التفسير الواضح

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٨

المفردات :

(فَرَضَ) : شرع وسن. (تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) : تحليلها ، وحل ما عقدته الأيمان بالكفارة ، أو بفعل المحلوف عليه. (مَوْلاكُمْ) : سيدكم ومتولى أموركم. (نَبَّأَتْ بِهِ) : أخبرت. (وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ) : أطلعه عليه وجعله ظاهرا عليه. (صَغَتْ) : مالت وقرئ : زاغت. (مَوْلاهُ) : ناصره. (ظَهِيرٌ) أى : مظاهرون ومعاونون. (قانِتاتٍ) : مواظبات على الطاعات. (عابِداتٍ) : متعبدات أو متذللات. (سائِحاتٍ) المراد : صائمات. (ثَيِّباتٍ) : جمع ثيب ، وهي التي ترجع عن الزواج بعد زوال بكارتها. (وَأَبْكاراً) : جمع بكر من بكر : إذا تقدم غيره ، ولا شك أنها تتقدم الثيب ، والمراد بها من لم تفض بكارتها.

روى الشيخان عن عائشة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يحب الحلوى والعسل ، وكان إذا صلى دار على نسائه فيدنو من كل واحدة منهن ، فدخل على حفصة بنت عمر فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس. فسألت عن ذلك فقيل لي : أهدت إليها امرأة من قومها عكة (١) عسل فسقت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منه شربة ، فقلت : والله لتحتالن له فذكرت ذلك لسودة وقلت لها : إذا دخل عليك ودنا منك فقولي له : يا رسول الله : أكلت مغافير (٢) ؛ وقولي له : وما هذا الريح؟ وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكره أن يوجد منه الريح الكريهة ، فإنه سيقول لك : سقتني حفصة شربة عسل ، فقولي له : أكلت العرفط (٣) حتى صارت فيه ، أى : في العسل ـ ذلك الريح الكريهة ، وإذا دخل علىّ فسأقول له ذلك ، وقولي أنت يا صفية ذلك ، وقد فعلن هذا.

وفي هذه الرواية أن التي شرب عندها العسل حفصة ، وفي رواية أخرى أن التي شرب عندها العسل زينب بنت جحش ، والذي حرمه العسل ، وأن حفصة وعائشة ائتمرتا عليه ، وقد حلف لحفصة عند ما كلمته أنه لن يعود وأمرها ألا تخبر أحدا.

وروى الدّارقطنيّ عن ابن عباس عن عمر قال : دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأم ولده مارية في بيت حفصة فوجدته حفصة معها ـ وكانت حفصة غابت إلى بيت أبيها ـ

__________________

١ ـ العكة : آنية صغيرة يوضع فيها سمن أو عسل.

٢ ـ المغافير : جمع مغفور : بقلة أو صمغة متغيرة الرائحة فيها حلاوة.

٣ ـ هو نبت له ريح كريح الخمر.

٧٠١

فقالت له : تدخلها بيتي! ما صنعت بي هذا من بين نسائك إلا من هواني عليك. فقال لها : «لا تذكري هذا لعائشة فهي علىّ حرام إن قربتها» قالت حفصة وكيف تحرم عليك وهي جاريتك؟ فحلف لها ألا يقربها ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تذكريه لأحد» فذكرته لعائشة فآلى ألا يدخل على نسائه شهرا فاعتزلهن تسعا وعشرين ليلة فأنزل الله ـ عزوجل ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) ويقول العلامة القرطبي : هذه الرواية أمثل في السند وأقرب إلى المعنى ، لكنها لم تدون في الصحيح.

المعنى :

يا أيها النبي المختار : لأى شيء تحرم ما أحل الله لك؟ بمعنى : لا ينبغي منك ذلك ، على أن المراد بالتحريم الامتناع عن الاستمتاع بالعسل ، أو بمارية على الخلاف في الروايات ، وليس المراد بالتحريم اعتقاد كونه حراما بعد ما أحله الله.

لم تحرم ما أحل الله لك حالة كونك تبتغى مرضاة زوجاتك؟ إذ لا ينبغي منك أن تشتغل بما يرضى الخلق بل اللائق أن زوجاتك وسائر الخلق تسعى في رضاك ، وتتفرغ أنت لمهام الرسالة ، والله غفور رحيم ، وفي ختام الآية بهذا دليل على تعظيم شأنه ، وعلو مكانه حيث جعل ترك الأولى بالنسبة لمقام الكريم يعد كالذنب ، وإن لم يكن في نفسه ذنبا ، ولم يكن عتاب الله لنبيه إلا لمزيد الاعتناء به.

لقد فرض الله لكم تحلة أيمانكم ، وشرع لكم تحليلها بالكفارة وبفعل المحلوف عليه ، وكفارة اليمين ذكرت في قوله تعالى : (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) (٨٩ من سورة المائدة).

وعلى رواية أنه حلف تكون الآية ظاهرة المعنى ، وعلى أنه لم يحلف يكون سمى التحريم يمينا ؛ لأنه تجب فيه كفارة اليمين ، وهل كفر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن أعتق رقبة أو لم يكفر؟ قولان ، قد فرض الله لكم تحليل يمينكم بالكفارة لها ، والله مولاكم وهو العليم فيعلم ما يصلحكم فيشرعه لكم ، وهو الحكيم في كل أفعاله وأحكامه.

