التفسير الواضح

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٨

فالشمس مصدر الحرارة والحياة ، والقمر أساس معرفة الزمن ؛ والنجم الذي يطلع من الأرض ولا ساق له ، والشجر الذي يطلع وله ساق وفروع وهما يسجدان لله وينقادان له (١) ؛ والسماء خلقها مرفوعة العماد بلا عمد ، ووضع الميزان ، أى : شرع العدل وأمر به حتى انتظم أمر العالم واستقام كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «بالعدل قامت السموات والأرض» فعل ذلك لئلا تطغوا في الميزان بأن تعتدوا وتتجاوزوا الحدود ، ولا تنقصوا الميزان ، بل كونوا عادلين فلا زيادة ولا نقصان ، والأرض وضعها وهيأها للأنام ، يعيشون فيها ويسكنون عليها ، ويتمتعون بكل ما فيها ، فيها فاكهة (٢) يتفكه بها ، وفيها النخل ذات الأكمام وفيها الحب ذو العصف والريحان ، أى : الرزق المأكول لأنه يرتاح له ، فكأن الآية تقول : خلق الأرض لكم فيها الفواكه وخاصة النخل ذات الأكمام ، وفيها الحبوب من قمح وشعير ذات العصف ، أى : التبن لعلف الماشية ، وذات اللب الذي هو رزقكم وأكلكم.

فبأى آلاء ربكما أيها الثقلان من الإنس والجن تكذبان؟! (٣) بأى نعمة من نعم مربيكما ومالك أمركما أيها الثقلان تكذبان؟ وتكذيب النعمة يكون بإنكار كونها من الله سبحانه مع عدم الاعتراف بكونها نعمة كتعليم القرآن ، أو بإنكار كونها من الله مع الاعتراف بكونها نعمة كالنعم الدنيوية ، والتعبير عن كفرهم المذكور بالتكذيب لأن دلالة النعم على الله ظاهرة ، وكأنها شاهدة بذلك فكفرهم بها تكذيب لها ، ولعل سائلا يسأل ويقول : لم هذا التكرار في قوله : فبأى آلاء ربكما تكذبان؟ والجواب : إنه إنما حسن التكرار للإقرار بالنعم المختلفة ، إذ كلما ذكر الله نعمة وبخ وأنكر على من كذب بها ، وهذا أسلوب معروف في الشعر والنثر العربي (٤).

__________________

١ ـ في لفظ يسجدان استعارة تصريحية تبعية حيث شبه جريهما على مقتضى الطبيعة بانقياد الساجد لخالقه وتعظيمه له واستعمل المشبه به في المشبه ... إلخ.

٢ ـ استئناف مسوق لتقرير ما أفادته الجملة السابقة.

٣ ـ الفاء لترتيب الإنكار والتوبيخ على ما فصل من أنواع النعم ، والاستفهام للإنكار.

٤ ـ هذه الآيات التي مرت من أول السورة إلى ما وقفنا نجد فيها فصلا بين جملة علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان مع أن موجب الوصل موجود وهو اتحادها في الخبرية ، وقصد التشريك حاصل ، ولكنه فصل للإشارة إلى أن كل جملة تضمنت نعمة مستقلة تقتضي الشكر وحدها ، وتوجب الإنكار على كفرها مع عدم التقابل بين الجمل ؛ وعطف قوله : والنجم والشجر على قوله : والقمر رعاية لتناسبها من حيث التقابل ولأن الشمس والقمر علويان ، والنجم والشجر سفليان ، والكل منقاد له وخاضع.

٥٨١

بعض نعمه أيضا

خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (١٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٦) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (١٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٨) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (١٩) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (٢٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢١) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (٢٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٣) وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٢٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٥) كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٢٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٨)

المفردات :

(صَلْصالٍ) الصلصال : الطين اليابس الذي له صلصلة ، أى : صوت.

(كَالْفَخَّارِ) : وهو الخزف ، أى : ما أحرق من الطين حتى تحجر. (مارِجٍ) : لهب خالص لا دخان فيه. (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) : أرسلهما وأجراهما. (بَرْزَخٌ) : حاجز. (اللُّؤْلُؤُ) : صغار الدر. (وَالْمَرْجانُ) : كبار الدر ، وقيل : هو خرز أحمر. (الْجَوارِ) : جمع جارية وهي هنا السفينة. (الْمُنْشَآتُ) : الرافعات الشرع ، أو المخلوقات للجري في البحر. (كَالْأَعْلامِ) : كالجبال ، والعلم : الجبل الطويل. (فانٍ) هالك. (ذُو الْجَلالِ) الجلال : العظمة والكبرياء.

٥٨٢

المعنى :

إن من أجل نعم الله على الإنسان أن يبين له نشأته الأولى ، ومادته التي خلق منها ليفهم الإنسان نفسه ، ويعاملها على أساس سليم ، وإذا عرف الداء فلن يعز عليه الدواء.

