التفسير الواضح

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٨

المفردات :

(شَرَعَ) : أوضح وبين وسن (ما وَصَّى) المراد : أمر به نوحا ومن معه ، ولعل ذكرها دون الأمر للإشارة إلى الاعتناء بشأن المأمور به وتأكيده (أَقِيمُوا الدِّينَ) المراد : تعديل أركانه والمحافظة عليه (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ) : عظم وشق عليهم ذلك (يَجْتَبِي إِلَيْهِ) : من الاجتباء والاصطفاء «قالوا : لولا اجتبيتها». (يُنِيبُ) :

يرجع إليه ويقبل (بَغْياً) : ظلما وتجاوزا للحد (مُرِيبٍ) : شديد الريب والشك (لا حُجَّةَ) لا احتجاج (داحِضَةٌ) : زائلة باطلة (وَالْمِيزانَ) : العدل والمساواة (مُشْفِقُونَ) الإشفاق : الخوف مع الاعتناء ، فإذا عدى بمن كما هنا فالخوف أظهر ، وإذا عدى بعلى كقولك ، أشفقت على اليتيم فالعناية أظهر (يُمارُونَ) : يجادلون ، وأصل المري : مسح ضرع الناقة للحلب. وإطلاقه على المجادلة لأن كلا من المتجادلين يحاول استخراج ما عند صاحبه.

وهذا تفصيل لما أجمل سابقا في قوله تعالى : (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [سورة الشورى آية ٣] ، وبيان لحقيقة الرسالة المحمدية وهدفها.

٣٦١

المعنى :

الله ـ سبحانه وتعالى ـ له مقاليد السموات والأرض شرع لكم من الدين ، وسن وأوضح ، ما وصى به نوحا والأنبياء أولى العزم ، وأصحاب الشرائع القديمة ، الخطاب لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لبيان أن الرسالة المحمدية ليست بدعا من الرسالات ، وهي موافقة لما جاء به الأنبياء السابقون في الأصول العامة ، وما أمرهم الله به أمرا مؤكدا ـ كما يشير إلى ذلك لفظ وصينا ـ (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) وتخصيص هؤلاء الأنبياء بالذكر لأنهم أولو العزم وأرباب الشرائع القديمة ، ونوح أول رسول أرسل بشريعة موافقة لزمانه ، وإبراهيم أبو الأنبياء ، ويدين له أكثر العرب ، وموسى نبي اليهود ، وعيسى نبي المسيحيين.

(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ) ولعل إيثار الإيحاء عند الكلام على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دون ما قبله وما بعده لأن فيه تصريحا برسالة محمد التي هي الأساس والمقصود ، ولتوافق هذه الآية ما قبلها (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ) والإشارة إلى الاعتناء به وبشريعته التي جمعت كل خير ، وأتمت كل نقص ، ولعل تقديمه في الذكر على من سبقه في الزمن من الرسل يشير إلى ذلك.

وما هذا الذي شرعه؟ هو أن أقيموا الدين الحق ، دين التوحيد والطاعة والتقديس لله وعدم الإشراك به بأى صورة كانت من قرب أو من بعد ، مع الإيمان برسل الله كلهم وكتبه واليوم الآخر وما فيه ، والإيمان بالمثل العليا التي تبنى الفرد والأسرة والمجتمع ، وإقامة الدين هو الإيمان الكامل والمحافظة عليه من الزيغ وزيف العقائد والمواظبة على كل ما يطلبه الشرع ، ولا تتفرقوا فيه يا أمة الإسلام ، حتى تكونوا كغيركم شيعا وأحزابا ، وجماعات ، بل الزموا سنة رسول الله والخلفاء الراشدين بعده ، الزموا القرآن والسنة الصحيحة وروح الدين تكونوا الأمة الناجية يوم الحساب.

كبر على المشركين ، وعظم ما تدعوهم إليه من التوحيد والهداية وترك الآثام والفسوق والإشراك بالله أصناما وأوثانا!!

وأنت يا محمد ثق بأن الله يجتبى إليه وإلى دينه من يشاء من خلقه الذين يعلم فيهم الصلاحية والخضوع للحق وقبوله ، يعلم فيهم ذلك في عالم الأرواح ، ويهدى إليه من

٣٦٢

يميل إليه وينيب ، ويقبل على طاعته ، ويثوب إلى رشده ، وما تفرقت أمم الأنبياء السابقة إلا من بعد ما جاءهم العلم بأن الفرقة ضلال وفساد ، وبأنهم مأمورون بإقامة الدين وعدم التفرقة فيه ، وهذا بلا شك ينطبق على الأمة الإسلامية تمام الانطباق.

تفرقوا عن الحق الصريح بغيا بينهم وحسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم أنه الحق. وفي القرطبي : عن ابن عباس أن المراد : وما تفرق أهل مكة إلا من بعد ما جاءهم العلم ، أى : النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك لأنهم كانوا يتمنون أن يبعث لهم نبي فلما أرسل لهم كفروا به (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً. اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ) [سورة فاطر الآيتان ٤٢ ، ٤٣] وقيل : هم أهل الكتاب بدليل قوله تعالى : (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) [سورة البينة آية ٤].

وكان هذا التفرق بعد مجيء العلم لهم بفساده ناشئا من البغي بينهم والحسد ، وليس ناشئا عن قصور في الرسالات والحجج.

