التفسير الواضح

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٨

الظانين بالله ظن السوء ، أى : ظن الأمر الفاسد المذموم ، وهو أن الله ـ عزوجل ـ لا ينصر رسوله والمؤمنين.

على هؤلاء وحدهم دائرة السوء ، وما يتربصونه بالمؤمنين فهو حائق بهم ، ودائر عليهم ، وغضب الله عليهم وطردهم من رحمته شر طردة ، وأعد لهم جهنم ، وساءت مصيرا ، ولا عجب في ذلك فهم وإن كثروا عدة وعددا فلله جنود السموات والأرض ، وكان الله عزيزا لا يغالب ، حكيما في كل أفعاله ، انظر إلى تذييل الآية السابقة بقوله : وكان الله عليما حكيما ، وهنا : عزيزا حكيما لأن المقصود أولا التدبير التام لأمر الخلق فيناسب العلم والإحاطة ، وهنا المراد تهديد المنافقين والمشركين فيناسبه العزة والغلبة.

المتعاهدون مع الله ورسوله

إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٨) لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٩) إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١٠)

المفردات :

(شاهِداً) : تشهد على أمتك بالبلاغ. (وَتُعَزِّرُوهُ) : تعظموه وتفخموه ، والتعزير والتعظيم والتوقير : المنع ، ومنه التعزير في الحد. (وَتُوَقِّرُوهُ) : من التوقير وهو التعظيم ، وقيل : المراد تسودوه. (يُبايِعُونَكَ) المبايعة : مبادلة المال بالمال ، وهم

٤٨١

عاهدوا النبي على الثبات في محاربة الكفار ، وعاهدهم النبي على ضمان الجنة لهم ، فأطلق المبايعة على المعاهدة (١) التي عقدها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع المسلمين ، وهي بيعة الرضوان ، وكانت تحت شجرة بالحديبية ـ قرية بينها وبين مكة حوالى مرحلة ، وهي في حدود الحرم. (نَكَثَ) : نقض البيعة. (أَوْفى بِما عاهَدَ) يقال : أوفى ووفى بالعهد : إذا أتمه.

المعنى :

إنا أرسلناك يا محمد شاهد صدق تبلغ الدعوة الإلهية لإنقاذ البشرية ، وتبشر من اهتدى إلى الصراط المستقيم بجنة عرضها السموات والأرض ، وتنذر من حاد وتردى في الهوى وسلك سبيل الغي والضلال لتنذره بجهنم ونارها التي أعدت للكافرين ؛ وإنما فعل ذلك ربكم لتؤمنوا بالله ورسوله ، وتعزروه وتنصروا رسوله ، وتوقروه وتعظموه ، وتسبحوه وتنزهوه وتصلوا له ـ سبحانه ـ بكرة وأصيلا في الغداة والعشى ، وهما طرفا النهار ، وما بينهما تبع لهما ، ولا شك أن نصرة رسول الله نصرة لله ، والتفانى في تبليغ دعوة الله من أكبر الدواعي لرضا الله ورضا رسوله ، وهذا كله يتطلب من المسلمين عقد العهود ، وتأكيد المبايعة مع النبي على نصرة دينه مهما كلفهم ذلك ، وقد كان ذلك ، وتعاهد المسلمون وعقدوا معه بيعة الرضوان.

ولما بين الله أنه أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ، بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا لينقذ البشرية من جهالتها ، ويرفعها من وهدتها ، ومن كانت هذه منزلته عند الله يكون من بايعه في الظاهر فقد بايع الله حقيقة وفي الواقع ، ومن بايع رسول الله على ألا يفر في القتال حتى ينصر الله دينه أو يستشهد في سبيل ذلك إنما كان يقصد بذلك رضا الله ورسوله وثواب جنته (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) فالرسول سفير محض بين الله وبين أوليائه من المؤمنين (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) وهذا استئناف مؤكد لما تضمنه الكلام السابق من أن مبايعة الرسول مبايعة لله.

__________________

١ ـ هذا الإطلاق على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية ، ووجه الشبه : اشتمال كل على المبادلة.

٤٨٢

والسلف ـ رضوان الله عليهم ـ يفهمون في مثل هذه الآيات المعنى العام والغرض من السياق ، مع تنزيه المولى ـ جل شأنه ـ عن مشابهة الحوادث وصفات الأجسام وإثبات الجوارح له ، ويكلون أمر ذلك لله قائلين : إن معرفة حقيقة «اليد» التي وردت هنا فرع عن معرفة حقيقة الذات ، وأنى لمخلوق ذلك؟ وهيهات ثم هيهات له ذلك! فالأولى التفويض لعلام الغيوب مع الإيمان الكامل بكل ما جاء في القرآن والسنة الصحيحة.

وأما الخلف فيؤولون ذلك بأن في الآية استعارة (١) أو المراد باليد القوة لا الجارحة والمعنى : قوة الله ونصرته فوق قوتهم ونصرتهم فثق بالله وحده فالنصر من عنده لا من عند غيره ، أو المعنى : نعمة الله عليهم بالهداية ، وتوفيقهم لمبايعتك فوق مبايعتهم ونصرتهم لك وهذا على أن اليد تطلق أيضا على النعمة (لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) [سورة الحجرات آية ١٧].