الله يقول : إنه خلقكم من تراب (كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) وقال (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) وقال هنا : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ) ومن هذا كله نفهم أنه أخذ تراب الأرض فعجنه بالماء حتى صار طينا لازبا ثم انتقل فصار كالحمإ المسنون ، ثم انتقل فصار صلصالا كالفخار ثم نفخ فيه من روحه جل جلاله فكان الإنسان ، ومن هنا نعرف أننا معشر بنى آدم من مادة طينية سوداء كالحمإ المسنون الذي جف حتى صار كالفخار في الصوت والضعف ، نعم (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) أمام الدنيا ومغرياتها وأمام المرأة ومفاتنها وأمام عرض الحياة وزخارفها ، فاعرفوا أنفسكم ، وقووا ضعفكم وانصروا دواعي الخير والفضيلة فيكم التي هي من دواعي الروح ، واحذروا إبليس فإنه من الجان ، وقد خلق من مارج من نار ، أليس لهب النار أحمق متعاليا مغرورا مدفوعا إلى الإيذاء؟ فاحذروا وسوسته واستعيذوا بالله منه ، ألست معى أن ذلك البيان من أجل نعم الله علينا؟! فبأى آلاء ربكما تكذبان؟!

هو رب المشارق والمغارب ـ إذ الشمس لها عدة مشارق ومغارب ـ ، وهو رب المشرقين ورب المغربين ـ أى : مشرق الصيف والشتاء ومغربهما ـ والشمس حين تشرق من مدار السرطان يكون الصيف في نصف الكرة الشمالي ، وحين تشرق من مدار الجدى يكون الصيف في الجنوب والشتاء في الشمال ، ولا شك أن مشارق الشمس ومغاربها وانتقالها من مدار إلى مدار من أجل النعم علينا إذ لو بقيت كما هي في شروق واحد وغروب واحد لتعطلت نواميس الحياة ، وتعطلت زراعة الصيف أو الشتاء ، ولقل العمران ، ألا ترى إلى سكان خط الاستواء وسكان المناطق الشمالية والجنوبية (١) التي يظهر عندهما المشارق والمغارب ، فبأى آلاء ربكما تكذبان؟ هو الذي مرج البحرين العذب والملح يلتقيان في مصاب الأنهار بينهما حاجز من اليابس لا يبغيان على بعضهما ولو شاء لاختلطا فضاعت فوائد الملح وعذوبة الماء العذب ، فبأى آلاء

__________________

١ ـ المراد : المناطق التي هي حول مدار السرطان ومدار الجدى لا المناطق القطبية.

٥٨٣

ربكما تكذبان؟ يخرج من مجموع البحرين اللؤلؤ والمرجان ، فبأى آلاء ربكما تكذبان؟ ولله جل جلاله في البحر عذبه وملحه السفن متى تجرى على سطح الماء وتتهادى كالعروس ، هذه السفن المرفوعات الشراع في البحر كالجبال تغدو وتروح حاملة الخير والبركات ، ولو شاء لجعل البحر ساكنا ولما استطاعت السفن أن تطفو على الماء ، فبأى آلاء ربكما تكذبان؟

هو الذي خلق الموت والحياة ، والحياة نعمة بلا شك ، ولكن هل الموت نعمة؟ نعم الموت نعمة للمتقين فسينقلون من حياة التعب والنصب إلى حياة الهدوء والاستقرار والثواب الجزيل والعطاء الكثير ، وهو للمرضى والمتعبين نعمة ، وعلى العموم فالدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ، والموت من أجل النعم على الخلق ولذا حكم الحي القيوم الباقي بعد فناء خلقه بأن كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون ، كل شيء هالك إلا ذاته القدسية فإنها باقية ، ويبقى ذات ربك ذي الجلال ، والتعظيم والإكبار من خلقه ، فبأى آلاء ربكما تكذبان؟!.

من نعم الله يوم القيامة

يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (٢٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٠) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (٣١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٢) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (٣٣) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٤) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (٣٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٦) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ

٥٨٤

(٣٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٨) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (٣٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٠) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (٤١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (٤٣) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (٤٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٥)

المفردات :

(سَنَفْرُغُ) المراد : سنقصد لمجازاتكم أو محاسبتكم (الثَّقَلانِ) : الجن والإنس ، سميا بذلك لعظم شأنهما بسبب التكليف (شُواظٌ) : هو اللهب الذي لا دخان له (وَنُحاسٌ) : هو الدخان الذي لا لهب فيه (فَلا تَنْتَصِرانِ) : فلا تمتنعان (انْشَقَّتِ السَّماءُ) : انصدعت (كَالدِّهانِ) : جميع دهن (بِسِيماهُمْ) : علامتهم (بِالنَّواصِي) : جمع ناصية وهي مقدم الرأس (حَمِيمٍ) : ماء حار (آنٍ) قيل : إنه واد في جهنم.

