التفسير الواضح

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٨

اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (٢٩) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (٣١) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (٣٢) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣)

المفردات :

(ظاهِرِينَ) : غالبين (بَأْسِ اللهِ) : عذابه (التَّنادِ) المراد به : يوم القيامة.

وهكذا لا تذهب الدعوة إلى الله سدى بل لا بد من وجود من يدافع ويرد كيد الكائدين لها في مجتمع أعدائها ، وقد كان ذلك مع موسى وفرعون ، فأوجد الله في قوم فرعون رجلا مؤمنا حقا يكتم إيمانه فلم يعرفه أحد بأنه مؤمن ، ويظهر أن الرجل كانت له مكانة في القوم حتى استطاع أن يدلى برأيه هذا.

قال : أتقتلون يا قوم رجلا لأنه يقول : ربي الله الذي خلق كل شيء وهو رب السموات والأرض ، وقد جاءكم بالبينات والحجج الواضحات على أنه رسول من عند الله؟! فإن يك كاذبا فعليه وزر كذبه ، ولا يضركم شيء فاتركوه وشأنه ، ولا تتعرضوا

٣٠١

له ولأتباعه ، وإن يك صادقا في الذي يحذركم به من عذاب الدنيا والآخرة فلا أقل من أنه يصيبكم بعض الذي يعدكم ، واعلموا أن الله لا يهدى من هو مسرف في قوله وعمله وهكذا فيما يدعيه. وقد هدى الله الرجل إلى الحق فبعيد جدّا أن يكون كما تقولون : مسرف كذاب.

المعنى :

وهذه مقالة الرجل الذي امتلأ قلبه بنور الإيمان ، وخالط بشاشته برد اليقين فنظر إلى الدنيا نظرة الحكيم العاقل ، فقال : يا قومي لكم الملك اليوم ـ ملك ظاهرى ـ حالة كونكم ظاهرين لا يعلو عليكم أحد غالبين لا يغلبكم أحد في أرض مصر ، يا قوم لا تفسدوا أمركم ، ولا تزيلوا عزكم بتعرضكم لهذا الرجل الذي يقول : ربي الله ، ولا تتعرضوا لبأس الله ، فإنه إن جاءنا لم يمنعه مانع ، فمن ينصرنا من بأس الله؟

قال فرعون بعد سماعه لهذا الكلام : ما أريكم إلا ما أرى ، ولا أشير عليكم إلا بقتله حتى نستريح ، وما أهديكم بهذا الرأى إلا سبيل الرشاد وطريق الصواب.

وقال الذي آمن : يا قوم إنى أخاف عليكم يوما يجعل الولدان شيبا ، يا قوم إنى أخاف عليكم من تكذيب موسى والتعرض له بسوء أن يحل بكم مثل ما حل بالذين تحزبوا على أنبيائهم من الأمم الماضية فقد أخذهم ربكم أخذ عزيز مقتدر ، وحل بهم الخسف والإغراق ، وما الله بهذا يريد ظلما للعباد ، ولكن الناس أنفسهم يظلمون بتكذيبهم الأنبياء ، وتعرضهم لهم بالسوء.

هذا الذي أخافه عليكم في الدنيا أما في الآخرة فإنى أخاف عليكم يوم التنادى الذي هو يوم القيامة ، وما أكثر النداء فيه!! فيه ينادى أصحاب الجنة أصحاب النار ، وفيه ينادى أصحاب النار أصحاب الجنة ، وينادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم ـ كما ذكر هذا في سورة الأعراف ـ وينادى المنادى بالشقوة لأهل الشقاء ، وبالسعادة لأهل السعادة وفيه تنادى الملائكة كلا بما يستحقه (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ) إنى أخاف عليكم يا قوم يوم التنادى يوم تولون مدبرين هاربين ما لكم من الله من عاصم ، وليس لكم من دونه ملجأ (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) ومن يضلل الله فما له من هاد ، ومن يهد الله فما له من مضل ، وكل ميسر لما خلق له.

