التفسير الواضح

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٨

نفسه ـ إلى دين الله ، فهؤلاء الذين يرفعون عقائرهم في المجتمعات والمحافل وعلى المنابر يطالبون بتحكيم كتاب الله ، والسير على شريعة العدل شريعة السماء ، شريعة المنطق السليم ، قانون رب العالمين الذي وضعه لخلقه وهو أعلم بهم ، هؤلاء بلا شك أحسن قولا من غيرهم ، بل إن غيرهم الذين لا يدعون إلى الله ليس في قولهم خير ولا في عملهم بركة.

الذي يدعو إلى الله لا بد أن يكون عمله صالحا يلتقى مع قوله ، بل هو في عمله الظاهر والباطن يكون أشد مراقبة لله وخشية منه ، فإنا في زمن ليس للكلام فيه تأثير كثير وإنما التأثير للعمل والتقليد ، فما أشد حاجتنا إلى علماء ووعاظ ربانيين وقرآنيين يكون عملهم مثلا أعلى يحتذيه كل مسلم ، وقال على سبيل المفاخرة والمجاهرة : إننى من المسلمين وجماعتهم ، وهذه الآية مسوقة لتثبيت قلب من يدعو ، وتربيته بأدب القرآن والله يعلم أن دعاة الحق لا بد أن يصادفهم ما يؤلمهم فيقول لهم : لا تستوي الحسنة ـ كالدعوة إلى الله ـ ولا السيئة كالإعراض عنها وذم القائم بها.

والعلاج هو أن تدفع السيئة بالحسنة يا سبحان الله! هذا علاج القرآن وحقا كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خلقه القرآن ، ادفع السيئة بالخصلة التي هي أحسن منها ، كدفع الغضب بالصبر ، ودفع الجهل بالحلم ، والإساءة بالعفو.

فإذا فعلت مع عدوك ذلك فاجأك (١) في الحضرة انقلابه وصيرورته مشابهة في المحبة للصديق الذي لم تسبق منه عداوة.

وما يؤتى هذه الخصلة التي هي دفع السيئة بالحسنة إلا الذين صبروا على المكروه وراضوا أنفسهم على تحمل الأذى ، وكانوا أقوياء أشداء ، ليس الشديد بالصرعة ـ هو من يصرع الناس ويغلبهم ـ إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم من خلق النفس وكمالها.

تلك مرتبة عالية ، ومركب صعب أن يقابل الإنسان منا السيئة بالحسنة وخاصة وهو يتحمل العذاب في سبيل خير الناس ، فإن لعب بك الشيطان ونزغك وحاول أن

__________________

(١) (فإذا الذي بينك) الفاء للسببية ، وإذا الفجائية ظرف مطلق ، المعنى التشبيه ، وهذا على القول باسميتها.

٣٤١

يصرفك عن تلك المرتبة فلا عليك إلا أن تستعيذ بالله منه ، والله يرعاك ويحميك وهو ولى المتقين ، وبالمؤمنين رؤوف رحيم ، وهو السميع العليم.

فالخلاصة أن الدعوة إلى الله أحسن الأعمال وأفضلها ، ولا بد أن يكون الداعية ممن حسن قوله وعمله ، وطهر باطنه وظاهره؟ وكان مؤمنا بفكرته إيمانا عميقا (إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) ولا بد أن يكون واسع الصدر حليما يقابل السيئة بالحسنة حتى ينقلب أعداؤه وأعداء دعوته أصدقاء له ولدعوته ، وهذه مرتبة لا يحظى بها إلا أولو العزم من الرجال وأصحاب النفوس العالية.

بعض آيات الله عزوجل

وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (٣٧) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (٣٨) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩)

المفردات :

(آياتِهِ) : جمع آية ، وهي العلامة الدالة على وحدانيته وقدرته (اسْتَكْبَرُوا) : تكبروا (لا يَسْأَمُونَ) : لا يملون عبادته (خاشِعَةً) المراد : يابسة لا نبات فيها ، والخشوع : التذلل والتقاصر ، استعير لحال الأرض اليابسة (وَرَبَتْ) : انتفخت.

٣٤٢

وهذه بعض الآيات الدالة على الوحدانية لله تعالى ، وعلى القدرة الكاملة له ، سيقت كمادة للدعوة إلى الله.