وإذا كان الأمر كذلك فمن نكث العهد ونقضه فإنما وبال إثمه وعاقبة فعله على نفسه فقط لا على غيره ، ومن أتم عهده وأدى واجبه كاملا فله جزاء الحسنى ، وسيؤتيه ربك أجرا عظيما ، حتى يرضى.

روى الشيخان عن يزيد بن عبيد قال : قلت لسلمة بن الأكوع : «على أى شيء بايعتم رسول الله؟ قال : على الموت» ... وروى مسلم عن معقل بن يسار قال : «لقد رأيتنى يوم الشجرة ـ التي كانت تحتها بيعة الرضوان بالحديبية ـ والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبايع الناس وأنا رافع غصنا من أغصانها عن رأسه ، ونحن أربع عشرة مائة ، قال : لم نبايعه على الموت ، ولكن بايعناه على ألا نفر» قال العلماء : لا منافاة بين الحديثين. فجماعة كانت مع سلمة وجماعة مع معقل.

__________________

١ ـ بالكناية في لفظ الجلالة حيث شبه بالمبايع وذكر اليد قرينة وإسنادها له تخييل ، وفي ذكر اليد مع أيدى الناس مشاكلة ، ويقول علماء البلاغة : إن في الآيات محسنات بلاغية كثيرة.

٤٨٣

المتخلفون عن الحديبية

سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١١) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (١٢) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (١٣) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٤) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦) لَيْسَ

٤٨٤

عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (١٧)

المفردات :

(الْمُخَلَّفُونَ) : هم المتخلفون الذين خلفهم الله عن السير إلى مكة مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (الْأَعْرابِ) المشهور : أنهم سكان البوادي من العرب. (ضَرًّا) : هو الضد للنفع من هزيمة أو هزال أو سوء حال. (يَنْقَلِبَ) : يرجع. (بُوراً) أى : هلكى وفاسدين لا تصلحون لخير. (ذَرُونا) : اتركونا نسير معكم. (لا يَفْقَهُونَ) : لا يفهمون ولا يعلمون من أمر دينهم إلا قليلا. (أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) : أصحاب قوة وشدة. (حَرَجٌ) : إثم وذنب. (الْأَعْرَجِ) : من في رجله آفة.

المعنى :

خرج رسول الله عام الحديبية إلى مكة معتمرا لا يريد حربا ولا اعتداء ، واستنفر القبائل العربية الضاربة حول المدينة أن يخرجوا معه إلى مكة ، ليشهد أكبر عدد ممكن على أنه لا يريد حربا ، فإن اعتدت عليه قريش أو منعته ظهر أمرهم للعرب كافة ، وليكون في أكبر عدد ممكن من أنصاره حتى لا تتعرض لهم قريش بسوء.

وكان ممن طلبهم للخروج معه قبائل غفار ، ومزينة ، وجهينة ، وأسلم. وأشجع ، والديل ، فتخلف من هؤلاء أكثرهم حذرا من قريش مع أن النبي أحرم بالعمرة ، وساق الهدى معه ليعلم الناس أنه لا يريد حربا.

ومع هذا تخلفت الأعراب ، وتثاقلوا عنه ، واعتلوا بالشغل ، وقالوا : شغلتنا أموالنا التي جمعناها ، وأهلونا ، وليس لنا من يقوم بها فاستغفر لنا ربك يا محمد وادعه ليقبل العذر ، قالوا هذا بألسنتهم ، والله يعلم أنهم كاذبون ففضحهم ، وأنزل في شأنهم قرآنا

٤٨٥

يخبر بخبرهم قبل أن يقولوه ، وقال الله تعالى : يقولون هذا الكلام السابق بألسنتهم فقط ولم يكن لهم عذر ، ولم يطلبوا المغفرة حقّا.

بعد ذلك أمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول لهم : (فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً) من يستطيع لكم إمساك شيء من قدرة الله ـ تعالى ـ إن أراد بكم ضرّا أو أراد بكم نفعا؟ لا أحد يقدر على ذلك. وإذا كان الأمر كذلك ، فليس الشغل بالأهل والمال عذرا ، لأنه لا يدفع ضرّا ، ولا لقاء العدو يمنع نفعا أراده الله.

بل الأمر أخطر من هذا ، والله بما تعملون أيها المخلفون خبير وبصير وسيجازيكم عليه ؛ بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا ، وذلك ظنكم الذي ظننتم بربكم! والمعنى : السبب الحقيقي في تخلفكم ليس هو كما تقولون ، وإنما هو ظنكم أن محمدا وأصحابه قلة فكيف يحاربون قريشا ومن حولها وكانوا بالأمس يحاربونهم على أبواب المدينة ـ في غزوة الخندق ـ وزين ذلك في قلوبكم أيها المتخلفون ، والذي زينه هو الشيطان (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) [النمل ٢٤] أو هو الله و (زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ) [النمل ٤] وظننتم ظنا سيئا ، وكنتم قوما هلكى ، لا خير فيكم أبدا.