ولو لا كلمة سبقت من ربك. وهي : وعدة بترك معاجلتهم بالعذاب إلى أجل مسمى عنده لقضى أمرهم واستأصلوا حين افترقوا لعظم جرمهم ، وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم ، وهم أهل الكتاب الذين كانوا في زمنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لفي شك من كتابهم مريب! فهم لم يؤمنوا به إيمانا كاملا ولذا تفرقوا فرقا شتى.

إذا كان الأمر كما ذكر وأن الأمم السابقة تفرقت واختلفت ، وكان مبعث ذلك هو عدم الإيمان الصحيح الكامل فلذلك فادع إلى الائتلاف والاتفاق على الحنيفية البيضاء واستقم كما أمرت ، واثبت على الدعاء إلى ذلك ودم عليه ، وقد رأينا أن التفرق في الشريعة الإسلامية ظهر عند ضعف الوازع الديني ، وقام به أناس دخلوا في الإسلام عنوة أو لغرض ، ولم يدخلوه رغبة أو حبا فيه ، هؤلاء قاموا بدور خطير جدا واستغلوا طيبة الشعوب الإسلامية وسلامة ضميرها ، وحسن نيتها ، ألست معى في أن هدف الشريعة الإسلامية هو الوحدة والاتحاد على قبول الحق ، والبعد عن الخلافات المذهبية الضارة (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) وليس المراد الاختلاف في الفروع الفقهية فذلك له سند من الكتاب والسنة وفعله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو هذا الاختلاف المذهبى في الفروع أشبه بالاختلاف في الرسالات مع اتفاق كل الأنبياء على مبدأ التوحيد الخالص

٣٦٣

والإيمان باليوم الآخر وبالأنبياء كلهم وبالكتب ، أما الشرائع العملية فتختلف باختلاف الأمم وعصورها (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) [سورة المائدة آية ٤٨].

فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم الباطلة ، وقل لهم : آمنت بما أنزل الله من الكتب كلها ، وأمرت لأعدل بينكم في كل شيء ، وأحكم بينكم بالحق ، الله ربنا وربكم ، لنا أعمالنا لا يتخطانا ثوابها ولكم أعمالكم لا يتخطاكم ثوابها (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) (١) تلك هي الحقائق الإسلامية التي جاء بها محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فهل بعد هذا الإيمان الصريح الكامل الذي لا يفرق بين نبي ونبي ولا بين كتاب وكتاب مع التوحيد الخالص البريء من الشرك وشوائبه هل بعد هذا تكون حجة؟ لا حجة ولا احتجاج ولا خصومة بيننا وسيحكم بيننا وبين غيرنا إذا لم يبق بعد ذلك إلا المكابرة والعناد ، ومع كل فالله يجمع بيننا بالعدل ، وإليه وحده المصير والمآب ، والذين يحاجون في الله وصفاته من بعد ما استجاب له الناس ، ودخلوا في دينه أفواجا ، حجتهم ـ بل في الواقع أوهامهم وأباطيلهم ـ داحضة عند ربهم وزائلة وباطلة ، وعليهم غضب لمكابرتهم في الحق بعد ظهوره ، ولهم عذاب شديد هوله عظيم وقعه.

الله الذي أنزل الكتاب الكامل الجامع المهيمن على غيره من الكتب ، وهو القرآن متلبسا بالحق بعيدا عن الباطل ، وأنزل الميزان ليحكم بالعدل والقسطاس المستقيم ، وما يدريك لعل الساعة تكون قريبة.

يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها من الكفار ، لأنهم يظنون أنها أوهام لا حقائق لها ، والذين آمنوا بها ، واعتقدوا بوجودها مشفقون منها وخائفون من مواقفها المشهودة التي تذهل فيها كل مرضعة عما أرضعت ، وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد وكيف لا يشفقون منها ، وهم يعلمون أنها الحق الذي لا مرية فيه ولا شك ألا إن الذين يمارون في الساعة ويشكون فيها لفي ضلال بعيد حيث لم يعملوا لها ، والله لطيف بعباده يفيض عليهم بجلائل نعمه التي لا يعلمها إلا هو يرزق من يشاء من عباده بما يحب ، وهو القوى العزيز ، فلا غرابة في أن يخص بعض عباده بألطاف إلهية.

__________________

١ ـ سورة البقرة آية ٢٨٥.

٣٦٤

العاملون وجزاؤهم

مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢١) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٢٢) ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (٢٣) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٤) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٢٥) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (٢٦)

٣٦٥

المفردات :

(حَرْثَ الْآخِرَةِ) الحرث في الأصل : إلقاء البذر في الأرض ، وقد يطلق على الثمر ، ويستعمل في ثمرات الأعمال ونتائجها (١) (الْفَصْلِ) أى : القضاء والحكم (رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ) المراد : أطيب بقعة فيها ، وأصل الروضة : المكان الذي يكثر فيه الماء والشجر (أَجْراً) : نفعا ، والعرف يخصصه بالنفع المالى (يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) : يطبع عليه بالخاتم (وَيُحِقُ) أى : يثبته (يَقْبَلُ التَّوْبَةَ) : يثيب عليها.

