التفسير الواضح - ج ٢

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ٢

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٨٨٤

١

٢

المتخلفون بغير عذر وموقف المسلمين منهم

(إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٩٣) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٤) سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٩٦))

المفردات :

(لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ) لن نصدقكم (انْقَلَبْتُمْ) رجعتم إليهم ووصلتم (لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ) لتصفحوا عنهم صفح رضا (رِجْسٌ) أي : قذارة يجب الإعراض عنهم.

روى أن هذه الآيات ـ يعتذرون إليكم ـ نزلت في الجد بن قيس ، ومعتب بن قشير وأصحابهما من المنافقين المتخلفين وكانوا ثمانين رجلا أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المؤمنين إذا رجعوا إلى المدينة ألا يجالسوهم ولا يكلموهم.

٣

المعنى :

ما على المحسنين من سبيل ، ولا على الذين أتوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم معتذرين بأعذار حقيقية ، وقد تولوا ، وأعينهم تفيض من الدمع حزنا لأنهم لم يجدوا ما ينفقون ، ولم يستطيعوا الذهاب معه إلى القتال. وليس على هؤلاء وأولئك جناح.

إنما السبيل والذنب ، والجناح والإثم على الذين يستأذنونك في التخلف عن القتال وهم أغنياء موسرون ، يستطيعون القتال ويجدون الزاد والراحلة ، ولكن ما بال هؤلاء يستأذنون وهم أغنياء؟! فأجيب بأنهم رضوا بأن يكونوا مع الخوالف الذين لا خير فيهم ، كالنساء والصبيان ، والعجزة والمرضى ، ورضوا بأن يكونوا مع الذين شأنهم الضعة والدناءة ، وكان من أسباب تخلفهم زيادة على رضائهم بالقعود مع الخوالف أن طبع الله على قلوبهم ، وختمها حتى لا يصل إليها خير ، ولا يدخلها نور ، وهكذا أصحاب المعاصي تصدأ قلوبهم وتقسو حتى تصير كالحجارة أو أشد ، فهم لا يعلمون الخير حتى يتوجهوا إليه ، وهم بسبب ذلك لا يعلمون عاقبة ما فعلوا في الدنيا والآخرة.

هذا كلام مستأنف مسوق لبيان ما صدر من المتخلفين عند رجوع المؤمنين لهم.

يعتذرون إليكم أيها المؤمنون عن جميع سيئاتهم وأهمها التخلف عن القتال بغير عذر مقبول ـ والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، لأنهم كانوا يعتذرون إليهم جميعا ـ إذا رجعتم من الغزوة إليهم ، قل لهم أيها الرسول : لا تعتذروا ، وكأن سائلا سأل منهم لما ذا لا نعتذر بما يبرر عملنا؟ فقيل لهم : لأنا لا نصدقكم أبدا فيكون اعتذاركم عبثا لا يترتب عليه ما تطلبون منه ، والذي حملنا على هذا أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قد نبأنا من أخباركم ، وأطلعنا على بعض نواياكم ، وما تكنه سرائركم وخبر الله هو الحق ، وقوله الصدق ، ومن عرف الحق لا يقبل الباطل بحال ، وسيرى الله عملكم ورسوله بعد الآن ، فلم يعد لكلامكم وظواهر حالكم قيمة عند الله وعند رسوله ، فإن تبتم وأنبتم ، وعملتم صالحا من الأعمال فالله يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ، وإن أصررتم على النفاق والكفر فسيعلمكم الرسول بما أمره الله به في هذه السورة من جهادكم والإغلاظ عليكم ، ومنعكم من الخروج معه.

٤

ثم تردون بعد هذا كله إلى عالم الغيب والشهادة ، الذي يعلم السر وأخفى ، فينبئكم ويجازيكم على أعمالكم وسرائركم.

والنفاق أخو الكذب. لذلك تراهم يؤكدون اعتذارهم بالأيمان الكاذبة إذا رجعتم إليهم ، يفعلون هذا لتعرضوا عنهم ، وتصفحوا فلا توبخوهم ، ولا تؤنبوهم على قعودهم مع الخوالف من النساء والصبيان فأعرضوا عنهم إعراض إهانة واحتقار ، لا إعراض صفح وأعذار وذلك لأنهم رجس وقذارة ، وأعمالهم دنس ووساخة ، ومأواهم جهنم ، جزاء بما كانوا يكسبون.