ومن لم يؤمن بالله ورسوله ، فإنا أعتدنا له وهيأنا له نارا وسعيرا لأنه في عددا الكفار ولا عجب فلله ملك السموات والأرض يدبر أمره بحكمة تامة وعلم كامل فيعذب من يشاء ممن يستحق العذاب ، ويغفر لمن يشاء ممن يستحق المغفرة ، وهو أعلم بخلقه ، وكان الله غفورا رحيما.

سيقول الذين خلفهم الله عن الخروج معكم ، وأقعدهم عن السير مع رسول الله وصحبه ، سيقولون وقت انطلاقكم إلى مغانم ـ هي مغانم خيبر ـ : ذرونا نتبعكم ونسير معكم في الغزو ، قالوا هذا لأنهم ظنوا أن المسلمين سيغنمون ، هؤلاء المتخلفون يريدون بطلبهم هذا أن يبدلوا كلام الله ، إذ هو قد وعد من حضر صلح الحديبية وبيعة الرضوان بالمغانم خاصة (فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ) على من حضر بيعة الرضوان (وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً* وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها) [سورة الفتح الآيتان ١٨ ، ١٩].

قل يا محمد لهم : لن تتبعونا في غزو بعد هذا فإنا عرفناكم ، مثل ذلك القول الصادر منى أى من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو لن تتبعونا ـ قال الله وحكم به ، وهو خير الحاكمين ، فهو

٤٨٦

قد حكم بأنكم لا تتبعون النبي ، وأن غنائم خيبر لمن شهد الحديبية فقط ؛ ولما كان هؤلاء المنافقون لا يعتقدون شيئا من هذا ، بل يظنون أن هذه حيل يحتال بها المسلمون حتى يفوتوا عليهم غنائم خيبر ، وما دفعهم إلى ذلك إلا الحسد والبغضاء قالوا ـ أى : المنافقون المتخلفون ـ : بل (١) تحسدوننا فليس الأمر كما تدعون بل إنما قلتم هذا حسدا وبغيا علينا ، هذا ما كان منهم ، وقد رد الله عليهم مضربا عن كلامهم مبينا أنهم قوم لا يفقهون من أمر دينهم إلا قليلا (بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً) ولذا تراهم يخادعون الله ورسوله ، وما يخادعون إلا أنفسهم ، وما يشعرون ؛ قل يا محمد لهؤلاء المتخلفين : ستدعون إلى محاربة قوم أولى بأس شديد ، والظاهر ـ والله أعلم ـ أنهم المرتدون بعد موت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم بنو حنيفة قوم مسيلمة الكذاب ، وقد دعا أبو بكر خليفة رسول الله المسلمين ـ ومنهم هؤلاء المتخلفون ـ إلى قتالهم حتى يسلموا ، والمشركون من العرب والمرتدون هم الذين يقاتلون حتى يسلموا ، ولا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف بخلاف غيرهم من المشركين والوثنيين والمجوس وأهل الكتاب فإنه يقبل منهم الإسلام أو الجزية أو القتال ، وهذا رأى أبى حنيفة بخلاف الشافعى ، والحق مع أبى حنيفة.

أيها المتخلفون : إن تطيعوا الله وأمر إمامكم يؤتكم أجرا حسنا ، ويقبل منكم التوبة ، وإن تتولوا وتعرضوا كما أعرضتم سابقا يعذبكم الله عذابا أليما ؛ فهذه فرصة لكم فاهتبلوها بتوبة خالصة صادقة.

وهذه رحمة الإسلام لا يحاسب إلا القادر ، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها ، ولذا يقول : ليس على الأعمى حرج ، وليس عليه ذنب أو إثم في تخلفه عن رسول الله ، وليس على الأعرج حرج كذلك ، ولا على المريض حرج أيضا في ترك الجهاد حيث لا قدرة له عليه ، تلك أعذار مقبولة ، والله ـ سبحانه ـ هو العليم بذات الصدور ، وصدق رسول الله «إنّما الأعمال بالنّيّات وإنّما لكلّ امرئ مّا نوى».

وهناك القانون العام الذي يجمع الخلائق كلها حتى لا يكون عذر لمعتذر : من يطع الله ويطع رسول الله في كل أمر ونهى يدخله جنات تجرى من تحتها الأنهار ، جنات عرضها السموات والأرض ، ومن يتول معرضا عن أمر الله ورسوله مؤثرا نفسه وهواه يعذبه عذابا أليما ، ويدخله جهنم ، وساءت مصيرا ..

__________________

١ ـ بل هنا للإضراب في الموضعين.

