم أنهم يستحقون أن يكونوا شركاء لله الواحد القهار ، ادعوهم في السراء والضراء كما تدعون الله ، والجأوا إليهم في الشدائد كما تلجأون إلى الله ، وانظروا استجابتهم لدعائكم كما تنتظرون من الله الإجابة والرحمة.

ولقد أجاب الحق ـ تبارك وتعالى ـ عنهم بإجابة هي المتعينة وحدها ـ ولا يجيب منصف إلا بها ـ فقال ما معناه : إنهم لا يملكون شيئا أبدا ، ولا يملكون وزن ذرة من خير أو شر في جميع جهات السموات والأرض ، وما لهم في السموات كلها وفي الأرض جميعا من شركة في الخلق أو في الملك (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً) [سورة الكهف آية ٥١].

قل لهم : لا تسألون يوم القيامة عن أعمالنا وذنوبنا ، ونحن لا نسأل عما تعملون ، قل

١٣٧

وليس لله منهم من ظهير ومعين ، وكيف يكون غير ذلك؟!

فبطل بهذا اتخاذهم الأصنام آلهة من دون الله حيث لا تملك نفعا ولا ضررا بل إن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب.

وكانوا يقولون : نحن نتخذهم شفعاء لله يوم القيامة.

فيرد الله عليهم أبلغ رد وأكده بقوله : ولا تنفع الشفاعة عنده يوم القيامة إلا لمن أذن له فيها ، وهذا تكذيب بلا شك لقولهم : «هؤلاء شفعاؤنا عند الله».

وهل الإذن في الشفاعة يكون من السهولة واليسر كما يظن؟ لا بل هناك موقف شديد ، وأمره عسير ، يحول بين الإنسان ولسانه بل يجعله في غمرة من الخوف والفزع (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ ، لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً* يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) (١).

كان الناس يتربصون ويتوقعون مدة من الزمن فزعين وخائفين حتى إذا فزع عن قلوبهم ، وكشف عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم بكلمة يكلمها الرب جل شأنه ـ إذا حصل هذا ـ تباشروا بذلك وسرى عنهم وقالوا : قال القول الحق وهو الإذن بالشفاعة لمن يشاء ويرضى ، وهو الحق ـ تبارك وتعالى ـ صاحب العلو والكبرياء ليس لملك ولا لنبي أن يتكلم في ذلك اليوم إلا بإذنه وأن يشفع إلا لمن ارتضى.

فانظروا يا آل مكة أين أنتم من هذا؟ وأين أصنامكم في هذا الوقت العصيب؟!

عجبا لكم أيها المشركون! وأى عجب؟! تدعون من دون الله آلهة لا تنفع ولا تضر أى : قصدا ، وإلا فإنها تضر قطعا ، قل لهم يا رسول الله : من الذي يرزقكم من السموات والأرض؟! أمره بالإجابة عن هذا السؤال لأن هذه الإجابة هي المتعينة ، ولأنهم لو أزيل عنهم كابوس الشرك ، وغطاء العناد والكفر وخلّيت قلوبهم وحدها لقالوا : هو الله الرزاق ذو القوة المتين (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ؟ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ، وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ؟ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ)؟!. [سورة يونس آية ٣١].

وانظر إلى أدب الخطاب ، واستدراج الخصم لعله ينظر في حاله وحال من يجادله

__________________

١ ـ سورة النبأ الآيتان ٣٧ ، ٣٨.

١٣٨

(وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) بعد ما ساق من الآيات التي تدل على صدق قوله وفساد قول خصمه.

قل لهم : لا تسألون يوم القيامة عن أعمالنا وذنوبنا ، ونحن لا نسأل عما تعملون ، قل لهم : سوف يجمع الله بيننا بالحق ثم يحكم بيننا بالعدل ، وهو الحكيم العليم بأمور خلقه ، فسيعطيهم جزاءهم وافيا إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر. عجبا لكم! قل لهم يا محمد : أرونى الذين ألحقتموهم بالله شركاء ، وجعلتموهم لله أندادا ، أرونى أين هم؟ وفي هذا توجيه لهم ولفت لأنظارهم لعلهم ينظرون إلى الحق فيتبعوه!

كلا وألف كلا! وبعدا لرأيهم المجافى للحق والعدل! فليس الأمر كما زعمتم بل هو الله وحده ، لا إله إلا هو العزيز لا يغلبه غالب ، ولا يعجزه أحد في أرضه وسمائه ، فهو الحكيم في كل أعماله ، العليم بكل خلقه ، سبحانه وتعالى عما يشركون ، وأما أنت يا محمد فما أرسلناك إلا كافة للناس تمنعهم من الكفر والفسوق والعصيان ، وتدعوهم جميعا إلى الإسلام ، ولا عليك شيء بعد هذا أبدا (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) [سورة الكهف آية ٢٩]. ولكن أكثر الناس لا يعلمون هذا.

ويقولون : متى هذا الوعد؟ إن كنتم أيها المسلمون صادقين في قولكم : إن الساعة آتية لا ريب فيها.

قل لهم يا محمد : لكم ميعاد يوم معلوم عند الله ، وأجل محدود بوقت معين ، لا تستأخرون عنه ساعة ، ولا تستقدمون لحظة ، والأمر كله بيد الله.

من مواقف المشركين

وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١)

١٣٩

قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (٣٢) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٣)

المفردات :

(مَوْقُوفُونَ) : محبوسون وممنوعون (اسْتُضْعِفُوا) : هم المستضعفون (اسْتَكْبَرُوا) : هم المستكبرون من الرؤساء والمقدمين (مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) المكر : الاحتيال والخديعة ، والمراد مكركم في الليل والنهار (أَنْداداً) : جمع ند وهو النظير والشبيه والمثل (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ) أى : أظهروها (الْأَغْلالَ) : جمع غل ، وهو طوق من حديد يوضع في العنق فلا يفلت صاحبه.

المعنى :

روى أن المشركين سألوا أهل الكتاب عن صفة النبي عندهم ، فقال أهل الكتاب : نعم إن صفته عندنا في كتبنا ، فقال المشركون : لن نؤمن بهذا القرآن ، ولن نؤمن بالذي بين يديه من الكتب السماوية كالتوراة والإنجيل ، وكانوا قبل ذلك يرجعون إلى أهل الكتاب ويسمعون لقولهم في هذا. فانظر إلى اضطرابهم وتضارب آرائهم ، وهذا موقف لهم في الدنيا.

وفي الآخرة : لو ترى يا محمد هؤلاء الظالمين وقد وقفوا للحساب ، ومنعوا من التحرك والانفلات ، لو تراهم موقوفين عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول ،

١٤٠