لما بين الله ـ سبحانه وتعالى ـ أنه لطيف بعباده كثير الإحسان إليهم ، بين هنا أنه لا بد من العمل والسعى في طلب الخير ، والبعد عن القبيح ، وقد ناقش هنا الكافرين في أعمالهم وبين جزاء العاملين مطلقا ، ثم رد على من يقول بافتراء القرآن وختم بأنه واسع الفضل يقبل التوبة من عباده.

المعنى :

الإنسان في الدنيا أحد رجلين : رجل قلبه ملئ بنور الإيمان ومراقبة الله فهو دائما في خوف وحذر منه يرجو ثوابه ويخشى عقابه ، ويريد بعمله ثواب الآخرة فكل عمل يعمله يثاب عليه ، وإنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى وهذا الصنف يعمل للدنيا وللآخرة ، ولكنه يريد بعمله كله ثواب الله في الآخرة وهؤلاء يضاعف الله ثواب أعمالهم مرات أو تزيد.

ورجل آخر قد ملئ قلبه شكا ونفاقا ، وحبا للدنيا بشكل عنيف ، فهو دائما ينظر للأمور بمقياس الدنيا فقط ، فما وافق نفسه وميله إلى الدنيا والمادة الفانية فعله ، ولو أغضب الله ، فهو يرجو متاع الدنيا الفاني ، وعرضها الزائل ، وهؤلاء يؤتيهم الله شيئا من الدنيا حسب ما قدره لهم أزلا ، ولم يكن لإغراقهم في حب الدنيا مدخل فيما يعطيه الله لهم ، وليس لهم في الآخرة نصيب أبدا إذا كان همهم الدنيا وعبادتها (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً!!

__________________

١ ـ على سبيل الاستعارة حيث شبه ثمرة العمل بالغلال الحاصلة من البذور ، وهذا يتضمن تشبيه الأعمال بالبذور.

٣٦٦

وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً. كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ) [الإسراء ١٨ ـ ٢٠] وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها. فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) [الشمس ٧ ـ ١٠] وروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من أصبح وهمّه الدّنيا شتّت الله ـ تعالى ـ عليه همّه وجعل فقره بين عينيه ، ولم يؤته من الدّنيا إلّا ما كتب له ، ومن أصبح وهمّه الآخرة جمع الله همّه وجعل غناه في قلبه وأتته الدّنيا وهي راغمة عن أنفها».

وهذا هو أساس الدعاء وأصل الضلالة والشقاء يكشف عنه القرآن. حيث يقول : بل ألهم شركاء شرعوا لهم من الدين شيئا لم يأذن به الله ، ولا شرعه ولا سنه ، ولم يأت نبي أبدا يوصى به ، وشركاؤهم أصنامهم وأوثانهم وشياطينهم الذين زينوا لهم الشرك وإنكار البعث والوقوع في المعاصي ، ولما كانت الشركاء سببا في ذلك جعلت كأنها شارعة لضلالتهم وآمرة بها.

ولو لا كلمة الفصل والقضاء العدل الذي حكم الله به على نفسه حيث قال : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) [سورة الأنفال آية ٣٣] لو لا هذا لقضى عليهم بالفناء كما فعل مع غيرهم ، وقيل : المراد الفصل بين المؤمن والكافر.

وإن الظالمين لأنفسهم بالشرك والمعاصي لهم عذاب أليم في الآخرة. ولو ترى ـ يا من تتأتى منه الرؤية ـ إذ الظالمون يوم القيامة مشفقون مما كسبوا من أعمال في الدنيا حيث يرون ما أعد لهم من عذاب شديد. وهو واقع بهم لا محالة ، وهذا الإشفاق لا يغنى عنهم شيئا.

والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنة ، أى : مستقرون في أطيب بقاعها وأعلى منازلها لهم فيها ما يشاءون ، وما يتمنون عند ربهم ، ذلك هو الفضل الكبير ، وأى فضل يدانيه؟ إنه فضل لا يعرف قدره ولا يقف على كنهه إلا خالقه.

ذلك الفضل الكبير هو الذي يبشر الله به عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويعدهم به ، ومن أصدق من الله حديثا؟

والناس لتوغلهم في المادة وتعلقهم بالدنيا ، ولأنهم لا يعملون إلا لغرض يظنون الظن السيّئ بمن يقوم بعمل الخير. ويدعو إلى العمل الصالح ، هؤلاء الناس دائما ينسبون أعمال الناس إلى غايات ومنافع دنيوية ، وقديما وصفوا دعوة النبي بهذا ، فيرد الله عليهم

٣٦٧

بقوله : قل لهم : لا أسألكم على هذا التبليغ وتلك الدعوة أجرا إن أجرى إلا على الله ، عليه توكلت ، وعليه فليتوكل المؤمنون ، والأنبياء جميعا برءوا أنفسهم من هذا الغرض الدنيوي (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ). (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ). (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) بمعنى لا أسألكم أجرا إلا مودتكم لقرابتي منكم ؛ أخرج أحمد والشيخان والترمذي عن ابن عباس أنه سئل عن قوله تعالى : (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) فكتب أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان أوسط الناس في قريش فلا بطن من بطونهم إلا وقد ولده فقال الله له : (لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) أى : إلا أن تودوني في قرابتي منكم؟ فالقربى هاهنا قرابة الرحم ، كأنه قال : اتبعونى ولا تؤذوني لقرابتي منكم إن لم تتبعوني للنبوة.