٣٠٢

تذكيرهم بما حصل لهم أيام يوسف

وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (٣٤) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (٣٥)

المعنى :

يا قوم تنبهوا ، واذكروا ما حصل أيام يوسف الذي أرسل لكم ، وتالله لقد جاءكم يوسف من قبل موسى بالآيات البينات فما زلتم ، أى : أسلافكم في شك مما جاءكم به ، ومتى شك الإنسان في الأمر أعرض عنه ولم يبحثه ، حتى إذا هلك قلتم : لن يبعث الله من بعده من يدعى الرسالة ، مثل هذا الإضلال والخروج عن جادة الصواب يضل الله كل شخص مسرف في العصيان مرتاب في دينه شاك فيما تشهد به الآيات البينات ، وهذا بيان لمن هو مسرف مرتاب وهم الذين يجادلون في آيات الله بغير علم ولا هدى ولا حجة ولا برهان (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ) (١) كبر مقتا عند الله ، أى : كبر مقت المجادل في آيات الله وعظم جرمه عند الله ، وعند الذين آمنوا!! مثل ذلك الطبع الفظيع يطبع الله على كل قلب متكبر جبار يصدر عنه هذا الإسراف والارتياب والمجادلة بغير حق ..

__________________

١ ـ سورة غافر آية ٥٦.

٣٠٣

إنكار فرعون وجود الإله

وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (٣٧)

المفردات :

(صَرْحاً) : القصر الضخم (الْأَسْبابَ) : جمع سبب ، وهو الطريق الموصل إلى المطلوب (تَبابٍ) : خسارة وهلاك.

المعنى :

ولما سمع فرعون قول الرجل المؤمن وخاف أن يذاع خبره ويصل إلى قلوب الناس أراد أن يهدم أساس الدعوة ، وينفى وجود الإله بالدليل الحسى ويعلم الناس أن قول موسى : إنى رسول من رب العالمين خطأ باطل ، إذ كان رسولا منه فلا بد أن يتصل به شأن كل رسل الملوك ، وهذا يكون بالصعود إلى السماء ، وهو محال لأن موسى لم يبن بناء مرتفعا وأصلا إليها ، ومنشأ ذلك الفهم أن فرعون يفهم أن الله مستقر في السماء ، وأن رسله كرسل الملوك.

وإذا كان الصعود إلى السماء محالا فكيف نقول بوجود الله فيها؟ وكيف نسلم بأن موسى رسوله؟ ولهذا قال فرعون : يا هامان ابن لي صرحا ، ليظهر للكل أن الصعود إلى السماء محال .. لعلى أبلغ الأسباب والطرق الموصلة إلى السماء. فأطلع إلى إله موسى

٣٠٤

وإنى لأظنه كاذبا في دعواه أنه رسول ، وأن هناك إلها غيرى. ومثل ذلك التزيين البليغ المفرط في الغباوة والطبع على القلوب زين لفرعون الجبار سوء عمله ، وقبح صنعه ، وصد عن سبيل الحق والعدل والإنصاف ، أو هو صد غيره عن ذلك ، وما كان كيده وعمله إلا في تباب وخسران.

وعظ الرجل المؤمن لقومه

وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (٣٨) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (٣٩) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (٤٠) وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (٤٢) لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٤٣) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى

٣٠٥

اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٤٤) فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (٤٥) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (٤٦)

المفردات :

(لا جَرَمَ) : لا شك. أى ثبت وحق أن ما تدعون إليه .. الآية (مَرَدَّنا) : مرجعنا (وَحاقَ) : أحاط بهم (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها) : المراد يصلونها ويحرقون بها (١).

المعنى :

وقال الذي آمن من آل فرعون يعظ قومه : يا قوم اتبعونى فيما أدعوكم إليه أهدكم سبيل الرشاد ، سبيل يصل بكم إلى الخير والسداد وفي هذا تعريض بأن سبيل فرعون وآله وما هم عليه سبيل الغي والفساد.

يا قوم : إنما هذه الحياة الدنيا متاع زائل وعرض حائل فلا تكن هي السبب في كفركم وغيكم ، واعلموا أن الآخرة هي دار القرار والبقاء والخلود ، فاعملوا لها واسعوا في نعيمها ، ولا تغرنكم الدنيا الفانية فالآخرة خير وأبقى ، يا قوم من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها عدلا من الله ، ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة التي عرضها كعرض السموات والأرض ، يرزقون فيها رزقا رغدا بغير حساب أضعافا مضاعفة ، فضلا من الله ورحمة.

