التفسير الواضح

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٨

ورسوله وعملوا الخير كالإنفاق في السراء والضراء وكظم الغيظ والعفو عن الناس. وعمل الطيبات.

ذلك فضل من الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم.

الأمر كله لله

ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (٢٣) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤)

المفردات :

(مُصِيبَةٍ) هي لغة : كل ما يصيب الإنسان من خير أو شر ، وخصها العرف بالشر. (نَبْرَأَها) : نخلقها. (تَأْسَوْا) : تحزنوا. (مُخْتالٍ فَخُورٍ) : المتكبر ، والفخور : المباهي بماله أو جاهه.

المعنى :

يعالج القرآن الكريم مرضا في النفوس قد يحول دون الجهاد والبذل في سبيل الله ، فإن الإنسان قد يترك هذا خوفا من الفقر أو القتل ، ولكنه إذا علم أن للقدر سهاما لا ترد ،

٦٢١

وأن ما قدر لا بد أن يكون .. قاتل بقلب المؤمن الواثق في الله ، وأنفق عن سعة واثقا أن في السماء الرزق ، وأن الجود لا يفقر ، وأن الإقدام لا يقتل إذ الأمر كله لله (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) (١) ما أصابتكم مصيبة في الأرض أيا كان نوعها من جدب أو هلاك حرث أو نسل أو إصابة في أنفسكم كمرض أو قتل أو فقر ، ما أصابت الخلق إصابة إلا كانت في كتاب من قبل أن نخلقها ، وتظهر للعيان ، فالدنيا رواية تظهر على الخيالة ، ولكنها أعدت من قبل أن يخلق الخلق ، إن ذلك كله على الله يسير.

أخبركم الحق ـ تبارك وتعالى ـ لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ، ولا تفرحوا بما آتاكم ، فإن من علم أن ما قدر أزلا لا بد من حصوله حتما لم يفرح لشيء لم يكن ليخطئه ، ولا يحزن على شيء لم يكن ليدركه ، فالمؤمن عند المصيبة يصبر ، ومع الغنيمة يشكر ، والفرح والحزن المنهي عنهما هما اللذان يتعدى فيهما إلى ما لا يجوز ، والله لا يحب كل متكبر مغتر بنفسه ، فخور بماله أو جاهه على الناس ؛ فإن النعمة من الله لا من نفسه.

والمختال الفخور غالبا يكون بخيلا لأنه لا يرى لغيره حقا عليه ، على أنه شحيح النفس قصير العقل ويأمر الناس بالبخل ، وينهاهم عن البذل ، ومن يعرض عن تلك الأدوية الإلهية ، فإن الله هو الغنى عنه ، المحمود في السماء والأرض فليس في حاجة إليه.

أسس الحكم في الإسلام

لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢٥)

__________________

١ ـ سورة النساء آية ٧٨.

٦٢٢

المعنى :

تالله لقد أرسلنا رسلنا كلهم بالحجج والمعجزات ، مؤيدين بالبرهان والآيات وأنزلنا معهم الكتاب ، أى : جنسه الشامل لكل كتاب كالتوراة والزبور والإنجيل والقرآن ؛ وأنزل معهم الميزان ، أى : العدل في الأحكام ، أى : أمر الرسل بذلك وهم أولو الأمر ومن يأتى بعدهم خلفا لهم كذلك ، إذ هم الحراس على تنفيذ الأحكام.

أنزل الكتب من السماء ، وأمر بالعدل في كل شيء ليقوم الناس بالقسط في معاشهم ومعادهم ، وفي كل أمورهم الدينية والدنيوية.

وأنزل الحديد ـ خلقه وأنشأه ـ فيه بأس شديد ، وقوة صارمة.

الله سبحانه قرن إنزال الكتب ، والأمر بالعدل بإنزال الحديد ، وفي هذه إشارة إلى أن الكتاب يمثل القوة التشريعية ، والعدل يمثل القوة القضائية ، وإنزال الحديد يمثل القوة التنفيذية ، فإن تشريع السماء لا بد له من قاض يحكم به بالعدل ، ولا بد لها من قوة تنفذ حكمها ، فإن الحق وحده لا يسير إلا بالقوة ، وكل ذلك ليقوم الناس بالقسط فإن الظلم من شيم النفوس وطبائعها.