المعنى :

ومن آياته ودلائل قدرته وعظمته ، وعلامات وحدانيته وكمال خلقه آية الليل والنهار ، وآية الشمس والقمر ، وهذه من مظاهر قدرة الله الكونية الناطقة بجلاله وكبير فضله ، وعظيم سلطانه ومنتهى حكمته. وقوة إرادته.

هذه الآيات لا تسجدوا لها ولا تعظموها. ولكن الذي يستحق التعظيم والتقديس والعبادة هو خالقها ، وصاحب الأمر فيها ، ومبدعها على أحسن نظام وأحكمه وإذا كان هذا حال الليل والنهار والشمس والقمر فكيف يعبد بعض الناس حجرا أو خشبا أو حيوانا!! لا. لا. اعبدوا الله وحده ، ولا تشركوا به شيئا إن كنتم إياه تعبدون.

فإن تكبروا عن اتباع كلامك فدعهم وشأنهم ولا يهمنك أمرهم ، فالذين عند ربك ـ عندية مكانة لا مكان ـ من أشراف الخلق كالملائكة يسبحون له بالليل والنهار ، وهم لا يفترون.

ومن آياته الدالة على كمال قدرته ، وأن البعث يجب أن يكون حقيقة ظاهرة مفهومة للجميع : أنك ترى الأرض خاشعة هامدة يابسة لا نبات فيها فإذا نزل عليها المطر أو سقيت بماء النهر ، وفيها البذور اهتزت ، وعلماء النبات يسجدون لله عند هذه الكلمة فإنهم يعرفون ذلك «بالمجهر» اهتزت وتفاعلت وتحركت ، ونمت ثم انشقت عن نبات غض طرى ، يا سبحان الله!! أحييت الأرض بعد موتها ، وإنك يا قوى يا قادر لتحيى الموتى يوم القيامة فإنك على كل شيء قدير.

تهديد الملحدين في القرآن

إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ

٣٤٣

إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢) ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (٤٣)

المفردات :

(يُلْحِدُونَ) الإلحاد : الميل عن الحق والصواب إلى غيره (عَزِيزٌ) : منيع عن الإبطال والتحريف.

وهذا رجوع إلى مشركي مكة الذين قالوا : قلوبنا في أكنة ، وقالوا : لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه ، رجوع إلى تهديدهم وبيان حقيقة القرآن.

المعنى :

إن الذين يلحدون في آياتنا القرآنية ويميلون عن الاستقامة فيها بالطعن عليها والتحريف لها ، والتأويل الباطل واللغو عند سماعها ، هؤلاء لا يخفون علينا ، وكيف يخفون على عالم الغيب والشهادة؟! فهو مجازيهم على فعلهم جزاء وفاقا. أغفلتم (١) فمن يلقى في النار إلقاء على سبيل القسر والإلجاء خير أم من يأتى آمنا مطمئنا ويدخل الجنة يوم القيامة؟ لا يقول عاقل بالتسوية ؛ اعملوا (٢) ما شئتم حيث كان الأمر كذلك إنه بما تعملون بصير ، وسيجازى كلا على عمله إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.

إن الذين كفروا بالذكر ، أى : القرآن ذي الذكر العالي والشرف الرفيع لما جاءهم نجازيهم على كفرهم ، والحال إنه لكتاب عزيز لا يناله بشر ، منيع عن الإبطال

__________________

(١) الهمزة هنا للاستفهام المراد به الإقرار بأن الملحدين يلقون في النار وأن المؤمنين يأتون آمنين.

(٢) والأمر هنا مراد به التهديد.

٣٤٤

والتحريف ، وصدق الله (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (١) فها هو ذا القرآن ظل محفوظا طوال السنين لم يمس بسوء رغم كثرة أعدائه وقوتهم ، وضعف أنصاره وأتباعه ، نعم إنه لكتاب عزيز ، لا يأتيه الباطل من بين يديه أى : لا يأتيه الباطل من أى ناحية ، من ناحية اللفظ أو العرض أو الحكم أو القصة أو الأسلوب ، وكيف يأتيه الباطل بأى صورة ومن أى باب ، وهو تنزيل الحكيم العليم المحمود في الأرض والسماء.

