التفسير الواضح

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٨

(لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) (١) إنما خلقنا الإنسان من طين لازب لاصق ، وهناك بعد بين الإنسان ككائن حي وبين التراب أو الطين ، ولا تستبعدوا البعث ولا تنكروه ، بل ـ إضراب انتقالي من أسلوب لأسلوب ـ عجبت أنت يا محمد من صنع الله وقدرته ، وامتلأ قلبك ـ وكذا قلب كل مؤمن ـ خشية من الله وهيبة من جلاله! وهم يسخرون منك ومن تعجبك ومما تريهم من الآيات ، وقيل : المعنى : إنك عجبت يا محمد من إنكارهم للبعث والتوحيد مع ظهور الآيات ناطقة بهذا وهم يسخرون من الآيات ، وإذا ذكروا بآية ووعظوا بها لا يذكرون ، وإذا رأوا آية يستسخرون ، أى : يبالغون في السخرية ، ويقولون : إنه سحر وأمر عجيب خفى علينا سببه ، أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما بالية أنبعث؟! أو آباؤنا الأولون الذين ضاعوا في الأرض وغابت آثارهم فيها أيبعثون كذلك؟! قل لهم يا محمد : نعم ستبعثون أنتم وآباؤكم ، وأنتم صاغرون أذلاء ، وستأتون فرادى كما خلقكم ربكم أول مرة.

إذا كان الأمر كذلك فإنما هي ـ البعثة المفهومة من السياق العام ـ زجرة واحدة ، وهي النفخة الثانية ، فإذا الخلائق كلها مسلمها ومشركها طائعها وعاصيها قيام من مراقدهم أحياء يبصرون كما كانوا في الدنيا يشعرون بكل شيء ، وقالوا : يا ويلنا احضر فهذا أوانك! هذا يوم الدين!! هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون ، وقد كانوا به يكذبون.

من مواقف المشركين يوم القيامة

احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ

__________________

١ ـ سورة غافر آية ٥٧.

٢٠١

بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨)

المفردات :

(احْشُرُوا) : اجمعوا ، والحشر : الجمع (وَأَزْواجَهُمْ) : أشباههم وقرناءهم من عبدة الأصنام والكواكب وغيرها (فَاهْدُوهُمْ) : دلوهم وعرفوهم طريقها (وَقِفُوهُمْ) احبسوهم عند الصراط (لا تَناصَرُونَ) : لا ينصر بعضكم بعضا. (مُسْتَسْلِمُونَ) : منقادون خاضعون (يَتَساءَلُونَ) : يتلاومون ويتخاصمون (عَنِ الْيَمِينِ) : عن الجهة التي نأمنها ونظن أن فيها الخير (سُلْطانٍ) : قوة وحجة (طاغِينَ) : متجاوزين الحدود (فَحَقَّ عَلَيْنا) : فثبت ووجب (فَأَغْوَيْناكُمْ) : فدعوناكم إلى الغي.

المعنى :

أيها الملائكة : احشروا الذين ظلموا أنفسهم بالشرك (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (١) احشروهم وأزواجهم وقرناءهم ومن على شاكلتهم من عبدة الأصنام والأوثان والكواكب وكل من عبد إلها دون الله : احشروهم وما كانوا يعبدونه من دون الله ، فإنهم حطب جهنم ـ وقودها ـ وهم لها واردون ، فكل عابد ومعبود في النار إلا عيسى ابن مريم وعلى بن أبى طالب ، ومن عبد من الصالحين بلا ذنب ، وهذه زيادة في

__________________

١ ـ سورة الفرقان آية ١٣.

٢٠٢

تحسيرهم ، وإيلامهم ، احشروهم فاهدوهم إلى صراط جهنم ، وعرفوهم طريقها ، ووجهوهم إليها ، وفي هذا تهكم بهم ، وقفوهم في الموقف واحبسوهم فيه لما ذا؟ إنهم مسئولون ، ولكن عن أى شيء يسألون؟ لا يسألون عن عقائدهم ، ولا عن أعمالهم فإن ذلك قد حصل ، وإنما يسألون عما يتضمنه قوله : ما لكم لا تناصرون؟! أى مالكم لا ينصر بعضكم بعضا كما كنتم في الدنيا؟! وهذا سؤال للتوبيخ والتهكم بهم.

لا يقدر بعضهم على نصرة أخيه بل هم اليوم مستسلمون ومنقادون للعذاب لا ينازعون أبدا في أى شيء.

وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون عن طريق الخصومة والجدال العنيف ، ولكن كيف يتساءلون؟ فأجيب : قال (١) الأتباع للرؤساء : إنكم أيها المتبوعون كنتم تأتوننا عن اليمين ، واليمين عند العرب اصطلاح خاص ؛ فإنهم يتيامنون بها ويزاولون بها أشرف الأشياء ، وبالشمال يتشاءمون ، ويتناولون بها أرذل الأشياء وأحقرها ، جاء القرآن فجعل اليمين لها كرامتها ، ووعد المحسن باستلام كتابه بيمينه ، والمسيء يستلم كتابه بشماله ، وكان النبي يحب التيامن ، ومن هنا استعيرت اليمين ، أى : استعملت في جهة الخير وناحيته فقيل أتاه عن اليمين أى من قبل الخير.