فهذا قول ، وهناك قول آخر بمعنى أنى لا أسألكم أجرا إلا أن تودوا قرابتي وأهل بيتي ، قيل : ومن هم؟ قيل : هم على وفاطمة وأبناؤهم ، فالقربى على ذلك هي القرابة ، وهناك قول ثالث ولعله هو الأرجح أن المعنى لا أسألكم عليه أجرا إلا أن توادوا وتتقربوا إلى الله بالطاعات. وروى هذا المعنى عن رسول الله ، وهو المبين عن الله ـ عزوجل ـ فهذه أقوال ثلاثة في الآية.

ومن يقترف حسنة ويكتسبها نزد له فيها حسنا ونضاعفها له إلى عشر أو تزيد إن الله غفور للسيئات شكور للحسنات.

محور الكلام الذي تدور عليه الآيات بل السورة في مجموعها هو القرآن الموحى به إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولذا قال هنا ما معناه : بل أيقولون : افترى على الله كذبا وزورا هذا القران؟!. لا ، إنهم كاذبون في هذا ، ولقد أثبت قبل ذلك أن ما هم عليه شرع الشركاء ، وليس من عند الله ، وهذا إثم وشرك ، وأكثر منه فظاعة وجرما جعلهم القرآن افتراء واختلاقا مع وضوح الأدلة والآيات على أنه من عند الله ، إى وربي إنهم ادعوا أنه افتراء على الله ، كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ، فإن يشأ الله يجعلك في عداد المختوم على قلوبهم حتى تفترى على الله الكذب فإنه لا يجترئ على ذلك إلا من كان مختوما على قلبه ، وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ، وهذا أسلوب مؤداه استبعاد الافتراء على الله من مثل سيد المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتعريض بأنهم المفترون على الله الكذب حين شرعوا شرعا ما أنزل الله به من سلطان.

٣٦٨

وكيف يكون هذا القرآن افتراء على الله؟ ومن عادة الحق ـ تبارك وتعالى ـ أنه يمحو الباطل ويزيله ، ويحق الحق بكلماته ويؤيده إنه عليم بذات الصدور ، ولا تيأس أيها الإنسان من عمل عملته ، واعلم أن الله ـ جل شأنه ـ قد كتب على نفسه الرحمة ، وأنه يقبل التوبة متجاوزا عن معصية عباده الذين يتوبون إليه ، ويرجعون عن عملهم عازمين على عدم العودة نادمين على أفعالهم رادين حقوق العباد لأصحابها ، وهو الذي يعفو عن السيئات ، ويتجاوز عن الخطيئات لمن يشاء من عباده ، ولا غرابة فهو يعلم ما تفعلون.

ويستجيب الله لدعاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات إذا دعوه منيبين إليه ، ويزيدهم من فضله الواسع ورزقه العميم ، والاستجابة تكون في الدنيا أو الآخرة ، وأما الكافرون الذين كفروا بالله وبنعمه فلهم عذاب شديد ما داموا متمسكين بباطلهم ، وهذا وعد للتائبين ووعيد للكافرين المصرين.

من مظاهر حكمته وقدرته

وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (٢٧) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (٢٨) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (٢٩) وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (٣٠) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٣١) وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٣٢) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ

٣٦٩

فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣٣) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٣٤) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٥) فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦)

المفردات :

(بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ) : وسع ، وأصل البسط : النشر (لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) البغي : تجاوز الحدود (بِقَدَرٍ) : بتقدير (الْغَيْثَ) : المطر النافع (قَنَطُوا) : يئسوا (بَثَ) : فرق ونشر (مِنْ دابَّةٍ) : كل ما دب وتحرك فهو دابة (الْجَوارِ) : جمع جارية وهي السفينة تجرى في الماء (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ)(كَالْأَعْلامِ) جمع علم وهو الجبل ، أو هو كل شيء مرتفع (رَواكِدَ) : سواكن على ظهره لا تتحرك (يُوبِقْهُنَ) : يهلكهن ويغرقهن (مَحِيصٍ) : مهرب وملجأ.

لقد مضى قول الله : (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) فكأن سائلا سأل : ما بال بعض المؤمنين قد يكون في شدة وفقر يدعو ويظل حاله كما هو؟ فأجاب الله بهذه الآيات.

المعنى :

ولو بسط الله الرزق ووسعه لعباده جميعا لبغوا في الأرض وتجاوزوا الحدود المرسومة ، فإن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى ، والظلم من شيم النفوس ، فإن رأيت أحدا لا يظلم مع القدرة فلعله لسبب ، والغنى كما يقولون مبطرة مأشرة ـ أى : داع إلى البطر والأشر ـ وكفى بحال قارون وفرعون وما نراه الآن شاهدا على ذلك.

٣٧٠

ولكن الحق ـ تبارك وتعالى ـ ينزل بتقدير الخبير البصير ما يشاء من الرزق لمن يشاء من الخلق تبعا للحكمة والمصلحة التي تخفى على كثيرين ، إنه بعباده خبير بصير ، فهو يستجيب لدعاء المؤمنين إن عاجلا أو آجلا ، وقد يكون في المرض أو الفقر مصلحة والبغي كما يكون وليد الغنى يكون تابعا للفقر ، فكلما دخل الفقر بلدا دخل الكفر. والخروج عن المألوف معه ، ولكن من المسلم به أن البغي مع الغنى أكثر ، والذي عليه نظام العالم من وجود الغنى والفقر هو علاج المجتمع وهو النظام المحكم الدقيق.