__________________

(١) في قوله تعالى : (النار يعرضون) استعارة تمثيلية حيث شبه حالهم بحال متاع يعرض للبيع ويبرز لمن يريد أخذه ، وقد جعل النار كالطالب الراغب في الكفار لشدة استحقاقهم للهلاك.

٣٠٦

ويا قوم : مالي أدعوكم إلى النجاة من عذاب النار وغضب الجبار ، وأنتم تدعونني إلى النار وعذاب الجبار ؛ إذ تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم ، أى :

ما ليس له حقيقة في الوجود حتى أعلم به فنفى العلم هنا كناية عن نفى المعلوم ، وأما أنا فأدعوكم إلى العزيز الغفار الموصوف بكل كمال المنزه عن كل نقص.

لا شك أن ما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة ، أى : ثبت وحق عدم دعوة الذين تدعونني إليه من الأصنام إلى عبادته أصلا من أن من حق المعبود بالحق أن يدعو عباده إلى عبادته ، ويظهر ربوبيته لخلقه ، وما تدعونهم أصناما وأحجارا لا نفع لها ولا ضرر لا تسمع ولا تبصر ، فليس لها دعوة إلى عبادتها في الدنيا ، في الآخرة يتبرءون من عبادتكم لهم واعلموا أن مردنا إلى الله ، وأن المسرفين في ارتكاب الذنوب والآثام هم من أصحاب النار.

يا قوم ستذكرون ما أقوله لكم يوم لا تنفع الذكرى ، وستندمون يوم لا ينفع الندم ، وأما أنا فسأفوض أمرى إلى الله ليعصمني من كل سوء ومكروه ؛ إن الله بصير بالعباد ، فوقاه الله سيئات ما مكروا ، وكفاه شر المستهزئين به المعاندين له ، وحاق بآل فرعون العذاب السيئ وأحاط بهم من كل جانب ، وما هو العذاب السيئ؟ هو النار يصلونها ويحرقون بلهيبها ، ويعرضون عليها صباحا ومساء.

ومن هنا كان القول بعذاب القبر. وصح ما روى عن بعضهم : إن أرواح آل فرعون في أجواف طيور سود تغدو وتروح على النار فذلك عرضها ، يشهد بذلك ما روى عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إنّ الكافر إذا مات عرضت روحه على الجنّة بالغداة والعشىّ» وخرج البخاري ومسلم حديثا كهذا. روحه على النّار بالغداة والعشىّ» ثم تلا : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) وإنّ المؤمن إذا مات عرضت روحه على الجنّة بالغداة والعشىّ» وخرج البخاري ومسلم حديثا كهذا.

ويوم القيامة يقال للملائكة : أدخلوا آل فرعون أشد أنواع العذاب ، وهذا دليل على أن عرض النار عليهم في الدنيا ، وأن عذاب القبر حقيقة واقعة ، والله أعلم.

٣٠٧

من مواقف الكافرين في الدنيا والآخرة

وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (٤٧) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (٤٨) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (٤٩) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٥٠) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (٥١) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (٥٣) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٥٤) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٥٥)

٣٠٨

المفردات :

(يَتَحاجُّونَ) : يتخاصمون ويتجادلون (تَبَعاً) : جمع تابع ، كخدم جمع خادم ، وقيل : هي نفس التبع (مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً) : حاملون عنا جزءا من العذاب (ضَلالٍ) : هلاك وخسران (الْأَشْهادُ) : جمع شهيد.

المعنى :

واذكر يا محمد لقومك لعلهم يتعظون : وقت خصام الكفار ومجادلة بعضهم لبعض ، فيقول الضعفاء الأتباع للذين استكبروا بغير حق وادعوا الرياسة بالباطل والظلم : أيها المتبوعون. إنا كنا لكم تبعا وخدما ، وأنتم قدمتمونا إلى الضلال والفساد ، ولولاكم ما وقعنا في الإثم والشرك ، فهل أنتم متحملون عنا جزءا من عذاب النار؟!

