التفسير الواضح

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٨

المعنى :

إن المتقين في مقام أمين ، يأمنون فيه على أنفسهم من كل شر فهم آمنون لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، وكفاهم سلامة وأمنا في جوار العزيز الرحمن ، وهم مع إخوانهم متقابلون متسامرون ، قد نزع الله ما في قلوبهم من غل وحسد فهم دائما متقابلون.

الأمر كذلك ، أو كما أدخلناهم الجنة وفعلنا بهم ما تقدم ذكره كذلك أكرمناهم بأن زوجناهم حورا عينا ، كأنهن الياقوت والمرجان ، حور مقصورات في الخيام ، لم يطمثهن قبلهم إنس ولا جان ، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟!

يدعون الخدم في الجنة ويطلبون منهم كل فاكهة آمنين من كل أذى أو مكروه ، وهم في الجنة خالدون ، لا يذوقون فيها الموت أبدا ، لكن الموتة الأولى قد ذاقوها في الدنيا ، وأعطاهم ربك ما عرفت ووقاهم عذاب الجحيم الذي يصلى به كل فاجر أثيم ، فعل ذلك بهم ربك تفضلا منه وإحسانا عليهم ، ذلك الجزاء هو الفوز العظيم لا غير ، وذلك فضل الله وتوفيقه يؤتيه من يشاء ، وهذا الكتاب المبين الذي أنزل في ليلة مباركة شأنه شأن الكتب التي تأتى مع الرسل رحمة بالعباد ، فيا محمد ذكر بالكتاب المبين قومك فإنا سهلنا عليك تلاوته وتبليغه إليهم (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ* فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) (١). (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (٢).

ذكرهم به واقرأه عليهم لعلهم يتذكرون ويتعظون ، فإن لم يتعظوا ولم يؤمنوا فارتقب هلاكهم وارتقب نصرك الذي وعدناك إنهم مرتقبون ، وتوكل على العزيز الرحيم ، فالله معك وناصرك وعاصمك من الناس ، وهو على كل قدير.

__________________

١ ـ سورة القيامة الآيات ١٧ ـ ١٩.

٢ ـ سورة القمر آية ٣٣ وآية ٤٠.

٤٢١

سورة الجاثية

مكية على الصحيح. وهي سبع وثلاثون آية.

وهي كأخواتها من السور المكية ، في الكلام على التوحيد وإثبات البعث والنبوة وغير ذلك مما يفتح القلوب الغلف ، وتمتاز هذه السورة بأنها اتجهت نحو بيان آيات الله الكونية كدليل على قدرة الله ووحدانيته وإمكان البعث ، وتصديق أن القرآن كلام الله.

تلك بعض آياته الدالة عليه

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٥) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (٦)

المفردات :

(وَما يَبُثُ) : ينشر ويفرق (رِزْقٍ) : مطر هو سبب في الرزق (تَصْرِيفِ الرِّياحِ) : تقليبها وتحويلها.

٤٢٢

المعنى :

حم. تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم لا من عند غيره إذ لو كان من عند غيره ثم نسبه إليه جل شأنه لخسف به وبداره الأرض لأنه هو العزيز الغالب الذي لا يعجزه شيء في السموات ولا في الأرض (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ* لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ* فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) [سورة الحاقة الآيات ٤٤ ـ ٤٧].

وكيف يكون من غيره؟ وهو في منتهى الحكمة والضبط ونهاية الإعجاز وبلوغ القصد في كل نواحيه ، فهو حقا من حكيم عليم ، ولا يمكن أن يكون من إنسان (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [سورة النساء آية ٨٢] تلك دلائل دالة على أن هذا القرآن تنزيله من الله العزيز الحكيم.

إن في عالم السماء وعالم الأرض لآيات دالة على وجود الله وأنه متصف بكل كمال ومنزه عن كل نقص ، وأنه سبحانه هو الواحد القهار ، وتلك آيات ينتفع بها المؤمنون وإن كانت لكل الناس أجمعين (هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ). [البقرة ١٨٥]

وإن في خلقكم أيها الناس من تراب ثم من نطفة قذرة فعلقة فمضغة إلى أن صار الواحد إنسانا حيا كاملا ، وفي خلق ما يبثه الله في الأرض وينشره من دابة تدب على الأرض لآيات وشواهد صدق على وجود الله ووحدانيته ، ولكن لقوم يوقنون.