وقال القرطبي ـ رحمه‌الله ـ قال علماؤنا : أفعال الرب ـ سبحانه وتعالى ـ لا تخلو عن مصالح وإن لم يجب عليه فعل الصلاح ، فقد يعلم من حال عبده أنه لو بسط عليه الرزق قاده ذلك إلى الفساد فيزوى عنه الدنيا مصلحة له ، فليس ضيق الرزق هوانا ولا سعة الرزق فضيلة ، وقد أعطى أقواما مع علمه أنهم يستعملونه في الفساد ، ولو فعل بهم خلاف ما فعل لكانوا أقرب إلى الصلاح ، والأمر على الجملة مفوض إلى مشيئته.

وروى عن أنس من حديث طويل «وإنّ من عبادي المؤمنين من لا يصلحه إلّا الغنى ولو أفقرته لأفسده الفقر. وإنّ من عبادي المؤمنين من لا يصلحه إلّا الفقر ولو أغنيته لأفسده الغنى. وإنّنى لأدبّر عبادي لعلمي بقولهم فإنّى عليم خبير».

وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما يئسوا من رحمته ، وهو الذي ينشر رحمته إذ هو واسع الفضل كثير الخير ، وهو الولي الحميد (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) [سورة الشرح الآيتان ٥ و ٦] ولن يغلب عسر واحد يسرين.

ومن آياته الدالة على كمال القدرة وتمام العلم والحكمة وأن هذا العالم يسير بحكمة الحكيم الخبير ، من آياته خلق السموات والأرض وما فيهما من عوالم لا يعلمها إلا الله خالقها ، ومن آياته ما بث فيهما من دابة لا يعلمها إلا الله ، يظهر أن قول العلماء الطبيعيين : إن في الكواكب حياة ، كلام له نصيب من الصحة ، فالآية تثبت أن في السماء والأرض قد بث الله فيهما دابة تدب وتتحرك أما حقيقتها في السماء فلا يعملها إلا خالقها ـ سبحانه وتعالى ـ وإن كان من المقطوع به أنها ليست إنسانا ، وهو على جميع خلقه يوم يشاء جمعهم للحساب قدير.

وما أصابكم أيها الناس في الدنيا من مصيبة فبما كسبته أيديكم ، واقترفته جوارحكم حتى بعض الأمراض والآفات الزراعية ، ويظهر والله أعلم أن الذنوب نوعان ، نوع

٣٧١

يعذب الله صاحبه في الدنيا لأنه هين بسيط فيصيبه بسببه مرض أو ألم ، ونوع عذابه شديد فهو في الآخرة فقط ، وإذا أحب الله عبدا عجل له العقوبة في الدنيا ، وإذا كرهه لسوء عمله تركه يقترف من السيئات ما شاء ، ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر لحساب عسير وعذاب شديد.

وقد ينال الإنسان منا بعض الألم تكفيرا له عن ذنوب أو زيادة له في ثواب.

والله يعفو عن كثير من الذنوب عفوا مع القدرة الكاملة ، وما أنتم بمعجزين الله في الأرض هربا منه ، وما لكم من دون الله من ولى يلي أموركم ولا نصير ينصركم إن أراد بكم سوءا وهو على كل شيء قدير ..

وهذه آيات أخر تشهد لله بالقدرة وأنه بخلقه رحمن رحيم ، فها هي ذي السفن التي تمخر عباب البحر ، وتقطع المسافات ، وتحمل الأثقال ، وهي على ثقلها وضخامتها ، وارتفاعها كالأعلام ، تجرى على سطح الماء ، ولأمر ما لم تغرق في القاع ، والله ـ سبحانه وتعالى ـ هو الذي خلق الجاذبية وقوة الدفع وقوة الضغط في الماء والهواء ، إن يشأ ـ سبحانه ـ يسكن الريح التي تدفع السفينة على الماء فتظل راكدة لا تتحرك إلا بقوة دافعة من بخار أو غيره.

إن في ذلك كله لآيات لكل صبار على البلاء شكور على النعماء ، نعم العبد الصبور الشكور إن أعطى شكر وإن ابتلى صبر ، وهذا هو المؤمن الكامل الذي يتذكر ويتعظ بآيات الله وينظر إليها نظرة المعتبر الفاحص.

وإن يشأ يجعل الرياح عواصف تعصف بالسفن فيوبقهن ويهلكهن ، أى : يهلك ركابها ، ويعف عن كثير من أهليها فلا يغرقهم معها ، كل ذلك لتظهر قدرته على كل شيء ، وليعلم الذين يجادلون في آياتنا جدال تكذيب وإنكار إذا توسطوا البحر وغشيتهم الرياح من كل مكان. واصطلحت على سفينتهم حتى أيقنوا بالهلاك عند ذلك يعلمون أن لا ملجأ لهم سوى الله ، ولا منجى لهم من عذابه ، ولكنهم بعد ذلك يشركون به ما لا ينفع ولا يضر!! ولا تغرنكم الدنيا وما أوتيتم فيها أيها الكفار فما أوتيتم من شيء من الغنى والجاه والسعة فيها فمتاع الحياة الدنيا الزائل ، وما عند الله من ثواب وجزاء فهو خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون.