وفي الحديد بأس شديد ، وفيه منافع للناس. أليس هذا الكلام من أربعة عشر قرنا ، في الوقت الذي لم يعرف العالم للحديد فيه كل منافعه ، أليس هذا دليلا صادقا على أن محمدا ما قال هذا الكلام من عنده ، وإنما هو الوحى الصادق من عند الله العالم بكل شيء ، وأما منفعة الناس بالحديد فأمر ظاهر معروف لكل من عاش في هذا العصر ، خلق الله كل ذلك لينتفع الناس ، وليعلم الله من ينصره ، وينصر رسله بالغيب ، يا سبحان الله! كأن الله شرع الأحكام ، وأمرنا بالعدل فيها ثم أرشدنا إلى السلاح والحديد لنعلم أنه لن تقوم قيامة هذا الدين إلا بالجهاد والاستعداد التام للحرب ، والاستعداد للحرب يمنع الحرب كما يقولون ، ولقد أضمر الله لفظ «لينتفع الناس» (١) وأظهر قوله : (وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ) للإشارة إلى أن هذا هو المقصود وأن نفع الناس نفعا ماديا مقدمة له ، إن الله لقوى عزيز ، وهذا تذييل محكم في

__________________

١ ـ هي المعطوف عليه ، وهي مقدرة قطعا لوجود العاطف.

٦٢٣

نهاية الآية للإشارة إلى أن تكليفهم الجهاد وتعريضهم للجهاد وتعريضهم للقتال ليس عن حاجة له سبحانه ، ولكن لينتفعوا هم بالجرأة على الجهاد.

الغرض من إرسال الرسل

وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٦) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩)

٦٢٤

المفردات :

(قَفَّيْنا) قفى أثره : اتبعه ، وقفى على أثره بفلان : أتبعه إياه ، وعليه قوله : قفينا على آثارهم برسلنا ، والمراد جعلناهم تابعين متأخرين عنهم في الزمان. (رَأْفَةً وَرَحْمَةً) وهما : شيء واحد ، قال بعضهم : إذا اجتمعا كانت الرأفة درء الشر ورأب الصدع ، وكانت الرحمة جلب الخير والمودة. (وَرَهْبانِيَّةً) الرهبنة والرهبانية : هي المبالغة في العبادة والرياضة الروحية ، والانقطاع عن الناس مع حمل النفس على المشقة والامتناع عن لذيذ المطعم والمشرب والنكاح. (كِفْلَيْنِ) الكفل : الحظ والنصيب : وهو في الأصل كساء يكتفل به الراكب فيحفظه من السقوط ، وعلى ذلك فالمراد : يؤتكم نصيبين يحفظانكم من هلاك المعاصي.

المعنى :

وتالله لقد أرسلنا نوحا ، وهو الأب الثاني للبشر ، وأرسلنا إبراهيم وهو أب العرب ، وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب ، فكل الأنبياء من نسلهما ، فكان من الذين أرسل إليهم رسل مهديون ، وكان كثير منهم فاسقون ، وتلك سنة الله مع الأنبياء جميعا ، ولن تجد لسنة الله تبديلا ، ثم أتبعناهم بعيسى بن مريم ، فجاء متأخرا عنهم في الزمان ، وآتيناه الإنجيل الصحيح الذي لم يحرف بعد ، لا الإنجيل الذي هو موجود عند المسيحيين اليوم ، فإن فيه التثليث والصلب ، والله هو الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، والله قد نجى الأنبياء أولى العزم من أعدائهم وعصمهم من الكفار بهم فنجى نوحا من الغرق ، ونجى إبراهيم من النار ، ونجى موسى من فرعون ، ونجى عيسى من اليهود ، ونجى محمدا من كيد المشركين ، وكفاهم جميعا شر المستهزئين ، على أن نظرية الصلب التي في الإنجيل الموجود نظرية دليل بطلانها معها ، ولا يقبلها عقل ، ولا تقرها شريعة ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ؛ وجعل ربك في قلوب حوارى المسيح وأصحابه السابقين رأفة ورحمة «رحماء فيما بينهم».

٦٢٥

وجعل في قلوبهم رهبانية مبتدعة لهم ، فهم ابتدعوا رهبانية من عند أنفسهم ، ما فرضناها عليهم رأسا ، ولكن ابتدعوها وألزموا بها أنفسهم ابتغاء رضوان الله (١) فما رعوها حق رعايتها وما حافظوا عليها إذ أصبحت كالنذر عندنا ، والنذر يذم صاحبه إذا ترك الوفاء به ، والذين لم يرعوها هم المتأخرون ، والذين ابتدعوها هم السابقون.