وأما أنت يا محمد فما قيل لك إلا ما قيل للرسل من قبلك ، فالرسالات كلها واحدة تهدف إلى التوحيد الخالص وإثبات مبدأ الثواب والعقاب والحياة والآخرة (تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ، وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) (٢) وما قيل لك من الناس الذين يلحدون في آياتنا هو مثل ما قيل للرسل قبلك فتلك (شنشة أعرفها من أخزم) وتلك هي عادة الناس قديما وحديثا ، وإن ربك مع هؤلاء الناس لذو مغفرة واسعة لمن أطاع ، وذو عقاب شديد لمن عصى فاحذروا يا أهل مكة عقابه ، وانظروا أين أنتم؟! ..

القرآن والذين يلحدون فيه

وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٤٤) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ

__________________

١ ـ سورة الحجر آية ٩.

٢ ـ سورة آل عمران آية ٦٤.

٣٤٥

بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (٤٥) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦)

المفردات :

(أَعْجَمِيًّا) الأعجمي وصف للكلام الذي لا يفهم ، وللمتكلم الذي لا يفصح سواء كان من العرب أو العجم ، والعجمي : الرجل الذي ليس من العرب (فُصِّلَتْ) : بينت بلغتنا حتى نفهمها (وَقْرٌ) : ثقل في السمع وصمم (مُرِيبٍ) : شديد الريبة (بِظَلَّامٍ) : بذي ظلم.

المعنى :

لقد أنزل ربك القرآن على نبيه بلسان عربي مبين ، فقال المشركون : لو كان القرآن أعجميّا فرد الله عليهم : ولو جعلناه قرآنا أعجميا بلسان غير عربي لما أعجبهم ذلك ، ولقالوا : لو لا فصلت آياته! أى : نتمنى لو كانت آياته قد فصلت وبينت بلغتنا العربية ، فإنا قوم عرب لا نفهم الأعجمية بحال ، أيكون أعجميا والذي أنزل عليه عربي؟

وهكذا موقف المعترض بغير حق ، لو كان الشيء خيرا محضا لقال : هلا كان فيه خير وشر! وقد رد الله عليهم بقوله : قل لهم يا محمد : هذا القرآن يهدى للتي هي أقوم ، ويبشر المؤمنين ، وينذر الكافرين فهو هدى ، وأى هدى! وهو شفاء لما في الصدور وطب للقلوب ، وعلاج لأمراض الفرد والمجتمع ، علاج وصفه الذي خلق المرض وعلم به ، فهل ترى علاجا خيرا منه؟! (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) [سورة الإسراء آية ٨٢].

والذين لا يؤمنون بالله في آذانهم صمم عن سماع القرآن ، ولهذا تواصوا عند سماعه ، والقرآن عليهم عمى فكأن بينهم وبين الداعي حجابا كثيفا ، أولئك المذكورون

٣٤٦

المتصفون بالتعامي عن الحق الذي يشهدونه كأنهم (١) ينادون من مكان بعيد فهم لا يسمعون إلا دعاء ونداء ، ولا يفهمون شيئا.

ولا يهولنك أمرهم واختلافهم في القرآن فتلك عادة الأمم مع أنبيائهم ، ولقد آتينا موسى التوراة ، وفيها هدى ونور ـ أى : قبل تحريفها ـ فاختلف بنو إسرائيل فيها بين مصدق ومكذب ومؤمن وكافر ، وهكذا حال قومك فلا تأس ولا تحزن على شيء.

ولو لا كلمة سبقت من ربك ، وحكم فيها على أمتك بتأخير العقوبة إلى يوم القيامة (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) (٢) لو لا هذا الحكم لقضى بين المؤمنين والكافرين باستئصال المكذبين المشركين كما فعل مع الأمم السابقة ، وإن كفار قومك لفي شك من القرآن مريب يوجب القلق والاضطراب ، وهذا حكم عام : من عمل صالحا فلنفسه بغى الخير ، ومن أساء فإساءته على نفسه وحده ، وما ربك بذي ظلم للعباد فهو يجازى المحسن على إحسانه لا ينقص منه شيء ، ويجازى المسيء على إساءته بلا زيادة ولا نقصان إذ هو أحكم الحاكمين.

__________________

(١) وهذا تمثيل لحالهم من عدم فهمهم وانتفاعهم بما دعوا إليه بمن نودي من مسافة نائية بعيدة فهو يسمع الصوت ولا يفهم.

(٢) سورة القمر آية ٤٦.