٣٧٢

من صفات المؤمنين وجزائهم وأحوال الكافرين وعاقبتهم

وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٢) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣) وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (٤٥) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (٤٦)

٣٧٣

المفردات :

(كَبائِرَ الْإِثْمِ) : ما رتب عليه وعيد شديد (وَالْفَواحِشَ) : ما فحش وعظم قبحه كالزنا مثلا (شُورى) : ذو شورى ، أى : أن أمورهم يتشاورون فيها (الْبَغْيُ) : الاعتداء الظالم (سَيِّئَةٍ) : هي الفعلة التي تسيء من تنزل به (عَزْمِ الْأُمُورِ) : معزومات الأمور التي أمر بها الله.

(مَرَدَّ) : رجوع إلى الدنيا (سَبِيلٍ) : طريق (خاشِعِينَ) : ذليلين (طَرْفٍ) الطرف : العين ، والطرف مصدر طرف بصره يطرف طرفا إذا أطبق أحد جفنيه على الآخر والمرة منه طرفة ، يقال : أسرع من طرفة العين (مُقِيمٍ) : دائم إلى ما شاء الله.

ما مضى كان في بيان صفات المؤمنين التي تؤهلهم إلى التمتع بنعيم الجنان الذي هو خير وأبقى وما هنا بيان الكفار وحالهم ليظهر الفرق جليا واضحا.

المعنى :

ما أعده الله يوم القيامة خير وأبقى من متاع الدنيا الفاني الذي قد يكون سببا في عدم قبول الحق ، ما أعده الله للذين آمنوا بالله ورسوله. والذين هم من المتوكلين على الله المفوضين الأمر إليه. لا الذين هم من المتكلين على أعمالهم خير وأبقى.

والذين يجتنبون كبائر الإثم التي توعد الله عليها وعيدا شديدا ، واجتنبوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، وإذا ما غضبوا هم يغفرون ويعفون ، تراهم كفوا نفوسهم عن الشر ، وقوتهم الشهوانية عن الفاحشة ، وقوتهم العصبية عن الاسترسال في الشر ، والذين استجابوا لربهم وانقادوا له وأذعنوا لكل ما يريده منهم راضين محتسبين ذلك عنده من صميم قلوبهم وهم مع ذلك يقيمون الصلاة ، وأمرهم يتشاورون فيه فلا يقدم رئيسهم على عمل إلا بعد الاستشارة وأخذ الرأى ، يا سبحان الله! تلك هي صفات المؤمنين في كتاب الله لم يلفت نظرنا إلى ترك الكبائر والفواحش وإقامة الصلاة والزكاة فقط ، وإنما يبين لنا أن الشورى من مبادئ الإسلام وصفات المؤمنين التي يستحقون بها الفلاح في الدنيا والآخرة حتى تقضى على الدكتاتورية الغاشمة ، فلتهنأ الديمقراطية العربية ففي الإسلام متسع لكل خير وفضل ، وبعد عن كل ضرر وخطر.

٣٧٤

ومن صفاتهم أيضا الإنفاق مما رزقهم الله ، تلك الاشتراكية المنظمة السليمة من الآفات والعيوب.

وهكذا الإسلام يبين لنا أن من صفات المؤمنين العزة والكرامة ، والاعتزاز بقوة الله والوثوق في نصره ، وعلى ذلك فإذا أصابنا بغى وظلم بغير حق وجب علينا أن ننتصر وندافع عن حقوقنا ، وقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يغضب جدا إذا انتهكت حرمة من محارم الله ، ويغفر ويعفو لمن ينال من شخصه في بعض الأحيان ، والشخص المعتدى عليه ينطبق ـ إذا كان اعتداؤه بغير قصد ، ولم يكن مصرّا عليه ، وكان في العفو عنه تسكين لفتنة ـ عليه قوله تعالى : (وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) (١) (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) (٢). (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) (٣) وغير ذلك من آيات العفو.

فإن كان في ترك الانتصار جرأة السفهاء ، ومذلة المؤمنين ، وانتهاك حرمة الدين فالانتصار واجب إذ هم يكرهون أن يذلوا أنفسهم حتى يجترئ عليهم السفلة من الناس بل ينتصرون على من بغى عليهم واعتدى والله معهم. وعلى ذلك فلا تعارض في الآية.

ولكن رد الاعتداء والانتصار للحق يكون على أى شكل؟ لقد رد الله على هذا بقوله : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) فإن النقصان حيف ، والزيادة ظلم ، وبدء الاعتداء سيئة وشر ، ورده كذلك يسيء من ينزل به ، لقد صدق الحكيم العربي حيث قال : «الشر بالشر والبادي أظلم».

فمن عفا عمن ظلمه وأصلح ما بينه وبينه حتى لا يعود إلى الاعتداء فأجره على الله وذلك خير بلا شك ، إذ قد شرطنا في القصاص ورد الاعتداء المساواة ، وتحقيقها واقعيا بعيد ، ففي الغالب يكون معه ظلم وزيادة والله لا يحب الظالمين ، ومن هنا نعلم أن الشرع يميل إلى العفو ، وأنه أقرب إلى التقوى ، وهذا كما قلنا بشروط موكول أمرها للمسلم.