وإن في اختلاف الليل والنهار بالطول والقصر ، وتعدد مشارق الشمس ومنازلها واختلاف الفصول بسبب خطوط العرض والطول ، وفي اختلاف الليل والنهار بحلول كل مكان الآخر ، وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها بالنبات الأخضر اليانع ، والثمر المختلف الأنواع والألوان والأشكال ، وتصريف للرياح وتقليبها من حارة إلى باردة ، من شمالية إلى جنوبية ، أليس كل ذلك آيات ناطقة على وجود الله وقدرته ووحدانيته؟! ولكن لقوم يعقلون.

ولعل سائلا يسأل ويقول : ما بال القرآن الكريم قال أولا : آيات لقوم يؤمنون ، ثم لقوم يوقنون ، ثم لقوم يعقلون؟ وهل لهذا حكمة أم لا؟

٤٢٣

بلا شك هذا الاختلاف لحكم إلهية ، لحكم عالية تدل على الكثير ، ولقد تعرض لهذا كثير من فطاحل العلماء ، ولعل المناسب أن نقول كما في حاشية زادة على تفسير البيضاوي بتصرف : دلالة السموات والأرض على وجود الصانع والإيمان به ظاهرة واضحة. وأدق منها وأعلى مرتبة خلق الإنسان وتحوله من حال إلى حال ، وخلق الحيوان الذي لا يعلم جنسه وعدده إلا خالقه ، والنظر في هذا يحتاج إلى عمق في التفكير ودقة في البحث وشمول في الملاحظة ، عند ذلك يحصل الناظر على مرتبة أعلى وهي مرتبة اليقين (آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) وأدق من هاتين النظر في الليل والنهار وحلول أحدهما مكان الآخر بانتظام واختلافهما بالطول والقصر ، والنظر في المطر الذي ينزل من السحاب كيف يتكون؟ وكيف ينزل؟ وما يترتب على نزوله من حياة الإنسان والحيوان ، وحياتهما حياة للأرض الميتة ، وهذه الرياح المتقلبة التي تأتى تارة بالحرارة وتارة بالبرودة ، ومرة شمالية وأخرى جنوبية أو غربية ، من الذي صرف هذا كله؟ ومن الذي سخر هذا كله وكيف ذلك؟ لا شك أن النظر إلى هذا ، والوقوف على سره العجيب لا يتأتى إلا لمن كان له قلب يعقل ، وعين تبصر ، وأولئك هم الذين يعقلون ولذا قال : (آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).

تلك آيات الله الكونية ، وآياته القرآنية نتلوها عليك يا رسول الله بالحق لا شك فيها ولا لبس ولا تغير ، بل هي آيات بينات وحجج واضحات ، وما يعقلها إلا العالمون ، وأما أنتم يا أهل مكة فبأى حديث بعد هذا الحديث الذي أنزل الله وبأية آية بعد هذه الآيات تؤمنون؟!!

الويل لكل أفاك أثيم

وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٨) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ

٤٢٤

مُهِينٌ (٩) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠) هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (١١)

المفردات :

(أَفَّاكٍ) الأفاك : الكذاب ، من الإفك. وهو الكذب (مُسْتَكْبِراً) : متعاظما (مُهِينٌ) : من الإهانة ، أى : عذاب مخز مذل (رِجْزٍ) الرجز : أشد أنواع العذاب ، وقيل : هو القذر كالرجس.

وهذا هو الوعيد الشديد لمن ظهرت له الآيات ظهورا تاما ومع هذا كفر وكذب على الله.

المعنى :

الويل والثبور ، والهلاك الشديد ـ وقيل : الويل واد في جهنم ـ لكل أفاك أثيم ، أى : كذاب كثير الآثام مبالغ في اقترافها مع الإصرار عليها ، وهذا الأفاك الأثيم له حالتان الأولى : أنه يسمع آيات الله الدالة على وحدانيته وقدرته دلالة واضحة أظهر من الشمس في رابعة النهار ، هذه الآيات تتلى عليه ثم يصر (١) مستكبرا كأنه لم يسمعها.

يا عجبا لهذا!! يسمع آيات الله ثم يصر على التعاظم عليها والكفر بها كأنه لم يسمعها ، ومن كان كذلك فبشره بعذاب مؤلم غاية الألم.