٣٤٧
٣٤٨

إليه يرد علم الساعة

إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (٤٧) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٤٨)

المفردات :

(أَكْمامِها) : جمع كم وكمة ، والمراد : أوعيتها ، فالأكمام أوعية الثمر ، والكم يطلق أيضا على ما يغطى اليد من القميص (آذَنَّاكَ) : أسمعناك وأعلمناك (وَضَلَّ عَنْهُمْ) : غاب (مَحِيصٍ) : مهرب من العذاب.

ما مضى كان تهديدا للكفار بأنهم سوف يعاقبون على أعمالهم يوم القيامة ، وكأن سائلا سأل : ومتى يكون هذا اليوم؟ فأجيب بأنه إليه يرد علم الساعة.

المعنى :

إلى الله وحده يرد علم الجواب عن السؤال الخاص بوقت القيامة وزمانها ، فلا سبيل إلى معرفة ذلك اليوم ، ولا يعلمه إلا هو (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ ..) [سورة لقمان آية ٣٤]. (يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) [سورة الأحزاب آية ٦٣].

وكما أن علم الساعة عند الله فقط كذلك لا يعلم الأحداث المستقبلة إلا هو ، وقد ذكر هنا نوعان. فالله وحده يعلم متى تخرج الثمرة من كمها بالضبط لأنه وحده الخالق لها ، والمشاهد عندنا في المزارع أن أحدا لا يعلم متى تخرج الثمرة بالضبط؟ والله وحده

٣٤٩

هو الذي يعلم ما تحمل كل أنثى أذكر هو أم أنثى ، أناقص أم كامل؟ ولا تضع أنثى إلا بعلمه وحده ، فمهما ارتقى العلم فهو لا يعلم بالضبط متى يحصل الشيء ، وما يقول بعض الناس عن المستقبل فهو من باب الحدس والتخمين لا من باب العلم واليقين ، فتارة يصادف الواقع وتارات لا يصادف ، ولا تنس أن الموضوع الأساسى في هذه السورة الرد على المشركين وبيان حقائق يوم القيامة وخاصة ما يتعلق بهم وبالمؤمنين مع نقاشهم في قولهم : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) ولذا يقول الله : واذكر يوم يناديهم الحق ـ تبارك وتعالى ـ على لسان ملائكته تبكيتا لهم وتأنيبا : أين شركائى الذين كنتم تدعونهم من دوني ، وتتخذونهم شفعاء عندي بلا إذنى! قالوا : آذناك وأعلمناك الآن ما منا من شهيد بذلك ، فليس أحد منا يشهد بأن لك يا رب شريكا ، ونحن لا نشاهدهم الآن أمامنا بل ضلوا عنا ، وغابوا عن عيوننا ، وقد كانوا يدعونهم من قبل في الدنيا!!

فيقول الله ما معناه : وظن الكفار أولا أن لهم منجى ثم تيقنوا الآن أنه لا محيص ولا مهرب من عذاب الله ، وقيل : إن الظن هنا مراد به اليقين.

الإنسان وطبعه

لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (٤٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٠) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (٥١)

٣٥٠

المفردات :

(لا يَسْأَمُ) : لا يمل (فَيَؤُسٌ) : اليأس قطع الرجاء من رحمة الله (قَنُوطٌ) والقنوط : إظهار أثر اليأس على ظاهر البدن (أَذَقْناهُ) : آتيناه (لَلْحُسْنى) المراد : الجنة (غَلِيظٍ) : كناية عن الشدة (وَنَأى) أى : انحرف عنه وذهب بنفسه وتباعد عن الشكر (عَرِيضٍ) المراد : كثير ، فإن العرب تستعمل لفظ الطول والعرض في الكثرة ، يقال : أطال فلان في الكلام وأعرض في الدعاء إذا أكثر.

المعنى :

هذا هو الإنسان على طبعه وحقيقته ، كما وصفه خالقه الذي هو أعلم به ، (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) [الملك ١٤] وهذه الصفات التي ذكرت هنا وفي بعض السور هي للإنسان من حيث هو إنسان ، ولا يخفف من حدتها أو يعدل سورتها أو يقلبها بالمرة إلا اتباع الدين ، وتطهير النفس بطهر القرآن ، وملؤها بشعاع الإيمان ونور الإسلام (وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) [سورة العصر] وهذه الصفات هي التي تكون له عونا له أو عليه في الآخرة (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) [الكهف ٣٦](وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ. وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ* إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) [طه ٩ ـ ١١].

