التفسير الواضح

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٨

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (١٣)

المفردات :

(أُجُورَهُنَ) : مهورهن. (بِعِصَمِ) : جمع عصمة ، والمراد هنا عقد النكاح.

(فَعاقَبْتُمْ) : من العقبة ، وهي النبوة ، والمراد : أصبتموهم في القتال حتى غنمتم.

(وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَ) المراد بذلك : الوأد. (بِبُهْتانٍ) المراد بذلك الولد.

(يَفْتَرِينَهُ) : يختلقن نسبته إلى الزوج.

لما أمر الله المسلمين بترك موالاة المشركين اقتضى ذلك مهاجرة المسلمين من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام خوفا من موالاة المشركين ، وكان التناكح من أقوى أسباب الموالاة ، فبين الله حكم المهاجرات بهذه الآية.

وكان من أسباب النزول ما روى عن ابن عباس أنه قال : جرى الصلح بين المسلمين ومشركي قريش عام الحديبية ، وكان من شروطه : أنه من أتى من أهل مكة رد إليهم ومن أتى من المسلمين لم يرد إليهم ، فجاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية بعد الفراغ من كتابة الصلح مباشرة إلى النبي ، وأقبل زوجها المشرك يطلبها ـ صيفي بن الراهب ـ فقال : يا محمد. اردد على امرأتى فإنك شرطت ذلك! وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

٦٦١

المعنى :

يا أيها الذين آمنوا : إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات من دار الشرك إلى دار الإسلام ، فامتحنوهن بما يغلب على ظنكم أنهن صادقات في إيمانهن ، ولم يأتين حبا في الانتقال من دار إلى دار أو بغضا في زوج ، بل كان الدافع لهن هو حب الله ورسوله ، واعلموا أن الله أعلم بإيمانهن حقيقة ، فلا سبيل لكم إلى ما تطمئن به قلوبكم ، من الإحاطة بحقيقة إيمانهن ، ولكن هذا ما يمكن فعله ؛ فإن علمتم فيهن صدق الإيمان فلا ترجعوهن إلى الكفار ـ وهذا تقييد للشرط المطلق في عقد الصلح ـ بل أبقوهن معكم ، وقد فرق الشارع الحكيم هنا بين الرجل والمرأة ؛ فإن الرجل قوى يمكنه أن يستقل ويترك دار الكفر والمرأة لا تقوى على الإغراء فيخشى معها الفتنة ... لا هن (١) حل لهم حالا ، ولا أزواجهم الكفار يحلون لهن في المستقبل بأى شكل ما داموا مشركين ، وهن مؤمنات ؛ ويلزم على هذا أن تؤتوا الأزواج ما أنفقوا ، محل ذلك في الأزواج الذين بيننا وبينهم عهد أما الحربيون فلا يلزمنا شيء لهم ، على أن هذا الأمر للندب ، وبشرط أن يطلبه الزوج وإلا فلا يجب شيء.

وهؤلاء المهاجرون لا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن مهورهن ، وما حكم المرأة التي يتركها زوجها في دار الشرك مشركة وهو مسلم؟ الحكم أنه إذا أسلم الزوج وكان إسلامه حقيقيّا فيجب فسخ عقد النكاح السابق بينه وبين المشركة الوثنية أما الكتابية فلا فسخ لأنه يجوز العقد عليها ابتداء ، ومحل قطع العلاقة الزوجية بين المسلم والمشركة مشروط بألا يجمعهما الإسلام في العدة.

(وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا) قال المفسرون : كان من ذهب من المسلمات مرتدات إلى الكفار من أهل العهد يقال للكفار : هاتوا مهرها ، ويقال للمسلمين إذا جاءت إحدى الكافرات مسلمة مهاجرة : ردوا إلى الكفار مهرها ، وكان ذلك نصفة وعدلا بين الناس ، ثم نسخ هذا الحكم ، وذلك حكم الله يحكم بينكم بالعدل ، والله عليم حكيم.

__________________

(١) هذه الجملة بمنزل التعليل للجملة السابقة.

٦٦٢

وإن فاتكم شيء من أزواجكم وذهبن إلى الكفار ثم لم يعطوكم شيئا من المهر فعاقبتم ، وأتت العاقبة لكم فغنمتم شيئا منهم ، فآتوا الذين ذهبت أزواجهم ، ولم يأخذوا مهورهن مثل ما أنفقوا لفواته عليهم من جهة الكفار ، واتقوا الله في كل شيء ، اتقوا فأنتم به مؤمنون ، ومن الواجب على المؤمنين تقوى الله في السر والعلانية وقد فعل المؤمنون ما أمروا به من الإيتاء للكفار والمؤمنين ، وقد رفع هذا الحكم العام ، وأصبح الحكم شخصيّا على الإمام والمسلمين عامة.

يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على عدم الإشراك بالله شيئا وعدم السرقة ، والزنا ، وقتل الأولاد خوف الفقر أو العار كما كان يفعل في الجاهلية من وأد البنات أحياء ويبايعنك على ألا يأتين بولد يختلقن نسبته للزوج مقدرا وجوده بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف عرف حسنه شرعا وعقلا من طاعة الله ورسوله والإحسان للناس وكل ما أمر به الشرع الشريف.

إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على هذا الأساس فبايعهن ، واستغفر لهن الله عما فرط منهن ، وقد كانت مبايعته الرجال على الإسلام والجهاد ، ومبايعة النساء على ما ذكر في الآية ، وقيل : هما سواء في كل ذلك ، ولعل السر في مبايعة النساء بهذا أن النساء كثيرا ما يرتكبن مثل هذه الأعمال. والثابت أن هذه الآية نزلت في مبايعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في فتح مكة ، وكانت فيهن هند بنت عتبة ، ولها قصة مذكورة في كتب السيرة.

بدئت هذه السورة بالنهى عن موالاة الكفار وخاصة اليهود ، وختمت بمثل ذلك تأكيدا لعدم موالاتهم وتنفيرا للمسلمين عنها.

يا أيها الذين آمنوا : لا تتولوا قوما قد غضب الله عليهم ، ولعنهم ـ وهم اليهود ـ قد يئسوا من الآخرة وثوابها مع أنهم يوقنون بها ، وذلك لعنادهم مع النبي مع علمهم بصدقه ، هؤلاء يئسوا كما يئس الكفار حالة كونهم من أصحاب القبور الذين ماتوا ، يئسوا من الرجوع إليهم والالتقاء بهم في أى وقت.

٦٦٣

سورة الصف

هذه السورة مدنية كلها على الصحيح ، وآياتها أربع عشرة آية ، ونزلت بعد التغابن.

وتشتمل على تنبيه المؤمنين لبعض الواجب عليهم ، وتحذيرهم من أن يكونوا كقوم موسى وعيسى ، مع بيان أن الإسلام هو دين الله ، وأنه غالب على الأديان ، ثم رسمت طريق الهدى الموصل إلى النجاة من العذاب.

توجيهات دينية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (٣) إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (٤) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٥) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا

٦٦٤

جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٦) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٧) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٨) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٩)

المفردات

(لِمَ) أى : لأى شيء؟ (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ) المقت : أشد أنواع البغض من أجل ذنب أو معصية أو دناءة يصنعها الممقوت. (صَفًّا) أى : صافين أنفسهم. (مَرْصُوصٌ) والبناء المرصوص : المتلائم الأجزاء المتضام بنظام وحكمة. (زاغُوا) أى : مالوا عن الحق وانصرفوا عنه. (لِما بَيْنَ يَدَيَ) : لما تقدمني من الكتب كالتوراة والزبور. (أَحْمَدُ) أى : محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ ولعله خصه بالذكر للإشارة إلى أنه أحمد الناس لربه.

روى عن ابن عباس ـ رضى الله عنه ـ أنه قال : قال عبد الله بن رواحة : لو علمنا أحب الأعمال إلى الله لعملناه ، فلما نزل الجهاد كرهوه ، وفي رواية أخرى أن هذه الآية نزلت تعيّر المسلمين بترك الوفاء ، وتلومهم على الفرار يوم أحد.

المعنى :

يا أيها الذين آمنوا بالله وبرسوله : لأى شيء تقولون ما لا تفعلونه من الخير والمعروف؟! ومدار التوبيخ والإنكار في الحقيقة عدم فعلهم ، وإنما وجه إلى قولهم أولا للدلالة على أنهم مؤاخذون على شيئين : الوعد ، وترك العمل «آية المنافق ثلاث : إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان».