وفي الآية يكون المعنى : إنكم أيها الرؤساء كنتم تأتوننا عن اليمين ، أى : من جهة الخير فتصدوننا عنه ، وكنتم تأتوننا عن اليمين ، أى : من الجهة التي نحبها ونثق فيها فكنتم تحلفون لنا فنصدقكم ، وكنتم تأتوننا عن اليمين ، أى : عن الدين ، أى : من قبل الدين فتهونون علينا أمر الشريعة وتنفروننا عنها.

وبعضهم يفسر اليمين بالقوة والقهر ، بمعنى : كنتم تأتوننا عن جهة القوة والسيطرة وبحكم الرياسة لكم في الدنيا فتضلوننا سواء السبيل.

وماذا كان رد المتبوعين؟ قالوا : بل لم تكونوا مؤمنين بقلوبكم حتى يصدق علينا أننا نقلناكم من الإيمان إلى الكفر ، بل كنتم قوما بطبعكم طاغين متجاوزين الحدود المعقولة مثلنا.

__________________

١ ـ كل قول في القرآن كهذا (قالوا. قال ... إلخ) يكون جوابا عن سؤال مقدر ، فهو استئناف بيانى واجب الفصل عن الجملة السابقة ؛ إذ هو جواب ، والجواب يفصل عن السؤال.

٢٠٣

فحق علينا وثبت وعد ربنا (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [سورة السجدة آية ١٣] إنا لذائقو العذاب الأليم لأننا عصينا أمر ربنا وأمر رسله.

فلما وجب وثبت علينا قضاء ربنا ـ وهو الوعيد السابق ـ أغويناكم لأننا صرنا أشقياء مثلكم ، ودعوناكم إلى الغي دعوة ملجئة فاستجبتم لنا باختياركم واستحبابكم الغي على الرشد ، إنا كنا غاوين فلا عتب علينا في هذا ، وإذا كان الأمر كذلك فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون.

إن بطش ربك لشديد ، وإنه يفعل بالمجرمين الأتباع والمتبوعين كلهم مثل ذلك الفعل ، وهو عذابهم جميعا ؛ إنهم كانوا إذا قيل لهم : لا إله إلا الله يستكبرون عن النطق بها والإيمان بوحدانية الله وتصديق رسوله ، ويقولون كبرا : أإنا لتاركوا آلهتنا وعبادتهم لرجل شاعر؟ يقول الشعر الذي لا يعتمد على الحق ، ويقصدون بذلك القرآن وأنه شعر ، وهذا الشاعر مجنون ، كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا وزورا.

بل هو الرسول المصطفى من عند الله الذي جاء بالحق والنور ، والهدى والشفاء لما في الصدور ، وصدق المرسلين جميعا و (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) وما حال هؤلاء المكذبين الضالين؟ إنهم لذائقو العذاب الأليم ، وما تجزون إلا ما كنتم تعملون ..

المخلصون في الجنة

وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٤) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ

٢٠٤

الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥) قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (٦١)

المفردات :

(الْمُخْلَصِينَ) : هم الذين أخلصهم الله لعبادته ، واصطفاهم لدينه وطاعته أو هم المخلصون الذين أخلصوا لله في العبادة (فَواكِهُ) : وهي جمع فاكهة ، وهي الثمار بأى شكل (بِكَأْسٍ) : الكأس في اللغة يطلق على الإناء مع شرابه ، فإن لم يكن فيه خمر مثلا فهو إناء أو قدح (مِنْ مَعِينٍ) : من خمر تجرى كما تجرى العيون على وجه الأرض ، وترى بالعين (غَوْلٌ) : هلاك وفساد (يُنْزَفُونَ) نزف الرجل ينزف فهو منزوف ونزيف : إذا سكر ، وأصل النزف : نزع الشيء وإذهابه بالتدريج ، والمراد لا تذهب عقولهم (قاصِراتُ الطَّرْفِ) : قد قصرن طرفهن على أزواجهن فلا ينظرن إلى غيرهم ، والطرف : النظر (عِينٌ) : جمع عيناء ، وهي المرأة واسعة العين مع حسنها (مَكْنُونٌ) : مصون لا غبار عليه (قَرِينٌ) : صديق ملازم (الْمُصَدِّقِينَ) أى : بالبعث ، وفي قراءة : المصّدّقين أى : المنفقين (لَمَدِينُونَ) : لمجزيون ومحاسبون ، وقيل : لمسوسون مربوبون ، يقال : دانه : ساسه ، وفي الحديث : العاقل من دان نفسه (سَواءِ الْجَحِيمِ) : وسطها (إِنْ كِدْتَ) إن هذه هي المخففة من

٢٠٥

الثقيلة واسمها ضمير الشأن ، واللام بعدها هي الفارقة (لَتُرْدِينِ) الإرداء : الإهلاك (نِعْمَةُ رَبِّي) : عصمته وتوفيقه (الْمُحْضَرِينَ) : الذين أحضروا العذاب وذاقوه.