فآتينا الذين آمنوا منهم إيمانا صحيحا سليما ـ سواء مات قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو عاش حتى أسلم به ـ أجرهم ، وكثير منهم فاسقون لأنهم لم يؤمنوا بالإنجيل الصحيح فلم يؤمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

يا أيها الذين آمنوا بالله ورسله وداوموا على تقوى الله وعلى الإيمان بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن تفعلوا ذلك يؤتكم بسبب ذلك نصيبين عظيمين يكفلان لكم الخلوص من هلاك المعاصي ، ويجعل لكم نورا تمشون به ، ويغفر لكم ، والله غفور رحيم ، وقيل المعنى :

يا أيها الذين آمنوا بعيسى اتقوا الله وآمنوا بمحمد يؤتكم كفلين من رحمته كفل على الإيمان بعيسى وكفل على الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

أعلمناكم بذلك ليعلم أهل الكتاب القائلون من آمن بكتابكم منا فله أجران ومن لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجوركم ليعلم هؤلاء أنهم لا ينالون شيئا من فضل الله ، أى :

من الأجرين أو غيرهما ، ولن يصيبهم خير ما لم يؤمنوا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإيمانهم بالنبي عيسى لا ينفعهم بعد بعثة خاتم الأنبياء والمرسلين ، فقولهم للمسلمين : من لم يؤمن بكتابكم منا فله أجر : باطل باطل.

واعلموا أن الفضل بيد الله وحده يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم.

__________________

١ ـ على هذا المعنى تكون جملة (ما كتبناها عليهم) صفة رهبانية ، و (إلا ابتغاء) استثناء منقطع ، ويصح أن يكون متصلا على معنى : ما قضيناها عليهم وجعلناهم يبتدعونها لشيء من الأشياء إلا ليبتغوا رضوان الله.

٦٢٦

سورة المجادلة

مدنية على الصحيح ، وعدد آياتها اثنتان وعشرون آية.

وهي كيفية السور المدنية تعالج أمراض المجتمع ببيان التشريع السليم للمشكلات وبيان الآداب الإسلامية في المجتمعات ، مع لفت أنظار المسلمين إلى أعدائهم في الدين وتحديد علاقتهم بهم.

الظهار وحكمه وكفارته

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (١) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٢) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٣) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤)

٦٢٧

المفردات :

(تُجادِلُكَ) : تراجعك. (يَظْهَرُونَ) أى : يقولون لنسائهم : أنت على كظهر أمى ، أى : في الحرمة. (مُنْكَراً) أى : قولا منكرا ينكره الشرع ، ويأباه الطبع السليم. (وَزُوراً) : كذبا وبهتانا. (فَتَحْرِيرُ) أى : فعتق إنسان مؤمن كامل. (أَنْ يَتَمَاسَّا) أى : بالنكاح أو المتعة. (تُوعَظُونَ) أى : تزجرون به حتى لا تعودوا لمثله أبدا.

كانت خولة بنت خويلد (١) الخزرجية تحت أوس بن الصامت أخى عبادة بن الصامت ، وكانت حسنة الجسم فرآها زوجها ساجدة فنظر عجيزتها فأعجبه أمرها ، فلما انصرفت أرادها فأبت فغضب عليها ـ قال الراوي : وكان أوس شخصا به شيء من جنون ـ فأصابه بعض حالاته فقال لها : أنت على كظهر أمى!

وكان الإيلاء ـ وهو حلف الرجل على امرأته ألا يطأها مدة ـ والظهار من الطلاق في الجاهلية ، فسألت خولة ـ وقد سمعت زوجها يظاهرها ـ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك فقال لها : «حرمت عليه» فقالت : والله ما ذكر طلاقا ، ثم قالت : أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي ووحشتي وفراق زوجي وابن عمى ، وقد نفضت له بطني ، فقال النبي : «حرمت عليه» فما زالت تراجعه ويراجعها حتى نزلت عليه هذه الآية.

المعنى :

قد سمع الله قول المرأة التي تجادلك في شأن زوجها ـ وهي خولة بنت ثعلبة ـ والحال أنها تشتكي إلى الله ضعفها وقلة حيلتها ، وفراقها لزوجها ووحشتها ، والله هو السميع بذاته لكل مسموع ، البصير بذاته لكل مبصر ، تقول عائشة ـ رضى الله عنها ـ : تبارك الذي وسع سمعه كل شيء إنى لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ، ويخفى على بعضه ، وأنا وهي في حجرة واحدة ، سمعتها وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله قائلة : يا رسول الله أكل شبابي ، ونثرت له بطني ، حتى إذا كبر سنى وانقطع ولدي ظاهر

__________________

١ ـ وفي رواية هي خولة بنت ثعلبة ، ولا حرج إذ قد تنسب المرأة إلى أبيها أو جدها.