وهل المنتصر لنفسه معتد أم لا؟ لا. ولمن انتصر بعد ظلمه والاعتداء عليه أولئك ما عليهم من سبيل ، ولا عقوبة عليهم ، إنما الإثم والعقوبة والسبيل على الذين يظلمون الناس بغير حق ويبدءون بالعدوان على الآمنين الهادئين أولئك لهم عذاب أليم.

__________________

١ ـ سورة الشورى آية ٣٧.

٢ ـ سورة البقرة آية ٢٣٧.

٣ ـ سورة آل عمران آية ١٣٤.

٣٧٥

ولمن صبر (١) ولم يقتص حينما اعتدى عليه ، وغفر فإن ذلك لمن عزائم الأمور وعظائمها التي لا يفعلها إلا أصحاب العزائم القوية ، فقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس الشّديد بالصّرعة إنّما الشّديد الّذى يملك نفسه عند الغضب».

المعنى :

ومن يضلله الله لأن نفسه ميالة إلى الشر والبعد عن الحق بمحض اختيارها ، ومن كان كذلك فما له من ولى بعد الله يهديه إلى الحق وإلى الصواب ، وهؤلاء هم الذين أعرضوا عن دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الإيمان بالله والمودة في القربى ، وهم الظالمون.

وتراهم لما رأوا العذاب يوم القيامة ، وأنه حق لا شك فيه ، ندموا على ذلك وقالوا : هل من رجوع إلى الدنيا فنعمل عملا صالحا؟ لما رأوا العذاب آمنوا وتمنوا الرجوع إلى الدنيا ، ولكن هيهات ، وأنى لهم ذلك!

وتراهم يعرضون على النار وهم في قبورهم صباح مساء ، يعرضون عليها حالة كونهم خاشعين من الذل ، ينظرون إليها بعيون ضعيفة لأنهم ناكسو الرءوس ذليلون ، فهم ينظرون مسارقة فلا يستطيعون أن يمكنوا عيونهم منها ، وقال الذين آمنوا يوم القيامة : حقا إن الخاسرين هم الذين خسروا أنفسهم حيث حرموا من الجنة ، ودخلوا النار يصلونها نارا مسعرة ، وخسروا أهليهم وأحبابهم لأنهم إن كانوا في الجنة فقد حيل بينهم وإن كانوا في النار فلا فائدة فيهم ، ألا ذلك هو الخسران المبين! وأى خسارة فوق هذا؟ ألا إن الظالمين لأنفسهم في عذاب مقيم دائم إلى ما شاء الله ، وما كان لهم في هذه الحالة من أولياء ينصرونهم متجاوزين الله كما كانوا يفهمون هذا خطأ ، ولا غرابة في ذلك فمن يضلله الله فلا هادي له ، وما له من سبيل إلى الخير يسلكه!

__________________

١ ـ هذه اللام أفضل فيها أن تكون لام ابتداء لا قسم.

٣٧٦

الأمر كله لله

اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (٤٨) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠)

المفردات :

(اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ) : أجيبوه (مَلْجَإٍ) : منجى ينجيكم (عَقِيماً) يقال : عقمت المرأة تعقم عقما : لم تلد ، وأصل العقم : القطع ، ومنه : ريح عقيم أى : لا تلقح سحابا ولا شجرا ... وهذا كالنتيجة لما تقدم حيث بين الوعد والوعيد ورتب عليه الأمر بالاستجابة مع تهديد المخالفين وبيان أن الأمر كله لله.

المعنى :

استجيبوا إلى ربكم إذا دعاكم لما يحييكم ، واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه ، فأجيبوه إلى شرعه بسرعة وبلا تأجيل من قبل أن يأتى يوم لا راد له ، هو يوم القيامة ، اليوم الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم وما لكم فيه من منجى ينجيكم من عذاب الله ، ولا تقدرون على الإنكار يومئذ.

٣٧٧

فإن أعرضوا يا رسول الله فدعهم ، فما أرسلناك عليهم حفيظا تحفظهم من الوقوع في الأخطار ، وتقيهم أعمال السوء إنما أنت نذير ، وهاد إلى سواء السبيل ، ما عليك إلا البلاغ فقط ، وعلينا الحساب (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ* لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ* إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ* فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ* إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ). [الغاشية ٢١ ـ ٢٦]

ثم إن الله ـ تعالى ـ بين أن السبب في كفر هؤلاء وعنادهم يرجع إلى انغماسهم في المادة ، وغرورهم الباطل بها ، وتكبرهم عن الحق لأنهم أولو قوة وبأس ، ومال وأولاد فقال : ولو أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها واغتر وتكبر ، وإن تصبه سيئة بما قدمته يداه فإنك تراه كفورا جحودا نعم ربه ، وتراه نسى ما كان عنده من نعمة وفضل ، والكافر الذي لا يؤمن بالله وبصفاته القدسية هو كذلك ، أما المؤمن بالله حقا فإن أعطى شكر الله وازداد خضوعا وإيمانا ، وإن حرم شيئا صبر وآمن بقضاء الله وقدره ، وأن لله ملك السموات والأرض يتصرف فيهما كيف شاء.