٦٦٥

كبر المقت عند الله وفي حسبانه أن تقولوا ما لا تفعلون (١)!! نعم إن قولهم : سنفعل الخير ثم لا يفعلون مقت خالص لا شوب فيه ، ومبغوض عند الله أشد البغض ، ومن هنا كان الخلف في الوعد ، والكذب ، مذمومين شرعا ، ولا يرضى عنهما الله ، أما الذي يرضى عنه الله فها هو ذا (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) نعم إن الله يحبهم ويرضى عنهم لأنهم يقاتلون في سبيله وابتغاء مرضاته ، يقاتلون بنظام ودقة وحكمة صافين أنفسهم مستعدين للقتال على حسب زمانهم ، حالة كونهم كالبنيان المرصوص الذي يحمى بعضه بعضا ، البنيان المحكم الدقيق الذي لا فرجة فيه ولا خلل ، وهذه إشارة إلى إحكام الأمر في القتال والاستعداد له استعدادا مناسبا مع الوحدة والاجتماع التام على الكلمة ، ومقابلة العدو بقلوب ثابتة راسخة رسوخ البنيان الشامخ المحكم.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي؟) وهذا كلام مستأنف مقرر لما قبله من شناعة ترك القتال ، ومخالفة أمر الرسول ، واذكر وقت قول موسى لقومه ـ والمراد ذكر ما حصل في الوقت ـ : يا قوم لأى شيء تؤذونني بمخالفة أمرى ، وتخلفكم عن القتال حين ندبتم لقتال الجبارين ، وقولكم : (إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ) (٢) (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) (٣).

يا قوم : لم تؤذوننى؟ والحال أنكم تعلمون علما أكيدا أنى رسول الله إليكم ، فلما أصروا على الزيغ والانحراف عن الجادة أزاغ الله قلوبهم وصرفها عن الخير لاختيارهم العمى وتركهم الهدى مطلقا ، ولا عجب فهم مالوا عن الحق أولا باختيارهم ، وهذا بلا شك يؤثر فيهم ، فإذا استمروا على ذلك طمس الله على قلوبهم فأمالها عن الحق دائما ، وكيف يهديهم ربهم إلى الصواب؟ والله لا يهدى القوم الفاسقين ، فاحذروا يا أمة محمد أن تكونوا كهؤلاء ، واذكر إذ قال عيسى بن مريم : يا بنى إسرائيل : إنى رسول الله إليكم حالة كوني مبشرا برسول يأتى من بعدي اسمه أحمد ؛ فشريعتى تؤيد

__________________

(١) (كبر) فعل يفيد التعجب كبئس ، وفاعله ضمير ، و (مقتا) تمييز و (أن تقولوا) هو المخصوص بالذم ، ومعنى التعجب : تعظيم الأمر في قلوب السامعين.

(٢) سورة المائدة آية ٢٢.

(٣) سورة المائدة آية ٢٤.

٦٦٦

الرسل السابقين واللاحقين ، وهذا الاسم الجليل ـ أحمد ـ من أسماء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويقول حسان بن ثابت :

صلى الإله ومن يحف بعرشه

والطيبون على المبارك أحمد

وبشارته ـ عليه‌السلام ـ بالنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما نطق به القرآن ، وهو الصادق في خبره الذي لا يقبل الشك ، فهو الكتاب الوحيد الذي نقل بالتواتر عن صاحبه وقيد كتابة وحفظا قبل لحوق النبي بالرفيق الأعلى ، وأما إنكار النصارى لتلك البشارة فأمر لا يعبأ به ، كشأنهم في بقية عقائدهم ، على أن الإنجيل الذي وصل إلينا فيه البشارة وشأنها أن تكون كناية لا صريحة ، ففي إنجيل يوحنا طبع (نيويورك بإمريكا) الإصحاح السادس عشر آية (٧) : لكن أقول لكم الحق إنه لكم أن أنطلق ؛ لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزى ولكن إن ذهبت أرسله إليكم. (٨) ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطيئة وعلى بر وعلى دينونة. (٩) أما على الخطيئة فلأنهم لا يؤمنون بي. (١٠) وأما على بر فلأنى ذاهب إلى أبى ولا تروني أيضا. (١١) وأما على دينونة فلأن رئيس هذا العالم قد دين (١٢) إن لي أمورا كثيرة أيضا لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن (١٣) وأما متى جاء ذلك ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية. (١٤) ذاك يمجدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم.

هذه بشارة بالنبي المرسل الذي لا ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحى يوحى ، يجيء والعالم يكفر بعيسى إذ يعتقد فيه الألوهية أو أنه ابن الله مع أنه ابن مريم ، يجيء ليرشد الخلق إلى جميع الحق ، فمن غير محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء بهذا؟ على أننا لا ننسى أن هذا ما سلم من التحريف والتغيير والتبديل ، والنصارى يؤولون في مثل هذا تأويلا غير مستساغ ، ولفظ (البارقليط) ورد كثيرا في كتبهم ، قال يسوع المسيح : «إن البارقليط روح الحق الذي يرسله أبى ـ إلهى ـ يعلمكم كل شيء» والبارقليط لفظ يفيد معناه الحمد ، ولفظ (المعزى) السابق كناية عن خاتم الأنبياء ، ولذا جاءت البشارة في إنجيل برنابا صريحة بلفظ (محمد) والظاهر أنها مترجمة عن البارقليط والمعزى.