ونحن نرى أن القرآن وصف الإنسان بأوصاف :

١ ـ أنه لا يمل من طلب الخير كالمال والجاه والصحة وغيرها ، وهذا ينشأ من حبه للدنيا وإغراقه في المادة ولقد صدق رسول الله حيث قال : «اثنان منهومان لا يشبعان : طالب علم وطالب مال».

٢ ـ إن مسه شر أو حلت به مصيبة فهو يئوس يقطع الرجاء من رحمة الله ، قنوط تظهر آثار يأسه على وجهه وبدنه ، وقد بالغ القرآن في يأس الإنسان إذا مسه شر ، وهذا ينشأ من عدم الإيمان بالله والكفر به فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ، فاليأس والإيمان لا يجتمعان في قلب.

٣٥١

٣ ـ إذا آتاه الله رحمة من بعد ضراء مسته في صحته أو ماله ، نسى ما كان عليه أولا لأنه إنسان كثير النسيان ، واغتر بما أوتى ، وقال : إنما أوتيت هذا على علم عندي ، فهو لي ، وأنا له ، وهكذا الماديون الذين يؤمنون بالأسباب المادية فقط دون الإيمان بمسببها جل شأنه ، وهذا هو الغرور بعينه ، يغتر صاحبه في الدنيا حتى يقول : ما أظن الساعة قائمة ، ولو فرض ورددت إلى ربي ، وكان هناك حساب وبعث ، إن لي عند ربي للجنة والسعة لأنه أعطانى في الدنيا وأكرمنى فيعطيني في الآخرة مثلها (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها) أى : من الجنة التي أوتيتها في الدنيا (مُنْقَلَباً) هذا داء الغرور قد استشرى في الناس ، ولا يمنعه إلا سلاح الدين وحرارة الإيمان ، ولذا يقول الله : (فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا ، وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) فإنه لا يقول بهذا ، ولا يعمل بمقتضاه إلا كل كافر أثيم أو من هو مثله.

٤ ـ وإذا أنعمنا على الإنسان بنعمنا التي لا تحصى ولا تعد أعرض عن الشكر ، ونأى بجانبه ، وذهب بنفسه وتباعد عن الله الذي أعطاه تلك النعم وتباعد عن شكر الله بكليته تكبرا وطغيانا.

٥ ـ وإذا مسه الشر أو حلت به مصيبة فهو ذو دعاء عريض ، فهو إن مسه ضر أو فقر أقبل على دوام الدعاء وأخذ في الابتهال والتضرع ، وإن مسه خير أعرض عن شكر الله ، فهذا هو الإنسان على حقيقته دائم التبدل والتغير لا يستقر على حال أبدا ، فهو في الدنيا مشرك متعصب وفي الآخرة ينكر الأصنام وعبادتها ويتبرأ منها ، وهو إن أصابه ضر دعا ، وإن أصابه خير بغى ، فيا ويلك يا إنسان إن لم يدركك الرحمن بلطفه.

٣٥٢

ختام السورة

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٢) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (٥٤)

المفردات :

(شِقاقٍ بَعِيدٍ) : خلاف كبير حتى كأنه في شق وجانب والحق في شق وجانب آخر (الْآفاقِ) : جمع أفق والمراد آفاق أقطار السموات والأرض (مِرْيَةٍ) : شك.

ثبت فيما مضى أن الإنسان لا يقر على حال وهو دائم التغير والانتقال ؛ فالواجب على المشركين ألا يقروا على حال العناد والشرك بل يعيدوا النظر لعلهم يثوبون إلى رشدهم.

المعنى :

قل لهم يا محمد : أخبرونى (١) عن حالكم!! إن كان هذا القرآن من عند الله حقا ثم كفرتم به وأعرضتم عنه إعراضا من غير حجة ولا برهان ، وقلتم حين دعاكم إليه : قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه ، وفي آذاننا وقر ، ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون! ماذا أنتم فاعلون؟!

__________________

(١) استعمال (رأى) في معنى (أخبر) مجاز لأن الرؤية بمعنى الإبصار طريق للعلم بالشيء ، والعلم به طريق إلى الإخبار عنه لهذا استعملت الصيغة التي هي لطالب الرؤية في طلب الإخبار بجامع مطلق الطلب في كل ، ففي العبارة مجازان : استعمال رأى بمعنى أبصر في الإخبار ، واستعمال الهمزة التي هي لطلب الرؤية في طلب الإخبار.

