تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٩٥

الإضافة إليه أن يضاف (١) بحق الكليات ليكون فرقا بينه وبين العباد فيقال : (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ، ويقال في الخلق : فلان عليم بكذا على الخصوص ، وليعلموا (٢) أن العبيد إنما يعملون ما يعملون بعلمه ، وكذلك هذا في قوله : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة : ٢٨٤] وهذا على المعتزلة ؛ لأنهم يقولون : إن الله ـ عزوجل ـ ليس بقادر (٣) على كثير من الأشياء فكأنهم أشركوا في اسم القدرة غيره ؛ لأنه لا أحد من الخلق إلا وله جزء من القدرة ، فلو قلنا : إن الله تعالى يقدر على بعض [ولا يقدر على بعض](٤) لسوينا بينه وبين خلقه ، وشبهناه بهم ، جل الله ـ سبحانه وتعالى ـ عن [مثل هذا الوصف](٥) والله المستعان.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ).

يعني : أطيعوا الله فيما تعبدكم به ، وأطيعوا الرسول فيما أخبر عنه.

أو أطيعوا الله فيما أمركم وأطيعوا الرسول فيما دعاكم إليه ، وهذا كله واحد إلا التعبّد (٦) ؛ فإنه لا يجوز أن يضاف إلى الرسول ، وما سواه من الألفاظ من الأمر والدعاء والإخبار ، فهو جائز أن يضاف [إلى الله تعالى](٧) وإلى الرسول ـ عليه‌السلام ـ.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ).

يعني : توليتم عن إجابة الرسول إلى ما دعاكم إليه وعن طاعته.

وقوله : (فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ).

فيه بيان : أن توليهم عن إجابته وكفرهم به ، لا يوجب تقصيرا في التبليغ.

وقوله ـ عزوجل ـ : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ).

يجوز أن يكون هذا صلة ما تقدم من الآيات من قوله : (لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [التغابن : ١] و (عَلِيمٌ) و (يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) [النحل : ١٩] ، ثم قال الله الذي له الأوصاف التي تقدمت هو الذي لا إله إلا هو ، أي : لا معبود إلا هو ، وأن معبودهم ليس يجوز أن يكون معبودا ؛ لتعريه عن هذه الأوصاف التي تقدم ذكرها ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ).

__________________

(١) في ب : أضاف.

(٢) في ب : وليعلم.

(٣) في ب : بقدير.

(٤) سقط في ب.

(٥) في ب : ذلك.

(٦) في أ : العبيد.

(٧) في أ : إليه سبحانه وتعالى.

٤١

فيه بيان : أن معتمد المؤمنين على الله تعالى ، وإن قلت أعوانهم وأنصارهم ، وأنهم ليسوا كالمنافقين والكفرة ؛ حيث تركوا اتباع المؤمنين لما رأوا من قلة الأتباع والأعوان لهم وأخبر أن المؤمنين بخلاف تلك الصفة ، وأن ثقتهم واعتمادهم على الله تعالى ليس على كثرة الأنصار ، والله أعلم.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٥) فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٦) إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (١٧) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(١٨)

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ).

يحتمل أن يكون على تحقيق العداوة ، ويحتمل أن يكون على فعل العداوة ؛ فإن كان على تحقيق العداوة فهو يحتمل وجهين :

أحدهما : عداوة ظاهرة ، وهي عداوة الكفر والشرك ؛ وذلك أنه كان في ذلك الزمان يسلم الرجل ويبقى ولده وزوجته على الكفر ، فعلمهم الله تعالى صحبة الأولاد والزوجات : أنه إذا دعوكم إلى الكفر والشرك ، فاحذروهم أن تطيعوهم وأن تعفوا عن عقوبتهم على ما دعوكم إليه ، وتغفروا ؛ فإن الله غفور رحيم.

ثم ذكر الله ـ عزوجل ـ في صحبة الأولاد والزوجات إذا كانوا كفارا ـ العفو والصفح ، ولم يذكر ذلك في الوالدين المشركين ، ولكنه أمره أن يصاحبهما في الدنيا معروفا لقوله : (وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) [لقمان : ١٥] ، فوجه ذلك ـ عندنا والله أعلم ـ : أن يجري سلطانه وغلبته وقهره على زوجته وولده ، فأمره هاهنا بالعفو والصفح ، وأما في الوالدين فليس يجري [له عليهما](١) السلطان والقهر والغلبة ؛ فلا معنى [للعفو والصفح](٢) عنهما ، لكنه أمر [أن يصاحبهما](٣) في الدنيا معروفا وألا يطيعهما فيما أمراه من المنكر ، والله أعلم.