فلما جاء عيسى ـ عليه‌السلام ـ بالمعجزات الظاهرة قالوا : هذا سحر مبين ، فانظر إلى الناس جميعا وقد كذبوا برسلهم مع ظهور الآيات والمعجزات الدالة على صدق

٦٦٧

الرسل ، وتلك سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا ، وكانت عاقبة أمرهم خسرا ؛ فاحذروا يا أمة محمد مثل هذه العاقبة!

ثم تطرق الكلام إلى المكذبين بمحمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ فقال الله ما معناه : أى الناس أشد ظلما ممن يدعى إلى الإسلام الذي هو دين الحق والعدل والكرامة الموصل إلى سعادة الدنيا والآخرة؟ فتكون إجابته على تلك الدعوة الافتراء على الله كذبا وزورا بتكذيب رسوله وتسمية آياته سحرا ، نعم لا أحد أظلم من هذا ، والله لا يهدى القوم الظالمين ، يريدون بهذا التكذيب أن يطفئوا نور الله (١) ، بأفواههم وأنى لهم ذلك؟ والله متم نوره ولو كره الكافرون.

هو الله الذي أرسل رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمصدر الهداية والنور : بالقرآن الذي يدعو إلى الهدى والفلاح ، أرسله بدين الحق والعزة والكرامة ، بالشريعة السهلة الصالحة لكل زمان ومكان ، ليظهره على الدين كله وليعليه على جميع الأديان ، ولو كره المشركون ذلك ، لأنه هو الدين الوحيد الذي يدعو إلى التوحيد الخالص البريء من شوائب الشرك ، وقد أنجز الله وعده وأظهر دينه بالحجة والبرهان على جميع الأديان ... إلخ.

التجارة الرابحة

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا

__________________

١ ـ هذا تمثيل لحالهم وقد اجتهدوا في إبطال الحق بحالة من ينفخ الشمس بفيه ليطفئها وهل يستطيع ذلك؟

٦٦٨

أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (١٤)

المفردات :

(تِجارَةٍ) التجارة : تداول البيع والشراء لأجل المكسب. (طَيِّبَةً) : جيدة حسنة. (أَنْصارَ اللهِ) المراد : أنصار دينه ورسوله. (لِلْحَوارِيِّينَ) : وهم أصحاب عيسى ـ عليه‌السلام ـ وأصفياؤه. (طائِفَةٌ) : جماعة. (ظاهِرِينَ) : غالبين.

سبب نزول هذه الآية قول المؤمنين لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو نعلم أى الأعمال أحب إلى الله لعملنا به! وقول عثمان بن مظعون : وددت يا نبي الله أن أعلم أى التجارات أحب إلى الله فأتجر فيها. فنزلت الآية.

المعنى :

يا أيها الذين آمنوا : هل أدلكم على تجارة عظيمة الشأن كثيرة الربح؟ ربحها عشرة أمثال ، وقد تزيد إلى سبعمائة مثل ، والله يضاعف بعد ذلك لمن يشاء وتلك تجارة رابحة ، وأى ربح أكثر من هذا؟ (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ..) [سورة التوبة آية ١١١].

وكأنه قيل : ما هذه التجارة؟ دلنا عليها ، فقيل : تؤمنون بالله ورسوله ، وتجاهدون في سبيل الله وابتغاء مرضاته بأموالكم وأنفسكم (١) والمعنى أن المؤمنين يداومون على ذلك من باب قوله تعالى : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) [سورة هود آية ١١٢].

__________________

(١) و (تؤمنون) فعل مضارع بمعنى الأمر ، أى : آمنوا أو جاهدوا يغفر لكم ، والتعبير به للإيذان بأنهم امتثلوا والله أخبر عنهم ، وقيل : إن المضارع على حقيقته وهناك شرط مقدر ، جوابه قوله : «يغفر لكم».