٦٢٨

منى ، اللهم إنى أشكو إليك! فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآية. فحقّا : إن الله سميع بصير بخلقه.

هذه الفعلة التي هي عملية الظهار ـ قول الرجل لزوجه : أنت علىّ كظهر أمى ـ فتصبح محرمة عليه ، ولا تعود إلا إذا كفّر كما سيأتى ـ هذه الفعلة ما حكمها؟.

الواقع أن الظهار ممقوت شرعا ، وهو قول منكر وزور ، إذا أمك هي التي ولدتك وزوجك هي زوجك فلا يصح أن تجعل زوجك محرمة عليك كأمك أبدا.

أبعد أن يقول الله : إن الظهار منكر من القول وزور وبهتان ، وإنه لعفو غفور عما فرط؟ هل يشك عاقل في أن الظهار أمر محرم شرعا ولا يصح فعله؟

(وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ ...) وهذا تفصيل لحكم الظهار ، وبيان لحكمه الخاص بعد بيان حكمه العام الذي يفيد أنه منكر وزور.

والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لقولهم ، أى : فيه ، فعليهم كفارة شديدة والعود في الظهار لأنه مطلق في الآية اختلف فيه أئمة الفقه الإسلامى ؛ فالعود عند الشافعى يحصل بإمساك الزوجة المظاهر منها زمانا بعد الظهار يمكنه مفارقتها فيه ولم يفعل ، فيعتبر عائدا في ظهاره ، أى : أنه ظاهر ولم يتبعه بطلاق فيكون عائدا ، وعند الأحناف يحصل باستباحته الاستمتاع بها مطلقا ، وعند مالك يحصل بالعزم على الجماع وعند بعضهم بالجماع نفسه ، والآية تحتمل كل هذا ، ولم تخصص السنة الصحيحة شيئا.

هذه الكفارة الواجبة على الزوج المظاهر العائد في ظهاره هي : عتق رقبة مؤمنة سليمة من كل عيب ، هذا العتق يكون قبل أن يتماس الزوجان بالوطء ، فلا يقرب المظاهر من امرأته ولا يباشرها ولا يتلذذ بها بشيء حتى يكفر ، خلافا لمن يقول : المحرم الوطء فقط ، فإن وطئها قبل التكفير استغفر الله وأمسك حتى يكفر كفارة واحدة فقط وإن وطئها مرارا ، ذلك ـ والإشارة إلى هذه الكفارة المشددة ـ تؤمرون به ، وتزجرون عن ارتكاب مثل هذا المنكر ، فليس هذا الحكم المشدد لتكتسبوا ثوابا ، بل هو للردع والزجر عن ارتكاب ما يسببه الظهار ؛ فمن لم يجد الرقبة ليعتقها فعليه صيام شهرين متتابعين فإن أفطر فيهما لعذر قيل : لا ينقطع التتابع ، وقيل : ينقطع ، أما إفطاره

٦٢٩

لغير عذر شرعي فإنه يقطع التتابع ويعيد من الأول ، وهذا الصيام من قبل أن يتماسا كما في الكفارة ، فمن لم يستطع فعليه إطعام ستين مسكينا من قبل أن يتماسا ، لكل مسكين مد ، وقيل : بل أكثر من المد (١) ، والمراد إشباع ستين مسكينا يوما بغالب قوت البلد.

ذلك الذي وصفناه من التغليظ في الكفارة لتكونوا مطيعين لله تعالى ، واقفين عند حدود الشرع لا تتعدوها ، لئلا تعودوا للظهار الذي هو منكر شرعا وزور وبهتان ، إذ فيه انفصام عرى الزوجية ، والشرع حريص كل الحرص عليها ، وسمى التكفير إيمانا لأنه طاعة ، وتلك حدود الله التي تبين معصيته من طاعته ، فالظهار معصية بلا شك والكفارة له طاعة ، وللكافرين بأحكام الشرع عذاب أليم في جهنم.

الله بكل شيء محيط

إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٥) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٦) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧)

__________________

١ ـ المد : نصف قدح بالكيل المصرى ، وعلى هذا فالملوة أربعة أمداد.

٦٣٠

المفردات :

(يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) : يعادونهما ويشاقونهما ؛ لأن كلا من المتعادين يكون في حد وجهة. (كُبِتُوا) : أهينوا وذلوا. (نَجْوى) المراد : التناجي ، أى : المسارة ، مأخوذ من النجوة : وهي ما ارتفع من الأرض ؛ لأن المتسارين يخلوان بنجوة من الأرض.