وهم لجهلهم بحقيقة أنفسهم وما عملوا ، ولعدم إدراكهم الأمور على وجهها الصحيح لم يقنعوا بالإعراض عنهم ، بل يحلفون لكم أحرج الأيمان لترضوا عنهم ، وتعاملوهم كما كنتم أولا ، كان جل همهم معاملتكم أنتم (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ) (١) ولقد صدق الله (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ) (٢) ولو كان هؤلاء مؤمنين حقا لكان منتهى همهم إرضاء الله ورسوله ، وإذا كان هذا شأنهم فإن ترضوا عنهم فرضا وقد أعلمكم الله حالهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين عن أمره الخارجين عن دينه ، وهؤلاء قد خرجوا عن أمره ودينه فاستحقوا هذا الجزاء من الله.

كيف كان الأعراب

(الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٩٧) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٩٨) وَمِنَ

__________________

(١) سورة النساء الآية ١٠٨.

(٢) سورة الحشر الآية ١٣.

٥

الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٩))

المفردات :

(الْأَعْرابُ) اسم جنس للعرب الذين يسكنون البوادي أى : الصحارى ، والعرب : اسم جنس لسكان البدو والحضر (وَأَجْدَرُ) أى : أحق (مَغْرَماً) غرامة خسرانا لازما (الدَّوائِرَ) جمع دائرة وهي ما تحيط بالإنسان والمراد بها ما لا محيص عنه من مصائب الدهر (دائِرَةُ السَّوْءِ) أى : دائرة الضر والشر والمراد الدائرة السوءى.

هذا بيان لحال المنافقين من سكان البوادي بعد بيان حالهم من سكان المدن والحضر.

المعنى :

الأعراب أشد كفرا ونفاقا من غيرهم سكان المدينة لأنهم أغلظ طبعا وأقسى قلبا ، وهذا طبع سكان الصحارى من الأمم لكثرة اختلاطهم بالحيوان ، ورعيهم للأنعام ، وهذا حكم مسلم.

وهم أجدر وأحق من سكان المدن ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله من آيات بينات ، إذ لم يباشروا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يطبق النظريات القرآنية العلمية بعمله وشرحه (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (١) وليس هذا طعنا في ملكتهم اللغوية أو مقدرتهم العقلية ولكنه نقص في التطبيق العملي والله عليم بخلقه ، حكيم في حكمه وشرعه ـ سبحانه وتعالى ـ.

ومن الأعراب من يتخذ لنفسه ويختار ما ينفقه على أنه مغرم وغرامة لازمة ، لا يرجون ثوابا ولا يأملون خيرا بل ينفقون للرياء والسمعة وطمعا في التقرب من المسلمين

__________________

(١) سورة النحل الآية ٤٤.

٦

واتقاء شرهم ، روى أنهم بنو أسد وغطفان ، وهم يتربصون بكم مصائب الدهر التي تدور بالناس وتحيط بهم ، وذلك أنهم لما يئسوا من غلبة المشركين من كفار قريش ويهود المدينة أخذوا يتربصون بالمسلمين وينتظرون بهم حوادث الأيام كموت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقضاء على الدعوة الإسلامية وهكذا شأن الضعفاء والجبناء.

عليهم الدائرة السوءى وهذا دعاء من الله عليهم محقق الوقوع (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا) [سورة التوبة الآية ٥٢] والله سميع عليم لا يخفى عليه شيء.

وليس هذا شأن الأعراب كلهم بل منهم من يؤمن بالله واليوم الآخر إيمانا كاملا ـ قيل : هم بنو أسلم ، وغفار ، وجهينة ، ومزينة ، وقيل : هم بنو مقرن ـ ويتخذ لنفسه ويختار أن ما ينفقه لأمرين : أحدهما قربات عند الله وزلفى ، والثاني : أنه سبب في دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه كان يدعو للمتصدق بالبركة ، ويستغفر له ، ودعاؤه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمنيتهم المحبوبة.

وقد بين الله جزاء هؤلاء الأعراب فقال : ألا إنها قربة لهم عظيمة ودرجة رفيعة أنا أعلم بها ، وسيدخلهم الله في رحمته ورضوانه إن الله غفور رحيم.

الناس أنواع

(وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٠٠) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ

٧

نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (١٠١) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٠٢))

المفردات :

(مَرَدُوا) مرنوا عليه وحذقوه حتى بلغوا الغاية القصوى فيه.