٦٦٩

ذلكم الإيمان والجهاد خير لكم من كل شيء إن كنتم تعلمون أنه خير فهو خير ، إن تؤمنوا وتجاهدوا يغفر لكم ذنوبكم ، ويسترها أو يباعد بينكم وبينها ، ويدخلكم جنات عالية ، تجرى من تحتها الأنهار ، ويدخلكم مساكن طيبة جيدة حسنة لا عيب فيها ، ولا خوف عليكم فيها ولا أنتم تحزنون ، وهي في جنات عدن لا زوال فيها ، ذلك هو الفوز العظيم ، نعم هو الفوز العظيم ، والربح الكثير ، والفضل العميم.

ولكم إلى جانب ما ذكر نعمة أخرى جليلة أنتم تحبونها هي نصر من الله على الأعداء وفتح قريب للأقطار والأمصار ، وانظر ـ وفقك الله ـ إلى عاقبة الإيمان الصحيح والجهاد في سبيل الله.

يا أيها الذين آمنوا ـ والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأمته ـ : آمنوا وجاهدوا يكن لكم الثواب الجزيل ، وبشرهم يا محمد بذلك ، فأنت الصادق المصدق.

يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله وأعوانا لرسول الله ، كما كان الحواريون أنصارا لعيسى حين طلب منهم ذلك ، وقال لهم : من أنصارى متوجها إلى الله؟ قال الحواريون نحن أنصار نبي الله.

ولما لحق عيسى بالرفيق الأعلى آمنت طائفة من بنى إسرائيل ، آمنت بالله الواحد الأحد وبعيسى ابن مريم رسوله إليهم ، وكفرت طائفة أخرى حيث ادعت أنه الإله أو ابنه أو هو ثالث ثلاثة ، وغلب أهل الباطل على أهل الحق ، فلما جاء محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيدنا به الذين آمنوا على عدوهم الكافرين ، فأصبحوا ظاهرين عليهم بالحجة والبرهان.

٦٧٠

سورة الجمعة

مدنية بالإجماع ، وعدد آياتها إحدى عشرة آية.

وقد تكلمت السورة على فضل الله بإرسال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من العرب وتناولت اليهود حيث لم يحافظوا على شريعتهم ، ثم بعد ذلك أتت بحكم تتعلق بالجمعة.

منّ الله على العرب والناس جميعا

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٤)

المفردات :

(الْأُمِّيِّينَ) المراد بهم العرب لأن أكثرهم لا يقرأ ولا يكتب ؛ إذ الأمى منسوب إلى الأم ، فهو على جبلته لا يقرأ ولا يكتب. (يُزَكِّيهِمْ) : يطهرهم.

٦٧١

المعنى :

يسبح لله كل ما في السموات ، وما في الأرض تسبيحا متجددا مستمرا ، لأنه صاحب الملك ، وبيده الأمر والخلق ، وهو القدوس المنزه عن كل نقص المتصف بكل كمال ، العزيز الذي لا يغلبه غالب ، الحكيم في كل شيء.

وأول مظهر من مظاهر فضله ونعمه على خلقه إرسال الرسل وخاصة النبي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاتما للرسل كلهم ، ولا شك أن هذا من مظاهر عزته وحكمته ، هو الحق ـ تبارك وتعالى ـ الذي بعث في العرب رسولا من جنسهم أميا مثلهم ، لا يقرأ ولا يكتب ، ومع ذلك فهو يتلو عليهم الآيات ، ويحملهم على طهارة النفس ويخلق فيهم الضمير الحي ، وهو الذي يعلمهم القرآن ، والحكمة النافعة المأخوذة من حديثه وقوله وفعله ، فهو المثل الأعلى الذي قاد أمته إلى الحياة الصحيحة ، في التشريع والقضاء والسياسة والاقتصاد ، وإن كانوا من قبل لفي (١) جاهلية جهلاء ، وضلالة عمياء ، وأى ضلالة أكبر من ضلالة العرب قبل الإسلام؟

يعلم العرب الكتاب والحكمة ، ويزكيهم من دنس الرجس والشرك وسوء الفعل ، ويعلم آخرين منهم لم يلحقوا بهم وسيلحقون بهم ، هؤلاء هم الذين دخلوا في الإسلام من العرب ومن غيرهم أخيرا بعد الصحابة ، وما أروع كلمة «منهم» أى : من الأمة الإسلامية ، إذ الإسلام لا يقر اختلاف الأجناس والألوان بل كل مسلم من أى جنس ولون فهو عضو في أسرة الإسلام ، وإن بعدت الدار ، وشط المزار.