واذكر إذ أسر النبي إلى بعض أزواجه ـ هي حفصة على الصحيح ـ حديثا هو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند ما عاتبته حفصة : كنت أشرب عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود إليه ،

٧٠٢

وقد حلف ، وطلب منها ألا تخبر أحدا ، ولكنها أخبرت عائشة بما جرى ، فعاتبها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فلما نبأت به وأخبرته عائشة ، وقد أطلعه الله عليه ، مع أنه كان سرّا بينهما ، لما حصل هذا عرف النبي حفصة بعض الحديث الذي أفشته ، قيل : هو قوله لها : كنت شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود ، وأعرض النبي عن بعضه الآخر تكرما لما فيه من زيادة خجلها ، فلما نبأها به قالت : من أخبرك بهذا؟ أهو عائشة يا ترى أم من؟ فأجاب النبي : الذي أخبرنى هو العليم الخبير.

إن تتوبا إلى الله هذا خطاب لعائشة وحفصة كما روى عن عمر ـ رضى الله عنه ـ فلتوبتكما سبب وموجب ؛ فقد مالت قلوبكما عن الواجب ، فإن الواجب أن تكونا في مرضاة رسول الله تحبان ما يحب وتكرهان ما يكره. وفي قراءة : فقد زاغت قلوبكما ، والمراد : أسرعوا في التوبة وإرضاء رسول الله ، وإن تتظاهرا عليه وتتعاونا على ما يسيئه بسبب شدة الغيرة فلن يعدم من يظاهره فإن الله مولاه وناصره ، وجبريل وصالحوا المؤمنين كأبى بكر وعمر وغيرهما من كبار الصحابة ، والملائكة بعد ذلك ظهراء له ومتعاونون على إرضائه ، ومن كان كذلك فليس في حاجة إلى أحد بعد.

وهاك تهديدا آخر : عسى (١) ربه إن طلقكن أن يعطيه نساء بدلكن خيرا منكن لأنكن لو كنتن خيرا ، ما طلقكن. يبدله أزواجا مسلمات مخلصات ، مؤمنات مصدقات تائبات راجعات إلى الله في كل حين ، عابدات كثيرات العبادة ، سائحات صائمات ثيبات وأبكارا (٢).

ألست معى في أنه لا ينبغي لأحد أن يمتنع عن تناول ما أحله الله؟ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) (٣) وفي أن الكفارات تجبر الخلل الذي يحصل منا ، وفي أنا عرفنا موقف النساء بعضهن من بعض وغيرتهن ، أليست هذه القصة دليلا

__________________

(١) عسى في القرآن واجب تحقيق ما بعدها إلا هذه ، وقيل : هو واجب ولكن الله ـ عزوجل ـ علقه بشرط وهو التطليق.

(٢) ذكرت صفات بلا عطف لأنها تجتمع في موصوف واحد ولشدة ارتباطها ترك العطف ، وأما في قوله :

(ثيبات وأبكارا) فعطف لتباين الوصفين والعطف يقتضى المغايرة.

(٣) سورة المائدة آية ٨٧.

٧٠٣

على أن هذا القرآن من عند الله لا من عند محمد؟! إذ لا يعقل أن يسجل إنسان على نفسه عتابا ، أو يخبر عن نزاع في بيته.

توجيهات ومواعظ

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٨)

المفردات :

(قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ) : احفظوها. (غِلاظٌ) : شداد في الخلق. (شِدادٌ) المراد : شداد في الجسم. (نَصُوحاً) : خالصة ، مأخوذة من قولهم : عسل ناصح ، أى : خالص من الشمع ، أو المراد : بالغة في النصح. (لا يُخْزِي) : لا يفضح ولا يستخف. (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) : اشتد عليهم.

وما أقوى هذه التوجيهات بعد سرد النزاع الداخلى في بيت النبي ، وما أروع هذه المواعظ بعده ، وما أحكم هذه المناسبة.

٧٠٤

المعنى :

يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله قوا أنفسكم وأهليكم نار جهنم ، فإنها نار وقودها الناس والحجارة لا وقودها العشب والحطب ؛ احفظوا أنفسكم من هذه النار بترك المعاصي ، وفعل الطاعات ، واجتناب المنهيات ، التي تغضب الله ورسوله ، واحفظوا أهليكم منها بأن تأمروهن بالمعروف وتنهوهن عن المنكر ، وتعلموهن الخير وأوامر الشرع وتؤدبوهن بأدب القرآن ، والأهل : هم الزوجة والأولاد والخدم ومن هم في حوزتك ومعيشتك ، ولقد صدق الله : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) (١) ، (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (٢) فالمسلم الواجب عليه أن يصلح نفسه أولا ، ويقي نفسه شر النار وغضب الجبار ، ثم يتجه ثانية إلى تكوين أسرته على مبادئ الدين الحنيف ويغرس في نفوسهم أدب القرآن الكريم. والفضائل الإسلامية العليا ، بهذا يكون وقى أهله من النار ، فلست مطالبا بنفسك فقط. لا. بل عليك نفسك ثم أهلك وأسرتك ، ثم إن أردت زيادة في الخير فادع إلى الله واعمل في محيط إخوانك ومعارفك وأصدقائك على نشر أدب الإسلام وتعاليمه.

قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة ، عليها حرس من الملائكة غلاظ الأخلاق شداد الأجسام ، لا يعصون الله ما أمرهم ، ويفعلون ما يؤمرون.

يا أيها الذين كفروا : لا تعتذروا اليوم ـ أى : عند إدخالهم النار تقول لهم الملائكة ذلك ـ ليس اليوم يوم عذر وعتاب ، وإنما هو يوم جزاء وحساب ، وإنما تجزون على ما كنتم تعملون في الدنيا.

يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا (٣) خالصة لوجه الله ليست لغرض أبدا توبة بالغة في النصح لينصح بها صاحبها نفسه ، توبة تنصح الناس وتدعوهم إلى مثلها لظهور أثرها على صاحبها.

والتوبة النصوح تستدعى الإقلاع عن الذنب ، والندم عليه لكونه ذنبا ـ لا لسبب آخر ـ ندما قلبيّا يدعو إلى الحزن والأسف على ما فرط ، وهذا بلا شك يستلزم العزم

__________________

(١) سورة طه آية ١٣٢.

(٢) سورة الشعراء آية ٢١٤.

(٣) «نصوحا» من أمثلة المبالغة ، وفيها مجاز عقلي حيث أسندت للتوبة ، والمراد أصحابها.

٧٠٥

على عدم العودة مرة أخرى ، فإذا كان الذنب في حق الله اكتفى الحال بهذا ، وإن كان في حق آدمي لزمك إرجاع الحق إلى صاحبه ، أو طلب عفوه ومغفرته عنه ولو بالجملة ، وهل قبول التوبة لازم أم متروك لمشيئة الله حتى يظل العبد متجها إلى الله؟ الحق ـ والله أعلم ـ أنه لا يجب على الله قبول التوبة إذا وجدت بشروطها لكن الله يقبلها كرما منه وتفضلا ، عسى ربكم أن يكفر عنكم بالتوبة سيئاتكم ، ويدخلكم جنات تجرى من تحتها الأنهار. يوم لا يخزى الله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بل يكرمه ويعزه لأنه الحبيب المصطفى ، ولا يخزى من معه من الذين آمنوا حالة كون نورهم يسعى ويمتد بين أيديهم وبأيمانهم ، بشراهم اليوم حالة كونهم يقولون لما رأوا غيرهم يضلون : ربنا أتمم لنا نورنا. واغفر لنا إنك على كل شيء قدير.

يا أيها النبي جاهد الكفار بكل ما أوتيت من قوة ، وكذا المنافقين ، اغلظ عليهم واشتد في معاملتهم. واعلم أن مأواهم جهنم ، وبئس المصير مصيرهم.

أمثلة حية للنساء

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٩) ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (١٠) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ

٧٠٦

وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١١) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (١٢)

المفردات :

(مَثَلاً) المثل : الصفة العجيبة ، والمراد : إيراد حالة غريبة ليعرف بها حالة أخرى مشاكلة لها في الغرابة. (فَلَمْ يُغْنِيا) : لم يدفعا عنهما شيئا من الإغناء. (أَحْصَنَتْ فَرْجَها) : حفظته. (بِكَلِماتِ رَبِّها) : شرائعه. (مِنَ الْقانِتِينَ) : من القوم الطائعين.

قد ضرب الله هذه الأمثال ليعلم الجميع أن القربى إلى الله بالطاعات ، لا بالشفاعات والوسيلة ، وأن المؤمنة الصابرة على الإيذاء ينجيها الله من القوم الظالمين ، وفي هذا تعريض بأمهات المؤمنين وتخويف لهن بأنه لن ينفعهن قربهن من النبي إذا أتين بذنب. وهذا ختام للسورة رائع بذكر ما يدل على مسئولية المرأة.

المعنى :

ضرب الله مثلا للذين كفروا والمغرورين الذين يدعون الشفاعة لهم من النبي : ضرب مثلا امرأة نوح وامرأة لوط ، كانتا متزوجتين رجلين كريمين على الله : الأول نوح الأب الثاني للبشر ، والثاني لوط نبي كريم على الله ، ولكن هاتين المرأتين خانتا زوجيهما. والظاهر ـ والله أعلم ـ أنها خيانة في العقيدة أو في الخلق غير الزنا ؛ فإن الخيانة الزوجية بالزنا خلق ذميم يتبرأ منه الأنبياء وعائلاتهم ، فمن المعقول أن تكون امرأة النبي كافرة لأنها ترى هذا ، وليس من المعقول أن تكون زانية لأن الزنا مرض وراثي ينشأ من البيئة التي يعيش فيها الشخص ؛ ولا يعقل أن يمسك النبي امرأة زانية.

هاتان المرأتان خانت كل منهما زوجها بالكفر أو النميمة أو الاتصال بالأعداء مثلا ، فلم ينفعهما قربهما من الأنبياء ، ولم يدفع نوح ولوط مع كرامتهما عند الله عن زوجتيهما

٧٠٧

لما عصتا من عذاب الله شيئا ، وهذا بيان صريح على أن العذاب يدفع بالطاعة لا بالشفاعة ، وقيل لهما : ادخلا النار مع الداخلين لها ممن ليس لهم صلة بنبي أو غيره.

وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون وكانت مؤمنة صالحة ، أى : جعل حالها العجيب مثلا لحال المؤمنين في أن صلتها بالكافرين لم تضرها شيئا ، ما دامت هي تقوم بالعمل الصالح ، ضرب الله مثلها إذ قالت عند تعذيب فرعون لها : رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ، ونجنى من فرعون وعمله ، ونجنى من القوم الطغاة الظالمين.

وضرب الله مثلا للذين آمنوا مريم ابنة عمران أم عيسى ـ عليه‌السلام ـ التي أحصنت فرجها وحفظته ، لأنها العفيفة الحصينة المبرأة من العيب ، يا سبحان الله هذا هو وصف القرآن لمريم البتول الطاهرة. فنفخ الله فيه من روحه ، والنافخ هو جبريل بأمر الله ، نفخ في فرجها وفي جيب قميصها روحا من الله ، فحملت مريم عيسى ، والإضافة التي في قول الله : من روحنا للتشريع والتكريم ولأنه روح وصلت إلى مريم بلا واسطة أب.

وصدقت مريم بكلمات ربها حيث قال لها جبريل : (إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا) (١) صدقت بشرائع الله وكتبه ، وكانت مريم من سلالة القوم الطائعين القانتين.

__________________

١ ـ سورة مريم آية ١٩.

٧٠٨

سورة الملك

وتسمى الواقية والمنجية ، لأنها تقى وتنجي من عذاب القبر ، وهي مكية على الصحيح ، وعدد آياتها ثلاثون آية ، وتشتمل كأخواتها المكيات على إثبات وجود الله ببيان مظاهر قدرته وعلمه ، وقد تعرضت لما يلاقيه الناس يوم القيامة ، ولبيان بعض نعمه على عباده ، والسورة على العموم تدور حول بيان النعم.

مظاهر القدرة والعلم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (٢) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (٣) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (٤) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (٥) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٦) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (٧) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (٨)

٧٠٩

قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (٩) وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (١٠) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (١١) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١٢)

المفردات :

(تَبارَكَ) البركة : النماء والزيادة حسية كانت أو معنوية ، والمراد : تعالى وتعاظم بالذات عن كل ما سواه ذاتا وصفة وفعلا ، وعليه قول العربي وقد وقف على ربوة : تباركت عليكم ، أى : تعاليت حسيا. (الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) الموت : عدم الحياة عما هي من شأنه ، والحياة : ما يصبح بها الإحساس. (لِيَبْلُوَكُمْ) : ليختبركم ، والمراد : ليعاملكم معاملة المختبر. (طِباقاً) : متطابقة بعضها فوق بعض بحيث يكون كل جزء منها مطابقا للجزء من الأخرى ، وأصل الطبق : جعل الشيء على مقدار الشيء مطابقا له من جميع جوانبه كالغطاء له. (تَفاوُتٍ) : تباين وعدم تناسب. (فُطُورٍ) : صدوع وشقوق. (كَرَّتَيْنِ) : أى : كرة بعد كرة ، والمراد : ترديد النظر. (يَنْقَلِبْ) : يرجع. (خاسِئاً) : محروما ذليلا لعدم إدراك مطلوبه. (حَسِيرٌ) : منقطع كليل. (بِمَصابِيحَ) المراد : بنجوم. (رُجُوماً) : جمع رجم ، المراد ما يرجم به. (وَأَعْتَدْنا) : هيأنا. (السَّعِيرِ) : النار الملتهبة. (شَهِيقاً) : هو الصوت المنكر الذي يشبه صوت الحمار. (تَفُورُ) : تغلى. (تَمَيَّزُ) أى : تنقطع. (فَوْجٌ) : جماعة. (فَسُحْقاً) : بعدا عن رحمة الله ، والمراد ألزمهم الله سحقا. (الْغَيْظِ) : شدة الغضب.

المعنى :

تعالى الله وتعاظم ـ جل شأنه ـ عما سواه ذاتا وصفة وفعلا وتكاثر خيره وبره على

٧١٠

جميع خلقه ، فهو صاحب التصرف التام في الموجودات (١) على مقتضى إرادته ومشيئته بلا منازع ، وهو على كل شيء قدير وهو الحكيم الخبير ، ولفظ «تبارك» يدل على غاية الكمال ونهاية التعظيم والإجلال ، ولذا لا يجوز استعماله في حق غيره سبحانه وتعالى ...

وقد شرع القرآن في تفصيل بعض أحكام الملك وآثار القدرة ، وبيان أن لهما حكما وغايات جليلة كلها تعود على الإنسان بالخير العميم.

وهو الذي خلق الموت والحياة ، وقدرهما على كل كائن في الوجود ، وراعي ترتيبهما الوجودي فقدم الموت على الحياة. ولعل في ذكر الموت مقدما عظة وعبرة لمن يعتبر ، قدرهما ليعاملكم (٢) معاملة من يختبر أمركم فيعرف خيركم وشركم ، ويعلم أيكم أحسن عملا! وأكثر إخلاصا ، وأبعد عن محارم الله ، وأسرع في طاعة الله ، وكان المفروض أن يكون عمل الإنسان دائرا بين الحسن والأحسن لا بين الخير والشر ، وقد خلق الله الموت والحياة ليبلوكم وليختبركم ، فالحياة محل الاختبار والتكاليف ، والموت محل الجزاء والثواب الذي هو نهاية الاختبار ، وهو العزيز الذي لا يعجزه عقاب من أساء ، الغفور لمن شاء أو لمن تاب.