٤٨٧

بيعة الرضوان وما فيها من خير

لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (١٨) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٩) وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢٠) وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢١) وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٢٢) سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٢٣) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٢٤) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ

٤٨٨

لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٢٥) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٢٦)

المفردات :

(الشَّجَرَةِ) : المعهودة التي كان تحتها بيعة الرضوان. (وَأَثابَهُمْ) : كافأهم على عملهم. (آيَةً) : علامة على أن الله يدافع عن المؤمنين. (قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها) أى : فهي محصورة لا تفوتكم. (بِبَطْنِ مَكَّةَ) المراد : بالحديبية. (وَصَدُّوكُمْ) : منعوكم. (الْهَدْيَ) : هو ما يهدى للحرم ويذبح فيه. (مَحِلَّهُ) أى : محل ذبحه وهو منى. (مَعْكُوفاً) أى : محبوسا. (أَنْ تَطَؤُهُمْ) المراد : الإيقاع بهم بالقتل أو غيره. (مَعَرَّةٌ) : وهي العيب. (تَزَيَّلُوا) : تفرقوا. (الْحَمِيَّةَ) : هي الأنفة ، يقال : حميت عن كذا حمية إذا أنفت منه وداخلك عار وأنفة أن تفعله. (سَكِينَتَهُ) المراد : الطمأنينة والوقار. (كَلِمَةَ التَّقْوى) : هي كلمة : لا إله إلا الله محمد رسول الله ..

بيعة الرضوان بيعة مشهورة كان لها أثر كبير في سياسة المسلمين العامة ، وقد كتب عنها كثير من المؤرخين وكتاب السيرة وعلماء التفسير ، وقد ذكرنا طرفا من أخبارها في أول السورة ، والذي عجل بعقدها أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان أرسل عثمان بن عفان رسولا له إلى قريش يبلغهم قصده ، وأنه لا يريد إلا العمرة بدليل أنه ساق الهدى وليس معه إلا السيوف في القرب ؛ وقد أشيع وقتذاك أن عثمان قتل ، وقد كانت قريش احتبسته أياما ، وكان وقع هذا الخبر شديدا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحبه ، فدعا إلى عقد بيعة ، وفي صحيح مسلم عن أبى الزبير عن جابر قال : كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة فبايعناه وعمر آخذ

٤٨٩

بيده تحت الشجرة ـ شجرة الطلح ـ فبايعناه ، غير جد بن قيس الأنصارى اختبأ تحت بطن بعيره ، بايعناه على ألا نفر ولم نبايعه على الموت ، وفي رواية : بايعناه على الموت ، فلما علمت قريش بأمر المبايعة خافوا وأرسلوا سهيل بن عمرو لعقد الصلح الذي سمى (صلح الحديبية) ، وكتب علىّ ـ رضى الله عنه ـ : بسم الله الرحمن الرحيم ، فقال سهيل بن عمرو : فما ندري ما بسم الله الرحمن الرحيم ، ولكن اكتب ما نعرف : باسمك اللهم ، فكتب ، وكتب بعدها : هذا ما كاتب عليه محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال سهيل : لو نعلم أنك رسول الله لا تبعناك ولما قاتلناك. ولكن اكتب اسمك واسم أبيك ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «امحه» فما استطاع أن يمحوه ، فطلب النبي من علىّ أن يريه هذا. فمحاه النبي بنفسه ، وهكذا نرى اندفاع قريش نحو جاهليتهم وحميتهم في حين أن النبي كانت تنزل عليه من ربه السكينة والطمأنينة وقد ألزمه كلمة التقوى ، وكان النبي وصحبه أحق بها وأهلها ، وكان هذا الصلح الذي لم يرض عنه بعض الصحابة فتحا مبينا ، ونصرا عظيما للدعوة الإسلامية ، وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم.

المعنى :

لقد رضى الله عن المؤمنين الراسخين في الإيمان الكاملين في الإخلاص ، حيث فعل معهم فعل الراضي عنهم ، بما جعل لهم من الفتح المبين والتوفيق السديد ، وما قدر لهم من الثواب الجزيل ، لقد رضى الله عن المؤمنين جميعا الذين بايعوك إلا جد بن قيس الأنصارى فقد كان منافقا ولم يبايع ، وفهم من ذلك أنه لم يرض عن الكفار حيث خذلهم في الدنيا ، وأعد لهم سوء المصير في الآخرة ، ولأجل هذا الرضا سميت تلك البيعة بيعة الرضوان.

لقد رضى الله عن المؤمنين إذ بايعوك تحت الشجرة ، شأن الواثق بنفسه المطمئن لنصرة الله له ، فعلم الله ما استقر في قلوبهم من الإيمان والإخلاص والصدق في مبايعتهم ، فأنزل السكينة عليهم ، وأثابهم فتحا قريبا هو فتح خيبر ، وقد كان نزول هذه الآيات عند منصرف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو وصحبه من الحديبية ، أى : قبل فتح خيبر ، فيكون هذا وعدا من الله وقد تحقق ، وأثابهم مغانم كثيرة يأخذونها فقد كانت قرية خيبر غنية بالزروع والثمار ، وكان سكانها من اليهود على جانب من الثراء ، وانظر إلى ختام الآية

٤٩٠

بقوله : وكان الله عزيزا لا يغلبه غالب ، حكيما فيما صنع لأوليائه ، ولا شك أن هذا تذبيل مناسب جدّا.