المعنى :

مما أكرم الله به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن جعل أمته وسطا عدولا خيارا شهداء على الناس يوم القيامة ، وكانت أمته خير أمة أخرجت للناس لأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله حقا ، وكان خيارها أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ وأعلاهم في الشرف السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار.

أما السابقون من المهاجرين وهم الذين صلوا إلى القبلتين [إلى الكعبة وإلى بيت المقدس] وقيل : هم المهاجرون قبل صلح الحديبية ، لأن المشركين قبل ذلك كانوا يضطهدون المؤمنين ويعذبونهم أشد العذاب ، ويحاربونهم في عقر دارهم فكان الفرار منهم إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المدينة أعظم دليل على صدق الإيمان وأكبر تضحية للإنسان ، وقيل : هم أهل بدر ، وإذا كان السبق في الإيمان والهجرة والجهاد والبذل والنصرة ، كان أفضل السابقين الخلفاء الأربعة على الترتيب ثم باقى العشرة المبشرين بالجنة ، وليس كل سابق أفضل من مسبوق.

وأما السابقون من الأنصار فهم الذين أسلموا قبل أن يكون للمسلمين قوة مرهوبة الجانب ، وقيل : هم أصحاب البيعة الأولى وكانوا سبعة أو أصحاب البيعة الثانية وكانوا سبعين رجلا وامرأتين ، أما بعد أن صار للمسلمين دولة فقد ظهر النفاق في المدينة وما حولها ، وأما الذين اتبعوهم بإحسان في الهجرة والنصرة وصدق الإيمان ، فهم الذين

٨

دخلوا في الدين بعد ذلك واتبعوا السابقين بإحسان ، وقلدوهم في الأفعال والأقوال وحسن الاقتداء.

وهذا الوصف للتابعين (اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ) يتضمن الشهادة من الله ـ سبحانه وتعالى ـ للسابقين بكمال الإحسان ، وعلو الإيمان ، فهم المتبوعون ، وفي المثل العليا والإحسان هم المقلدون ، أما من اتبعوهم في ظاهر الإسلام فقط أو في بعض الأعمال فالآيات الآتية بينت حالهم.

هؤلاء السابقون من المهاجرين والأنصار والتابعين ـ رضى الله عنهم ـ وقبل طاعتهم وتجاوز عن سيئاتهم وأعز بهم الإسلام كل ذلك بسبب أعمالهم.

ورضوا عنه لما وفقهم إلى الخير ، وهداهم إلى الحق وأفاض عليهم من النعم الدينية والدنيوية ، وأعد لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا : وذلك هو الفوز العظيم.

وهنا سؤال : ما المراد بالتابعين؟ هل هم كما فسرنا أولا وهم الصحابة الذين دخلوا في الإسلام بعد صلح الحديبية وفتح مكة؟ أم هم التابعون الذين اجتمعوا بالصحابة ولم يشرفوا بصحبة النبي؟ أم هم الداخلون في الدين المهاجرون ما نهى الله عنه ، الناصرون لدين الله باللسان والسنان ، والقوة والبيان إلى يوم القيامة الله أعلم بكتابه وإن كان الظاهر من قوله اتبعوهم أنهم الصحابة المتأخرون في الإيمان ، وأما التابعون المجتمعون بالصحابة كالفقهاء السبعة (سعيد بن المسيب ، والقاسم بن محمد ، وعروة بن الزبير .. إلخ). فهذا اصطلاح خاص بعد نزول القرآن.

بعد أن بين الله ـ سبحانه ـ مكانة المؤمنين بين مردة المنافقين من أهل البدو والحضر : أن بعض الأعراب الذين حولكم أيها المؤمنون منافقون. قال بعضهم : هم من قبيلة مزينة ، وجهينة ، وأشجع ، وأسلم ، وغفار كانت منازل هؤلاء حول المدينة والمراد أن بعضهم منافقون ، وبعضهم مؤمنون صادقون يؤمنون بالله واليوم الآخر ، ويتخذون ما ينفقون قربات وزلفى إلى الله ، والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا لهم بخير وبركة.

وإنه لمن أهل المدينة نفسها منافقون من الأوس والخزرج واليهود غير من تعرفهم ـ أيها الرسول ـ بما صدر عنهم من أقوال وأفعال منافية للإيمان.