المعنى :

أن الذين يحادون الله ورسوله ، ويعادونهما بمخالفتهما ، واتخاذ حدود غير حدودهما ، وأحكام غير أحكامهما ، هؤلاء كبتوا وأذلوا ، وسيجزيهم الله خزيا مؤكدا ، كما أذل من قبلهم من الكفار وأخزاهم ، والحال أنا قد أنزلنا آيات بينات واضحات في من حاد الله ورسوله من الأمم قبلهم ، وفيما فعلنا بهم ، وللكافرين بتلك الآيات ـ ويدخل معها آيات القرآن من باب أولى ـ عذاب مهين يذهب بعزهم وكبرهم يوم يبعثهم الله جميعا بحيث لا يبقى منهم أحد ، فينبئهم بما عملوا من القبائح.

كيف ينبئهم بأعمالهم كلها؟ الجواب : أحصاه الله تعالى عددا ، ولم يفته ـ سبحانه ـ منه شيء ، والحال أنهم قد نسوه ، والله على كل شيء شهيد ، لا يغيب عنه أمر من الأمور.

هذا استشهاد آخر على شمول علمه ، ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ، بمعنى ما يقع من تناجى ثلاثة أو مسارة بينهم إلا كان الله رابعهم فيعلم نجواهم كما لو كان رابعهم في التناجي ، ولا تكون النجوى بين خمسة إلا هو سادسهم ، ولا أدنى من ذلك عددا ، ولا أكثر إلا هو معهم بذاته علما وإحاطة أينما كانوا ، ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة ، ويجازيهم عليه ، إن الله بكل شيء عليم ، وهذا تذييل محكم.

آداب المناجاة في الإسلام

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ

٦٣١

وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٠))

المفردات :

(بِالْإِثْمِ) : هو ما حاك في صدرك وخفت أن يطلع عليه غيرك. (الْعُدْوانِ) المراد : عداوة الرسول والمسلمين. (حَيَّوْكَ) المراد : خاطبوك بالتحية ، وفي المصباح : حياة تحية دعا له بالحياة ، ومنه التحيات لله ، أى : البقاء ، ثم كثر استعمالها في مطلق الدعاء ، ثم استعملت شرعا في دعاء مخصوص وهو : السلام عليكم.

(حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ) : كافيهم عذابها. (بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى) أى : بالطاعة والبعد عما نهى الله.

سبب النزول :

قال ابن عباس : نزلت في اليهود والمنافقين ؛ كانوا يتناجون فيما بينهم وينظرون للمؤمنين ويتغامزون بأعينهم ، فيقول المؤمنون : لعلهم بلغهم عن إخواننا وقرابتنا من المهاجرين والأنصار قتل أو مصيبة أو هزيمة أو يسوؤهم ذلك فشكوا إلى رسول الله فنهاهم ـ أى : اليهود والمنافقين ـ عن النجوى فلم ينتهوا فنزلت الآية : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى).

٦٣٢

وروى البخاري أن اليهود أتوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : السام عليك ـ أى : الموت عليك ـ قالت عائشة : ففهمتها. فقلت : عليكم السام ولعنكم الله ، وغضب عليكم ، فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : مهلا يا عائشة ، عليك بالرفق ، وإياك والعنف والفحش ، قالت : أو لم تسمع ما قالوا؟ قال : أو لم تسمعي ما قلت ورددت عليهم؟ فيستجاب لي فيهم ، ولا يستجاب لهم ؛ وفي رواية أخرى : فأنزل الله تعالى : (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ).

المعنى :

إن أمر هؤلاء الذين يؤمرون بترك شيء ، وينهون عنه ثم يعودون إليه ـ إن أمر هؤلاء ـ لعجيب. ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى من المنافقين واليهود؟! حينما شكاهم المسلمون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنهاهم عن ذلك ، فعادوا لمثل فعلهم (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ؟!) (١) ، ومع ذلك فهم يتناجون بما هو إثم عند أنفسهم ، ووبال عليهم لأن ضرره عائد لهم ، وبما هو عدوان على المؤمنين ، وبما هو تواص بمخالفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم انظر إلى هؤلاء أيها المسلم ، واحذر أن تكون ممن يتناجى بالإثم والعدوان ومعصية الرسول التي هي رمز لانتهاك القانون العام.