ذلك الفضل العظيم فضل الله ونعمته يؤتيه من يشاء من عباده ، والله ذو الفضل العظيم ، لا حرج على فضل الله حيث فضل الرسول وقومه وجعلهم متبوعين بعد أن كانوا أوزاعا لا وزن لهم ولا قيمة عند غيرهم من الأمم ، وظل الحال كذلك.

فالعرب لعبوا ويلعبون دورا مهما في العالم إلى الآن.

__________________

(١) هذه هي إن المخففة من الثقيلة بدليل اللام.

٦٧٢

هؤلاء هم اليهود

مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥) قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٧) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨)

المفردات :

(حُمِّلُوا التَّوْراةَ) المراد : كلفوا العمل بها ، وليس هو من الحمل على الظهر بل هو من الحمالة ، أى : الكفالة. (أَسْفاراً) : كتبا كبارا ، وسميت أسفارا لأنها تسفر عن معناها إذا قرئت. (أَوْلِياءُ لِلَّهِ) : أحباؤه. (تَفِرُّونَ مِنْهُ) : تخافون منه.

وهذا مثل ضربه الله لليهود حيث أعطاهم التوراة ، ولم يعملوا بها فكانوا كالحمار الذي يحمل الكتب الكبار ، وفي ذكر هذا المثل هنا تحذير لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أن يكونوا كاليهود يدعون ولا يعملون ويحملون ولا ينتفعون.

المعنى :

شبه الله ـ سبحانه وتعالى ـ اليهود حيث حملوا التوراة وكلفوا بها وعلموا بما فيها وحفظوها ثم لم يعملوا بها ولم ينتفعوا بما فيها ـ بالحمار يحمل كتبا كبارا ، من كتب

٦٧٣

العلم ، فهو يمشى بها ولا يعلم عنها شيئا ، وخص الحمار بالذكر لأنه علم في الجهالة والبلادة ، وهذا مثل ينطبق على من لم يعمل بالقرآن وأحكامه ، ويعرض عنه.

بئس المثل مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله ، والله لا يهدى القوم الظالمين.

وكان اليهود يزعمون أنهم أبناء الله وأحباؤه ، وأن الآخرة لهم دون سواهم ، فنزل في ذلك قل لهم يا محمد : يا أيها الذين هادوا واتبعوا موسى والتوراة إن زعمتم صادقين أنكم أولياء الله ، وأحباؤه من دون الناس ، إن كنتم صادقين في هذا الزعم فتمنوا الموت الذي ينقلكم إلى دار الكرامة فتحظوا بالسعادة التي أعدها لكم ربكم ، ولا يتمنونه أبدا بسبب ما قدمته أيديهم من الكفر والمعاصي وتكذيب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع علمهم بصدقه ووصفه في التوراة ، وفي حديث أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لما نزلت هذه الآية «والّذى نفس محمّد بيده لو تمنّوا الموت ما بقي على ظهرها يهودىّ إلّا مات» وفي هذا إخبار عن الغيب ومعجزة للنبي الكريم.

قل لهم : إن الموت الذي تفرون منه وتخافونه فإنه ملاقيكم حتما (١) إذ كل شيء هالك إلا وجهه ، ثم تردون أيها اليهود إلى عالم الغيب والشهادة الذي لا تخفى عليه منكم خافية ، فينبئكم بما كنتم تعملون ويجازيكم عليه.

بعض أحكام تتعلق بصلاة الجمعة

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ

__________________

١ ـ والفاء التي في خبر إن لتضمن الاسم معنى الشرط باعتبار وصفه بالموصول.

٦٧٤

(١٠) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١)

المفردات :

(نُودِيَ لِلصَّلاةِ) : أذن لها. (يَوْمِ الْجُمُعَةِ) : هو اليوم المعروف من أيام الأسبوع ، وتصلى فيه صلاة الجمعة. (فَاسْعَوْا) : فامضوا إلى ذكر الله بقصد حسن. (وَذَرُوا الْبَيْعَ) : اتركوه. (قُضِيَتِ الصَّلاةُ) : أديت وفرغ منها. (انْفَضُّوا إِلَيْها) : أسرعوا لها.

المعنى :

خاطب الله ـ سبحانه وتعالى ـ المؤمنين خاصة بهذا النداء تشريفا لهم وتكريما ، وليعلموا أن إيمانهم يقتضى الإسراع في إجابة هذا الطلب وتحقيق هذا الأمر ، يا أيها المؤمنون : إذا أذن لصلاة الجمعة في يوم الجمعة فالواجب عليكم أن تسعوا إلى ذكر الله سعيا يتحقق به شهود الصلاة وحضورها والحصول على الثواب كاملا ، والمطلوب هو السعى بالأقدام والعمل مع الإخلاص بقلوب ذاكرة ، ونفوس راغبة في الحضور والمشاهدة بين يدي الله جل جلاله.