٩

هؤلاء مردوا على النفاق ومرنوا عليه مرونا جعلهم متأصلين فيه ، قد بلغوا غاية إتقانه ، بحيث لا يعرفهم أحد ، فهم حريصون جدا لا يصدر منهم ما يتنافى مع ظاهر إيمانهم ، ولذلك لا تعرفهم أنت مع بعد نظرك ، ودقة فراستك ، التي تنظر فيها بنور الله وذلك لأنهم أجادوا النفاق ، وتجنبوا الشبهات ، وانظر إلى نفى العلم عن ذواتهم لا عن نفاقهم ، والله يعلمهم لأنه يعلم السر وأخفى ، ولو شاء لاطلعك عليهم كما أطلعك على غيرهم (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ* وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) [سورة محمد الآيتان ٢٩ و ٣٠].

هؤلاء سنعذبهم مرتين : مرة في الدنيا بفضيحتهم وهتك سترهم وتكليفهم بتكاليف الإسلام من جهاد وزكاة ، والحال أن أعمالهم كسراب بقيعة لا تنفعهم بشيء .. ومرة في الآخرة بالعذاب الشديد والجزاء المناسب لجرم عملهم وسوء صنيعهم ثم يردون إلى عذاب عظيم.

نعود إلى القول المختار من هذه الآيات نزلت في بيان حال الناس أيام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمنهم السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم من المهاجرين والأنصار ، ومنهم التابعون لهم بإحسان الذين جاءوا من بعدهم وهاجروا وجاهدوا معهم فأولئك منهم. لهم جميعا الرضوان وذلك هو الفوز العظيم.

ومن الناس المنافقون من سكان البدو والحضر خصوصا المدينة وهؤلاء تأصل فيهم النفاق ، عليهم غضب الله وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا.

ومن الناس قوم تخلفوا ولم ينافقوا فليسوا من السابقين ولا من التابعين ولا من المنافقين هؤلاء نزل فيهم قوله تعالى : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) الآية .. والمعنى : وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة أناس آخرون اعترفوا بذنوبهم ولم ينكروها قد خلطوا عملا صالحا وهو الاعتراف بالذنب والتوبة والرجوع إلى الله ، والجهاد مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل ذلك ، وآخر سيئا وهو التخلف بغير عذر ، فلم يكونوا من المؤمنين الخلص ، ولا من المنافقين الفاسقين ، روى أنهم ربطوا أنفسهم في سوارى المسجد وأقسموا لا يحلنهم إلا رسول الله. فلما قدم رسول الله وعلم بخبرهم أقسم لا يحلنهم حتى ينزل

١٠

فيهم قرآن وهم أبو لبابة وأصحابه ، هؤلاء عسى الله أن يتوب عليهم ويقبل عذرهم ، والله يقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئات إنه هو الغفور الرحيم.

ولعلك تقول : ما فائدة هذا التقسيم؟ قلت : فائدته أنك تعرف أن من يخلط العمل الصالح والآخر الفاسد يجب ألا يقنط من رحمة الله بل عليه بالإسراع إلى التوبة وهذا الصنف كثير جدا وهو في كل زمان ، وأن للتابعين لنا أن يتوسعوا في مدلوله حتى يشمل كل عصر فما دمنا نتبع الصحابة في الجهاد والنصرة ونسير على منوالهم ونهتدي بعملهم فنحن داخلون معهم في هذا الجزاء الواسع والفضل العميم.

وأما السابقون السابقون فهذا مقام لا يدانيه مقام ولقد صدق الرسول «أصحابى كالنّجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم لو أنفق أحدكم مثّل أحد ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه» صدق رسول الله ..

الصدقة والتوبة والعمل

(خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٠٤) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥))

المفردات :

(سَكَنٌ) السكن ما تسكن إليه النفوس وتطمئن من أهل ومال ومتاع ، والمراد :

١١

اطمئنانهم بقبول توبتهم ، ورضا الله عنهم (الْغَيْبِ) ما غاب والشهادة : ما حضر (صَدَقَةً) قال القرطبي : مأخوذة من الصدق إذ هي دليل على صحة إيمانه وصدق باطنه مع ظاهره ، وأنه ليس من المنافقين الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات.

روى عن ابن عباس قال : لما أطلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا لبابة وأصحابه انطلق أبو لبابة وأصحابه بأموالهم فأتوا بها رسول الله فقالوا : خذ من أموالنا فتصدق بها عنا ، وصل علينا أى : استغفر لنا وطهرنا فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا آخذ منها شيئا حتّى أومر» فأنزل الله : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ) الآية.