وهو الذي خلق سبع سموات متطابقة بعضها فوق بعض ، وهل السموات هي مدارات الكواكب أو مادة لا يعلمها إلا الله؟ الظاهر ـ والله أعلم ـ من مجموع النصوص الواردة في القرآن والسنة أن السماء مادة لا يعلمها إلا الله ، والعلماء الطبيعيون يقولون : إنها فراغ يدور فيها الكواكب. والخطب سهل ، لو تبصر الإنسان لرأى أن الله هو الذي خلق سبع سموات ـ والعدد على حسب ما كان معروفا عند العرب متطابقة بعضها فوق بعض أشبه ما تكون بطبقات البيضة ، ليس فيها عيب ولا خلل ، ولا ترى في خلقها تفاوتا في أى ناحية من النواحي ، إن كنت في شك في ذلك فارجع البصر ، ودقق النظر حتى يتضح لك الحال ، ويتبين لك المقام ، ولا تبقى

__________________

١ ـ وعلى ذلك يكون قوله «بيده الملك» استعارة تمثيلية ، أى : لفظ اليد مجاز وليس على حقيقته. ويرى السلف أن اليد على حقيقتها والله أعلم بها.

٢ ـ في قوله (ليبلوكم) استعارة تمثيلية حيث شبه معاملة المولى جل شأنه لعباده بالابتلاء والاختبار.

٧١١

لك شبهة في تناسب خلق الرحمن واستكماله لكل أسباب الحكمة. فارجع البصر هل ترى من فطور أو شقوق؟ الجواب : لا. ثم ارجع البصر ، ودقق النظر مرة بعد مرة ـ والمراد التكثير في النظر لمعرفة الخلل ـ يعد إليك البصر محروما من إدراك العيب والخلل في السموات ، فكأن النظر طرد عن ذلك طردا بالصغار وعاد خاسئا ذليلا ، وهو كليل من طول معاودة النظر.

وعلى الجملة فالسماوات السبع ، وما فيهن آية من آيات الله الكبرى لو تأملت ما فيها من تناسب وتجاذب وإحكام ودقة ونظام لا يختل أبدا مع سرعة دورانها ، لهالك هذا النظام العجيب ، وإن شككت في ذلك فارجع البصر مرة بعد مرة فإنه سيرتد إليك خائبا خاسئا وهو كليل وضعيف أمام هذه القدرة العظيمة.

فهذه السموات السبع خالية من العيوب والخلل ، وهي كذلك في غاية الحسن والبهاء. ولقد زينا السماء الدنيا بزينة هي الكواكب ، فهي في السماء كالمصابيح في السقوف ، وإنك لترى السماء ليلا ، وكأنها عروس ليلة الزفاف ، وهذه النجوم والأفلاك ينفصل منها أجزاء ملتهبة أو تلتهب من الاحتكاك بالأجواء هذه الأجزاء جعلت رجوما للشياطين ، وأعدت لذلك فلم يعد للشياطين طريق لاستراق السمع من السماء ، ولم يعد للدجالين الكذابين طريق للكذب على الناس ، حيث إن الله أخبر أن النجوم خلقت زينة للسماء ، ورجوما للشياطين ، وأعتدنا لأولئك الشياطين عذاب النار المسعرة المشتعلة في الآخرة.

وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم ، وبئس المصير مصيرهم ، إذا ألقوا فيها سمعوا لها صوتا منكرا كصوت الحمار (١) ، وهو حسيسها حالة كونها تفور بهم وتغلى غليان المرجل ، ويا ويلهم حينما يرون النار ، تكاد تتميز ، أى : ينفصل بعضها عن بعض من شدة الغيظ (٢) والغضب! وهذا وصف لجهنم دقيق.

وهاك وصفا لمن فيها : كلما ألقى فيها جماعة من أصحابها سألهم خزنتها وزبانيتها قائلين لهم : ألم يأتكم نذير يتلو عليكم آيات الله ، وينذركم لقاء ربكم؟ قالوا : بلى قد

__________________

١ ـ وعلى ذلك ففي (شهيق) استعارة صريحة.

٢ ـ جهنم لا يعقل أن يكون لها غيظ وغضب وإنما يجوز أن يكون في الكلام استعارة تصريحية حيث شبه اشتعال النار بهم وشدة تأثيرها فيهم باغتياظ المغتاظ على غيره المبالغ في إيصال الضرر ، ويجوز أن يكون الغضب للزبانية.

٧١٢

جاءنا نذير فأنذرنا وتلا علينا آيات ربنا ، فكذبناه ، وقلنا له : ما أنزل الله من شيء على بشر مثلنا ، ما أنتم أيها الرسل جميعا إلا في ضلال كبير ، وقالوا معترفين بخطئهم ومتحسرين على ما فاتهم : لو كنا نسمع الكلام سماع قبول وإنصاف ، ولو كنا نعقل ونحكم عقولنا حقيقة في كل ما يلقى إلينا ما كنا في عداد أصحاب السعير اليوم! فاعترفوا بذنبهم الذي هو كفرهم بآيات الله فبعدا لهم من رحمة الله ورضوانه ، وسحقا لهم ؛ إنهم من أصحاب السعير.