ولقد جر ذكر بعض صفاتهم إلى ذكر صفة أخرى ، تدل على سوء القصد ، وخبث النية ، فهؤلاء المنافقون واليهود كان يأتى بعضهم إلى النبي ، ويحييه بتحية لم يشرعها الله ، ولم يأذن بها ، وهي قولهم : السام عليك ، يريدون الدعاء عليه بالموت والهلاك ، فكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرد عليهم قائلا : وعليكم. ويا ليتهم وقفوا عند هذا الحد ، بل يقولون في أنفسهم : هلا يعذبنا الله بما نقول! والمراد لو كان محمد نبيا لعذبنا الله بسبب قولنا هذا. والله يرد عليهم بقوله الفصل : حسبهم جهنم وكفى! يدخلونها ، ويصطلون بنارها ، فبئس المصير مصيرهم.

__________________

١ ـ الاستفهام في الآية للإنكار والتعجب ، والتعبير بالمضارع في (يعودون) للدلالة على تكرار عودتهم وتجددها واستحضار صورتها العجيبة.

٦٣٣

يا أيها الذين آمنوا : إن مقتضى هذا الإيمان أن تمتثلوا أمر الله ، وتبتعدوا عن كل ما يتنافى مع الإيمان الصحيح وخاصة التناجي بالإثم والعدوان ، فلا تتناجوا كما يتناجى المنافقون واليهود ، ولكن تناجيكم المشروع بالبر والتقوى ، وبالخير الصالح ، واتقوا الله في السر والعلن فإنه مطلع عليكم ، ثم إليه تحشرون. روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر حتّى تختلطوا بالنّاس من أجل أن يحزنه» أى : من أجل أن يقع في نفسه ما يحزن لأجله ؛ إذ كثيرا ما يفهم أن الحديث عنه بما يكره.

إنما التناجي سرّا أى : مع وجود من يظن شرّا من تزيين الشيطان ليحزن الذين آمنوا إذ قد فهموا من تناجى اليهود والمنافقين أن إخوانهم أصيبوا بشر ، وليس التناجي بضارهم في شيء إلا بإذن الله ، وعلى الله وحده فليتوكل المؤمنون ، انظر إلى أدب القرآن في المناجاة ، وكيف يوجهها إلى البر والتقوى ، ويمنعها عن الإثم والعدوان؟!

من أدب الإسلام في المجالسة

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١)

المفردات :

(تَفَسَّحُوا) : توسعوا ، يقال : فسح فلان لأخيه في مجلسه يفسح فسحا ، أى : وسع له. (انْشُزُوا) يقال : نشز ينشز : إذا انتحى من موضعه ، أى : ارتفع منه ، وامرأة ناشز ، أى : منتحية عن زوجها ، وأصل النشز : ما ارتفع من الأرض وتنحى.

٦٣٤

المعنى :

يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله ، وتحلوا بالخلق القرآنى : إذا قيل لكم : توسعوا في المجالس لإخوانكم فوسعوا يوسع الله لكم ، فمن أفسح لأخيه في مجلسه ، وأكرمه وسع الله عليه وأكرمه ؛ إذ الجزاء من جنس العمل.

روى أن هذه الآية نزلت يوم الجمعة ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يومئذ في الصفة وفي المكان ضيق ، وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار فجاء أناس من أهل بدر فيهم ثابت بن قيس بن شماس ، وقد سبقوا في المجلس ، فقاموا حيال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم ، فلم يفسحوا لهم ، فشق ذلك على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لمن حوله من غير أهل بدر : قم يا فلان وأنت يا فلان» بعدد القائمين من أهل بدر ، فشق ذلك على من أقيم ، وعرف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الكراهية في وجوههم ، فغمز المنافقون وتكلموا بأن قالوا : ما أنصف هؤلاء وقد أحبوا القرب من نبيهم فسبقوا إلى المكان ، فأنزل الله ـ عزوجل ـ هذه الآية.

فمن الآداب الإسلامية أن المكان لمن سبق ، وأن الرجل لا يقام من مجلسه ليجلس فيه آخر ، ولكن من الأدب أن تفسح لأخيك في المجلس ، توسع له من غير أن تضار.

وقد اختلف الفقهاء في جواز القيام للقادم : فمنهم من أجازه محتجاّ بحديث «قوموا إلى سيّدكم» وقيل : هذا في الحاكم ورئيس القوم بشرط ألا يتخذ عادة وشعارا كما نفعل الآن ، ومنهم من منع ذلك محتجاّ بحديث «من أحبّ أن يتمثّل له الرّجال قياما فليتبوّأ مقعده من النّار». وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجلس حيث ينتهى به المجلس.

وإذا قيل لكم : انشزوا ، وانهضوا للخير فانشزوا وارتفعوا يرفع الله الذين آمنوا منكم ـ وخاصة العلماء ـ يرفعهم درجات في الدنيا والآخرة ، والله بما تعملون خبير.