اسعوا إلى ذكر الله ، وذروا البيع والشراء وما شابههما.

ومن الذي تجب عليه الجمعة ويجب عليه السعى لها؟ هم الرجال المقيمون الأحرار الذين لا عذر لهم ، وما المراد بهذا النداء؟ هل هذا الأذان الأول أو هو الأذان بين يدي الخطيب؟ الذي كان أيام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يؤذن المؤذن بين يديه ثم يقيم الصلاة ، والأذان الأول حصل أيام عثمان ، وعلى ذلك فالمراد هو الأذان الثاني لا الأول ، ولكن في الواقع أن الاستعداد المعقول في هذه الأيام يقتضى أن نترك البيع ونسعى للصلاة عند سماع الأذان الأول حتى يكمل الاستعداد بهدوء وطمأنينة.

٦٧٥

وقد ورد حديث عن النبي ـ عليه‌السلام ـ : «من ترك الجمعة ثلاث مرّات تهاونا بها طبع الله على قلبه» والجمعة كأى صلاة يلزمها الوضوء والطهارة ، ويسن لها الغسل.

فإذا قضيت الصلاة ، وفرغتم منها فانتشروا في الأرض للتجارة والتصرف في حوائجكم ، وابتغوا من فضل الله ، واذكروا الله كثيرا رجاء أن تكونوا من الفالحين وروى عن بعضهم أنه كان يقول عقب صلاة الجمعة : اللهم إنى أجبت دعوتك وصليت فريضتك ، وانتشرت كما أمرتنى ، فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين.

روى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يخطب قائما يوم الجمعة فجاءت عير من الشام فانفتل الناس إليها حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلا ، فأنزلت هذه الآية : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً).

قل لهم : ما عند الله من الثواب الجزيل والفضل العميم والرزق الواسع ، والبركة التي يعطيها بعض عباده خير من اللهو ومن التجارة التي تسرعون إليها قصدا ، والله وحده خير الرازقين. فاطلبوا منه الرزق ، واستعينوا بطاعته على نيل ما عنده من خيرى الدنيا والآخرة.

٦٧٦

سورة المنافقون

مدنية في قول الجميع ، وهي إحدى عشرة آية ، وقد تعرضت لذكر المنافقين وأعمالهم وصفاتهم ثم ختمت السورة بإرشادات هامة للمؤمنين.

المنافقون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (١) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٣) وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٤) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٥) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٦) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ

٦٧٧

خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (٧) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٩) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١١)

المفردات :

(جاءَكَ الْمُنافِقُونَ). حضروا مجلسك. (نَشْهَدُ) : نحلف ، ولا شك أن الحلف والشهادة كل منهما إثبات لأمر معين. (جُنَّةً) : سترة ووقاية. (فَطُبِعَ) : ختم عليهم بالخاتم. (خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) أى : خشب ممالة إلى الجدار (قاتَلَهُمُ اللهُ) أى : لعنهم وطردهم من رحمته (١) (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (٢)؟ أى : يصرفون عن الحق إلى الباطل والكفر الذي هم فيه. (لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ) : عطفوها وأمالوها إلى غير جهة الأعادى ، فلا تغتر بهم قاتلهم الله ، أى : لعنهم وطردهم من رحمته. والكلام

__________________

(١) فالقتل مستعمل في اللعن والطرد استعارة تبعية لعلاقة المشابهة ، والجامع أن كلا نهاية الشدائد ومنتهى العذاب ، وذكر بعضهم أن «قاتله الله» كلمة ذم وتوبيخ وتستعملها العرب في التعجب من غير قصد إلى طلب اللعن ، والمشهور تعقيبهم بما يدل على التعجب.

(٢) فأنى ظرف متضمن للاستفهام معمول لما بعده.

٦٧٨

دعاء وطلب من ذاته ـ تعالى ـ أن يلعنهم هو ويطردهم ، أو هو تعليم للمؤمنين أن يدعوا على المنافقين بذلك.

وإذا قيل لهم : تعالوا إلى رسول الله يستغفر لكم عما فرط منكم ، أشاحوا برءوسهم وعطفوها كبرا وإعراضا عن هذا الطلب واستهزاء به .. ورأيتهم يصدون جاهدين عن سبيل الله غيرهم ، وهم مستكبرون.