روى أنها نزلت في النظر بن الحارث : كان يشترى أحاديث الأعاجم ويؤجر القيان ويدعو الناس إلى الاستماع والتمتع ليصرفهم عن استماع القرآن ، وفي الواقع الآية تشمل كل كافر بالله والقرآن.

__________________

(١) الإصرار على الشيء : ملازمته وعدم الانفكاك عنه ، وثم هنا للترتيب الرتبى.

٤٢٥

الحالة الثانية : أن ينتقل من مقام الإصرار على التكذيب والاستكبار إلى مقام الاستهزاء بالآيات ؛ فقد روى أن أبا جهل حين سمع قوله تعالى : (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ) [سورة الدخان الآيتان ٤٣ ، ٤٤] قال : الزقوم زبد وتمر ، وحين سمع أن جهنم عليهم تسعة عشر قال : إنى ألقاهم وحدي.

وإذا علم من آياتنا شيئا ، وعلم أنه منها بادر إلى الاستهزاء بالآيات كلها ، ولم يقتصر على الاستهزاء بما بلغه.

أولئك ـ والإشارة إلى كل أفاك أثيم مصر على الكفر مستهزىء بآيات الله ـ لهم عذاب ذو إهانة تتكافأ مع استكبارهم واستهزائهم ، فالجزاء من جنس العمل ، ومن ورائهم (١) جهنم ، ولا يغنى عنهم ما كسبوا شيئا من الأموال والأولاد فتلك مواقف لا ينفع فيها مال ولا بنون ، بل يفر المرء فيها من أمه وأبيه وصاحبته وبنيه ، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه.

ولا يغنى عنهم ما اتخذوهم أولياء من دون الله كالأصنام وسائر المعبودات الباطلة ، ولهم في جهنم عذاب عظيم لا يعرف قدره أحد من الخلق.

يا قوم هو القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ، هذا هو القرآن يهدى للطريقة التي هي أقوم ، ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات ، وأما الذين كفروا بآيات ربهم لهم عذاب مؤلم للغاية ، عذاب من أشد أنواع العذاب وأقساها.

فيا ويلكم أيها الكفار! ويلكم أيها الأفاكون والآثمون ، وسلام على عباده الذين اصطفى والحمد لله رب العالمين.

من فضل الله علينا

اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١٣)

__________________

(١) الوراء : اسم للجهة التي توارى بها الشخص من خلف أو قدام ، وهنا المراد من قدامهم لأنهم متوجهون إليها.

٤٢٦

قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١٥)

المعنى :

الله ـ سبحانه وتعالى ـ صاحب الفضل على الخلائق. ورب النعم على العباد ، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ، فهو الذي سخر لكم البحر وذلله بأن جعل فيه الاستعداد لأن تجرى الفلك فيه بأمره ، فهو الذي خلق فيه قوة الضغط وجعله سائلا تجرى على صفحته السفن ، وأرسل الرياح تدفعها إلى حيث يريد الإنسان ، كل هذا لتبتغوا من فضل الله بالتجارة والانتقال من مكان إلى آخر ، ولعلكم مع هذا تشكرون ربكم الذي أنعم عليكم ولا تكفرون.

وهو الذي سخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه ، وها هو ذا الإنسان بما أودع فيه من قوة العقل والتفكير استخدم الطبيعة في أغراضه وسخرها لمنافعه وأصبح يشارك السمك في الماء والطير في الهواء والأصداف في قاع البحار ، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ، وينظرون.

قل يا محمد للذين آمنوا بربهم ، واهتدوا بنوره السماوي ، قل لهم : يغفروا للذين لا يرجون لقاء الله يوم القيامة ، فمن عفا وأصلح فأجره على الله ، يغفر لهم سيئاتهم ليجزيهم الله على ذلك أحسن الجزاء ، وليجزي قوما أساءوا غيرهم بلا ذنب ولا جريرة إلا أنهم يقولون ربنا الله ليجزيهم بما كانوا يكسبون ، وعلى هذا فالذين أساءوا هم الكفار ، وسيجزيهم ربك يوم القيامة ، فالكل خاضع لقانون عام هو : من عمل صالحا فلنفسه بغى الخير وسيجازى على معروفه ، ومن أساء وارتكب الآثام فعلى نفسه وحدها وقع الجزاء ، ثم بعد ذلك إلى ربكم ترجعون فتجزون الجزاء الأوفى ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.