ما مضى كان في شأن الكفار وجزائهم ، وقد حكم الله عليهم بأنهم لذائقو العذاب الأليم ، وما يجزون إلا بما كانوا يعملون.

لكن عباد الله المخلصين لهم جنات الخلد ، فيها ينعمون بنعيم دائم مقيم ، ولعل ذكر هؤلاء وهؤلاء وجزاء كل متجاورين أدعى للتأثير. وأبلغ في إظهار الفرق جليا للناس لعلهم يعتبرون.

المعنى :

إنكم أيها الناس لذائقو العذاب الأليم إلا عباد الله الصالحين في عبادتهم الذين أخلصهم الله لطاعته ، وحباهم بتوفيقه وهدايته ، أولئك لهم رزق معلوم كنهه ، معروف بطيب الطعم والرائحة ، وجمال المنظر وحسن المخبر ، هذا الرزق المعلوم فسر (١) بالفواكه وهي كل ما يؤكل تلذذا ولا يؤخذ تقوتا إذ ليسوا في حاجة إلى ما يقيتهم.

وهذا الرزق المعلوم ، والفواكه الطيبة يأكلها أصحابها في حال أنهم مكرمون ومعظمون ، وهذا النعيم الروحي بعد النعيم الجسماني وليس أكمل عند النفس ، ولا أفضل عند الإنسان من التكريم مع الإكرام. لا سيما إذا كان ذلك في جنات خلقت للنعيم المقيم ، والمتاع الدائم.

وهم فيها على سرر متقابلون ، والتقابل أتم للسرور ، وآنس للنفس ، فلا خصام ولا جدال ، بل الوجوه متقابلة ، والصدور منشرحة ، وهم في مجالسهم يطاف عليهم بخمر في صحاف من ذهب ، ويطوف بها عليهم غلمان كأنهم لؤلؤ مكنون ، يطاف عليهم بخمر من معين ، موصوفة بأنها بيضاء لذيذة للشاربين ، هذه الخمر ليست كخمر الدنيا التي فيها السكر والعربدة ، والقيء ، وإثارة الشهوة الحيوانية ، وهلاك النفس والمال وضياع الشرف والكرامة.

__________________

١ ـ وهذه إشارة إلى أن فواكه تعرب بدلا أو عطف بيان للرزق.

٢٠٦

خمر الآخرة لا فيها غول ، ولا هم ينزفون ، ما أروع هذا التعبير وما أبلغه!! خمر الآخرة ليس فيها فساد ، ولا هلاك للنفس ، وللعقل ، وللمال ، ولا للشخصية ، أى : لا فيها غول ، وليس هم لأجلها ينزفون ، أى : لا تذهب الخمر عقولهم ، ولعل إفراد هذا بالذكر مع أنه داخل في عموم قول : لا فيها غول دليل على أن فساده كثير ، وخطر ضياع العقل كبير ، حتى كأنه جنس يستحق الذكر برأسه.

وعندهم زوجاتهم قاصرات الطرف ، قد قصرن أبصارهن عليهم فلا يمددن طرفا إلى غيرهم ، فهن عرب ـ متحببات إلى أزواجهن ـ أتراب ، عين ، واسعات العيون والأحداق ومع هذا فهن قاصرات الطرف ، لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان ، كأنهن البيض المكنون في البياض والصفاء ، والحفظ والنقاء.

يطاف عليهم بخمر كأنها النهر فيشربون ويتحادثون كما هي عادة المجتمعين للشرب.

فأقبل بعضهم على بعض يتجاذبون أطراف الحديث يتساءلون عما جرى لهم في الدنيا ، وما أحلى الذكرى عند فراغ البال ، ورفاهية الحال.

ماذا قالوا؟ قال قائل منهم في أثناء حديثه : إنى كان لي قرين في الدنيا يقول موبخا ومؤنبا لي على ما كنت عليه من الإيمان والتصديق بالبعث يقول : أإنك لمن المصدقين بيوم القيامة؟ أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما نبعث؟ أإنا لمدينون ، أى : لمبعوثون مجازون؟ وهكذا يقول الكفار! قال ذلك القائل الذي كان له قرين يعترض عليه لأنه آمن قال لجلسائه : هل أنتم مطلعون (١) على أهل النار لأريكم هذا القرين ومآله ، فاطلع على أهل النار من كوة أو على كيفية ـ الله أعلم بها ـ فرآه ـ أى : القرين ـ في وسط الجحيم يتلظى بالنار المسعرة التي وقودها الناس والحجارة ، وبئس القرار.