قال الذين استكبروا للمستضعفين : إنا كل في جهنم فلو قدرنا على دفع شيء من العذاب لدفعنا عن أنفسنا ، إن الله قد حكم بين العباد حكمه العدل ، ولكل نفس ما كسبت لا ظلم اليوم. وكلنا نستحق ما نحن فيه.

ولما يئسوا من دعائهم سادتهم وقادتهم اتجهوا إلى خزنة جهنم يطلبون منهم أن يسألوا ربهم التخفيف ، ولو بمقدار يوم من أيام الدنيا ، وقالوا لخزنة جهنم : ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب فرد عليهم الخزنة : ألم تنبهوا على هذا ولم تك تأتيكم رسلكم في الدنيا بالحجج الواضحة التي تحذركم سوء عاقبتكم وغاية ما كنتم عليه من الكفر والمعاصي؟

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) (١) والمراد بذلك توبيخهم وإلزامهم الحجة. قالوا ـ أى الذين في النار ـ : بلى قد جاءتنا من عند ربنا رسله فكذبنا وقلنا : ما نزل الله من شيء ، ما أنتم أيها الرسل إلا في ضلال كبير.

قالت الملائكة : إذا كان الأمر كذلك فادعوا أنتم ، وما دعاء أمثالكم من الكفار إلا في ضلال وخسران.

__________________

١ ـ سورة الزمر آية ٧١.

٣٠٩

أما هؤلاء الرسل الذين أرسلوا إليكم ومن آمن بهم من المؤمنين فإنا ننصرهم ونؤيدهم بالحق والآيات البينات (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) فهذا شأننا دائما ننصر رسلنا ومن آمن بهم بالحجة والسلطان المبين ، وبالانتقام لهم من الكفار بالقتل والسبي والعذاب المبين وغير ذلك من العقوبات ، ولا يقدح في ذلك ما نراه الآن في المسلمين. فإنهم إذا آمنوا حقّا أتاهم نصر الله بين عشية أو ضحاها.

ويوم يقوم الأشهاد من الملائكة والنبيين وصالحي المؤمنين ، أما الملائكة فهم الكرام الكاتبون يشهدون بما شاهدوا ، وأما النبيون فالله يقول : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) (١) وأما المؤمنون فالله يقول : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (٢) ويوم يقوم الأشهاد وهو يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم. ولهم فيه اللعنة ، ولهم سوء الدار ، ترى أن القرآن وصف الكفار في هذا اليوم بأنه لا تنفعهم المعذرة ، ولهم سوء الدار وبئس المصير!!

أما المؤمنون فالله ينصرهم ويؤيدهم ويهديهم ؛ ولذلك يقول : ولقد آتينا موسى الهدى (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ) (٣) وجعلنا بنى إسرائيل يأخذون الكتاب ، أى : التوراة ويستحقونه استحقاق الميراث حالة كونه مصدر هدى وهداية ، ومنبع ذكرى وتذكر ، ولكن لأولى الألباب.

وإذا كان الأمر كما ذكر فاصبر يا محمد على أذى المجادلين في آيات الله بغير حق ، اصبر على أذاهم فالله ناصرك ومؤيدك ، وعاصمك من الناس جميعا ، إن وعد الله حق ، وعليك أمران ، أحدهما أن تتوب إلى ربك وتستغفر من ذنبك ، وثانيهما أن تسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار ، وهذا أدب للأمة الإسلامية رفيع ، وإنما خوطب به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليعلم أنه طريق لا بد منه ، وأدب عال رفيع يجب أن يتحلى به كل مسلم ، وانظر إلى هدى القرآن حيث قدم التوبة والمغفرة على العمل ، فإنه لا يقبل العمل إلا بعد أن تطهر القلوب من الآثام بالتوبة ، والتوبة قد تكون من عمل خلاف الأولى ، ولذا لا غرابة أن الله يأمر بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

١ ـ سورة النساء آية ٤١.

٢ ـ سورة البقرة آية ١٤٣.