٤٢٧

تحذيرهم من أن يكونوا كبني إسرائيل وأمرهم

باتباع شريعة القرآن

وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٦) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٧) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (١٨) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٢٠) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٢١) وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٢)

٤٢٨

المفردات :

(وَالْحُكْمَ) : الفهم والقضاء (شَرِيعَةٍ) الشريعة : ما يرده الناس من المياه والأنهار (١) (بَصائِرُ) : جمع بصيرة ، والمراد الدلالة الواضحة والحجة القائمة.

وهذه نعم خاصة بعد النعم العامة تتعلق ببني إسرائيل ، ومع ذلك لم يشكروا بل اختلفوا في أمر الدين بعد ما جاء العلم بحقيقة الحال على سبيل البغي والحسد ، فكذلك كفار قريش جاءتهم أدلة واضحة قوية ثم أصروا على الكفر وأعرضوا عداوة وحسدا وبعد ذلك أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم باتباع الشريعة الغراء ومخالفة من يتبعون أهواءهم.

المعنى :

لقد آتينا بنى إسرائيل الكتاب الشامل للتوراة والإنجيل والزبور ، وآتيناهم الحكمة والفهم السليم ، والحكم بين الناس بما أنزل الله ، وآتيناهم النبوة فقد كانت النبوة فيهم إلى أن ظهر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من نسل إسماعيل. وتلك نعم تتعلق بالدين ، وهاك ما يتعلق بالدنيا من النعم : رزقهم ربك رزقا طيبا حلالا لا إثم فيه فأورثهم أموال فرعون وديارهم ، ثم أنزل عليهم المن والسلوى ، وجعل منهم الملوك والحكام ، وفضلهم بهذا على عالمي زمانهم فكانوا أكبر درجة وأرفع منقبة ممن عاصرهم.

أتاهم ربك ببينات في أمور دينهم ودنياهم ، فكانوا على بصر وبصيرة ، وما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم الذي كان المفروض أن يكون سبب هداية لا سبب اختلاف ، وما كان اختلافهم إلا بغيا وحسدا لا لتقصير في الحجة وضعف في البرهان.

فبنو إسرائيل كانوا على بينة من أمر شريعتهم وأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فالبشارة به وصفاته كانوا على ذكر منها ، وما اختلفوا معه وكفروا به إلا من بعد ما جاءتهم حقائق النبوة الصادقة على يد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) (٢) إن ربك يقضى بينهم يوم القيامة

__________________

١ ـ ثم استعير ذلك للدين ؛ لأن العباد يردون فيه ما تحيا به نفوسهم.

٢ ـ سورة البقرة آية ٨٩.

٤٢٩

فيما كانوا فيه يختلفون مع النبي وصحبه ، وعلى هذا فصاحب النعم يجب ألا يغير بما عنده من نعم مهما كانت ، بل دائما يراقب الله ، ويعلم أن ما أوتى من خير فعليه شكره لا كفره.

ولما بين الله ـ تعالى ـ إعراض بنى إسرائيل عن الحق لأجل البغي والحسد أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعدل عن تلك الطريقة ، وأن يتمسك بالحق فقط فقال : ثم جعلناك يا محمد أنت وأمتك على شريعة من الأمر ، أى : على طريق واضح ، ومنهل عذب ومورد كريم ، به تحيا النفوس كما تحيا الأجساد بالماء ، فاتبعها فإنها شريعة الحق والعدل والخير في الدنيا والآخرة ، إنها شريعة ثابتة مؤيدة بالحجة والبرهان القوى ، ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون ، فإنهم لا حجة معهم ولكنها جهالات وأهواء ليست على أساس.

إنهم لن يغنوا عنك من عذاب الله شيئا ، ولن يدفعوا عنك ألما ، وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض ، أما المسلمون فالله وليهم وهو هاديهم يخرجهم من الظلمات إلى النور ، وإذا كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يهدده ربه بأنه لن ينفعه أحد لو انحرف عن الشريعة فما بالنا نحن؟! هذا القرآن بصائر للناس ، ففيه دلائل واضحة تبين لهم المعالم وتهديهم إلى الخير بمنزلة البصائر في القلوب التي تنير الطريق لصاحبها ، وهو هدى ورحمة ولكن لقوم يوقنون.