وماذا قال له؟ قال لقرينه : تالله إن كدت وقاربت لتردينى وتهلكني بما كنت تفعله معى ، ولو لا نعمة ربي وتوفيقه وهدايته لكنت من المحضرين للعذاب كما أحضرت أنت وأحزابك.

أفما نحن بميتين إلا بموتتنا الأولى (٢) وهذا رجوع إلى محاورة جلسائه ابتهاجا بما منحه

__________________

١ ـ الاستفهام هنا مراد به العرض أو الأمر ، أى : اطلعوا.

٢ ـ الاستفهام للتقرير فيه معنى التعجب ، والفاء فيه للعطف ، والمعطوف عليه تقديره : أنحن مخلدون؟

٢٠٧

الله من فضل ، وما أجزله له من عطاء ، وتعريضا بالقرين ، وعبرة وعظة للناس أجمعين ، أنحن مخلدون في الجنة فما نحن بميتين أبدا إلا موتتنا الأولى التي حصلت في الدنيا ، وما نحن بمعذبين كأصحاب النار؟!! إن هذا ـ النعيم الدائم المقيم وهذا الفضل العظيم ـ لهو الفوز العظيم الذي يستحق ذلك الاسم الكريم ، لمثل هذا الأمر الجليل ينبغي أن يعمل العاملون ، ويطلب الطالبون لا أن يعمل الناس للدنيا الفانية والأعراض الزائلة ، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.

وهذه هي جهنم مأوى الظالمين

أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (٦٧) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٧٤)

المفردات :

(نُزُلاً) : هو الرزق الواسع ، وذكر الراغب : ما يعد للنازل من الزاد (شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) التزقم : هو البلع مع الجهد والألم للأشياء الكريهة الرائحة (فِتْنَةً) : ابتلاء

٢٠٨

أو عذابا (أَصْلِ الْجَحِيمِ) : قعر جهنم (طَلْعُها) الطلع : اسم لثمر النخلة أول بروزه ، وإطلاقه على ثمر هذه الشجرة مجاز (لَشَوْباً) الشوب : الخلط ، يقال : شاب طعامه وشرابه إذا خلطهما بشيء يشوبهما (حَمِيمٍ) الحميم : الماء الحار (يُهْرَعُونَ) الإهراع : الإسراع برعدة كهيئة الهرولة ، يقال : جاء فلان يهرع إلى النار : إذا استحثه البرد إليها ، فهذا الفعل ملازم للبناء للمجهول.

المعنى :

قل يا محمد لقومك ـ على سبيل التوبيخ والتبكيت والتهكم ـ : أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم؟ والخيرية بالنسبة إلى ما اختاره الكفار على غير ذلك المعلوم في جنات النعيم الذي مضى ذكر طرف منه وكانت نهايته اللذة والسرور ، أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم التي هي طعامه الظلمة الآثمين ، والتي نهايتا الألم والحزن ، وبعبارة واضحة : إن الرزق المعلوم ـ الذي مضى وصفه ـ نزل أهل الجنة. والشجرة الملعونة شجرة الزقوم نزل أهل النار ، فأيهما خير في كونه نزلا ..؟!

إنا جعلنا شجرة الزقوم ذات الرائحة الكريهة والطعم المر البشع جعلناها فتنة للذين كفروا حيث قالوا : كيف تكون شجرة تنبت في قعر جهنم وبين النار المحرقة ورطوبة النبات بون شاسع؟ وجعلها ربك عذابا لهم في الآخرة ، وأى عذاب أشد من هذا؟ إنها شجرة تنبت في قعر جهنم ثمرها كأنه رءوس الشياطين في تناهى القبح والهول وفظاعة المنظر وبشاعته (١).

فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون على بشاعتها وسوء طعمها وقبح مذاقها ، ثم إن لهم بعد ذلك لشرابا مخلوطا بالحميم.

ويقول الكشاف ذاكرا الحكمة في الإتيان بثم هنا : إنه ذكر الطعام بتلك الكراهة والبشاعة ثم ذكر الشراب بما هو أكره وأبشع فجاء بثم للدلالة على تراخى حال الشراب عن حال الطعام. أى أن حال الشراب كانت أشد فظاعة وألما ، ثم إنهم بعد ذلك كله مرجعهم ومأواهم لإلى الجحيم المهيأ لهم نزلا جزاء بما كانوا يعملون.

__________________

١ ـ والعرب تشبه هنا المنظر الحسن بالملك «إن هذا إلا ملك كريم» وصاحب المنظر الكرية بالشيطان والغول ، وتشبيه الشيء المحسوس بالأمر الثابت في الذهن والخيال يسمى تشبيها تخييليا وهو معروف في اللغة يقول امرؤ القيس «ومسنونة زرق كأنياب أغوال».