٣٥٣

وكون القرآن من عند الله وكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسولا أمر ممكن وجائز عقلا ، وليس الشرك ونفى التوحيد أمرا بدهيّا لا يحتاج إلى دليل فإذا أعرضتم عن ذلك كله ، ولم تنظروا في دليل أصلا وقلتم ما قلتم ، ثم تبين أنه الحق ، وأن التوحيد والبعث وصدق الرسول حقائق ، ماذا يكون موقفكم؟! أخبرونى بالله ماذا أنتم فاعلون؟!

أرأيتم أنفسكم ـ إن كان من عند الله ثم كفرتم به ـ من أضل ممن هو في شقاق بعيد؟!

سنريهم آياتنا الكونية التي تظهر في الآفاق ، وصدق آياتنا القرآنية في أقطار السموات والأرض وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق.

وقد صدق العلم الحديث في القرن التاسع عشر والقرن العشرين كثيرا من نظريات القرآن في المطر والسحاب ، والسماء والأرض وفي العلم بما تحمله الأنثى وغير ذلك ، سنرى العالم كله آياتنا الكونية في الآفاق وفي أنفس الناس ، الآيات الدالة على كمال القدرة وتمام الحكمة ودقة العلم حتى يتبين لهم أن الدين الحق جاء على يد خير الخلق صلى‌الله‌عليه‌وسلم وها هي ذي الأيام والواقع يثبتان ذلك.

أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ، وأنه عالم الغيب والشهادة ، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ، وهو اللطيف الخبير ، ألا إنهم في مرية وشك من لقاء ربهم حيث أنكروا البعث ، ولم يقولوا بوجود إله موصوف بصفات الكمال والجلال ، ألا إنه بكل شيء محيط علما وقدرة وسيجازى الكفار على أعمالهم.

ألست معى في أنه ختام رائع لتلك السورة حيث ألزمهم الحجة ، ورد كيدهم في نحورهم ، وأبان أن الزمن كفيل ببيان صدق الآيات وأنهم على خطأ فيما ذهبوا إليه ، والعاقبة للمتقين.

٣٥٤

سورة الشورى

وتسمى سورة حم عسق ، وهي مكية عند الجمهور ، وحكى عن ابن عباس أنها مكية إلا أربع آيات أولها (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) وقيل : المدني من قوله تعالى (ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ) إلى قوله : (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) ومن قوله : (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) .. إلى قوله : (ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) والأفضل قول الجمهور.

وهذه السورة كأخواتها المكية يدور بحثها حول التوحيد والنبوة وإثبات البعث ، وركزت أبحاثها في القرآن المنزل على محمد من عند الله الموصوف بصفات الكمال والجلال والقدرة والعلم والحكمة ، وإثبات أن هذا الشرع المحمدي يتفق مع الشرائع السابقة في الأصول العامة ، فلا عذر لمن كفر ولا حجة له ، مع تهديدهم ببيان ما أعد للكفار ، وما أعد للمؤمنين ، مع ذكر بعض آياته ، وبيان أن كل أفعاله موافق للحكمة والمصلحة ، مع بيان صفات المؤمنين وصفات غيرهم ، وقد بدأ السورة بالكلام على الوحى وختمها كذلك ببيان كيفية اتصاله بالأنبياء.

الذي أوحى بهذا القرآن هو الله

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١) عسق (٢) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٤) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٦)

٣٥٥

المفردات :

(حم عسق) تقرأ هكذا : حا ميم. عين سين قاف ، بإدغام النون في القاف ، وهي كأخواتها من الحروف التي بدأت بها السور إلا أن هنا جعلت حم آية ، وعسق آية ثانية ، والمعروف أن كل بدء السور آية واحدة مثل (كهيعص) أول سورة مريم ، و (المر) أول سورة الرعد فلسائل أن يقول : لما ذا هذا التفريق؟ والجواب أن ذلك مما استأثر الله بعلمه. وهو أعلم بكتابه (يَتَفَطَّرْنَ) : يتشققن (حَفِيظٌ) أى : حافظ ومحص عليهم أعمالهم.