٣ ـ سورة المائدة آية ٤٤.

٣١٠

الجدل في آيات الله وسببه مع ذكر بعض النعم

إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٥٦) لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (٥٨) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (٥٩) وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (٦٠) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٦١) ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٦٢) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ

٣١١

(٦٣) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٦٤) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٥)

المفردات :

(سُلْطانٍ) : حجة وبرهان (كِبْرٌ) : تكبر وتعاظم (لا رَيْبَ فِيها) : لا شك (ادْعُونِي) : اعبدوني (داخِرِينَ) : صاغرين أذلاء (تُؤْفَكُونَ) أفك إفكا : كذب ، والإفك : الكذب ، وأفكه عنه يأكفه أفكا : صرفه وقلبه ، وعليه قوله تعالى : (قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا). (قَراراً) : مستقرا (بِناءً) أى : قبة ومنه أبنية العرب لقبابهم التي تضرب.

وهذا رجوع إلى الأصل الأول الذي بنيت عليه السورة وهو مناقشة المجادلين في آيات الله بالباطل ، مع التعرض لإثبات البعث ، والكلام على صفات الله ونعمه على الناس.

المعنى :

إن الذين يجادلون في آيات الله ودلائله التي نصبها دالة على الوحدانية وصدق الرسل ، بغير سلطان ولا حجة تؤيد كلامهم : إن الذين يجادلون في آيات الله بغير حجة ولا برهان ما في قلوبهم إلا كبر وتعظم عن الحق والتفكير الحر ، فهم قوم يريدون الرياسة والتعاظم لأنفسهم حسدا وبغيا حيث قالوا : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف ٣١](لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) [الأحقاف ١١] ولذلك يجادلون في آيات الله.

٣١٢

بالباطل ، قد دفعهم الكبر وحب الرياسة إلى هذا الجدال الممقوت ، ما هم ببالغي ما يريدون ، لأن الله أذلهم ، وقضى على أطماعهم.

وقيل : إن الآية نزلت في يهود المدينة ، وهي مدينة ، الحق أن كل جدال في آيات الله من مشركي مكة أو يهود المدينة أو من غيرهم كبر مقته عند الله وعظم جرمه مطلقا ، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

إذا كان الأمر كذلك فاستعذ بالله ، والجأ إليه من كيد الكائدين ، وحسد المشركين ، وفيه رمز إلى أن ذلك كان من همزات الشياطين (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) (١). إنه هو السميع لكل قول ونية ، البصير بكل فعل وعمل ، ولو كان من إشارات العيون وخطرات القلوب.

لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس بدءا وإعادة فلا تجادلوا في أمر البعث فإن الله خلق السموات وما فيها ، والأرض وما عليها وما في باطنها من عوالم ، فلا تظنوا أن الله هذا ليس بقادر على أن يحيى الموتى ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس.

ولا يستوي الأعمى عن الحق ، والبصير به ، ولا يستوي المؤمنون الذين عملوا الصالحات ، وأحسنوا العمل ، ولا المسيئون الذين أساءوا الفهم والتقدير حتى جادلوا في آيات الله كلها وكان تذكرهم قليلا جدّا.

إن الساعة لآتية لا شك فيها ، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون لقصور نظرهم ، وسوء رأيهم.

وقال ربكم : ادعوني أثبكم ثوابا يتكافأ مع أعمالكم ، وفعلكم الطاعات ، وترك الذنوب والآثام هو الدعاء ، فمن ترك الذنب فقد دعا. وأخلص في الدعاء ، ومن يقترف ذنبا فليس بداع إلى الله وإن دعا ألف سنة. وبعضهم فسر الدعاء بالعبادة ، ويؤيد هذا قوله تعالى : إن الذين يستكبرون عن عبادتي ودعائي سيدخلون جهنم داخرين أذلاء صاغرين ، وحق من يستكبر عن دعاء ربه الذي رباه وخلقه ، وصوره فأحسن صوره أن يدخل جهنم صاغرا ذليلا ، ومهينا حقيرا.

__________________

١ ـ سورة الأعراف آية ٢٠٠.