المعنى :

إن الله ـ جل جلاله ـ مصدر الوجود ومنشئه ، وخالقه ومبدئه ، فالكل منه وإليه ، يسأله من في السموات والأرض بلسان الحال أو بلسان المقال سؤالا مستمرّا وهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه بحيث لو تركهم لحظة واحدة لاختل النظام وانهدم الوجود ، والله جل جلاله ـ كل يوم ـ والمراد كل وقت ولحظة ـ هو في شأن من شئون خلقه ، فهو يعطى من سأل إذا شاء ويمنع من يسأل إذا شاء ، وهو ينشئ خلقا ، ويفنى آخرين ، ويرفع قوما ، ويخفض غيرهم ، وروى أن من شأنه أن يغفر ذنبا ، ويفرج كربا ، ويرفع قوما ويضع آخرين ؛ على أن شئون الإله لا يحيط بها وصف ولا يدركها حد ، فهي

٥٨٥

شئون صاحب الملك والملكوت الذي بيده الأمر ، وإليه يرجع الأمر تبارك الله رب العالمين ، وإذا كان الأمر كذلك فبأى آلاء ربكما ونعمه تكذبان مما يجيب به سؤالكما أيها الثقلان؟

الله سبحانه لا يشغله شأن عن شأن ، ولكن شئون العالم كله من حياة وموت ورزق وغيره ستنتهى يوم القيامة ويفرغ الحق ـ تبارك وتعالى ـ إلى جزاء المكلفين فقط (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) أى : سنحاسبكم لا يشغلنا شيء عن شيء ، ولأتفرغن لكم يوم القيامة (١) فبأى آلاء ربكما تكذبان التي من جملتها التنبيه على ما سيلقاه الناس يوم القيامة تحذيرا عما يؤدى إلى سوء الحساب.

يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض ، وتخرجوا من جوانبها هاربين من الله تعالى فاخرجوا منها ، وخلصوا أنفسكم من عقابه عزوجل ، لا تقدرون على النفوذ إلا بسلطان ، أى : بقوة وقهر منكم وأنتم لا تقدرون على ذلك ؛ إذ أقطار السموات والأرض فوق ما يتصور الإنسان ، ومن حاول الصعود إلى القمر أو صعد إليه أو إلى غيره ، فإنه أشبه بذبابة تطير وسط الحجرة فقط!! فبأى آلاء ربكما تكذبان؟!.

وما الداعي إلى طلبهم الفرار ومحاولتهم له! ثم لا يقدرون! والجواب أنه يرسل عليكم أيها العصاة شواظ من نار ، ولهب خالص ، بلا دخان ، يشبه النحاس في اللون فلا تقدرون على الامتناع مما يرسل عليكم ، فبأى آلاء ربكما تكذبان؟ ولا شك أن التهديد بالعقاب ، والتمييز بين المطيع والعاصي بالجزاء الكامل من عداد النعم الجليلة.

فإذا انشقت السماء وانصدعت يوم القيامة فكانت كالوردة في الحمرة ، تذوب مع الانشقاق حتى تصير حمراء من حرارة نار جهنم ، وتصير مثل الدهن لرقتها وذوبانها فبأى آلاء ربكما تكذبان؟ فيوم إذ تنشق السماء لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان لأنهم يعرفون بسيماهم ، وهذا عند الخروج من القبر ؛ وما يدل على السؤال كقوله : فوربك لنسألنهم أجمعين : في موقف آخر وهو موقف الحساب.

__________________

١ ـ في العبارة الكريمة استعارة حيث شبه حال هؤلاء وأخذه تعالى في جزائهم فقط بمن فرغ لهذا من جميع المهام التي عليه.

٥٨٦

فبأى آلاء ربكما تكذبان؟!

ولم لا يسألون؟ والجواب أنهم يعرفون بسيماهم ، فيؤخذون بالنواصي والأقدام ، فبأى آلاء ربكما تكذبان؟!

ويقال لهم : هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون ، وينكرونها ، ويطوفون بين نارها وبين ماء حار متناه في الحرارة ؛ والنعمة فيما وصف من هول القيامة وعقاب المجرمين ، هو ما في ذلك الزجر عن المعاصي والترغيب في الطاعات ، وروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه أتى على شاب في الليل يقرأ (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ) فوقف الشاب وخنقته العبرة وجعل يقول : ونحيى من يوم تنشق فيه السماء ونحيى! فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ويحك يا فتى مثلها ، فو الذي نفسي بيده لقد بكت ملائكة السماء لبكائك» فبأى آلاء ربكما تكذبان.؟!

من نعم الله على المتقين يوم القيامة

وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (٤٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٧) ذَواتا أَفْنانٍ (٤٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٩) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (٥٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥١) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (٥٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٣) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٥) فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٥٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٧) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (٥٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٩) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (٦٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦١)

٥٨٧

المفردات :

(خافَ) الخوف : توقع مكروه ، وهو ضد الأمن ، والمراد به هنا : الكف عن المعاصي وتحرى الطاعات. (ذَواتا أَفْنانٍ) أى : صاحبتا أفنان ، جمع فنن ، وهو ما دق ولان من الأغصان. (زَوْجانِ) : صنفان وفرعان. (فُرُشٍ) : جمع فراش وهو معروف. (إِسْتَبْرَقٍ) : ما غلظ من الديباج. (وَجَنَى) الجنى : هو المجنى ، أى : المجتنى من الشجر. (دانٍ) : قريب. (قاصِراتُ الطَّرْفِ) المراد : قصرن أعينهن على أزواجهن. (لَمْ يَطْمِثْهُنَ) : لم يفض بكارتهن قبل أزواجهن أحد. (الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) : جواهر كريمة تضرب مثلا في الصفاء والبياض.