المعنى :

حم. عسق. كما أوحى إليك هذه السورة العظيمة الشأن الشريفة المقصد يوحى إليك غيرها من القرآن ، ويوحى إلى الذين من قبلك الكتب القديمة (١) فالكل من الله ، ويهدف إلى دعوة الخلق إلى التوحيد والعدل وإثبات الرسالة عن الله ، وتقرير مبدأ المعاد والثواب والعقاب ، وإن شئت فاقرأ سورة الأعلى وختامها (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى * صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) تجدها تهدف إلى مبدأ التوحيد أولا ثم النبوة ثانيا ، ثم المعاد ثالثا ، ثم تختم بقوله : إن هذا لفي الصحف الأولى.

ومن الذي أوحى بهذه السورة وأخواتها في القرآن الكريم؟ إنه هو الله ـ جل جلاله ، وتباركت أسماؤه ـ العزيز في ملكه لا يغلبه غالب ، القادر على كل شيء الحكيم في كل صنع ، العالم بجميع المعلومات ، الغنى عن الحاجات ، سبحانه وتعالى لا إله إلا هو ، له الملك ، وإليه الأمر ، في هذا الكون كله ، سمائه وأرضه ، فقدرته كاملة نافذة في جميع أجزاء السموات على عظمتها وسعتها إيجادا وإعداما ، وتكوينا وإنشاء ، وهو العلى المتعالي عما يقوله الظالمون ، صاحب العظمة والأمر.

__________________

(١) الكاف في قوله : كذلك بمعنى مثل ، وهي مفعول مطلق لقوله : يوحى ، ولفظ (يوحى) فعل مضارع مستعمل في حقيقته بالنسبة لما سينزل من القرآن ، وفي مجازه بالنسبة لما أنزل من القرآن والكتب السابقة ، وفي العبارة تشبيه : المشبه هو ما سينزل من القرآن وما نزل سابقا منه ومن الكتب السابقة ، والمشبه به هو هذه الصورة ، ووجه الشبه أن الموحى به في كل يرجع إلى تقرير مبدأ التوحيد والنبوة والمعاد. وتقبيح أحوال الدنيا والترغيب في الآخرة.

٣٥٦

تكاد السموات يتشققن من فوق الأرضين هيبة وإجلالا لعظمته ـ جل شأنه ـ أو من هول كلمة المشركين الذين قالوا : اتخذ الرحمن ولدا (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا) أمرا فظيعا (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا) هدما شديدا. [سورة مريم الآيات ٨٨ ـ ٨٩].

وهؤلاء الملائكة الذين هم خلق من خلقه يسبحون حامدين ربهم شاكرين له نعمه التي لا تحصى ، ويستغفرون لمن في الأرض : أما للكافرين فيدعون لهم بالتوفيق والهداية وأما للمؤمنين فيدعون لهم بأن يتجاوز ربهم عما فرط منهم من سيئات (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) [سورة غافر آية ٧].

ألا إن الله هو الغفور الذي ألهم الملائكة الاستغفار لمن في الأرض ، الرحيم بالخلق ، ألا إن الله هو الذي يعطى المغفرة لمن طلبها مخلصا ، ويضم إليها الرحمة الكاملة ، الرحمن الرحيم.

والذين اتخذوا من دونه أولياء وشركاء وأندادا من الأصنام والأوثان ، فالله وحده حفيظ عليهم ، ومحص عليهم سيئاتهم ، لا يفوته شيء ، ولا يعزب عنه مثقال ذرة من عمل في السموات أو في الأرض ، وما أنت عليهم بوكيل.

حقائق الإسلام

وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٧) وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٨) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ

٣٥٧

يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٩) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (١٠) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٢)

المفردات :

(أُمَّ الْقُرى) المراد بها : مكة كأنها أصل للقرى التي حولها (يَوْمَ الْجَمْعِ) : هو يوم القيامة تجتمع فيه الخلائق (السَّعِيرِ) : جهنم المسعرة (أَمِ اتَّخَذُوا) : أم هنا بمعنى بل ـ التي للانتقال من معنى ـ والهمزة الاستفهامية يراد بها الإنكار (فاطِرُ السَّماواتِ) : خالقها ومبدعها لا على مثال سابق (يَذْرَؤُكُمْ) : يكثركم ، ذرأ الله الخلق : بثهم وكثرهم (أَزْواجاً) : ذكورا وإناثا.