بل أحسب الذين اكتسبوا الآثام واقترفوا الذنوب أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات ، لا ينبغي أن يكون ذلك ولا يصح أن نسوى بينهم في شيء ، أحسبوا أن نجعلهم مثل الذين آمنوا وعملوا الصالحات مستويا حياتهم ومماتهم ، ألا ساء ما يحكمون!

وهذا تهديد عام لكل من خرج على الدين ، ولم يمتثل أمره ، بأنه ليس من العدل أن يسوى بينه وبين من سار على الصراط المستقيم ، والله جل شأنه خلق السموات والأرض بالحق ، ولو لم يوجد دارا أخرى للثواب والعقاب لما كان خلقه السموات والأرض بالحق ، فإن العالم فيها بين غنى وفقير ، ومريض وصحيح ، وفرح ومحزون ، فلا بد إذن من حياة يثاب فيها المؤمن على إيمانه في الدنيا ، فربما كان فيها فقيرا مريضا ممتحنا بالبلاء ولقد صدق الله حيث يقول : (خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ، وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ ، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (١) فلو ترك الظالم الذي ظلم غيره في الدنيا ، ولم

__________________

١ ـ سورة الجاثية آية ٢٢.

٤٣٠

يقتص من الظالم في الحياة الأخرى لما كان خلقه السموات والأرض بالحق ، وعلى ذلك فمعنى الآية : خلق الله السموات والأرض لإظهار الحق ولتجزى كل نفس بما كسبت ، وهم لا يظلمون ، فالمقصود من خلق السموات والأرض وما فيهما إظهار العدل والرحمة وذلك لا يتم إلا إذا حصل البعث ، وكان يوم القيامة الذي يفصل فيه بين المحق والمبطل.

بعض سيئاتهم وجزاؤهم عليها يوم القيامة

أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٣) وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٢٤) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٦) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (٢٧) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٩) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (٣٠) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً

٤٣١

مُجْرِمِينَ (٣١) وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (٣٢) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٣) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٤) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٣٥)

المفردات :

(هَواهُ) : ما تهواه نفسه (وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ) : وضع عليه الخاتم (غِشاوَةً) : غطاء حتى لا يبصر (الدَّهْرُ) : اسم لمدة وجود العالم من يوم مبدئه إلى انقضائه ، ويطلق على كل مدة كثيرة ، والزمان يقع على المدة القليلة والكثيرة (جاثِيَةً) : مستوفزة ، والمستوفز : الذي لا تصيب الأرض منه إلا ركبتاه وأطراف أنامله (يَنْطِقُ) : يشهد ويبين (نَسْتَنْسِخُ) : نجعلها تنسخ وتكتب (وَبَدا) : ظهر (وَحاقَ) : أحاط بهم وحل (هُزُواً) : مهزوءا بها (يُسْتَعْتَبُونَ) : يطلب منهم العتبى.

المعنى :

انظر أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ، وأضله على علم منه ، وختم على سمعه وقلبه حتى لا تصل إليه موعظة ، وجعل على بصره غشاوة تمنعه من الإبصار ؛ أفرأيت من هذه حاله أيهتدى (١)؟!!

__________________

(١) في قوله : (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) مجاز مرسل ؛ حيث أطلق الرؤية وأراد الإخبار ، فهو من إطلاق السبب وإرادة المسبب ، وجعل الاستفهام بمعنى الأمر مجاز أيضا ، والجامع مطلق الطلب في كل.

٤٣٢

والمعنى : أخبرنى عن حال من اتخذ إلهه هواه ، أى : ترك متابعة الهدى وطاوع النفس والهوى حتى كأنه يعبده!! فهذه حال تدعو إلى العجب ، وكان الحارث بن قيس لا يهوى شيئا إلا ركبه ، والعبرة من الآية بعموم لفظها.

والنفس الإنسانية دائما تدعو إلى الشر ، وتهدف إلى الضار ، والإنسان يهوى ما فيه حتفه ، ولهذا ذم القرآن دائما اتباع الهوى في غير موضع (وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ) [سورة الأعراف آية ١٧٦]. (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ) [سورة الروم آية ٢٩]. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا يؤمن أحدكم حتّى يكون هواه تبعا لما جئت به».

أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وطار وراء ما تهواه نفسه ، وقد خلقه الله ضالا عالما أنه من أهلها ، ولا يصلح لغيرها ، وختم على سمعه وقلبه فلم يعد يدخلهما نور من الوعظ والإرشاد ، وجعل ربك على بصره غشاوة مانعة من الاعتبار ورؤية الآيات .. أفرأيت هذا الموصوف بتلك الصفات الأربع! فمن يهديه من بعد إضلال الله له؟ لا أحد يقدر على ذلك.

أعميتم فلا تتعظون بهذا؟ وتعلمون الخير في الابتعاد عن الهوى والرجوع إلى طريق الهدى ، وهذا يقتضى من الله التوفيق والهداية ، وفتح السمع والقلب وتنوير البصائر حتى يمتلئ القلب بنور الحق ، والله هو الهادي إلى سواء السبيل ، وهو نعم المولى ونعم النصير.

وانظر إلى بعض معتقداتهم الفاسدة حيث قالوا : ما هي إلا حياتنا الدنيا فقط ولا حياة بعدها ، ونحن نحيا فيها ونموت ، ويحييا بغضنا ويموت البعض الآخر ، وليس موتنا من طريق الخالق يتوفى أرواحنا بسبب ملك الموت ، بل ما يهلكنا إلا الدهر فقط ، فإذا طال عمرنا ، وضعفت قوانا ماتت أجسادنا وحدها وصرنا إلى فناء ليس بعده حياة ، وما لهم بذلك من علم يقيني ، إن هم إلا يظنون ظنا لا أساس له من حجة ولا سند له من دليل ، وكان المشركون أصنافا منهم من يشك في البعث ، ومنهم من يجزم بعدم وجوده ، وانظر إليهم ، إذا تتلى عليهم آياتنا الناطقة بالحق والصادرة من رب الخلق ، حالة كونها بينات واضحات تدل دلالة واضحة على قدرة الله على البعث وإحياء الموتى

٤٣٣

كما خلقهم ، ما كان لهم من شبهة ـ وقد سماها حجة لتمسكهم بها ـ هي في الواقع أوهى من بيت العنكبوت ، إلا أن قالوا : ائتوا بآبائنا الذين ماتوا حتى نسألهم عما تقولون ، ائتو بهم إن كنتم يا أتباع محمد صادقين.

وقد رد الله عليهم بقوله : (قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ) ووجه الرد أنهم مقرون بأن الله أحياهم أولا ثم يميتهم ثانيا كما دلل على ذلك بالحجج والبراهين في غير هذا الموضع ، ومن قدر على جمعهم يوم القيامة وخاصة بعد ما ثبت أن مبدأ الثواب والعقاب أمر ضروري توجيه الحكمة والعدالة الإلهية ، وهذا اليوم لا ريب فيه في الواقع ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

وكيف يستبعدون البعث أو يشكون فيه؟ ولله ملك السموات والأرض وحده لا شريك له يحيى ويميت ، ويبدئ ويعيد. ذو العرش المجيد ، فعال لما يريد ، ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون منازلهم في جنات النعيم ليتمتع بها أصحابها المستحقون لها من المؤمنين.

وترى يا من يتأتى منه الرؤية كل أمة باركة على الركب مستوفزة على هيئة المذنب الخائف المنتظر جزاءه ، كل أمة تدعى إلى صحيفة أعمالها التي كتبتها الحفظة الكرام البررة ، والتي أحصوا بها الأعمال ، والمراد أن لكل فرد من أمة صحيفة.

اليوم تجزون جزاء ما كنتم تعملون ، ويقال لهم : هذا كتابنا ينطق عليكم نطقا بالحق الذي لا زيادة فيه ولا نقصان ، ونطق الكتاب معناه شهادته عليهم بما عملوا لأنا كنا نأمر الملائكة ونطلب إليهم أن تنسخ الكتب وتكتب بالحق محصية أعمالكم بلا زيادة ولا نقصان.

فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى يدخلهم فيها ربهم ، ذلك هو الفوز المبين الذي لا فوز وراءه.

وأما الذين كفروا فيقال لهم تأنيبا وتوبيخا : ألم تكن تأتيكم رسلكم؟ أفلم تكن آيات ربكم تتلى عليكم؟ فاستكبرتم عن الإيمان بها وكنتم قوما مجرمين فالآن ادخلوا جهنم جزاء لكم ومصيرا ، وإذا قيل لهم : إن وعد الله حق ، وإن الساعة آتية لا ريب فيها ، قلتم : نحن ما ندري ما الساعة؟ لا نظن إلا ظنا ، وما نحن بمستيقنين إمكان

٤٣٤

الساعة ، وحين يجمعون ليوم الفصل تظهر لهم قبائح أعمالهم ، ويبدو لهم خطأ رأيهم ، وأنهم كانوا على ضلال مبين ، ويومها يحيق بهم جزاء ما كانوا به يستهزئون من آيات الله.