وتلك بعض نعم الله التي أنعم بها على عباده المؤمنين في الجنة ذكرت بعد ما بين الله طرفا من عذاب جهنم.

المعنى :

الخوف من الله ، واعتقاد المؤمن أن ربه مهيمن عليه مراقب له ، حافظ لأحواله يدعوه إلى العمل الصالح ، وإلى الإحسان فيه ، ولمن خاف قيام ربه عليه جنتان يتمتع فيهما ، وينتقل بينهما ، فبأى آلاء ربكما تكذبان؟ وهاتان الجنتان ذواتا أفنان ، أى : ذواتا أنواع من الشجر والثمار ، ففيهما ثمر وظلال ، فبأى آلاء ربكما تكذبان؟ فيهما عينان تجريان بالماء الزلال ، روى أن إحداهما تسمى بالتسنيم والأخرى بالسلسبيل فبأى آلاء ربكما تكذبان؟ فيهما من كل فاكهة صنفان صنف معروف مألوف ، وآخر غير معروف ولكنه في منتهى الحلاوة واللذة. فبأى آلاء ربكما تكذبان؟! ولمن خاف مقام ربه جنتان حالة كونهم متكئين على فراش بطانته من ديباج غليظ ، والاتكاء من صفات التنعم الدالة على فراغ البال وهدوء النفس ، وإذا كانت البطانة من ديباج فما بال الظاهر من الفراش؟! على أن جنى الجنتين دان وقريب فهو على طرف الثمار يدركه القائم والنائم والجالس والماشي فليس عاليا كالنخل ، ولا يحوطه شوك كالوردة ، وإنما هو من نوع عال لكنه قريب المنال ، فبأى آلاء ربكما تكذبان؟

في تلك الجنان نساء قاصرات الطرف ، قد قصرن عيونهن على أزواجهن فلا ينظرن

٥٨٨

إلى غيرهم ، وهن أبكار لم يفض بكارتهن قبل أزواجهن إنس ولا جان ، وهن كالياقوت صفاء والمرجان بياضا ، وقيل : كالمرجان حمرة ، فبأى آلاء ربكما تكذبان؟.

هل جزاء الإحسان إلا الإحسان (١) أى : ما جزاء الإحسان في العمل إلا الإحسان في الثواب والجزاء.

من نعمه على المؤمنين يوم القيامة

وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (٦٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٣) مُدْهامَّتانِ (٦٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٥) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (٦٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٧) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (٦٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٩) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (٧٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧١) حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (٧٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٣) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٧٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٥) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (٧٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٧) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٧٨)

المفردات :

(مُدْهامَّتانِ) المراد : شديدة الخضرة من كثرة الري ، والدهمة في اللغة : السواد. (نَضَّاخَتانِ) فوارتان بالماء ، والنضخ بالخاء أكثر من النضح. (خَيْراتٌ

__________________

١ ـ الاستفهام بمعنى النفي ، والجملة استئناف مقرر لمضمون ما قبله.

٥٨٩

حِسانٌ) : جمع خيرة على معنى ذوات خير. (حُورٌ) : نساء بيض ، والحور : شدة بياض بياض العين مع شدة سواد سوادها. (مَقْصُوراتٌ) : محبوسات ومستورات. (رَفْرَفٍ) : هو ثوب يطرح على ظهر الفراش للنوم عليه ، وقيل : هو فضول الفرش والبسط واشتقاقه من : رف يرف إذا ارتفع. (وَعَبْقَرِيٍ) : هي ثياب أو بسط منقوشة ، وقيل العبقري : هو كل ما يعجب من حذقه وجودته وصنعته وقوته.

وهذا وصف آخر لجنان خصصت لأصحاب اليمين ، وما قبل هذا كان وصفا لجنان السابقين المقربين. والذي نفهمه أن هذه الصفات كلها تقريبية ، وردت ليقف الخلق على بعض ما في الجنة ، وفي الواقع هي كما قال الله : (وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ ...) [سورة فصلت آية ٣١].

المعنى :

ومن دون هاتين الجنتين التي مضى وصفهما جنتان أخريان ، والكل أعد للخائفين الوجلين المسارعين في الخيرات ، السابقين ، وأصحاب اليمين ، فبأى آلاء ربكما تكذبان؟! هاتان الجنتان مدهامتان ، وقد وسط القرآن قوله : فبأى آلاء ربكما تكذبان بين الجنة وصفتها للإشارة إلى أن تكذيبهم بوجود الجنة فضلا عن تكذيبهم بصفتها حقيق بالإنكار والتوبيخ.

هاتان الجنتان اشتدت خضرتهما لكثرة مائهما ، فبأى آلاء ربكما تكذبان؟! فيهما عينان فوارتان بالماء الكثير ، فبأى آلاء ربكما تكذبان؟!

فيهما فاكهة يتفكه بها ، وخاصة النخل والرمان ، ولعل تخصيصهما بالذكر لكثرة وجودهما في الجزيرة العربية ، فبأى آلاء ربكما تكذبان؟!.