وعدكم الله مغانم كثيرة في حروبكم ـ أيها المسلمون ـ ما دمتم صادقي النية تجاهدون في سبيل الله ولإعلاء كلمته ، وهذه المغانم ممتدة إلى يوم القيامة بهذا الشرط ، فجعل لكم هذه ـ أى : غنيمة خيبر ـ جزاء لكم على امتثالكم أمر الله وأمر رسوله ، وكف أيدى الناس عنكم ، والظاهر أن المراد بالناس هنا أهل خيبر وحلفاؤها من أسد وغطفان حين جاءوا لنصرة حلفائهم فقذف الله في قلوبهم الرعب ، وقيل المراد بالناس : أهل مكة حينما كان المسلمون بالحديبية ، والرأى الأول أصح ؛ لأن الكف وهم في الحديبية سيأتى خبره ، كف أيدى الناس عنكم لتشكروه على ذلك ، ولتكون هذه آية للمؤمنين ، وأن الله يدافع عن المؤمنين ما داموا مؤمنين ، والله بهذا يهديكم إلى صراط مستقيم هو طريق التوكل على الله وتفويض الأمر إليه ، فإنه نعم المولى ونعم النصير.

فعجل لكم مغانم خيبر هذه ، وعجل لكم أخرى هي غنائم هوازن يوم حنين لم تقدروا عليها في أول الأمر حيث ر كنتم إلى قوتكم ، ولم تتوكلوا على الله ، ولكن الله أحاط بها واستولى عليها فهي في قبضته وتحت تصرفه يظهر من يشاء عليها ، وقد أظهركم عليها حينما لجأتم إليه وتوجهتم له ، وكان الله على كل شيء قديرا (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ. ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) (الآيتان : ٢٥ ، ٢٦ من سورة التوبة) ، فهل لنا أن نعتبر ونفوض الأمر إلى الله إنه بصير بالعباد؟!! ولو قاتلكم الذين كفروا من أهل مكة ولم يصالحوكم لولوا الأدبار وانهزموا هزيمة شنيعة ، ثم لا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا ، وتلك سنة الله مع رسله وأوليائه التي قد مضت من قبل ، ولن تجد لسنة الله تبديلا.

وهو الذي كف أيدى كفار مكة عنكم ، وكف أيديكم عنهم ، وأنتم ببطن مكة ، فإن الحديبية بعضها في الحل وبعضها في حرم مكة ، كف أيديكم عنهم من بعد أن أظفركم عليهم ؛ فقد روى عن ثابت عن أنس أن ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جبل التنعيم متسلحين يريدون أخذ النبي وصحبه على غرة فأخذناهم

٤٩١

سلما ـ باستسلام منهم وإذعان ـ فهم قد أخذوا قهرا واستسلموا عجزا ، واستحييناهم فأنزل الله (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) وكان الله بما تعملون بصيرا وسيجازيكم على ذلك بالجزاء الأوفى.

ولم يكن كفهم عنكم لخير فيهم فإنهم كفروا بالله ورسوله ، وأخرجوا رسول الله من مكة ، وصدوكم عن المسجد الحرام. وصدوا الهدى ـ ما يهدى إلى البيت من النعم حالة كون الهدى معكوف ومحبوسا من أن يبلغ محله ، وكل ذلك يقتضى قتالهم ، فلا يعقل أن يقال : إن الفريقين اتفقوا على عدم القتال ، واصطلحوا ولم يبق بينهم نزاع بل النزاع مستمر لأنهم كفروا وصدوا عن المسجد الحرام ومنعوا الهدى من أن يبلغ محله.

وإنما كان الكف والمنع لحكم إلهية الله يعلمها ، منها أن هناك رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموا أشخاصهم ، والله يعلمهم ، فإذا كان القتال ولم يكن الكف لقتلتم هؤلاء ، وأنتم لا تعلمونهم فتصيبكم منهم معرة وعيب ومكروه ومشقة حيث تجب الكفارة ويحصل الأسف لقتلهم ، وخلاصة المعنى : ولو لا كراهة أن تهلكوا في الحرب رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات بين ظهراني الكفار ، وأنتم لا تعلمونهم فيصيبكم بإهلاكهم مكروه لما كف أيديكم عنهم ، والله يكره أن يصيبكم مكروه ومعرة ، ولكن الله ـ سبحانه ـ كفكم عنهم ، وكفهم عنكم ليدخل الله بذلك الكف من يشاء في رحمته ، أى : في توفيقه لزيادة الخير في الإسلام ومنع إيذاء من لا يستحق من المؤمنين الذين يعيشون في مكة.

لو تميز المؤمنون عن الكفار في مكة ، وافترق بعضهم عن بعض ، لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما في الدنيا بالقتل والأسر غير عذاب الآخرة (١).

اذكر إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية الأولى حيث أنفوا من كتابه بسم الله الرحمن الرحيم ، ومن وصف النبي بأنه رسول الله ، ومن تمسكهم بشروط هي في ظنهم مجحفة بالمسلمين ، فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين

__________________

١ ـ وهذه الجملة مستأنفة مقررة لما قبلها ، وجوز بعضهم أن يكون (لو تزيلوا) كالتكرار لقوله تعالى : لو لا رجال مؤمنون ، وقوله : (لعذبنا) هو جواب لو لا.