أما المؤمنون الذين يخشون الله حقا ، ويؤمنون به ، ويخافون عذابه يوم القيامة أولئك لهم مغفرة عظيمة لذنوبهم ، ولهم أجر كبير لا يقادر قدره ولا يعرف كنهه.

بعض مظاهر نعمه وقدرته وعلمه مع تهديد الكفار

وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٣) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٤) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (١٥) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (١٦) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (١٧) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (١٩) أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (٢٠) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ

٧١٣

وَنُفُورٍ (٢١) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٢) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٢٣) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤)

المفردات :

(بِذاتِ الصُّدُورِ) : صاحبة الصدور ، والمراد بها الخواطر التي لم تبارح الصدور. (اللَّطِيفُ) لطف الشيء : دق وصغر حجمه ، والمراد أنه مطلع على دقائق الأمور. (ذَلُولاً) من الذل : وهو اللين ضد الصعوبة ، وليس من الذل ، وهو الهوان فضده العز. (مَناكِبِها) : جمع منكب ، بمعنى الناحية ، والمراد نواحيها وجوانبها ، وقيل : جبالها وآكامها إذ المنكب يطلق على ملتقى عظم العضد بالكتف ، ولا شك أنه مرتفع. (النُّشُورُ) : الحياة بعد الموت. (يَخْسِفَ) يقال : خسف الله بفلان الأرض : إذا غيبه بها. (تَمُورُ) : تضطرب وتتحرك بشدة. (حاصِباً) الحاصب : ريح شديدة تحمل الحصباء ، أى : الحجارة الصغيرة. (نَكِيرِ) : تغيرى ، والمراد عذابي. (صافَّاتٍ) يقال : صف الطائر جناحيه : بسطها في الجو وهو يطير. (وَيَقْبِضْنَ) والمراد بقبضهما : ضم جناحيه إلى جنبه. (جُنْدٌ) : أنصار وأعوان. (مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ) أى : من غيره. (بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) لجوا : تمادوا واستمروا ، والعتو : العناد والكبر ، والنفور : البعد عن الحق. (مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ) يقال : كبه على وجهه : صرعه وقلبه ، والمكب : هو الشخص الذي يعتريه سقوط على وجهه من حين لآخر. (سَوِيًّا) : منتصب القامة. (صِراطٍ) : طريق. (ذَرَأَكُمْ) : خلقكم على جهة الكثرة.

كان المشركون ينالون من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيخبره جبريل ـ عليه‌السلام ـ فقال بعضهم لبعض : أسروا قولكم كي لا يسمع رب محمد. فنزلت (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ).

٧١٤

المعنى :

الله يعلم الغيب والشهادة ، ويعلم السر وأخفى ، فسواء عنده الإسرار في القول والجهر به ، إنه عليم بصاحبة الصدور ، وبما يكون من الخواطر التي تلازم القلوب فلا تبرحها ، ألا يعلم الله مخلوقاته التي خلقها؟ ألا يعلم الخالق خلقه؟ والحال أنه هو اللطيف العالم بدقائق شئون البشر ، المطلع على خفايا الخلق ، وهو اللطيف بعباده ، وإن لطفه بعباده لعجيب ، فهو يوصل الخير إليهم ، ويكشف الضر عنهم من أخفى الطرق وأدقها ، وهو الخبير بكل شيء.

هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا : سهلة مذللة ينتفع الخلق بكل ما فيها ، فانقياد الأرض لبنى آدم ظاهر الوضوح ، وخاصة في هذه الأيام حيث لم يدع الخلق ضربا من ضروب الانتفاع إلا سلكوه ، ولا عنصرا إلا حللوه وركبوه ، صهروا المعادن ، وفتتوا الذرات واستنبتوا النباتات ، واكتشفوا أسرار الكائنات ، وغاصوا في أعماق البحار وطاروا في أجواء الفضاء ، أليس الله قد لطف بعباده حيث مكنهم من كل ذلك؟ جعل الأرض ذلولا ، وإذا كان كذلك فامشوا في مناكبها ونواحيها ، وجوانبها وأطرافها ، وآكامها وسهلها وحزنها.

احذروا أيها الناس هذا التمادي في الباطل ، والتكذيب للرسل ، واذكروا أنه تعالى جعل لكم الأرض سهلة لينة منقادة انقياد الدابة الذلول ، فدعوا إذن العناد والتكذيب ، واعلموا أن إليه النشور ، وإليه وحده مرجع الإنسان في الحياة الأخرى ليحاسبه ويجازيه.

واعلموا أيها الناس أن الله قادر على تبديل النعم بالنقم ، فاحذروا عقابه ، واخشوا غضبه ، أأمنتم الحق ـ تبارك وتعالى ـ أن يخسف بكم الأرض ، ويغيبكم فيها ، فإذا هي تتحرك بشدة حركة غير عادية؟ أأمنتم أيها القوم ذلك الإله العظيم الذي تعتقدون أنه موجود في السماء ـ مع أنه ثبت بالدليل العقلي أن الله ليس له مكان بل هو موجود بقدرته وعلمه وإحاطته في كل مكان ـ أأمنتم أن يهلككم ، ويبيدكم ، ويغير هذه الأرض الذلول التي تنتفعون بها في كل شيء ، فإذا هي تمور وتضطرب؟!