فيهن نساء خيرات حسان في الخلق والخلق ، وإذا وصفهن بالحسن ربك فكيف تقف من مخلوق على بيان كنهه والوقوف على مداه؟ فبأى آلاء ربكما أيها الثقلان تكذبان؟.

هؤلاء النساء حور شديدات البياض ، وفي عيونهن حور ، وهن مقصورات في الخيام ، محبوسات محجبات ، لا يتبذلن في شارع أو سوق ، ولا يخرجن لبيع أو شراء ، والحجاب الذي يقصده الشارع ويصف به الحور العين هو البعد عن التبذل والولوج إلى

٥٩٠

المجتمعات والنوادي ، وأنهن مقصورات على أزواجهن لا ينظرن إلى رجال غيرهم ، وكلنا بينه وبين نفسه لا يحب إلا المرأة المقصورة عليه ، أما التي تتركه وتصادق غيره ، وتراقصه وتستضيفه الأيام والليالى ، ففي الواقع ليست هذه امرأته وحده ، تلك طبيعة الرجال ، أما الذين طغت على عقولهم المدنية الكاذبة ، حتى فقدوا رجولتهم ، وتركوا نساءهم للأصدقاء والخلان تحت اسم الحرية والمدنية فهؤلاء قوم لم يعد للعقل وللمنطق معهم سبيل!! ونساء الجنة حور مقصورات في الخيام أبكار لم يمسسهن قبل أزواجهن إنس ولا جان ، فبأى آلاء ربكما تكذبان!.

أصحاب هذه الجنان يتمتعون متكئين على رفرف خضر ، وثياب تشبه الرياض عبقرية عجيبة غريبة ، بلغت منتهى الحسن والجمال ، فبأى آلاء ربك تكذبان!.

تبارك الرحمن الذي أنعم بتلك النعم ، وتعالى اسمه ، وتقدست ذاته ، وتنزهت عن كل نقص ، سبحانه وتعالى صاحب الفضل ، وواهب الخير ، ومصدر النعم ، تبارك اسم ربك ذي الجلال والكمال ، وصاحب العطاء والإكرام ، سبحانه وتعالى عما يصفون ، سبحانه جل جلاله هو الرحمن الرحيم.

٥٩١

سورة الواقعة

وهي مكية على الصحيح ، وعدد آياتها سبع وتسعون آية ؛ وقد ورد في فضلها آثار كثيرة ، منها حديث ابن مسعود قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا» وروى عن أنس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «سورة الواقعة سورة الغنى فاقرأوها وعلموها أولادكم» ويمكن أن نفهم أنها سورة تحبب في العمل للآخرة ، والعزوف عن الدنيا فتولد بها القناعة والرضاء وهما الغنى والسعادة.

وتشتمل على الكلام على القيامة وأحوالها ، ثم بيان ما أعد للمؤمنين السابقين وأصحاب اليمين في الجنة ، ثم ما أعد لأصحاب الشمال في النار ، ثم ذكرت خلق الإنسان ، والنبات والماء ، والنار ، ثم ذكرت النجوم والميزان إلى غير ذلك من دلائل القدرة ، وآيات البعث والقوة.

قيام القيامة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (٢) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (٣) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (٤) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (٥) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (٦)

المفردات :

(الْواقِعَةُ) : علم بالغلبة على القيامة ، وسميت بذلك لتحقق وقوعها لا محالة (كاذِبَةٌ) والمراد : نفس كاذبة (رُجَّتِ) : زلزلت وحركت تحريكا شديدا (وَبُسَّتِ الْجِبالُ) : فتتت حتى صارت كالسويق الملتوت (هَباءً) : غبارا (مُنْبَثًّا) : متفرقا.

٥٩٢

المعنى :

إذا كانت القيامة ، ووقعت الواقعة التي تحقق وقوعها بلا شك فكأنها واقعة في نفسها مع قطع النظر عن الإخبار بوقوعها ، إذا وقعت الواقعة كان الجزاء والثواب والعقاب (١) حالة كونها ليس لوقعتها (٢) نفس كاذبة ، والواقعة هي السقطة القوية ، وشاعت في وقوع الأمر العظيم ـ بمعنى أنه لا يكون حين وقوعها نفس تكذب على الله تعالى ـ كما في هذه الدنيا ـ وتكذب في تكذيبه سبحانه في خبره بها ، أليس منكر الساعة الآن مكذبا له تعالى في أنها واقعة؟ وهو كاذب في تكذيبه لأنه ـ أى : المنكر ـ قد أخبر بخبر على خلاف الواقع ، فلا يبقى هناك كاذب بل الكل صادق مصدق.

هي خافضة لأقوام كانوا أعزة بالباطل ، رافعة لأقوام كانت عزتهم بالله ورسوله وإن كانوا في الدنيا فقراء المال والجاه ، هي خافضة رافعة ، إذا رجت الأرض رجا ينهدم ما فوقها من بناء ومساكن ، وبست الجبال بسّا فصارت غبارا متفرقا ، وذرات متناثرة ، وكنتم أيها الناس ساعتها أصنافا ثلاثة : أصحاب اليمين ، وأصحاب الشمال ، والسابقون المقربون.