المعنى :

مثل ذلك الإيحاء البليغ البديع أوحينا إليك قرآنا عربيا بلسان قومك ، لا لبس فيه ولا غموض ، ولا التباس عليك وعلى قومك ، أوحيناه إليك لتنذر أم القرى وتخوفهم بعذاب شديد ، وتنذر الناس جميعا بيوم الجمع الذي يجتمع فيه الخلق للحساب أو تجتمع فيه الأعمال وأصحابها ، والأرواح وأشباحها ، هو يوم لا شك فيه أصلا بعد جمعهم للحساب يكون منهم فريق في الجنة ، وفريق في السعير ، وهذا حكم الله وقضاؤه ، فليس في قدرة مخلوق أن يغيره ، ولو كان نبيا مرسلا ، وهذا يؤيد قوله ـ سبحانه وتعالى ـ (اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) فلست عليهم رقيبا ولا

٣٥٨

حفيظا ، ولا يجب عليك أن تحملهم على الإيمان فإن هذا العمل أمره إلى الله ، ولو شاء الله ذلك لجعلهم أمة واحدة لأنه هو القادر على ذلك ، ولكن ترك للخلق حريتهم ، وكلفهم وبنى أمرهم على ما يختارون ليدخل المؤمنين في رحمته ، وقد شاء لهم ذلك ، وهم قد اقتحموا العقبة واختاروا الهدى وآثروه على الضلالة ، وقد ترك الظالمين بلا ولى ولا نصير سوى شياطينهم وأنفسهم فاستحبوا العمى على الهدى ، فكانوا في عذاب شديد لا خلاص منه.

بل اتخذوا من دونه أولياء؟ لم يتخذوا وليا ينفعهم ، ولا نصيرا ينصرهم ، وإذا كان الأمر كذلك فالله وحده هو الولي النافع ، وهو يحيى الموتى ، وهو على كل شيء قدير ، أما غيره فلا ينفع بل يضر ، ولا يقدر على شيء بل إن يسلبه الذباب شيئا لا يستنقذه منه.

وما اختلفتم فيه من شيء من أمور الدين أو الدنيا فحكمه إلى الله الواحد القهار فهو الذي يحكم بين عباده. ذلكم الله ـ جل شأنه ـ هو ربي. عليه وحده توكلت ، وإليه وحده أنيب وأرجع (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) فالكل منه وإليه ، وهو فاطر السموات والأرض ، وخالقهما على نظام بديع محكم ، جعل لكم من جنس أنفسكم أزواجا إليها تسكنون ، وبسببها تتناسلون وتتكاثرون ، وجعل من الأنعام أزواجا كذلك ، فكل حيوان في الكون له ذكر وأنثى ، وفيه غريزة المحافظة على جنسه ونوعه ، وبهذا يتكاثر ويتوالد ، وكأنه منساق إلى ذلك بطبعه وغريزته ، وبهذا يفهم قوله تعالى : (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) أى : يخلقكم ويكثركم في هذا الجعل السابق ، أى : خلق الذكر والأنثى في الإنسان والحيوان ، وكان هذا الجعل منبعا للتكاثر ومصدرا له ، وأظن أن الواقع يؤيد ذلك.

هو الله الواحد الفرد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، وهو الواحد في ذاته وصفاته وأفعاله ليس مثله شيء من خلقه ، ولا يشبهه شيء من الحوادث في أى ناحية كانت.

وهو السميع البصير ، صاحب الملك والملكوت ، بيده الخير وعنده مفاتيح الخزائن كلها ، ومن عنده المفتاح فهو صاحب الخزانة والمتصرف فيها ، يبسط الرزق لمن يشاء ، ويقتر الرزق على من يشاء لحكم هو وحده يعلمها ، إنه بكل شيء عليم.

٣٥٩

تلك حقائق إسلامية يجب الاعتراف بها ، وهي من أمهات المسائل الدينية ، فالقرآن عربي مبين أوحى به إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم غايته الإنذار والبشارة ، والناس معه فريقان ، وقد اقتضت حكمته ذلك ، الله وحده هو الولي وهو يحيى الموتى ، وهو على كل شيء قدير ، والقرآن والسنة مرجع الحكم ، وبهما يزال الخلاف ، والله ـ سبحانه ـ موصوف بكل كمال ومنزه عن كل نقص وهو وحده الخالق لكل الخلق ، والمتصرف في هذا الكون كله.

حقيقة الرسالة المحمدية وهدفها

شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١٤) فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٥) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (١٦) اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (١٧) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (١٨) اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (١٩)

٣٦٠