٢٠٩

ولقد علل القرآن استحقاقهم ما ذكر بتقليد الآباء في الدين من غير أن يكون لهم وجه حق إذ قلدوهم في الباطل بدون دليل أو حجة ، وقد كان آباؤهم في ضلال مبين فهم على آثار آبائهم يهرعون ويسيرون بسرعة شديدة كأنهم مساقون بسياط من نار.

ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين في الأمم السابقة ، ولقد أرسلنا فيهم أنبياء منذرين أنذروهم سوء العاقبة فانظر كيف كان عاقبة المنذرين؟ فلقد أهلكوا إهلاكا تامّا لما كفروا وكذبوا ، لكن عباد الله المخلصين الذين أخلصهم الله له بتوفيقهم إلى الخير والإيمان هم على صراط مستقيم ، ولهم جزاء الخلد جزاء بما كانوا يعملون.

من قصة نوح

وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٨٢)

المفردات :

(نادانا) : المراد من النداء الاستغاثة (الْكَرْبِ) : الغم الشديد

المعنى :

وهذا تفصيل لما أجمل سابقا ببيان أحوال بعض المنذرين مع بيان حسن عاقبة المؤمنين وسوء عاقبة المشركين ، وبدأ بقصة نوح لأنه أول الأنبياء أولى العزم ، وأبو البشر بعد آدم.

٢١٠

وتالله لقد نادانا نوح واستغاث بنا ، ودعا على قومه بالهلاك حيث قال : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) وذلك بعد كثرة دعائه لهم إلى الإيمان فلم يزدهم إلا فرارا ، فأجابه إلى طلبه أحسن الإجابة فو الله لنعم المجيبون نحن ونجيناه وأهله الذين آمنوا من الغم والكرب العظيم ، والمراد نجيناهم من الغرق (قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) وجعلنا ذريته هم الباقين الناجين ، وتركنا عليه في الأمم التي جاءت بعده الثناء الحسن وهو (سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ) أى تركنا عليه هذا الكلام بعينه ، والمراد أبقينا له دعاء الناس له أمة بعد أمة.

(إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) وهذا تعليل لما ذكر من أنه من استحق الثناء والدعاء له من الأمم كلها ، بكونه ـ عليه‌السلام ـ من زمرة المعروفين بالإحسان ، وإحسان نوح مجاهدته أعداء الله ـ تعالى ـ بالدعوة إلى دينه والصبر الطويل على الأذى في سبيل الله.

(إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) وهذا تعليل لكونه ـ عليه‌السلام ـ من المحسنين بوصفه بخالص الإيمان وكمال العبودية ، ونجيناه وأهله ، ثم أغرقنا الآخرين المغايرين لنوح ـ عليه‌السلام ـ في الإيمان فاعتبروا بذلك يا أولى الأبصار (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ).

من قصة إبراهيم عليه‌السلام

وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٨٧) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ

٢١١

فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨) وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١)

المفردات :

(شِيعَتِهِ) شيعة الرجل : أتباعه وأنصاره ، وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم متشيعون له ثم صارت بعد موت سيدنا على بن أبى طالب تطلق على جماعة خاصة (جاءَ رَبَّهُ) : حقيقة المجيء بالشيء نقله من مكانه والمراد هنا جاء ربه سليم القلب (١) (أَإِفْكاً) الإفك : أسوأ الكذب (سَقِيمٌ) : مريض وعليل (فَراغَ) مال في خفية روغان الثعلب (يَزِفُّونَ) : يسرعون المشي والزفيف والإسراع (الْجَحِيمِ) : النار الشديدة (كَيْداً) : شرّا.

المعنى :

وهذه قصة إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ أبى الأنبياء جاءت بعد قصة نوح الأب الثاني للبشر ، ومما يزيد المناسبة حسنا أن نوحا نجاه الله من الغرق ، وإبراهيم نجاه الله من النار ، وكذلك ينجى ربك المؤمنين ، وإن ممن شايع نوحا وتابعه في الأصول العامة للشريعة ، وإن اختلفا في الأحكام الفرعية لإبراهيم الخليل.

__________________

١ ـ ففي جاء استعارة تصريحية حيث شبه إخلاصه قلبه لله بمجيئه ، والجامع تحقق الفوز مما يستجلب الرضا.

٢١٢

اذكر وقت أن جاء ربه بقلب سليم من كل سوء ومكروه ، جاءه مخلصا صادقا إيمانه ، كأنه جاء بتحفة من عنده لربه ، فاستحق المثوبة والجزاء.

إذ قال في هذه الحالة لأبيه وقومه : ما الذي تعبدونه؟ أنكر عليهم عبادتهم للأصنام ولا غرابة في إنكار إبراهيم هذا بعد قوله تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ) فقال : أإفكا آلهة دون الله تريدون (١)؟! أى أتريدون آلهة دون الله لأجل الإفك والكذب على الناس؟ أتتخذون آلهة من دون الله الواحد القهار لأجل الإفك والكذب ..؟

فما ظنكم برب العالمين إذ عبدتم غيره؟ أتظنون أنه يترككم بلا عقاب شديد جزاء على عملكم هذا القبيح؟ : لا ..