٤٩٢

حيث قبلوا كل ما عرض عليهم في سبيل ترك الحرب المهلكة ، وقد كان هذا فتحا ونصرا مبينا ، فانظر إلى توفيق الله ورعايته للمسلمين.

وإذا العناية لاحظتك عيونها

نم فالمخاوف كلهن أمان

تحقيق رؤيا الرسول

لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (٢٧) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (٢٨)

المفردات :

(لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) أصل الإظهار : جعل الشيء على الظهر ، ثم كنى به عن الإعلاء.

رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المنام قبل خروجه إلى الحديبية ، أنه هو وأصحابه دخلوا مكة آمنين ، وقد حلقوا شعور رءوسهم وقصروا ، فقص رؤياه على المسلمين ففرحوا واستبشروا ، وحسبوا أنهم داخلوها في عامهم ، وقالوا : إن رؤيا رسول الله حق ، فلما تأخر ذلك ، وردهم المشركون عن مكة عام الحديبية تكلم بعض المنافقين في ذلك قائلين : والله ما حلقنا ولا قصرنا ، ولا رأينا المسجد الحرام فنزلت هذه الآية.

٤٩٣

المعنى :

لقد صدق الله رسوله الرؤيا ، ولم يجعلها أضغاث أحلام ، وإن كان تفسيرها عمليا لم يقع إلا بعد عام ، والصدق يكون بالقول أو بالفعل ، وما في الآية صدق بالفعل فالله ـ سبحانه وتعالى ـ صدقه في رؤياه صدقا ملتبسا بالحق ، أى : بالحكمة البالغة ، والقصد الصحيح الذي يظهر به الإيمان الكامل والنفاق الصريح ، ولهذا أخر تفسير الرؤيا ووقوعها إلى العام القابل.

والله لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله ، ولعل سائلا يسأل ويقول : الله خالق الأشياء كلها وعالم بها قبل وقوعها فكيف وقع التعليق بالمشيئة في فعله؟

الجواب : أنه تعليم للعباد ، وإيذان بأن منهم من يدخل ومنهم من يتخلف لموت أو مرض ، ولعل هذا التعليق ـ إن شاء الله ـ حكاية لما قاله ملك الرؤيا ، أو حكاية كلام النبي لأصحابه ، وإيذان بأن دخولهم مكة بأمر الله ومشيئته لا بشيء آخر.

لتدخلن المسجد الحرام حالة كونكم آمنين من العدو ، محلقين شعور رءوسكم ومقصرين له ، لا تخافون بعد الدخول (١) فعلم ما لم تعلموا من الأمور (٢) ، فجعل من دون ذلك ، أى : من قبل تحقيق الرؤيا عمليا فتحا قريبا ، وهو فتح خيبر ، جعله كالدليل على صدق الرؤيا وتحقيقها.

وكيف تشكون في تحقيق رؤيا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ وقد أرسله ربه بالهدى ودين الحق ، فلا يصح أن يريه في المنام خلاف الواقع ، فيكون ذلك داعيا لتكذيبه وزعزعة الناس فيه وفي أخباره ، هو الذي أرسل رسوله هاديا للناس ، ومصاحبا للهدى وملتبسا به ومؤيدا بالحجة والبرهان ، والنور والقرآن ، أرسله بالهدى ودين هو الحق لا شك فيه ، ليعليه على الأديان كلها فيقر الحق منها ، ويبطل الباطل ويغير من أحكامها ما لا يصلح في هذا الزمان ، وكفى بالله شهيدا على ذلك ، وأنك رسوله وخاتم أنبيائه. أليس في هذا تسلية؟ وأى تسلية أقوى من ذلك؟ على رد سهيل بن عمرو لرسالة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

١ ـ وقيل : هي جملة مستأنفة واقعة جواب سؤال : كيف الحال بعد الدخول؟ فقيل : لا تخافون.

٢ ـ والفاء عاطفة لعلم على صدق ، والترتيب باعتبار التعليق الفعلى بالمعلوم لا بنفس المعلوم ، وإلا فهو متقدم على تصديق الرؤيا.

٤٩٤

محمد وصحبه الأبرار

مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٢٩)

المفردات :

(أَشِدَّاءُ) : جمع شديد ، وهو الغليظ القاسي. (رُحَماءُ) : جمع رحيم ، وهو من في قلبه رحمة. (سِيماهُمْ) السيما : العلامة. (مَثَلُهُمْ) : صفتهم. (شَطْأَهُ) الشطء : فراخ النخل والزرع ، أو هو ورقه والمراد بالفراخ فروع الشجر التي تنبت حول الأصل. (فَآزَرَهُ) : أعانه. (فَاسْتَغْلَظَ) : صار نظيفا وشديدا. (فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ) أى : استقام وقوى على أصوله التي هي قضبانه.

وتلك خاتمة سورة الفتح ، وبيان أسباب النصر ، ودعائم الفوز.