سواء عليهم استغفارك لهم وعدمه (١) فإنهم لن ينتفعوا به ، ولن يؤمنوا لأن الله لن يغفر لهم ، إن الله لا يهدى القوم الفاسقين ، ولا غرابة في وصفهم بالفسق والخروج عن حدود الدين والعرف فهم يقولون لأصحابهم من الأنصار : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينقضوا.

(يَنْفَضُّوا) : يتفرقوا. (الْعِزَّةُ) : الغلبة (لا تُلْهِكُمْ) : لا تشغلكم. (أَجَلُها) الأجل : آخر العمر.

المعنى :

إذا جاءك المنافقون وحضروا مجلسك قالوا بألسنتهم : نشهد إنك لرسول الله (٢) والله يعلم إنك لرسوله حقا (٣) والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ، فالتكذيب من الله لهم ليس لقولهم : إنك لرسول الله ، ولكنه راجع إلى ادعائهم الصدق والموافقة في الشهادة بين اللسان والقلب ، ولا شك أنهم كاذبون في قولهم هذا ، لأنهم لا يؤمنون به بناء على أن الكذب ما خالف الاعتقاد.

__________________

(١) الهمزة في (أستغفرت) للاستفهام في الأصل واستعملت للتسوية مجازا.

(٢) إذا ظرف لقالوا ، والتأكيد بأن واللام واسمية الجملة لتأكيد علمهم بهذا الخبر وشهادتهم ، شهادة يطابق فيها اللسان القلب.

(٣) جملة اعتراضية بين قولهم وتكذيب الله لهم فائدتها دفع وهم أن التكذيب لقولهم في حد ذاته والتأكيد فيه لمزيد الاعتناء حقيقة بشأن الخبر.

٦٧٩

اتخذوا أيمانهم التي تعودوا الحلف بها كذبا ، اتخذوها جنة لهم ووقاية ، فهم كلما ظهر منهم شيء يوجب المؤاخذة حلفوا عليه كاذبين عصمة لأموالهم ودمائهم ـ كما روى البخاري في سبب النزول ـ واتخاذ الأيمان جنة عبارة عن إعدادهم وتهيئتهم لها إلى وقت الحاجة ليحلفوا بها ويتخلصوا من المؤاخذة ، فهم صدوا عن سبيل الله من أراد الدخول في الإسلام ، واستمروا على ذلك ، وقرئ (إيمانهم) والمراد ما كانوا يظهرونه من إسلام ليكون وقاية لهم من القتل أو الأسر ، إنهم ساء ما كانوا يعملون من النفاق وما يتبعه.

ذلك ـ والإشارة إلى أنهم أسوأ الناس عملا أو إلى ما حكى من نفاقهم وكذبهم وأيمانهم ـ بسبب أنهم آمنوا نفاقا وكذبا ، ثم كفروا ، أى : ظهر من أقوالهم وأفعالهم ، فطبع على قلوبهم وختم عليها بالخاتم حتى لا يدخلها نور الحق ، فهم لا يفقهون الحق والطريق السوى.

وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم لقوتها وتناسب أعضائها ، وإن يقولوا تسمع لقولهم لفصاحتهم وذلاقة ألسنتهم وحسن كلامهم في الدنيا ، والخطاب في الآية لكل من يصلح للخطاب أو لسيد المخاطبين صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكانوا يحضرون مجلس الرسول كأنهم خشب مسندة ، شبهوا وهم جالسون مستندون إلى الحائط بالخشب المسندة ، إذ لا روح فيهم يعقل ، ولا بصيرة تبصر الخير ، فهم كما نقول : أصنام أو كراسي.

وهم لفرط هلعهم ، وشدة خوفهم من أن ينزل فيهم قرآن يفضحهم ، ويظهر طويتهم يحسبون كل صيحة واقعة عليهم ، هم العدو الكاملون في العداوة ، إذ لا أخطر من العدو المنافق الذي يضحك لك ، وقلبه يتميز غيظا منك ، فاحذرهم.

روى البخاري عن زيد بن أرقم قال : كنت مع عمى فسمعت عبد الله بن أبى بن سلول يقول : «لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا» وقال : «لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل» فذكرت ذلك لعمى فذكر عمى لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى عبد الله بن أبى وأصحابه فحلفوا ما قالوا وصدقهم رسول الله ، وكذبني ، فأصابنى هم لم يصبني مثله فجلست في بيتي فأنزل الله ـ عزوجل ـ : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ) إلى قوله : (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) إلى قوله : (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) فأرسل إلىّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال : «إن الله صدقك».

٦٨٠