بل أأمنتم الله الذي هو في السماء ـ كما تعتقدون ـ أن يرسل ريحا شديدة تثير الحصباء وتحملها ، هذه الريح ترسل عليكم فتهلككم وتستأصل شأفتكم؟!

٧١٥

انظر إلى ترتيب الآيات ترتيبا محكما دقيقا حيث ذكرهم ربك بنعمة صلاحية الأرض للمعيشة ، ثم حذرهم عاقبة التمادي في الباطل ، وأن من الحكمة ألا يأمنوا زوال النعم فإن الله قادر على سلبهم إياها ، فبعد أن تكون الأرض ذلولا تصبح كالفرس الجموح فترجف وتضطرب اضطراب خسف وهلاك حتى تبتلعهم ، وكأن العرب استبعدوا هذا ، فأضرب الحق ـ تبارك وتعالى ـ عن تهديدهم بهذا إلى تهديدهم بشيء كثير الحصول عندهم ، وهو الريح الحاصب التي تنزع الناس ، وتتركهم هلكى كأنهم أعجاز نخل خاوية فهل ترى لهم من باقية؟! وفيه يتبين إنذار الله لهم حقا (فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ)؟! ثم أراد الله أن يهددهم بأسلوب آخر يكون بلفت نظرهم إلى من تقدمهم من الأمم التي كذبت رسلها ، وأبيدت عن آخرها ، وفي ذلك سلوى للرسول الأكرم.

ولقد كذب الذين من قبلهم من الأمم السابقة التي عرفوها ، وكانوا يمرون على آثارهم ، فغضب الله عليهم وأذاقهم عذاب الحياة الدنيا ، وخسف بهم الأرض ، وأهلكهم وتلك آثارهم ، فانظروا كيف كان نكيري وسخطى على الكفار؟! هؤلاء كذبوا برسلهم ، واستخفوا بوعيدهم ، واغتروا بمالهم ، فكانت عاقبة أمرهم خسرا في الدنيا والآخرة ، وكان المشركون من العرب يعتقدون أن ما يهددون به لن يحل أبدا ، فذكرهم بما حل بغيرهم. وذكر لهم بعض آيات قدرته في الكون ليعلموا أن الله على كل شيء قدير. فقال ما معناه : أليس من عجائب القدرة ما يراه الإنسان في كل وقت وآن ، من تحليق الطيور في أجواز الفضاء ، من الذي رفعها ، ومن الذي منعها من السقوط ، ومن الذي أوجد فيها القدرة على الطيران ، وللتحرك في السماء ، من الذي ركبها تركيبا به تقوى على ذلك؟ أليس هذا من عجائب صنع الله؟ أعموا ولم يروا إلى الطير فوقهم صافات أجنحتهن تارة ، ويقبضنها تارة أخرى ، ما فعل هذا إلا الرحمن الذي سهل لذلك الحيوان وسائل الطير والانتقال ، كان هذا أساسا لتفكير الإنسان في الطيران ، إنه بكل شيء بصير .. بسط الطائر لجناحه أساس طيرانه ، وقد يبقى مستمرّا عليه ساعات ، وقبضه له وهو يطير قليل الحصول ، عارض متجدد. ومن هنا عبر عند البسط بقوله : «صافّات» وعند القبض بقوله : «يقبضن» (١).

__________________

١ ـ هذا جواب عن سؤال حاصله : لما ذا عبر القرآن بقوله : (صافات ويقبضن) مخالفا بين اللفظين ولم يأت بهما فعلين أو اسمين؟ ومحور الجواب أن اسم الفاعل يدل على الدوام والاستمرار والفعل يدل على الحدوث والتجدد ، والصف أى : البسط كثير دائم عند الطيران ، والقبض قليل غير متجدد.

٧١٦

أولم ينظر المشركون إلى عجيب صنع الله وإلى آثار قدرته الظاهرة في طيران الطائر في الهواء فيعرفوا مبلغ قدرة الله على إنزال العذاب بهم؟! أم أنهم تعاموا عن ذلك اعتدادا بأن لهم من دون الله قوة تحميهم ولهم آلهة من دون الله ترزقهم إن أمسك الله عنهم الرزق ، فوبخهم الله وأنبهم على هذا الزعم الفاسد ، وأنكر عليهم وجود جند لهم وأعوان يدفعون عنهم عذاب الله إن أراد بهم سوءا فقال : (أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ) (١) لا جند لهم ولا أعوان ، ما الكافرون الذين يتوهمون ذلك إلا في غرور باطل ، وخداع كاذب ، وأنكر عليهم اعتقادهم أن الآلهة ترزقهم إن أمسك الله عنهم الرزق بقوله : أمن هذا الذي يرزقكم؟ أى : أخبرونى من هذا ـ والإشارة هنا للتحقير ـ الذي تظنون أنه يرزقكم من دون الله؟! لا أحد أبدا يرزق غيره ، فإن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ، بل هؤلاء لجوا في عنادهم ، واستمروا في عتوهم ونفورهم عن الحق.