هؤلاء هم السابقون ، وذلك جزاؤهم

وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (٧) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (٩) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (١٥) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (١٦)

__________________

١ ـ هذا إشارة إلى أن (إذا) ظرف لما يستقبل خافض لشرطه منصوب بجوابه المحذوف الذي قدر مكان الجزاء إلخ ، وقيل : إنها ظرف وليس شرطا ، وهو معمول ل (اذكر) مقدره.

٢ ـ اللام هنا للتوقيت.

٥٩٣

يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (١٨) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (١٩) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (٢٠) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢١) وَحُورٌ عِينٌ (٢٢) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (٢٣) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (٢٥) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (٢٦)

المفردات :

(أَزْواجاً) : أصنافا ثلاثة. (الْمَيْمَنَةِ) : وأصحابها هم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة. (الْمَشْئَمَةِ) : هم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار.

(وَالسَّابِقُونَ) والمراد بهم : السابقون إلى الإيمان والعمل الصالح. (ثُلَّةٌ) : جماعة. (مَوْضُونَةٍ) أى : منسوجة بإحكام ، وفي كتب اللغة أن الوضن : النسج المضاعف. (وِلْدانٌ) : كصبيان في الوزن والمعنى. (مُخَلَّدُونَ) : باقون على حالتهم لا يهرمون كأولاد الدنيا. (بِأَكْوابٍ) : جمع كوب ، وهي الآنية التي ليس لها مقبض ولا خرطوم ، والأباريق : أوان لها مقابض وخراطيم ، وأقرب الأشباه بهما ما نستعملهما الآن في مصر ونطلق عليهما لفظ ـ كوب وإبريق. (وَكَأْسٍ) : لفظ الكأس يطلق على الإناء الذي فيه الخمر أو على نفس الخمر ، فإذا خلا الإناء من الخمر فهو قدح. (مَعِينٍ) المعين حقيقة : هو النهر الجاري على وجه الأرض الظاهر للعيون ، أو الخارج من العيون (١). (يُنْزِفُونَ) من نزف الشارب أو من أنزف الشارب : إذا سكر. (لا يُصَدَّعُونَ عَنْها) أى : لا تنصدع رءوسهم من شربها فلا يصابون بصداع. (عِينٌ) : كبار الأعين حسانها. (الْمَكْنُونِ) : المستور لا يصل إليه غبار. (لَغْواً) : فاحشا من القول. (تَأْثِيماً) : ما يؤثم.

وهذا تفصيل للأزواج الثلاثة ، وبدأ بذكر السابقين.

__________________

١ ـ وهو مأخوذ من عان المرء يعينه إذا نظر إليه بعينه فيكون اسم مفعول ، ويجوز أن يكون من معن الماء إذا نبع فهو اسم فاعل كشريف من شرف.

٥٩٤

المعنى :

وكنتم ـ والخطاب لأمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والأمم السابقة من باب التغليب ـ أصنافا ثلاثة : أصحاب الميمنة ، وأصحاب المشأمة ، والسابقون ، فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة (١) نعم هم في غاية حسن الحال ، كما أن أصحاب المشأمة في نهاية سوء الحال ، والسابقون السابقون أولئك ـ والإشارة لبعد مركزهم وعلو مكانتهم ـ المقربون (٢) في جنات النعيم بمعنى السابقون هم الذين سبقوا في الإيمان غيرهم وسارعوا إلى عمل الصالحات ، وكأن سائلا سأل وقال : وما جزاء هؤلاء؟؟ فأجيب : أولئك المقربون من الحضرة القدسية المتمتعون بالرضا السامي في جنات النعيم.

هم جماعة كثيرة من الأمم السابقة وقليل من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ممن جاءوا أخيرا ، فالقلة والكثرة راجعة إلى العدد ، هم جميعا في الجنة حالة كونهم على سرر منسوجة بالذهب نسجا محكما ، حالة كونهم متكئين عليها ، متقابلين فوجوههم متقابلة ، وهكذا الأدب العالي ، وقلوبهم صافية نقية ، ولذا تراهم متقابلين يطوف عليهم في الجنة ولدان مخلدون لا يعتريهم هرم ولا ضعف بل هم دائما في طراوة الشباب ورقته ونشاطه ، يطوفون عليهم بأكواب من فضة وأباريق من ذهب ، ويطوفون بخمر جارية من العيون فلا تنقطع ، ظاهرة للعيون ، فليست كخمر الدنيا التي تعصر وتحجز ، ولا يصيبهم بسببها صداع ولا ألم ، ولا يتفرقون عنها بسبب من الأسباب ، ولا هم عنها ينزفون ، أى : لا تذهب عقولهم ، ولا تبيد أموالهم ، ولا تهدم صحتهم ، ولا تضيع كرامتهم ، خمر الجنة ، وكفى أنها من صنع الخلاق الحكيم!

ويطوفون عليهم بفاكهة كثيرة يأخذون منها ما يختارون ، وبلحم من جميع الأشكال والأنواع يأكلون منه ما يشتهون ، ولعلك معى في أن تقديم الفاكهة على اللحم مما يدعو إليه الطب.