المعنى :

ذلك الرسول الذي أرسل بالهدى ودين الحق ، هو محمد رسول الله وخاتم أنبيائه وإمامهم ، الذي قال الله فيه : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ).

هذا هو محمد الرسول الأمين الصادق الصدوق ، الذي يصلى عليه الله في علاه ، وملائكته الأبرار وصالحو المؤمنين ـ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.

٤٩٥

هو محمد رسول الله وهؤلاء هم أصحابه الذين معه ، أشداء على الكفار رحماء بينهم ، هؤلاء هم أصحابه أعلام الهدى وأئمة الدين ، الذين يقول فيهم النبي ما معناه : «أصحابى كالنّجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه» أى : نصفه ، ويقول الله فيهم : هم أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين.

فالمؤمن حقا الذي لا يلين مع الكفار الذين حاربوا دينه ، فهو شديد عليهم رحيم بالمؤمنين ، غضوب عبوس في وجه الكافرين ، بشوش في وجه أخيه المؤمن. وإنما المؤمنون إخوة ، ويقول النبي : «مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمّى» هؤلاء هم المؤمنون الذين قامت على رءوسهم دعوة الإسلام ، وفتحت بسواعدهم الحصون والقلاع ، كانوا أشداء على الكفار رحماء بينهم ، وما ضل المسلمون ، ولا كسرت شوكتهم إلا يوم أن تفرقوا ، وأصبحوا أذلة مع غيرهم أعزة على بعضهم ، وكانت بينهم الفتن والمحن والإحن التي تهد كيان الإسلام ، وتقيم صروح الكفر ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون!!!

أيها الناس! نحن في عصر يكاد يتخطفنا فيه أعداء الإسلام من كل جانب ، وهم قوم برعوا في السياسة والدعاية ، والدعوة إلى الإلحاد بكل طريق ، وبكل أسلوب ، وسلاحهم في ذلك الاقتصاد والعلم المادي ، وهذه الفرقة البادية ، والخلاف الظاهر في صفوف المسلمين ، لا ينتج إلا كل شر ، وللأسف لا يتحمل تبعة هذا إلا الإسلام الذي قل ناصره ، وضعف ساعده ، حتى أصبح يستهزأ بسوره ، ويتندر بأحكامه أيها الناس! ماذا نقول؟!!! اللهم لطفا من عندك ، ونصرا لدينك وحماية لقرآنك إنك يا رب نعم السميع المجيب.

هؤلاء المسلمون تراهم ركعا سجدا فهم كثير والعمل والصلاة ، ولا يقصدون بذلك إلا وجه الله ، ولا يبتغون إلا فضل الله وإحسانه ، ولا يرجون إلا رضا الله ورضوانه (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) (١) هؤلاء سيماهم في وجوههم من أثر السجود

__________________

١ ـ سورة التوبة آية ٧٢.

٤٩٦

وما هي علامتهم؟ أهو الأثر الذي يظهر من أثر السجود في جبهة المصلى؟؟ ربما يكون صاحبها أقسى قلبا من فرعون ، والظاهر ـ والله أعلم ـ أنها نور في الوجه ، وهدوء في النفس ، ولين في الجانب ، وخشوع وخضوع ، فإن من أصلح سريرته أصلح الله ـ تعالى ـ علانيته ، وعلامة الإيمان الصحيح أن تكون قرآنا يتحرك ، وصورة صحيحة للإسلام وعنوانا كاملا لتهذيبه فلا تفسق ولا ترفث ، ولا تكذب ولا تغش ، ولا تخادع ولا تضلل ، ولا تقسو ولا تفجر ، فشر الناس من خافه الناس اتقاء شره ، تلك بعض علامات الإيمان تبدو في وجه المسلم الكامل.

ذلك مثل المؤمنين في التوراة ومثلهم في الإنجيل ، وهذا تكريم لهم من الله كبير ولقد ضرب الله لهم مع النبي مثلا من أروع الأمثلة ، فقد بدأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الدعوة وحده ثم آمن به قليل من الناس ، هذا القليل كثر وزاد حتى أصبح الكل قوة لا يستهان بها كما تقوى الطاقة الأولى من الزرع بالفروع التي تنبت حول الأصل حتى تعجب الزراع ، فعل الله معهم ذلك ليغيظ بهم الكفار ، وقد غاظ بهم الكفار فعلا ، وانهدم عزهم ودالت دولة الروم وفارس ، وعلت راية الإسلام حتى امتلأ قلب الكفر وأهله غيظا منه ، وحقدا عليهم إلى اليوم ، فهذه آثار التبشير وحملات أعداء الإسلام تترى ، والمدهش أنهم يجدون في شباب الإسلام المثقف ثقافة غير دينية مرعى خصبا ويستغلون قلة ثقافتهم الدينية فينفثون سمومهم ، أيها المسلمون : وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منكم مغفرة كبيرة ، وأجرا عظيما ، والله صادق الوعد ، وهو لكل من يعمل صالحا في كل زمان ومكان. نسأل الله التوفيق والخير للإسلام والمسلمين.