وقد كان إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ كثير التأمل في ملكوت الله فنظر نظرة تفكر في النجوم : من خلقها؟ وكيف تسير؟ ومن حركها؟ وأين هي في النهار؟ هذا هو نظر إبراهيم للنجوم ليتوصل بذلك إلى إدراك بعض الواجب نحو خالق السماء والنجوم وفاطر السموات والأرض.

فقال لقومه : إنى سقيم ومريض ، ولست مستريحا إلى عبادتكم للأفلاك والنجوم وهذه الأصنام والأوثان ، أما قومه فحين حاجهم إبراهيم تولوا عنه مدبرين ورموه بالإفك والبهتان العظيم ، فقصد آلهتهم في الخفاء ، وراغ إلى أصنامهم قاصدا التعرض لها ليكلموه في شأنها ، ويعلمون بالدليل أنها أحجار وخشب لا تسمع ولا تبصر ، ولا تغنى ولا تنفع.

وقد كانوا يأتون بالطعام إلى آلهتهم لتأكل وتبارك لهم فيه ، ويظهر أن السدنة كانت تأكل بعضه فيظنون أن الآلهة أكلت.

أما إبراهيم فذهب إلى الآلهة وأمامها الأكل فقال : ألا تأكلون!! ما لكم لا تنطقون؟ عجبا لكم أى شيء دهاكم حتى منعكم من الكلام؟ فلما لم يحصل منهم أكل ولا جواب عن سؤال مال عليهم ضاربا ضربا بالقوة والشدة.

__________________

١ ـ في هذه الآية الاستفهام إنكارى ، وقدم المفعول لأجله على المفعول به لأنه أهم ، وقدم المفعول به على الفعل لأن إنكاره ـ أى المفعول ـ هو المقصود.

٢١٣

فأقبلوا إليه مسرعين المشي لما سمعوا بالذي حصل من إبراهيم قائلين له : نحن نعبدها ونقدسها ، وأنت تضربها وتكسرها؟! : إن هذه لجرأة منك شديدة!

قال لهم موبخا : أتعبدون ما تنحتونه بأيديكم ، وتصنعونه على أعينكم من حجارة أو خشب ، وتتركون عبادة الله الذي خلقكم وسواكم وعد لكم في أحسن صورة وهو الذي خلقكم والمادة التي تعملون منها الأصنام؟!.

قالوا بعد أن تشاوروا في أمره : ابنوا له بنيانا واسعا تملأونه حطبا كثيرا ، وأضرموا فيه النار ، فإذا التهبت فألقوه في تلك النار المسعرة ، فأرادوا به كيدا وسوءا باحتيال منهم ومكر فجعلهم ربك من الأسفلين الأذلين حيث أبطل كيدهم ورده في نحورهم ، وجعله دليلا على صدق إبراهيم ، ودليلا على علو شأنه حيث جعلت النار المحرقة بردا وسلاما عليه.

وقال إبراهيم لما نجا من كيدهم : إنى ذاهب إلى ربي يهديني إلى ما فيه صلاح ديني ودنياى ، رب هب لي ولدا من الصالحين يعينني على الدعوة والطاعة. ويؤنسني في الغربة والمجاعة. فبشرناه بغلام حليم ..

قصة الذبيح

فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ

٢١٤

(١١٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (١١٣)

المفردات :

(السَّعْيَ) : الحد الذي يسعى فيه مع أبيه في تحصيل المعاش (وَتَلَّهُ) : صرعه على شقه فوقع جبينه على الأرض ، وأصل التل : الرمي على التل الذي هو التراب المجتمع ، ثم استعمل في كل صرع (لِلْجَبِينِ) والجبين : أحد جانبي الجبهة ، بين جبينين ، واللام لبيان ما صرع عليه ، كقوله تعالى : (يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ) وكقول الشاعر : وخر صريعا لليدين وللفم ـ (بِذِبْحٍ) : بحيوان يذبح.

المعنى :

دعا إبراهيم ربه قائلا : رب هب لي غلاما من الصالحين ، فقبل الله دعاءه واستجاب له ، وبشره بغلام كريم الخلق حليم ـ على لسان الملائكة فوهبناه له ، ونشأ كما ينشأ الغلمان فلما (١) بلغ درجة أن يسعى مع أبيه في أشغاله ، وتحصيل معاشه قال له أبوه : إنى أرى في المنام أنى أذبحك ، ورؤيا الصالحين من عباد الله قبس من نور الله ، ورؤيا الأنبياء وحى من السماء لا ينكر ، وقد رأى إبراهيم الخليل في منامه أنه يذبح ابنه. وأول رؤياه على هذا ، وكان ذلك الولد عزيزا على أبيه لأنه فلذة كبده وإنسان عينه ، وقد جاء من الله بعد الدعاء وبشارة الملائكة به فكان له مزيد فضل ، وعلو كعب ، ومع ذلك فقد صدع إبراهيم لأمر ربه ، وعرض الأمر على ابنه الوحيد ليرى ماذا يرى؟ فقال ابنه : يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين ، وهنا تبرز أمام الإنسان معاني الإيمان الصادق والاستسلام الحق والصبر والرضاء بالقضاء والقدر؟

__________________

١ ـ الفاء هنا فاء الفصيحة التي تفصح عن كلام مقدر يفهم من السياق العام (وقد ذكرناه فتنبه).