نجوى الرسول

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ

٦٣٥

صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٣)

المفردات :

(أَأَشْفَقْتُمْ) : أخفتم الفقر من تقديم صدقة بين يدي نجواكم؟

كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سمحا كريم الخلق لين الجانب ؛ لهذا كثرت مناجاة الناس له في غير حاجة ، وما دفع أكثرهم إلا حب الناس التظاهر ؛ فنزلت هذه الآية.

المعنى :

يا أيها الذين آمنوا إذا أردتم مناجاة الرسول والتحدث إليه سرّا في أمر من الأمور ، فقدموا بين يدي (١) نجواكم صدقة ، أى : فتصدقوا قبلها ، ولعل السر في ذلك تعظيم الرسول ، ونفع الفقراء ، وتمييز المخلص من المنافق ، ومنع تكاثر الناس عليه بدون حاجة ، وذلك التقديم خير لكم وأطهر ، فإن لم تجدوا شيئا فإن الله غفور رحيم ، وهل الأمر في ذلك للندب ، أو هو للوجوب ثم نسخ بالآية الآتية؟ قولان : على أن الصدقة هنا لم تحدد لتشمل القليل والكثير ، والمشهور أنه لم يعمل بهذه الآية غير علىّ ، فقد روى عن علىّ ـ رضى الله عنه ـ أنه قال : إنه في كتاب الله تعالى آية ما عمل بها أحد قبلي ، ولا يعمل بها أحد بعدي هي آية النجوى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ).

__________________

١ ـ في الكلام استعارة بالكناية حيث شبه النجوى بالإنسان وحذفه ورمز إليه بشيء من لوازمه ، وهو اليد ، ويصح أن يكون في التركيب استعارة تمثيلية.

٦٣٦

فلما نزل قوله تعالى : (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ) قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خفّف الله عن هذه الأمّة».

وهكذا الإنسان شحيح بطبعه ، محب للمال بغريزته ، فإن لم تفعلوا ما ندبتم إليه أو ما أمرتم به هنا ، وقد تاب عليكم ، ورخص لكم المناجاة بدون صدقة ، مع أنها خير لكم وأطهر إن لم تفعلوا فأقيموا الصلاة لتقوم نفوسكم ، وأدوا الزكاة لتطهر أموالكم ، وتحصنها ، وأطيعوا الله ورسوله ، والله خبير بما تعملون.

ومن هنا يجب أن نعلم أنه يستحسن أن تقدم خيرا عند طلبك من الله شيئا وقبل دعائك له!

موالاة غير المؤمنين

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٥) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٦) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٧) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٨) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٩) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (٢٠)

٦٣٧

كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢١) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٢٢)

المفردات :

(اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ) : غلب على عقولهم. (حِزْبُ الشَّيْطانِ) : أتباعه وأنصاره. (يُوادُّونَ) : يصادقون. (أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) العشيرة : هي الأهل والأقارب. (بِرُوحٍ مِنْهُ) : بقوة وطمأنينة من عنده.

المعنى :

انظر يا من يتأتى منه النظر ـ متعجبا ـ إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ، وهم اليهود ، وقد تولاهم المنافقون يسرون إليهم بالمودة ، ويحلفون لهم إنهم لمعكم ، ويعلم الله أن المنافقين لكاذبون ، كيف يتولون قوما غضب الله عليهم؟ حالة كونهم ما هم منكم ، ولا منهم ، أى : هؤلاء الذين تولوا اليهود ليسوا من المؤمنين الخلص ، ولا من الكافرين الخلص بل هم مذبذبون بين ذلك ، لا إلى هؤلاء ، ولا إلى هؤلاء (١).

__________________

(١) في هذا إشارة إلى أن «ما هم منكم ولا منهم» جملة حالية من فاعل (تولوا) ويصح أن تكون استئنافية ، والمعنى واحد ، ويصح أن تكون صفة لقوم ، والمعنى : قوما هم اليهود ليسوا منكم أيها المسلمون ولا من المنافقين ، ومع هذا تولوهم.

٦٣٨

روى أن هذه الآية نزلت في عبد الله بن نبتل ، المنافق ـ وكان أزرق أسمر قصيرا خفيف اللحية ـ وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجالسه ، ثم يرفع حديثه إلى اليهود ، فبينا نحن جلوس مع النبي في إحدى حجراته إذ قال : «يدخل عليكم الآن رجل قلبه جبّار وينظر بعيني شيطان» فدخل عبد الله بن نبتل ، فقال النبي له : علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فحلف بالله ما فعل ، فقال له النبي : «فعلت» فانطلق فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه ، فنزلت الآية. وهذا معنى قوله تعالى : (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (١) نعم حلفوا بالله أيمانا فاجرة ، وهم يعلمون أنهم كاذبون ، وتلك هي اليمين الغموس.