٤٩٧

سورة الحجرات

وهي مدنية بإجماع العلماء ، وعدد آياتها ثماني عشرة آية ..

هذه السورة جمعت مكارم الأخلاق ، وأرشدت المسلمين إليها ، وبينت لهم موقفهم مع الله ، ومع رسول الله ، وكيف يقابلون أخبار الفساق؟ وبما ذا يعاملون إخوانهم المؤمنين ، سواء أكانوا حاضرين معهم أم غائبين ، وبينت حقيقة الإيمان والمؤمنين إلى غير ذلك من فضائل الأعمال ، وكريم الخلال ..

موقف المسلمين من أحكام الله

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١)

المفردات :

(لا تُقَدِّمُوا) : بمعنى لا تقدموه ، أى : لا تسبقوه بالقول والحكم وهذا معنى لازم للتقدم ، أو هو بمعنى لا تتقدموا ، أى : لا يحصل منكم تقديم بقطع النظر عن المقدم. (بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) المراد : أمامهما.

المعنى :

يا أيها الذين اتصفوا بالإيمان الصحيح ، وهم أحق الناس بامتثال أمر الله : لا تسبقوا الله ورسوله بالقول أو الحكم في أمر من الأمور ، وكونوا كالملائكة الذين شهد الله بأنهم لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ، وهذا نهى صريح عن الإقدام على أمر من الأمور دون التقيد بكتاب الله ـ تعالى ـ وسنة رسوله (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما

٤٩٨

نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) لا تقدموا بين يدي الله ورسوله (١) ، ولعل ذكر الرسول لأنه مبلغ عن الله وحافظ لشريعته.

واتقوا الله ، أى : خذوا الوقاية من سخطه وعذابه باتباع أمره واجتناب نهيه والوقوف عند الحدود المرسومة التي بينها لكم ، إن الله سميع بكل المسموعات ، ويجازى بها أتم الجزاء ، وهو عليم بكل المعلومات ، وسيجازيكم عليها إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، وهذه الآية تقرر أصلا من أصول الدين المهمة ، وهو أن الحكم لله وحده لا معقب لحكمه وهو أحكم الحاكمين (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) وإذا كنا نهينا عن أن نتقدم الله ورسوله في حكم من الأحكام ، فيا ويل المسلمين ويا هلاكهم! حين يتركون اليوم أمر الله ورسوله ، ويتحاكمون إلى طواغيت الغرب وقوانينه.

من أدب الحديث مع الرسول

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٢) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣) إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٤)

__________________

١ ـ في هذه العبارة مجاز مرسل في لفظ اليدين حيث أطلقهما وأراد الجهتين المقابلتين لهما القريبتين منهما لعلاقة المجاورة ، وفي العبارة كلها استعارة تمثيلية حيث استعيرت الجملة ـ التقدم بين اليدين ـ للقطع بالحكم بلا اقتداء ومتابعة لمن تلزمه متابعته تصويرا لشناعة هذا الفعل بصورة المحسوس ، كتقدم الخادم لسيده.

٤٩٩

وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)

المفردات :

(تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ) الجهر : ظهور الشيء بإفراط لحاسة السمع أو حاسة البصر. (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ) حبط عمله : بطل ثوابه لطغيان السيئات عليه. (يَغُضُّونَ) الغض : النقصان من النظر أو الصوت. (امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) أصل الامتحان : إذابة الذهب ليخلص إبريزه من الخبث ، وقد يطلق ويراد منه الاختبار والتجربة ، ويلزم من هذا المعرفة وهي المرادة هنا. (الْحُجُراتِ) : جمع حجرة ، وهي قطعة من الفضاء تحجر أى : يمنع من الدخول فيها بحائط أو نحوه. (وَراءِ الْحُجُراتِ) : خارجها.

كانت الآية السابقة لبيان أدب المسلمين مع الله ورسوله ومكانتهما ، وهذه الآيات لبيان الأدب مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديثه ومعاملته.

المعنى :

يا أيها الذين آمنوا : لا تجعلوا أصواتكم عند الحديث مع الرسول الأكرم فوق صوته ، بل كلموه بصوت منخفض ، بلا جلبة ولا ضوضاء ، وكونوا معه كما يكون الابن مع أبيه ، وإياكم والجهر له في القول إذا كلمتموه وهو صامت ، فلا تظهروا أصواتكم معه كما تجهرون مع بعضكم.

أدبهم الله الأدب العالي في حديث النبي ، ولم يكن النبي جبارا متعاليا ، وإنما كان مثلا أعلى في التواضع والحياء تكلمه الأمة في الطريق فلا يتركها حتى تتركه ، ولكنه كان كثير الشغل ، كثير التفكير ، والتأمل في شأن الأمة الإسلامية ، والعرب قوم جفاة غلاظ لا يعرفون اللين وأدب الخطاب ، فنهاهم الله عن رفع صوتهم على صوت النبي ، وعن الجهر بالقول عند مخاطبته وهو ساكت. مخافة بطلان أعمالهم الصالحة التي

٥٠٠