المعنى :

يا محمد ـ وكذا كل إمام للمسلمين وحاكم ـ خذ من أموال هؤلاء الذين اعترفوا بذنوبهم وخلطوا عملا صالحا وآخر سيئا وربطوا أنفسهم في سارية المسجد وحلفوا لا يفكهم إلا رسول الله ، ولما أطلقهم أحضروا أموالهم للنبي قائلين : هذه أموالنا التي منعتنا عن الجهاد معك فتصرف فيها بما شئت ، وليس المراد من أموال هؤلاء فقط ، بل من أموال المسلمين جميعا ، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

خذ من أموالهم صدقة تطهرهم من دنس البخل ، وشح النفس ولؤم الطبع ، وقسوة القلب ، وتزكيهم بها حتى تنمو نفوسهم على حب الخير ، وتزرع في قلوبهم شجر العطف على الفقير والضعيف والمحتاج ، بهذا تنمو النفس وترتفع.

وصل عليهم ، فالصلاة منك دعاء لهم بالخير ، وسكن لنفوسهم من الاضطراب عقب الذنب الذي وقع بالمخالفة ، والمعنى : ادع أيها الرسول للمتصدقين بالخير والبركات واستغفر الله لهم فدعاؤك واستغفارك سكن لهم واطمئنان لقلوبهم ، وارتياح إلى قبول توبتهم والله سميع لكل قول ومجاز عليه ، عليم بكل قصد ونية ، وبما فيه الخير والمصلحة.

الصدقة مطهرة للنفس ، مرضاة للرب ، وحصن للمال ، وتقوية للسناد ، والتوبة تغسل الذنب وتمحوه ، وتجدد العهد وتقويه ولذلك جاءت بعد الأمر بأخذ الصدقة لبيان السبب في الجملة.

١٢

ألم يعلم المؤمنون جميعا أو التائبون فقط أو من كان معهم ولم يتب أن السر في هذا كله هو التوبة ، وأن الله يقبل التوبة متجاوزا عن ذنوب عباده ، ويأخذ الصدقات ويثيب عليها ويضاعف أجرها ، وقد ورد في الحديث : «إنّ الله يربى الصّدقة كما يربى أحدكم فلوّه» أى : ولد فرسه وهذا تمثيل لزيادة الأجر ، وأن الله هو التواب الرحيم.

وليس هذا الإيمان بالتمني ، ولا التوبة باللسان فقط بل بما وقر في القلب وصدقه العمل ، فالعمل هو المهم ، وهو المعول عليه.

وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله وسيجازيكم عليه جزاء الغنى القادر الكريم الواسع الفضل.

وسيرى العمل رسوله والمؤمنون فيؤدون لكم حقوقكم في الدنيا ، وأما في الآخرة فستردون إلى عالم الغيب الذي يعلم السر وأخفى ، ويعلم الشهادة وما حضر ، وسيجازيكم على أعمالكم كلها إن خيرا فخير وإن شرا فشر.

صنف آخر من المتخلفين

(وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠٦))

المفردات :

(مُرْجَوْنَ) مأخوذ من أرجيته إذا أخرته أو من أرجأته بمعنى أخرته ومنه قيل : المرجئة. لأنهم أخروا العمل ..

المعنى :

من تخلف عن غزوة تبوك : منهم المنافقون الذين اعتذروا بغير عذر ، والذين لم

١٣

يعتذروا ، ومنهم المؤمنون الذين اعترفوا بذنوبهم وتابوا ، وقدموا أموالهم كفارة عما فرط منهم فتاب الله عليهم وعفا عنهم ، ومنهم فريق حاروا في أمرهم وشق عليهم تخلفهم بغير عذر فأرجئوا توبتهم ، ولم يفعلوا ما فعل أبو لبابة وأصحابه من ربط أنفسهم بسواري المسجد فأرجأ الله توبتهم حتى نزلت آيتا التوبة فيهم (١١٧ ـ ١١٨) من هذه السورة.

وآخرون من المتخلفين مرجون لأمر الله ، ومؤخرون لحكمه ، فحالهم غامضة عند الناس ، لا يدرون ما ينزل في شأنهم؟ هل يخلصون في التوبة فيتوب الله عليهم ويقبل منهم توبتهم؟ أم لا؟ فيعذبهم ويحكم عليهم كما حكم على المنافقين ، والترديد إنما هو بالنسبة للناس لا بالنسبة إلى الله. ولعل الحكمة في ذلك أن بقي الرسول والمؤمنون على حالهم فلا يكلمونهم ولا يخالطونهم ، تربية لهم وتهذيبا لنفوسهم ، وبيانا لجرم التخلف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإيثار الراحة والدعة عن الجهاد ونصر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وهؤلاء المرجون لأمر الله هم الثلاثة : كعب بن مالك ، وهلال بن أمية ، ومرارة ابن الربيع.