٢١٥

يؤمر أب بذبح ابنه فيمتثل الأب والابن (فَلَمَّا أَسْلَما) أى : استسلم الأب ورضى الابن ، إن هذا لعجيب!! وليس بالكثير على إبراهيم الخليل وابنه الصابر صادق الوعد الأمين.

(قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى) (١) (قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ).

فلما أسلما وخضعا لله وانقادا لأمره ، وصرع الأب ابنه على الجبين ، وأمرّ السكين على الودجين فلم تقطع ولم تكسر ، وأعادها مرارا فلم تزد إلا كلالا ، وتعجب إبراهيم من هذا ، وضجت ملائكة السماء وأتى الله بالفرج القريب ، فنادى إبراهيم ملك من قبل الحق ـ تبارك وتعالى ـ أى : إبراهيم كفى كفى!! قد صدقت الرؤيا ، وقمت بالواجب عليك وبذلت جهدك ، وأتيت بما في وسعك (قد حققت ما نبهناك عليه ، وفعلت ما أمكنك ثم امتنعت لما منعناك) انتهى من القرطبي.

فلما أسلما وتله للجبين ، وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا ، فديناه بكبش سمين وخلصناهما من الشدة والكرب الشديد ، لما ذا؟ إن ربك يجزى المحسنين جزاء مثل هذا الجزاء ، وقد أحسنا حيث امتثلا الأمر في بذل النفس على صورة رائعة لا يقبلها إلا أولو العزم من الرسل ، إن هذا لهو البلاء المبين ، وأى بلاء أشد من أن تؤمر بذبح وحيدك فتمتثل صابرا محتسبا أجرك عند ربك؟!

وفديناه بذبح عظيم. روى أنه كان كبشا نزل من الجنة فذبحه إبراهيم وهلل وكبر وتركنا عليه في الأمم الآخرة ثناء حسنا وذكرا عاطرا ـ وسلام على إبراهيم ـ مثل ذلك أى : بقاء الذكر العاطر فيما بين الأمم نجزى المحسنين ، وهذا لأنه من عبادنا المؤمنين وبشرناه بإسحاق حالة كونه نبيا من الصالحين.

ومن هنا شرعت الأضحية في عيد الأضحى ، عيد الفداء ، وذكر إتمام النعمة وظهور كلمة الإسلام ، والقضاء على الشرك والظلم والبهتان ، ولم يكن ذلك كله إلا

__________________

١ ـ ذكروا في هذه أعاريب منها أن ماذا (مركبة) من ما الاستفهامية مفعول مقدم لترى ، وجملة ترى في محل نصب بالنظر ، أو ما استفهام ، و (ذا) اسم موصول (مبتدأ أو خبر) والجملة مفعول مقدم أيضا.

٢١٦

بعد التضحية من الرسول وصحبه بالنفس والنفيس ، وفداء العقيدة والدعوة بالوطن والنفس والمال والجهاد في سبيل الله.

فهيا بنا نحن أمة الإسلام ، وأتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم نعاهد الله على الجهاد في سبيله وفي سبيل دعوته ، باذلين كل مرتخص وغال في إحقاق الحق وإزهاق الباطل وفي سبيل نشر علم الإسلام على حصون الظلم والطغيان.

هيا بنا نجاهد ونجاهد في سبيل القرآن وإعادة مجد الإسلام حتى يكون الدين كله لله وكفى بالله شهيدا.

وباركنا على إبراهيم وعلى إسحاق فكان منهما الأنبياء والملوك والحكام ، وكان من ذريتهما محسن في عمله ، وظالم لنفسه ظلما مبينا ، ومن هنا كان النسب لا أساس له في الهدى والضلال.

بقيت مسألة : من هو الذبيح أهو إسحاق أم إسماعيل؟ في الواقع الآيات القرآنية بعد ما ساق قصة الذبيح قال : وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين فهذا يدل على أن الذبيح غيره ، وهو إسماعيل ، وبعض العلماء يرى أنه إسحاق ، ويستدل على ذلك بأن إبراهيم دعا ربه أن يهب له غلاما صالحا حين فارق قومه وهاجر إلى الشام مع امرأته سارة وابن أخيه لوط والله يقول : (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) [مريم ٤٩] والفداء كان للغلام الذي بشر به ، والذي بشر به هو إسحاق : وبشرناه بإسحاق ، ويظهر أن إسحاق كان أكبر من إسماعيل ، وأن البشارة كانت قبل إسماعيل ، وبعضهم يرى الرأى الأول. والله أعلم بكتابه ، والخطب سهل.