__________________

١ ـ أصحاب الميمنة مبتدأ ، والاستفهام للتعجب مبتدأ ثان ، وأصحاب الميمنة خبره ، والجملة خبر المبتدأ الأول.

٢ ـ أحسن الأعاريب أن (السابقون) مبتدأ و (السابقون) الثانية خبر ـ من باب شعري شعري ـ وفي هذا تفخيم لشأنهم ، وجملة (أولئك المقربون) مبتدأ وخبر ، واقعة استئنافا بيانيا.

٥٩٥

ولهم في الجنة حور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون!!

إن هذا كان لهم جزاء بسبب ما كانوا يعملون ، على أنهم في الجنة يتمتعون ـ كما عرفت نوعا من نعيمهم ـ ولكن هل هو نعيم مصحوب بألم كنعيم الدنيا؟ لا : إنهم لا يسمعون فيها ما يكدرهم ، ولا يسمعون فيها لغوا ، ولا تأنيبا ، ولا يقال لهم : أثمتم ، لكنهم يسمعون فيها قولا سالما من كل عيب بأن يقول بعضهم لبعض : سلاما ، وتقول لهم الملائكة : سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار.

هؤلاء هم أصحاب اليمين وهذا جزاؤهم

وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (٢٩) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (٣٠) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (٣١) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (٣٣) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (٣٤) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (٣٥) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (٣٦) عُرُباً أَتْراباً (٣٧) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (٣٨) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (٤٠)

المفردات :

(سِدْرٍ مَخْضُودٍ) السدر : نوع من الشجر يمتاز بكثرة أوراقه وأغصانه إلا أن له شوكا فقيل : سدر مخضود أى : مقطوع الشوك. (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) الطلح : شجر الموز ومنضود : متراكب الثمر ، أى : نضد أوله وآخره بالحمل فليست له سوق ظاهرة بل ثمره مرصوص بعضه فوق بعض بنظام. (مَمْدُودٍ) أى : دائم باق

٥٩٦

لا يزول. (ماءٍ مَسْكُوبٍ) : جار لا ينقطع ، وأصل السكب : الصب. (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) المراد : نساء مرتفعات الأقدار. (أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) : خلقناهن خلقا وأبدعناهن إبداعا. (عُرُباً) : جمع عروب ، وهن النساء المتحببات إلى أزواجهن بإظهار المحبة لهم.

وهذا هو الصنف الثاني ، المتوسط في المرتبة ، وهو يشمل عصاة المؤمنين بعد أخذهم جزاء المعصية أو العفو عنهم.

المعنى :

وأصحاب اليمين ، ما أصحاب اليمين؟! وهذا أسلوب يدل على التفخيم لشأنهم ، والتعجب من حالهم (١) هم في سدر مخضود ، وطلح منضود ، وظل ممدود ، أى : منبسط دائم ، لا يزول بشمس ، فهو كظل ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس وماء مسكوب منساب لا ينقطع ، يجرى بين أيديهم ، وفاكهة كثيرة ، ليست مقطوعة ولا ممنوعة في أى وقت ، وما أروع هذا البيان! وما أرقه حيث وصف السابقين بأقصى ما يتصور لأهل المدن من كونهم على سرر مصفوفة ، تطوف عليهم خدامهم بأنواع الملاذ ، ووصف هنا جزاء أصحاب اليمين بأقصى ما يتصور لأهل البوادي ، وبأغلى شيء عندهم ، من نزولهم في أماكن مخصبة ، بين الماء المنسكب المتدفق الذي لا ينقطع ، والشجر الكثيف ، والظلال الوارفة والثمار الكثيرة فإن وصفها بالنظام يشير إلى الكثرة والجودة ، والفرق بين الصنفين كالفرق بين عيشة البوادي والحواضر.

لهم هذا كله ، وهم في فراش مرفوع على الأسرة ، وقيل : إن هذا كناية عن النساء المرتفعات الأقدار والمنازل ، إنا أنشأناهن ، أى : النساء إنشاء وأبدعناهن إبداعا على أتم صورة ، وأكمل وضع ، فجعلناهن أبكارا لا ثيبات ، وكن عربا متحببات إلى أزواجهن ، أترابا ، أى : مستويات في سن واحدة فليست الواحدة منهن عجوزا شمطاء ، ولا طفلة بلهاء بل هن المستويات الكاملات في باب النساء أنشأهن ربك

__________________

١ ـ وجملة الاستفهام خبر عن أصحاب اليمين.

٥٩٧

لأصحاب اليمين ، الذين هم جماعة من الأولين أو السابقين في الوجود ، وجماعة من الآخرين ، أى : المتأخرين في الزمن كأمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل : هذا الصنف من أمة محمد والتأخر والتقدم في زمن الرسالة المحمدية ، ولم يقل الحق ـ تبارك وتعالى ـ : جزاء بما كانوا يعملون كما قال في بيان السابقين المتقدم ، إشارة إلى أن هذا الصنف المتوسط قد غمر بالفضل من الله لقصر عمله عن السابقين.