ولقد ضرب الله مثلا للكفار المعاندين الموصوفين بالعتو والنفور مع مقارنتهم بالمؤمنين الذين هداهم الله إلى الصراط المستقيم ، ولا شك أن الكافر المغرور الذي نفخ الشيطان في أنفه فامتلأ عتوّا ونفورا فهو كالماشى المكب على وجهه الذي يتعثر في كل خطوة يخطوها ، أما المؤمن فهو كالسائر على طريق لاحب ، أى : ممهد مستقيم ، وهو منتصب القامة معتدل في المشي فأى القبيلين أهدى طريقا ، وأقرب وصولا؟

وإذا كان المشركون كذلك فهل هم معذورون أولا؟ لا ، ليسوا معذورين في شيء فالله خلق الخلق ، وجعل لهم السمع والأبصار والأفئدة لعلهم يتجهون إلى الخير وإلى الحق : نور الله! ولكن قليلا ما يشكرون.

قل لهم : هو الذي خلقكم ، وذرأكم في الأرض فكان منكم النسل الكثير ، والتكاثر المفضى إلى الانتشار في بقاع الأرض ، ولكن اعلموا أنكم إليه تحشرون ، ولا غرابة في ختام هذه الآيات بالحشر فإن السورة مكية من أغراضها إثبات البعث.

__________________

١ ـ أمن هي أم الإضرابية ، ومن هي للاستفهام الإنكارى.

٧١٧

إثبات للبعث وتهديد وبيان لبعض النعم

وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٦) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (٢٧) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٨) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (٣٠)

المفردات :

(زُلْفَةً) أى : اقترابا ، والمراد مقتربا. (سِيئَتْ) : من السوء ، وهو القبيح.

(تَدَّعُونَ) : من الدعاء بمعنى الطلب والنداء ، أو من الدعاء بمعنى تدعون بطلانه.

(غَوْراً) أى : غائرا ، وغار الماء : إذا نضب وذهب في الأرض. (مَعِينٍ) : جار على وجه الأرض تراه العيون ، مأخوذة من عانه إذا نظره بالعين ، أو هو من معن الماء : إذا اطرد وتسلسل.

المعنى :

كان المشركون يسألون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ميعاد البعث استهزاء به وسخرية بوعيده وإنكارا له فيقولون : متى الساعة أيها المؤمنون إن كنتم صادقين في دعواكم؟.

ولكن الله رد عليهم بقوله : إنما العلم عند الله ، أى : الله وحده الذي يعلم الوقت ، وإنما الرسول مبلغ فقط ، أما متى يكون؟ فليس من اختصاصه.

٧١٨

فلما رأوا هذا اليوم الموعود ، والعذاب السيئ الذي أعد لهم. لما رأوه وقد كانوا يكذبون به استاءت وجوههم ، وامتلأت غيظا وهماّ ، وقيل لهم تأنيبا وإيلاما : هذا الذي كنتم تطلبونه وتسألونه ، أو هذا هو الذي كنتم تدعون بطلانه وتزعمون أنه لا يأتيكم ، فها أنتم أولاء ترونه قريبا منكم ، لا شك فيه الآن.

كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعوهم إلى الإيمان ، ويلح في ذلك ، وفي خلال هذا يسفه أحلامهم ويذم آلهتهم ، وكانوا يكرهون ذلك ويستاءون له فكانوا يقولون لبعض : انتظروا فسيموت وتموت دعوته ويهدأ بالنا ، وتطمئن نفوسنا.

فرد الله عليهم آمرا النبي أن يقول لهم : أخبرونى إن استجاب الله دعاءكم ، فأهلكنا بالموت أو رحمنا فأخر أجلنا قليلا. ماذا تستفيدون من ذلك ، ما دمتم مقيمين على الكفر والضلال ، أتحسبون أن ذلك ينجيكم من عذاب الله؟ لا ولن ينفعكم موتنا أو عدمه ، وإنما الذي ينفعكم هو الإيمان فقط ، والذي نجانا نحن هو الإيمان بالرحمن والتوكل عليه فقط ، وأما أنتم إذا ظللتم على ما أنتم عليه فستعلمون غدا من هو في ضلال كبير؟

قل لهم مذكرا بنعمة من نعمه : أخبرونى إن أصبح ماؤكم غائرا لا تصله الأيدى ولا الدلاء فمن يأتيكم بماء معين جار على وجه الأرض نابع من العيون ، أو منظور إليه بالعيون؟ لا أحد غير الله فآمنوا به واعملوا صالحا ينجيكم ربكم من عذاب أليم.

٧١٩

سورة ن

وتسمى سورة القلم ، وهي مكية على الصحيح ، وعدد آياتها اثنتان وخمسون آية وتشمل بيان بعض صفات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإرشاده إلى مخالفة المكذبين ثم ذكر قصة أصحاب البستان تهديدا للكفار ، ثم مناقشتهم وإبطال حججهم ، وبعد ذلك أمر النبي بالصبر على أذاهم ، مع بيان شدة بغضهم للنبي والقرآن.

محمد رسول الله أكرم الخلق على الله

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (١) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٧) فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (٨) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٩) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (١٠) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (١١) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (١٣) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (١٤) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٥) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (١٦)

٧٢٠