هؤلاء أعد الله لهم عذابا شديدا ، وهو الدرك الأسفل من جهنم ، إنهم بئس العمل عملهم؟ هؤلاء اتخذوا أيمانهم الفاجرة الكاذبة جنة ووقاية لهم حتى أمنوا القتل ، وفي قراءة «إيمانهم» أى : الظاهري كان وقاية لهم من القتل ، فصدوا المؤمنين عن سبيل الله ، وهو جهادهم بقتلهم وأخذ أموالهم ، وقيل : صدهم عن سبيل الله بإلقاء الأراجيف وتثبيط المسلمين عن الجهاد وتخويفهم من القتل ، وقد كان المنافقون كذلك ، ويترتب عليه أن لهم عذابا ذا إهانة في الدنيا والآخرة ، لن تنفعهم أموالهم التي جمعوها ، ولا أولادهم الذين يعتزون بهم ، ولن يغنوا عنهم من عذاب الله شيئا من الإغناء ، وكيف تنفعهم في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون؟ أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.

اذكر يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له أنهم مؤمنون ، وما علموا أن ذلك لا ينفعهم أبدا ولا يليق بعاقل أبدا ، يحلفون لله كما يحلفون لكم ، ويحسبون أنهم على شيء من منفعة بسبب يمينهم ، ألا إنهم هم الكاذبون المبالغون في الكذب ، حيث كذبوا بين يدي علام الغيوب يوم القيامة في الحال التي يؤمن فيها الفاجر ، فلا عجب إذ يحلفون لكم الآن ، ولسائل أن يسأل عن السبب في هذا ، والجواب : أنه استحوذ عليهم الشيطان فملك عنانهم ، وغلب على عقولهم حتى اتبعوه بلا عقل ولا روية ، وهذا هو سبب كذبهم وضلالهم السابق ، استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله ، حتى نسوا أنفسهم

__________________

١ ـ جملة استئنافية مسوقة لتعليل خسرانهم.

٦٣٩

فتركوها ترتكب الآثام والأباطيل ، أولئك ـ والإشارة لبعدهم في الغواية والبهتان ـ حزب الشيطان وجماعته المتجمعون على الإثم والعدوان ، ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون ، وأى خسارة بعد هذا؟

إن الذين يحادون الله ورسوله (١) بمخالفة أمره ، واتباع الشيطان أولئك في عداد الأذلين ، لأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين. وما سبب ذلك! الجواب : كتب الله لأغلبن أنا ورسلي ، أى : قدر وأراد إرادة مؤكدة كأنه أقسم عليها ، ولذا جاء الجواب باللام المؤكدة في قوله : لأغلبن أنا ورسلي (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ* إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) (٢) ولا غرابة إن ربك لقوى قادر عزيز غالب.

لا تجد قوما يؤمنون بالله ورسوله حقا إيمانا كاملا ، يوادون من حاد الله ورسوله بقلوبهم مخلصين ، والغرض من هذا الأسلوب بيان أنه لا ينبغي أن يجتمع في قلب واحد إيمان كامل مع موادة الكفار. وحقه أن يمتنع ، ولا يوجد بحال وهذه مبالغة في النهى عنه والزجر عن سلوك طريقه ؛ والمنهي عنه الإخلاص القلبي للكافر ، ولو كان أبا أو ابنا أو أخا أو من العشيرة ، وقد كان الصحابة لا يفضلون على حب الله ورسوله شيئا ، بل بعضهم قتل وصفع وأهان بعض أقاربه في سبيل الله أولئك الممتثلون أمر الله ؛ الذين يرون حلاوة الإيمان في حب الله ورسوله. وهم بالطبع لا يوادون أعداء الله وأعداء الإسلام والقرآن ؛ أولئك كتب الله في قلوبهم الإيمان وثبته ، وأيدهم بروح من عنده ؛ وأنار قلوبهم للحق فاعتنقوه ، وسيدخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ، رضى الله عنهم ، ورضوا عنه ؛ أولئك حزب الرحمن المختصون بالقرآن ؛ ألا إن حزب الله هم المفلحون وحدهم ؛ وأى فلاح بعد ذلك؟!!

__________________

١ ـ جملة استئنافية مسوقة لتعليل خسرانهم

٢ ـ سورة الصافات الآيتان ١٧١ و ١٧٢.

٦٤٠