٣١٣

وكيف تتكبرون عن عبادة الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا؟ فالله الذي خلق لكم الليل لتستريحوا فيه وتسكنوا من وعثاء الطريق ، ومتاعب الحياة حتى يعود الإنسان نشيطا مجدا مقبلا على عمله بالنهار الذي جعله ربه مبصرا فيه وفيه الضوء والحركة والنشاط.

يا سبحان الله!! لو خلقت الدنيا بلا ليل أو خلقت بلا نهار كيف الحال ..؟ وكيف نعيش؟

يا رب : هذا الليل المظلم وهذا النهار المبصر ينشآن من حركة واسعة ، ونظام دقيق محكم فأنت يا رب الواحد القهار الذي لا يعجزه شيء في السموات والأرض ، إن الله لذو فضل على العالمين. ولكن أكثر الناس لا يشكرون ، ومن كان هذا شأنه أنجادل في قدرته على البعث ، ونقول : من يحيى العظام وهي رميم؟

ذلك الله ـ جل جلاله ـ خالق كل شيء ، فاطر السموات والأرض واهب الوجود لا إله إلا هو ، فكيف تصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره من الأحجار والأوثان؟!! وهذا كالنتيجة لما تقدم.

مثل ذلك الإفك العجيب الذي لا أساس له ولا سند من عقل أو منطق سليم يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون.

الله الذي جعل لكم الأرض قرارا : مستقرا أو مكانا ، وجعل السماء كالبناء ، وهذا بيان فضله ـ تعالى ـ المتعلق بالمكان بعد بيان فضله في الزمان ، ثم تعرض لفضله المتعلق بالإنسان فقال : صوركم فأحسن صوركم ، ورزقكم من الطبيات الطاهرات ، ذلكم الله ربكم فتبارك الله ، وتزايد فضله. وتكامل خيره ، وهو رب العالمين ، أى : مالكهم ومربيهم ، هو الحي حياة ذاتية ، لا إله إلا هو ، ولا معبود بحق في الوجود سواه. إذا كان الأمر كذلك فادعوه واعبدوه مخلصين له الطاعة صادقين في النية.

ولما كان موصوفا بصفات الجلال والعزة ، ومنعوتا بالإنعام الكامل على خلقه استحق لذاته أن يقال : الحمد لله رب العالمين.

٣١٤

كيف نعبد غير الله؟!!

قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦٦) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦٧) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٦٨)

المفردات :

(أُسْلِمَ) : أنقاد لرب العالمين (أَجَلاً مُسَمًّى) : وقتا محدودا ينتهى عند الموت.

المعنى :

لما أورد تلك الأدلة التي تثبت لله كمال القدرة والوحدانية ، وقال : ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين. الحمد لله رب العالمين ، أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول المشركين : إنى نهيت نهيا عامّا بالبراهين القاطعة من الآيات القرآنية ، أو البراهين العقلية ، نهيت أن أعبد الذين تدعونهم من دون الله ، نهيت حين جاءني البينات ودلائل التوحيد كلها من عند ربي ، وأمرت كذلك أن أسلم لرب العالمين.

٣١٥

ولما ذكر سابقا أنه خالق الليل والنهار لتسكنوا فيه ، والنهار لتبصروا أمر معاشكم وخالق الأرض للاستقرار عليها ، والسماء كالبناء عليكم ، وصوركم في أحسن صورة ورزقكم من فضله بأبهى نعمه. ذكر هنا من دلائل التوحيد والكمال أنه خلقكم من تراب ، أى : خلق أباكم آدم منه أو خلقنا من تراب ؛ إذ المنى من الدم ، والدم من الغذاء وهو من التراب ، ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم من بطون أمهاتكم أطفالا ثم يرعاكم لتبلغوا قوتكم ومنتهى شبابكم ، ثم يبقيكم لتكونوا شيوخا كبارا ضعافا بعد القوة والفتوة ، ومنكم من يتوفى من قبل هذا ، ومنكم من يرد إلى أرذل العمر ، فعل ذلك بكم لتبلغوا أجلا مسمى ووقتا محدودا ينتهى بانقضاء الآجال.