طرف من قصة موسى وهارون

وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (١١٤) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (١١٦) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ

٢١٧

الْمُسْتَبِينَ (١١٧) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (١٢٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٢٢)

المعنى :

بعد ذكر نجاة إسماعيل من الذبح ، وخلوص إبراهيم من البلاء الذي نزل به ظافرا بالرضا ممتثلا أمر ربه الكريم.

ذكر : ما من به على موسى وهارون ؛ وتالله لقد مننا عليهما بالنبوة وآتيناهما الحكمة ، ونجيناهما وقومهما من الكرب والخسف وسوء العذاب الذي كان ينالهم من فرعون وملئه ، فقد كان يذبح أبناءهم ويستحيى نساءهم إنه كان من المفسدين ، وقد أراد الله أن يمن على بنى إسرائيل الذين استضعفوا في الأرض ويجعلهم الوارثين ، فنصرهم على عدوهم ، وكانوا هم الغالبين ، وآتينا موسى وهارون التوراة كتابا بينا ظاهرا فيه الحق الذي لا تحريف فيه ولا بهتان ، وأبقينا عليهما في الآخرة ثناء حسنا ـ سلام على موسى وهارون ـ وذاك لأن ربك يجزى المحسنين جزاء حسنا مثل ذلك ، وقد كان موسى وهارون من المحسنين لأنهما من عبادنا المؤمنين.

طرف من قصة إلياس

وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (١٢٥) اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (١٢٦)

٢١٨

فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٢٧) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٢٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (١٣٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٣١) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٣٢)

المفردات :

(إِلْياسَ) : نبي من أنبياء بنى إسرائيل (بَعْلاً) : اسم صنم ، وقيل : البعل الرب ، ومنه بعل المرأة لزوجها (وَتَذَرُونَ) : تتركون (إِلْ ياسِينَ) العرب تتلاعب بالأسماء الأعجمية تلاعبا مثل : ياسين وإلياس وإلياسين ، كل ذلك شيء واحد.

المعنى :

وإن إلياس لنبي وإنه لمن المرسلين إلى قومه بنى إسرائيل ، واذكر إذ قال لقومه : ألا تتقون الله ربكم ، وتخافون يوما يجعل الولدان شيئا ، أتدعون ربا غيره ، وتتركون الله ربكم الذي هو أحسن الخالقين؟ وليس هناك خالق سواه يستحق العبادة والتقديس : وهو الله ربكم وخالقكم ، وخالق آبائكم الأولين. ومن كان كذلك فلا إله غيره ، ولا معبود سواه.

فكذبوه وكفروا به وبرسالته فكان جزاؤهم أنهم محضرون في جهنم يذوقون العذاب الأليم ، لكن عباد الله المخلصين الذين أسلموا لله رب العالمين ، وآمنوا بالرسل الأكرمين لهم جنات الخلد ، فيها ينعمون وبظلها يتمتعون.

وأبقينا عليه الثناء الجميل الذي هو ـ سلام على إل ياسين ـ وفي قراءة «آل ياسين» فكأنه ـ والله أعلم ـ جعل اسمه إلياس وياسين ، وسلّم على آله ، أى : أهل دينه ومن اتبعه بالحق ، وإذا سلم على آله فالسلام عليه من باب أولى.

ثم ذكر في تعليل هذا الإكرام قوله : إنا كذلك نجزى المحسنين ، وقد كان إلياس من المحسنين لأنه كان من عبادنا المؤمنين ، وسلام الله ورحمته وبركاته عليهم أجمعين.

٢١٩

ذكر طرف من قصة قوم لوط

وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٣٥) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٣٦) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٣٨)

المعنى :

وهذا لوط من المرسلين الذين أرسلوا لقومهم يخرجونهم من الظلمات إلى النور ، ويهدونهم الطريق المستقيم فكذبوا وأوذوا حتى غضب ربك على القوم الكافرين فأمطرهم بعذاب من عنده ، وإن عذاب ربك لشديد ، واذكر إذ نجينا لوطا ومن معه من المؤمنين نجيناه وأهله أجمعين إلا امرأته وكانت عجوزا في عداد القوم الغابرين الهالكين. ثم دمرنا الآخرين الذين كذبوا وعصوا أمر ربك ، وهذه ديارهم وآثارهم شاهدة عليهم ، وإنكم لتمرون عليهم صباحا ومساء بالنهار وبالليل .. أفلا تعقلون أيها المشركون من قريش؟ أفلا تتعظون بما حل بغيركم؟!.

قصة يونس عليه‌السلام

وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢) فَلَوْ لا أَنَّهُ

٢٢٠