والله عليم بهم وبعباده كلهم وما به تصلح نفوسهم ، وحكيم في تشريعه ، وقد كان إرجاء قبول توبتهم لحكمة الله يعلمها!!.

مسجد الضرار ولم بنى؟ وموقف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم منه

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٠٧) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا

١٤

وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١١٠))

المفردات :

(ضِراراً) الضرر : الذي لك به منفعة وعلى غيرك مضرة ، والضرار : الذي ليس لك فيه منفعة وعلى غيرك المضرة ، وعلى هذا خرج الحديث : «لا ضرر ولا ضرار». وقيل : هما بمعنى واحد والجمع بينهما للتأكيد (وَإِرْصاداً) ترقبا وانتظارا (أُسِّسَ) التأسيس وضع الأساس الأول الذي يقوم عليه البناء (شَفا) الشفا الحرف والحد (جُرُفٍ) جانب الوادي ونحوه الذي يحفر أصله بما يجرفه السيل منه فيجتاح أسفله فيصير مائلا للسقوط (هارٍ) الضعيف المتصدع المتداعي للسقوط (رِيبَةً) شكا وحيرة.

سبب النزول :

هاجر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة ونزل قباء على كلثوم بن الهدم شيخ بنى عمرو بن عوف وهم بطن من الأوس ، وقباء هذه قرية على ميلين جنوب المدينة ، وأقام بها رسول الله الاثنين ، والثلاثاء ، والأربعاء ، والخميس ، وأسس مسجد قباء : (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ).

وقد اتخذ بنو عمرو بن عوف مسجد قباء ، وبعثوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأتيهم فأتاهم وصلّى فيه ، فحسدهم إخوانهم بنو غنم بن عوف وقالوا : نبنى مسجدا ونبعث إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأتينا فيصلى لنا فيه كما صلّى في مسجد إخواننا ، ويصلى فيه أبو عامر الراهب

١٥

إذا قدم من الشام (وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ) فأتوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا : يا رسول الله ، قد بنينا مسجدا لذي الحاجة ، والعلة ، والليلة المطيرة ، ونحب أن تصلى لنا فيه وتدعو بالبركة (إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى) فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّى على سفر وحال شغل فلو قدمنا لأتيناكم وصلّينا لكم فيه» : فلما انصرف من تبوك وهم بالذهاب إلى مسجد الضرار نزلت هذه الآيات. فدعا النبي مالك بن الدخشم وغيره فقال : «انطلقوا إلى هذا المسجد الظّالم أهله فاهدموه وأحرقوه». وقد تم ذلك ، والذين بنوا مسجد الضرار كانوا اثنى عشر منافقا من الأوس والخزرج.

المعنى :

والذين اتخذوا مسجدا لأغراض ستأتى جزاؤهم معروف ، إذ كان غرضهم بالبناء ما سجله القرآن عليهم وهو :

(أ) أنهم اتخذوه محاولين إيقاع الضرر بالمؤمنين (الذين بنى لهم رسول الله مسجد قباء قبل دخوله المدينة) وهؤلاء بنوا مسجدهم بجوارهم لإيقاع الضرر بهم والفتنة لهم.

(ب) واتخذوه للكفر وتقويته والاجتماع لتدبير ما يكرهه الله ورسوله. فكان عش الفتنة ، وبيت النفاق ، ويقول المنافق : صليت فيه وما صلى ، والكفر يطلق على الاعتقاد والعمل المنافيين للإيمان.

(ج) وبنوه للتفريق كذلك بين المؤمنين فإنهم كانوا يصلون في مسجد واحد ، فأصبحوا متفرقين في مكانين.