ولعلكم بعد هذه الآيات الكونية الناطقة بوحدانية الله تعالى ، وأنه الخالق القادر السميع البصير وأنه الإله ولا إله غيره ، ولعلكم بعد هذا تعقلون دلائل التوحيد فتوحدوه.

هو الذي يحيى ، وهو الذي يميت ، وهو الذي إذا أراد شيئا حصل بمقتضى إرادته بسرعة كأنه قال له : كن فيكون ، وهذا تمثيل لتأثير قدرة الله في المقدورات التي يريدها وتصوير لسرعة حصولها من غير أن يكون أمر ولا مأمور.

المجادلون وجزاؤهم وصبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على إيذائهم

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣) مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ

٣١٦

نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ (٧٤) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (٧٥) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٦) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٧٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (٧٨)

المفردات :

(يُصْرَفُونَ) : يبعدون (الْأَغْلالُ) : جمع غل وهو القيد الذي يوضع في العنق (يُسْحَبُونَ) السحب : الجر بعنف (يُسْجَرُونَ) : سجر التنور ملأها بالوقود ، والمراد أنهم يحرقون ظاهرا وباطنا (ضَلُّوا عَنَّا) يقال : ضل الماء في اللبن ، أى : خفى ، والمراد أنهم صاروا بحيث لا نجدهم (تَمْرَحُونَ) المرح : فرح بعدوان كالبطر والأشر.

اعلم أنه ـ تعالى ـ عاد إلى ذم المجادلين في آيات الله مبينا عظيم جرمهم في التكذيب ، وجزاءهم على ذلك ، فليس فيه تكرار ، إذ ما سبق كان لبيان منشأ الجدال وسببه ، وهذا تعجيب من أحوالهم الشنيعة وآرائهم الفاسدة مع بيان نهاية جدالهم ..

٣١٧

المعنى :

انظر إلى هؤلاء المجادلين في آيات الله الواضحة ، الموجبة للإيمان والإقرار بالوحدانية والبعث ، الزاجرة عن الجدال والتكذيب ، انظر إليهم كيف يصرفون عنها؟! هؤلاء المجادلون هم الذين كذبوا بالكتاب المنزل من عند الله ، وبكل ما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون عاقبة فعلهم ونهاية تكذيبهم عند مشاهدتهم العقوبة المعدة لهم ولأمثالهم ، فسوف يعلمون يوم القيامة وقت (١) أن تكون الأغلال والسلاسل في أعناقهم ، والمعنى أنه يكون في أعناقهم الأغلال والسلاسل ثم يسحبون بها في الحميم ، أى : في الماء المغلى بنار جهنم ، ثم هم في النار فهي محيطة بهم من كل جانب تحرقهم ظاهرا وباطنا (نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ* الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) [سورة الهمزة الآيتان ٦ ، ٧].

ثم قالوا : بل لم نكن ندعوا شيئا ، أى : كنا نظن أننا ندعوا من ينفع أو يشفع من دون الله؟! قالوا : ضلوا عنا ، وغابوا عن عيوننا فلا نراهم ، ولا نستشفع بهم وما أروع التعبير بقوله : ضلوا عنا! ثم قالوا : بل لم نكن ندعوا شيئا ، أى : كنا نظن أننا ندعوا من ينفع أو يشفع فتبين لنا أنهم لم يكونوا شيئا ، وما كنا نعبد بعبادتهم شيئا ، ويصح أن نفهم : أنهم كذبوا وأنكروا أنهم عبدوا غير الله (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) (٢). مثل ذلك الإضلال يضل الله الكافرين عن طريق الجنة ، ويضلهم عن الصراط المستقيم.

ذلكم العذاب الذي أنتم فيه بسبب أنكم كنتم تفرحون بالمعاصي وارتكاب الآثام وإيذاء الرسل الكرام ، وتمرحون مرح بطر وأشر.

ادخلوا أبواب جهنم فإن لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم ، ادخلوها خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين. (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ) (٣).