هؤلاء هم أصحاب الشمال ، وهذا هو جزاؤهم

وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (٤١) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (٤٢) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (٤٣) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (٤٤) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (٤٥) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (٤٦) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٤٧) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (٤٨) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (٤٩) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٥٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (٥١) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (٥٢) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٥٣) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (٥٤) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (٥٥) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (٥٦)

المفردات :

(سَمُومٍ) السموم : الريح الحارة التي تدخل في مسام البدن ، أو التي تؤثر تأثير السم. (وَحَمِيمٍ) : ماء حار شديد الحرارة. (يَحْمُومٍ) اليحموم : دخان أسود

٥٩٨

شديد السواد من نار جهنم. (مُتْرَفِينَ) الترف : التنعم ، والمراد ، متنعمين بالحرام.(الْحِنْثِ) : الذنب العظيم ، وعليه الحديث : كان يتحنث في حراء ، أى : يفعل ما يزيل الذنب العظيم ، وقيل الحنث : عدم البر بالقسم ، وكانوا يقسمون على أنه لا بعث ، وأن لله شريكا. (مِنْ زَقُّومٍ) : هو شجر كريه الطعم والشكل. (شُرْبَ الْهِيمِ) : جمع أهيم وهيماء ، والمراد بالهيم الإبل العطاش التي لا تروى لداء أصابها.

وهذا هو جزاء أصحاب الشمال ، الذين حقت عليهم كلمة العذاب بعد ذكر السابقين وأصحاب اليمين ليظهر الفرق جليا بين عاقبة الطاعة ونهاية المعصية.

المعنى :

وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال؟! هم في ريح حارة تفعل فعل السموم ، وتدخل إلى البدن من مسام الجسم ، هم في سموم وحميم ، أى : ماء شديد الحرارة وظل من دخان أسود من نار جهنم ، وتسميته ظلا من باب التهكم ، هذا الظل ليس باردا بل حارّا ، ولا كريما ، أى : ليس كريم المنظر ، ولا كريم المخبر (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) [سورة الزمر آية ١٦].

وما سبب هذا؟ إنهم كانوا قبل ذلك في الدنيا مترفين ، أتبعوا أنفسهم هواها ، ولم يكن لهم رادع يردعهم بل ظلوا يتنعمون بالحرام ، ويتكبرون عن الحق والحلال ، وكانوا يصرون على فعل الذنب العظيم ، وهو الشرك ، وكل منكر قبيح ، وكانوا كذلك يقسمون بالأيمان على أنه لا بعث ولا ثواب ، وعلى أنه لله شركاء (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ) (١) وكانوا يقولون منكرين ومتعجبين : أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون (٢)؟!! والمعنى : أنبعث إذا متنا وكنا ترابا؟! وتقييد الإنكار والاستبعاد للبعث بوقت كونه ترابا ليس للتخصيص ، فإنهم منكرون للإحياء بعد الموت وإن كان البدن يظل كما هو ، أنبعث نحن وآباؤنا الأولون؟ مع أنهم أقدم منا فبعثهم أبعد وأشد إنكارا.

وقد ذكر الله هنا سبب عقابهم في قوله : (إِنَّهُمْ كانُوا ...) الآية ، ولم يذكر

__________________

١ ـ سورة النحل آية ٣٨.

٢ ـ الهمزة للإنكار والتعجب وتكريرها في أإذا وأ إنا لتأكيد الإنكار.

٥٩٩

سبب إحسانه لأصحاب اليمين للإشارة إلى أن العقاب عدل يبين وجهه ، أما الثواب فبمحض الفضل في الحقيقة فلا يحسن ذكر السبب.

قل لهم يا محمد ردّا على افتراءاتهم وإنكارهم للبعث : إن الأولين والآخرين من الأمم كلها ، ومن جملتهم أنتم وآباؤكم لمجموعون بعد البعث من القبور إلى ميقات يوم معلوم وهو يوم القيامة ، ويوم الجزاء والحساب ، ثم إنكم أيها الضالون عن الحق ، المكذبون بالبعث والوحدانية وإرسال الرسل لآكلون يوم القيامة أكلا مبتدأ من شجر هو زقوم ، شجرة تنبت في قعر جهنم جعلت فتنة للظالمين ، وهي كريهة المنظر والمخبر ، فيملأ الكفار منها بطونهم من شدة الجوع ، فإنه هو الذي اضطرهم إلى الأكل منها ، وعقب الأكل يشربون عليها من ماء حار لشدة العطش ، فشاربون منه شرابا كثيرا كشرب الإبل الهيم التي تشرب حتى تموت أو تسقم ، ولا ترتوى ، عجبا لهم يأكلون من الزقوم ثم يشربون من الحميم ، ثم هم لا يرتوون!! هذا ـ الذي ذكر من ألوان العذاب ـ نزلهم الذي أعد لهم يوم الدين ، وهو أشبه بما يقدم للضيف ساعة قدومه ، فما بالك بما أعد لهم من بعد ذلك!!

بعض الأدلة على إثبات قدرة الله الكاملة على البعث وغيره

نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ (٥٧) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (٥٩) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ

٦٠٠