(د) واتخذوه إرصادا وانتظارا لقدوم من حارب الله ورسوله حتى إذا قدم وجد المكان مهيأ ووجد أصحابه مستعدين لمحاربة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقد اتفق المفسرون على أن الذي أغراهم ببناء هذا المسجد هو أبو عامر الراهب من الخزرج ، وحكموا أنه كان رجلا تنصر في الجاهلية وعلم علم أهل الكتاب وكانت له مكانة في قومه ـ فلما قدم النبي المدينة ، واجتمع المسلمون حوله وأصبح للإسلام كلمة ـ أكل الحسد قلب الرجل ، وأعلن الحرب على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأقسم ليحاربنه مع كل من يحاربه ، وقد حاربه في أحد وحنين ، ولما رأى نور الإسلام يرتفع ارتفاع

١٦

الشمس في الضحى فر إلى الشام وأرسل للمنافقين من قومه أن استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح ، وابنوا لي مسجدا فإنى سآتى لكل بجند قيصر لمحاربة محمد وأصحابه ، ولقد صدق المنافقون قوله وبنوا المسجد للضرر وللكفر وللتفريق بين المؤمنين ، ولانتظار أبى عامر الراهب ليحارب الله ورسوله.

وليقسمن بعد ذلك كله : ما أرادوا إلا الحسنى وأنهم بنوه للضرورة والحاجة التي تلم بالضعفاء ، وأنهم بنوه رفقا بالمسلمين وتيسيرا لصلاة الجماعة على الضعفاء والمعذورين الذين يحبسهم المطر في الليلة المطيرة ، كذبوا!! والله يشهد إنهم لكاذبون في ادعائهم ، منافقون في أعمالهم!!

أما أنت أيها الرسول فلا تقم فيه أبدا على معنى لا تصل فيه أبدا ، والنهى عن القيام يفسر بالنهى عن الصلاة كما روى عن ابن عباس ، وانظر إلى التقييد بقوله أبدا وهو ظرف يستغرق الزمن المستقبل كله ، ونهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشمل المؤمنين كذلك.

(لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى) أى : والله لمسجد كان أساسه والغرض من بنائه من أول يوم بنى هو تقوى الله بإخلاص العبادة فيه ، وجمع المؤمنين على محبة رسول الله والعمل على وحدة الإسلام ، والتعاون على البر والتقوى لمسجد هذا وصفه أحق بالقيام فيه من غيره خصوصا مسجد هؤلاء المنافقين الذين بنوه لغرض حقير كشف الله سترهم فيه ، وبين مقصودهم منه.

وهل هذا المسجد هو مسجد قباء أو مسجد الرسول في المدينة أو الكلام يشمل الاثنين؟ والله أعلم وإن كان الظاهر أن الكلام يشمل الاثنين لوجود الوصف فيهما ، هذا المسجد فيه رجال يعمرونه بالاعتكاف والصلاة مخلصين لله قانتين ، يحبون أن يتطهروا من دنس المعاصي ، ورجس العبودية ، وقذارة النجاسة فالمتطهرون طهارة حسية ومعنوية.

والله يحب المتطهرين المبالغين في الطهارة القلبية والروحية ، والجسدية والمعنوية وهؤلاء هم الكاملون في الإنسانية ، أما محبة الله لهم فهذا شيء هو أعلم به إلا أنا نعرف من الحديث أن الله يحب من عباده الصالحين الموفقين إلى الخير «لا يزال عبدى يتقرّب إلىّ بالنّوافل حتّى أحبّه فإذا أحببته كنت سمعه الّذى يسمع به وبصره الّذى يبصر به» إلى أخر الحديث الشريف.

١٧

وقد ضرب الله المثل للمنافقين وأعمالهم المنهارة ، وللمؤمنين وأعمالهم المؤسسة على الأساس المكين بطريق الإيجاز المحكم فقال ما معناه :

أفمن كان مؤمنا صادقا لا يقصد بعمله إلا وجه الله ، ويتقى الله في كل عمل ، كمن هو منافق مرتاب مراء كذاب لا يبغى بعمله إلا الشيطان والهوى : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) (١)؟ فالمنافق يفضحه الله وينال جزاءه السيئ في الدنيا والآخرة ، والمؤمن ينال جزاءه الحسن في الدنيا والآخرة.

أفمن أسس بنيانه على أساس التقوى ، والإيمان والإخلاص ، وهو أساس قوى متين نافع في الدنيا والآخرة ، كمن أسس بنيانه على أساس ضعيف منهار! فالأول مثل المؤمن والثاني مثل للمنافق ، وخلاصة المثلين أن الإيمان الصادق وما يتبعه من العمل المثمر النافع كالبناء المتين المؤسس الذي يقي صاحبه عوادي الزمان.