__________________

١ ـ «إذ» هنا أعربت مفعولا به لقوله : (تعلمون) وهي مضافة لجملة (الأغلال في أعناقهم) وبعضهم تخلص من تعارض (سوف) مع (إذ) التي للماضي فقال : إن (إذ) هنا بمعنى (إذا) ظرف ل (يعلمون) وعبر ب (إذ) بدلا من (إذا) للدلالة على تحقق ما بعدها.

٢ ـ سورة الأنعام آية ٢٣.

٣ ـ سورة غافر آية ٥٦.

٣١٨

هذا جزاء المجادلين في آيات الله بغير حق ولا حجة ، وأما أنت يا رسول الله فاصبر على أذاهم وتوكل على الله واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار ، فالله معك وناصرك ومؤيدك ، ووعده الحق وكلامه الصدق ، (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) وقد وعدك بالنصرة ، وأوعدهم بالخزي والمذلة فإن رأيت بعض الذي يوعدون ـ كما حصل في بدر ـ في حياتك ثم توفاك الله قبل رؤية الباقي فثق في تحقيق وعدنا ، فإنهم إلينا راجعون.

ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك خبرهم كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم ، ومنهم من لم نقصص عليك خبرهم مما لا يعلمهم إلا ربك. وجميعا كذبوا وأوذوا في سبيل الله وصبروا.

وما كان لرسول أن يأتى بآية من عنده بل الآيات من الله يرسلها تبعا للمصلحة وهو أعلم بها ، لا كما يريدون فهو أعلم بخلقة ، لكل أجل كتاب فإذا جاء أمر الله وقضاؤه قضى بالحق وخسر هنالك المبطلون الذين يجادلون في آيات الله ، ويقترحون المعجزات وهم لا يعلمون شيئا ، وما دفعهم إلى ذلك إلا تعنتهم وكبرهم وسوء فهمهم ..

بعض آيات الله ونعمه علينا

اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ (٨١)

المفردات :

(الْأَنْعامَ) : هي الإبل والبقر والغنم الشامل للمعز (حاجَةً) : أمرا مهما يشغل بالكم.

٣١٩

وهذا تذكير بنعم الله على الناس ، وبآياته الدالة على كمال القدرة وسط الوعيد الشديد ليعلم الخلق أنه وعيد ولكن من إله رحمن رحيم ، قادر عليهم.

المعنى :

الله ـ عزوجل ـ الذي جعل لكم الأنعام ، وخلقها لأجلكم ولمصلحتكم لتركبوا بعضها ، ومنها تأكلون ، ولكم فيها منافع غير الركوب والأكل كالألبان والأوبار والجلود وغير ذلك ، ولتبلغوا عليها حاجة تشغل بالكم وهي نقل الأثقال والأحمال من بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس ، وعليها وعلى الفلك ، أى : السفينة تحملون ، فقد حملنا ربنا في البر على الإبل وفي البحر على السفن ، وقد علمنا الله كيف نسخر الطبيعة فحملنا الريح والحديد والماء وغيرها.

وهكذا يريكم الله آياته الكونية التي تدل على باهر عظمته ، وعظيم قدرته جل شأنه.

وفي كل شيء له آية

تدل على أنه الواحد

فأى آية من آياته الباهرة تنكرون؟ وبأى آية من آياته تعجبون؟ فكيف تنكرون البعث وتعدونه عظيما؟ من يحيى العظام وهي رميم ، عجبا لكم؟! أنتم أشد خلقا في البدء والإعادة أم السماء بناها رفع سمكها فسواها؟! تركيب هذه الآية قد حير جهابذة العلماء قديما حيث قالوا : كان الظاهر أن يؤتى باللام في الجميع أو تترك في الجميع فيقال (مثلا) لتركبوا : ولتأكلوا ، ولتنتفعوا ، ولتبلغوا .. الآية.

وقد أجاب بعضهم على هذا السؤال بأن المراد بالأنعام الإبل خاصة ، وركوبها وبلوغ الحاجة بها من أتم الأغراض ؛ لأن جل منافعها الركوب والحمل عليها ولذا قال : لتركبوا. وتبلغوا ، وأما الأكل والانتفاع بالأوبار والشعر فغرض بسيط ، والله أعلم بأسرار كتابه.

٣٢٠