لله وحده ملك السموات والأرض ، وهو صاحب التصريف في هذا الكون يخلق ما يشاء ، ويعطى ويمنع من يشاء ، ويهب لمن يشاء أولادا إناثا ، ويهب لمن يشاء أولادا ذكورا ، ويعطى لمن يشاء ذكورا وإناثا فيزاوج بينهما ، ويجعل من يشاء عقيما فلا يعطيه ولدا بالمرة ، إنه عليم بخلقه قدير على كل شيء. وليست هناك قوة في الأرض تستطيع فعل غير هذا.

وإذا كان الله هو المعطى والمانع أيليق بك أيها الإنسان أن تدعى ادعاء كاذبا أنك أعطيت هذا على علم من عندك؟ أيليق بك أن تجعل الكفر بدل الشكر والغرور والكبر والغطرسة بدل الخضوع والعبادة والتقديس لله واجب الوجود المبدئ والمعيد؟!

كيفية اتصال الله برسله

وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١)

٣٧٨

وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (٥٣)

المفردات :

(وَحْياً) الوحى : إلقاء شيء في القلوب سواء كان في اليقظة أم في المنام (رُوحاً) : المراد قرآن كالروح.

بدأ الله السورة بالكلام على الوحى وخاصة القرآن ، وكذلك ختمها بالكلام على الوحى العام للأنبياء كلهم وخاصة الوحى الذي نزل على خاتمهم وإمامهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنه لختام رائع.

روى في سبب نزول هذه الآيات : أن اليهود قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبيا كما كلمه موسى نبينا ونظر إليه ، فإننا لن نؤمن لك حتى تفعل ذلك؟ فقال النبي : «لم ينظر موسى إلى الله» ونزلت هذه الآيات.

المعنى :

الله ـ جل جلاله وتقدست أسماؤه ـ له ذات ليست كالذوات ، وله صفات ليست كالصفات ، وهو يخالف جميع خلقه لأن خالق هذا الكون وما فيه من أعاجيب يستحيل عليه أن يشبه شيئا من خلقه ، فهو الواحد في ذاته وصفاته وأفعاله تلك حقائق آمن بها الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة.

ولهذا ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا بإحدى ثلاث ، إما أن يوحى إليه وحيا بأن ينفث في قلبه ، ويلقى في روعه سواء كان هذا في اليقظة أم في النوم.

٣٧٩

وإما أن يكلمه الله من وراء حجاب فيسمع الكلام ولا يعرف مصدره كما حدث لموسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، وإما أن يكلم الرسول من البشر بأن يرسل إليه ملكا من الملائكة كجبريل ـ عليه‌السلام ـ فيوحى ذلك الرسول إلى المرسل إليه من البشر يوحى إليه بإذنه ، أى : بأمره ـ سبحانه وتعالى ـ وتيسيره ، فيوحى إليه ما يشاء.

وكان لهذه الآية وأمثالها وضع خاص ، وكانت مثار نزاع بين المسلمين كفرقة المعتزلة وفرقة أهل السنة ، ففهم المعتزلة من حصر كلام الله ـ سبحانه ـ لخلقه في الأحوال الثلاثة أن رؤية الله غير جائزة ، وأثبت الرؤية أهل السنة استنادا إلى آيات من القرآن ، على أن الخلاف في رؤية الله يوم القيامة ، والحق مع أهل السنة في هذا.

إن ربك عليم بخلقه ، يعلم أن أحدا من خلقه لا يستطيع ـ مهما كان ـ أن يقوى على المشافهة أو الوقوف في الحضرة القدسية أو الانغماس في الأنوار الإلهية. ولذا ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب ؛ إنه علىّ حكيم يضع الأمور في نصابها فلا اعتراض ولا نقاش.

ومثل ذلك الإيحاء البديع ، الإيحاء الإلهى أوحينا إليك يا محمد روحا من أمرنا .. إى وربي إنه روح من أمر الله ، وسر من أسراره ، وأمر لا يدرى كنهه إلا هو ، وهل القرآن روح؟! نعم إنه للدنيا روح ، وأى روح؟ إنه أحيا العالم ، ونقله من حضيض الجهل إلى ذروة العلم والعرفان. هل يستوي الأعمى والبصير ، أم هل تستوي الظلمات والنور؟ (وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (١) والواقع عند المنصفين أن القرآن حينما نزل كان نزوله حدّا فاصلا بين عهدين ، وكان مبدأ للحضارة والعلم ، وحياة للناس قضت على ظلمات الجهل.

وهذا هو الدليل على صدق محمد في دعواه الرسالة وأن هذا القرآن من عند الله (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) [سورة الشورى آية ٥٢].

نعم فالنبي أمى لم يقرأ ولم يكتب وما جلس إلى معلم أو مرشد ، فحقّا وما كان يدرى قبل القرآن الكامل ما الكتاب (٢) والإيمان؟ نعم هذا النبي الأمى العربي يستحيل

__________________

١ ـ سورة فاطر الآية ٢٢.

٢ ـ ما اسم استفهام مبتدأ والكتاب خبره والجملة سدت مسد مفعول تدرى ، وجملة ما كنت تدرى كلها حال من الكاف في إليك.

٣٨٠