وأن النفاق وما يستلزم من العمل الفاسد هو الباطل الزاهق وهو كالبناء الذي يبنى على الجرف المنهار لا ينفع صاحبه ولا يقيه سوءا ، بل يضره ضررا بليغا حيث ألهاه عن العمل المثمر النافع.

والله لا يهدى القوم الظالمين لأنفسهم ولغيرهم.

لا يزال بنيانهم الذي بنوه ريبة في قلوبهم ، يملؤها شكا ونفاقا وحسرة وألما وخوفا من الفضيحة وهتك الستر ، فهم دائما في ريبة وشك (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ) (٢).

لا يزال كذلك ولا يزال هدمه سبب شك ونفاق زائد على شكهم ونفاقهم إلا أن تقطع قلوبهم قطعا ، تتفرق أجزاء فحينئذ يسلون عنه ، وأما ما دامت سالمة فهم في ريبة وشك والله عليم بخلقه حكيم في صنعه.

__________________

(١) سورة السجدة آية ١٨.

(٢) سورة التوبة آية ٦٤.

١٨

من هم المؤمنون الكاملون؟

(إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١) التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٢))

روى القرطبي وغيره من المفسرين أن هذه الآية نزلت في البيعة الثانية ـ بيعة العقبة الكبرى ـ وكان فيها الأنصار نيفا وسبعين ، وذلك أنهم اجتمعوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند العقبة فقال عبد الله بن رواحة للنبي : اشترط لربك ولنفسك ما شئت ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم ، قالوا : فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال : «الجنّة. قالوا : ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل» فنزلت الآية (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ).

وهذه الآية وأمثالها تمثيل ، حيث عبر عن إثابة الله المؤمنين الباذلين أنفسهم وأموالهم في سبيله بأن لهم الجنة : عبر عن ذلك بالشراء والمعاوضة وهذا تفضل منه وكرم ، وترغيبا في الجهاد ببيان فضله إثر بيان حال المتخلفين عنه وهم المنافقون.

١٩

المعنى :

إن الله اشترى من المؤمنين أنفسا هو خلقها وأموالا هو رزقها بأن لهم الجنة الثابتة لهم الخاصة بهم ، إنه بيع الله مربح للمؤمنين ، وكأن سائلا سأل وقال : كيف يبيعون أنفسهم وأموالهم بالجنة؟ فقيل : يقاتلون في سبيل الله باذلين النفس والنفيس من المال وغيره فيكون منهم أحد أمرين ، إما قتل للأعداء ، وإما استشهاد في سبيل الله فلا فرق بين القاتل والمقتول ما دام القتال لله وحده.

وعدهم ربهم بذلك وعدا حقا مؤكدا أوجبه على نفسه ، وجعله حقا ثابتا لهم في التوراة والإنجيل والقرآن ، وليس لك أن تقول أين هذا في التوراة والإنجيل؟ بعد ما ثبت أن الموجود منها سوف ومبدل ، وأنهم نسوا حظا منه ، وأوتوا نصيبا منه كما في القرآن. راجع سورة المائدة آية : ١٣ ، ١٤.

ومن أوفى بعهده من الله؟ ومن أصدق قيلا منه ، وهو القادر على كل شيء الحكيم الخبير بعباده.

وإذا كان كذلك فاستبشروا وافرحوا غاية الفرح بما فزتم به من الجنة مثوبة من الله وفضلا على بيعكم أنفسكم وأموالكم لله ، وذلك هو الفوز العظيم الذي لا فوز أعظم منه.

والمؤمنون الباذلون هم التائبون توبة خالصة كريمة صادقة من كل ذنب جل أو صغر ، العابدون الله ربهم المخلصون له في جميع عبادتهم ومعاملتهم لا يخشون إلا هو ، ولا يرجون إلا هو ، ولا يستعينون إلا به (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [سورة الفاتحة آية ٥].

الحامدون الله ربهم في السراء والضراء إذ كل ما يصيب المسلم فهو بقضاء الله وقدره (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ) (١) وهذا لا يمنع الأخذ بالأسباب ، السائحون في الأرض يجوبونها لغرض شريف ومعنى كريم كالجهاد في سبيل الله أو طلب العلم ، أو التجارة أو الكسب الحلال ، أو لاكتشاف ما في الملكوت من معاني عظمة الله وقدرته والوقوف على أحوال الناس للعبرة والعظة ، وقيل المراد بالسياحة : الصوم لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «سياحة أمّتى الصّوم».

__________________

(١) سورة الحديد آية ٢٣.

٢٠