وقيل لهم : اليوم ننساكم كما نسيتم أنفسكم ولم تعملوا في الدنيا لإسعادها الآن ، كما أنكم نسيتم لقاء يومكم هذا ، ومأواكم النار ، وما لكم من ناصرين. ذلكم العذاب الشديد بسبب أنكم اتخذتم آيات الله هزوا ، وغرتكم الحياة الدنيا فحسبتم أنه لا حياة غيرها. فاليوم تجزون عذاب الهون. وأنتم لا تخرجون من النار ولا يطلب منكم أن تزيلوا عتب ربكم ، وترضوه لأنكم في وقت الجزاء لا في وقت العمل.

ختام السورة

فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٦) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣٧)

هذه السورة الكريمة قد احتوت على آيات الله وآلائه ، ونعمه وأفضاله ، واشتملت على تعداد الآيات الكونية والبراهين الآفاقية ، وأثبتت مبدأ الثواب والعقاب إلخ ما فيها من آيات بينات ؛ فلله الحمد والثناء الجميل والوصف الكريم الذي يستحقه من عباده لأنه رب السموات ورب الأرض ، ورب العالمين ، وله وحده جل شأنه الكبرياء والعظمة ، وله كمال الذات وكمال الوجود ، والتنزه عن كل نقص ، والاتصاف بكل كمال ، وله وحده الكبرياء التي تظهر آثارها في السموات والأرض ، وهو العزيز الذي لا يغلب ، القادر الذي لا يعجز ، الحكيم في كل ما قضى وقدر ، وأنزل ودبر.

فله الحمد فاحمدوه وحده واعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وله الكبرياء فكبروه وعظموه ـ تبارك اسمه ـ وهو العزيز الحكيم فأطيعوه في كل ما أمر.

ألست معى في أنه ختام للسورة رائع ، وإنه لكتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير.

٤٣٥
٤٣٦

سورة الأحقاف

وهي سورة مكية على الصحيح ، وعدد آياتها أربع وثلاثون آية وتشتمل كغيرها من السور المكية على إثبات التوحيد ونفى الشركاء ، وإثبات النبوة وصدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما ادعاه عن ربه ، ورد شبهاتهم في القرآن والنبوة ، ثم تسلية النبي ببيان موقف الأولاد من آبائهم. وضرب الأمثال للمشركين بقوم هود وغيرهم ، ثم بيان انقياد الجن له حتى يطمئن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم بعد ذلك أثبت المعاد والبعث ، وختم السورة بالنصيحة الغالية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكل من يقوم بالدعوة إلى الله.

إثبات الوحدانية لله ونفى الشركاء

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (٣) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (٥) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (٦)

٤٣٧

المفردات :

(وَأَجَلٍ مُسَمًّى) المراد به : يوم القيامة. (شِرْكٌ) : شركة. (أَوْ أَثارَةٍ) أى : بقية من علم يؤثر ويروى ، وفي كتب اللغة : أثر الحديث : ذكره عن غيره ، ومنه حديث مأثور ، وقولهم : جاء في الأثر. (يَدْعُوا) الدعاء : العبادة.

المعنى :

حم. تنزيل الكتاب ـ الكامل في كل شيء وهو القرآن ـ من الله العزيز الذي لا يغلب ، الحكيم الذي يضع كل أمر في موضعه ، وإذا كان الأمر كذلك فآمنوا بالقرآن على أنه من عند الله ، وصدقوا بكل ما فيه ، وآمنوا بأن محمدا نبي من عند الله وصادق في كل ما يدعيه من توحيد خالص ، وإثبات للبعث والجزاء ، ودعوة إلى الخلق الكامل والمثل العليا.

ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما من أصناف الخلق التي لا يعلمها إلا خالقها ما خلقنا هما في حال من الأحوال إلا في حال ملتبسة بالحق والحكمة والغرض الصحيح فلم تخلق هذه الدنيا العريضة عبثا ، وليس من المعقول أبدا أن يترك هذا الخلق بلا حياة ثانية يجازى فيها المحسن على إحسانه ، ويعاقب فيها المسيء على إساءته ، إذ ليست الدنيا دار جزاء بل هي دار عمل ، والله خلق السموات والأرض بالحق والحكمة ، ومن الحق والعدل ومن مقتضيات الحكمة أن تكون هناك دار للجزاء (وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [الجاثية ٢٢].

وما خلقهما ربك إلا بالحق وبتقدير أجل مسمى عنده وهو يوم القيامة ، والحال أن الذين كفروا عما أنذروا به من هول ذلك اليوم وشدائده ، الذي لا بد من الانتهاء إليه ، والذين كفروا عما أنذروا به معرضون لا يؤمنون به ولا يهتمون ولا يعملون لأجله.

٤٣٨

قل لهم يا محمد : أرأيتم ما تدعونهم من دون الله من الأصنام والأوثان والآلهة الكاذبة أرونى ما الذي خلقوه من أى نوع من الأنواع في الأرض (١)؟!!.

بل ألهم شركاء في السموات مع الله؟! لم يكن لهم شركاء في السماء ، ولم يخلقوا شيئا مما في الأرض على اتساعها فكيف تعبدونهم من دون الله؟!

أمعكم دليل عقلي واحد على خلقهم لشيء أو لشركتهم مع الله في شيء؟ الجواب : لا وإذا لم يكن دليل عقلي ، فهاتوا دليلا نقليا أو ائتوني بكتاب أنزل من قبل هذا القرآن الذي يدعو إلى التوحيد الخالص من كل شوائب الشرك ، ائتوني بكتاب من قبل القرآن نزل مؤيدا لما تدعون من وجود الشركاء لله أو ائتوني ببقية من علم أثر وروى لكم ، يؤيد ما تذهبون إليه ، إن كنتم صادقين! وهذا تحد سافر لهم مبطل لدعواهم الشركة مع الله.

وهل هناك أحد أكثر ضلالا ممن يدعو من دون الله مالا يسمع ولا يبصر ولا يستجيب لدعواه؟ لا أحد أضل منكم يا من تدعون وتعبدون حجرا لا يسمع ولا يبصر ولا يستجيب لكم إلى يوم القيامة وهم ـ أى : الآلهة ـ عن دعاء الكفرة غافلون فلا يسمعون ولا يجيبون ، لأنهم إن كانوا حجارة فهم لا يسمعون ، وإن كانوا عقلاء كعيسى مثلا فهم مشغولون عنهم لا يلتفتون إلى باطلهم.

لا أحد أكثر ضلالا من عبدة الأصنام حيث يتركون السميع البصير المجيب القادر على تحصيل كل بغية وطلب ، ويدعون من دونه الجماد الذي لا يستجيب ، ولا قدرة له على الاستجابة ، ما دامت الدنيا وإلى أن تقوم القيامة ، وإذا قامت القيامة وحشر الناس وبدا الصبح لذي عينين ، وتفرد الواحد الأحد وقال : لمن الملك اليوم؟ فأجيب : لله الواحد القاهر! إذا حشر الناس كان الأصنام ومن عبد من دون الله أعداء للمشركين ، وكانوا بعبادتهم كافرين وجاحدين ، وتبرأوا منهم ، ولكل منهم يومئذ شأن يغنيه ، وتبارك اسم ربك ذو الجلال والإكرام.

__________________

(١) قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أرونى ماذا خلقوا من الأرض ، في قوله : أرأيتم مجازان حيث أطلق الرؤيا وأراد الإخبار والعلاقة السبية ، وفي استعمال همزة الاستفهام في الأمر كذلك مجاز إذ كل من الاستفهام والأمر يدل على الطلب ، وأرونى توكيد لأرأيتم ، وماذا خلقوا يجوز فيها أن تكون (ماذا) استفهاما كلها وهي مفعول مقدم لخلقوا وجملة خلقوا مفعول ثان لقوله : أرأيتم ، أو ما استفهام مبتدأ وذا موصولة خبر و (خلقوا) صلة ، وجملة (ماذا خلقوا) مفعول ثان لقوله : أرأيتم ، والمفعول الأول ما تدعون.

٤٣٩

شبهاتهم في نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصدق القرآن

وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨) قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (١٢) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤)

٤٤٠