ويحتمل أن تكون هذه العداوة عداوة مستورة ، وهي عداوة النفاق ، فكأنه قال : إن من أزواجكم وأولادكم عدوّا لكم وأنتم لا تشعرون ، وإن تعفوا عن جنايتهم ولم تؤذوهم

__________________

(١) في أ : عليهم.

(٢) في ب : للصفح والعفو.

(٣) في أ : بمصاحبتهما.

٤٢

عليها وتصفحوا وتغفروا ؛ فإن الله غفور رحيم ؛ ألا ترى إلى ما حذر الله المؤمنين من أهل النفاق مع أنهم من الضعف والفشل [؛ كما أخبر الله](١) ـ عزوجل ـ عنهم بقوله : (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ) [المنافقون : ٤] فكذلك الأزواج والأولاد وإن كانوا تحت قهره [وغلبته ، أمره](٢) بالحذر عنهم ، والله أعلم.

ويحتمل أن يكون على فعل العداوة ، ليس أنهم أعداء في الحقيقة ، وذلك أنهم في المتعارف والمعتاد يدعون الآباء إلى البخل والمنع عن الإنفاق على غيرهم ، ويشتد عليهم صنع أبيهم من الإحسان والبر في حق الناس ، ويكرهون ذلك ، وهذا في الظاهر فعل العدو ؛ فيجوز أن يكون الله تعالى علم صحبة هؤلاء أن من أزواجكم وأولادكم من يظهر فعل العداوة فاحذروهم أن تمتنعوا عن وجوه الإحسان إليهم والتبرع بقولهم ، وإن تعفوا عن صنيعهم بكم وتغفروا (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ).

المفتون : [هو](٣) المولع بالشيء العاشق له ، فكأنه قال : إنما أموالكم وأولادكم معشوقكم ؛ فلا يحملكم حبهم على أن تتركوا ابتغاء الأجر العظيم عند الله تعالى.

ويحتمل أن يكون معناه : أن الله تعالى لم يخلق الأزواج والأولاد لكم مجانا ، وإنما خلقهم ليبتليكم ، ويمتحنكم : أن كيف تعاملون الله تعالى فيما أمركم به ونهاكم عن حبهم ، ثم أخبر أن الله عنده أجر عظيم ؛ ليتحملوا المؤنة العظيمة في أوامره ونواهيه عن حبهم الأولاد والأموال ، وهذا معنى ما قال بعضهم : إن الأزواج والأولاد كانوا يتعلقون بهم ، ويقولون : ننشدك بالله أن [لا] تذرنا وتضيعنا ، إذا أراد الرجل أن يهاجر إلى المدينة.

والأشبه ألا يكون هذا ؛ لأن هذه الآية نزلت بالمدينة وأفعالهم هذه إنما كانت بمكة ، إلا أن يكونوا كتبوا إليهم بها ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ).

قال بعضهم (٤) : نسخت هذه الآية قوله تعالى : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) [آل عمران : ١٠٢] حيث أمر هاهنا بالاتقاء على قدر الاستطاعة ، وثم بخلافه ، ولكن هذا لا يستقيم ؛ لأن قوله : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) لا يراد به الاتقاء فيما لا يستطيعون لا فوق

__________________

(١) في أ : فأخبر.

(٢) في أ : أمرهم.

(٣) سقط في ب.

(٤) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٣٤٢١٢) و (٣٤٢١٣) وعبد بن حميد وابن المنذر عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٣٤٦).

٤٣

الطاقة والاستطاعة ، لكنه إن كان [فوجهه : أن](١)(اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) [آل عمران : ١٠٢] وإن هلكت فيه طاقتكم ؛ لأنهم أمروا بتقوى تهلك به طاقتهم على ما قال : (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ) [النساء : ٦٦] ، ولو كتب عليهم أن يقتلوا أنفسهم جاز ولكنه تهلك طاقتهم فيه ، فكذلك الأول ، ثم قال : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) تخفيفا عليهم وتيسيرا والله أعلم.

ولكن الكلام في أن كيف قال : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) ولم نكن نتقي لو لا هذه الآية إلا ما استطعنا ، ولكن معناه ـ والله أعلم ـ : على جهة البشارة : أنكم إذا قصدتم قصد التقوى ، آتاكم الله ـ تعالى ـ الاستطاعة في تقواه ، وهو كقوله تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) [العنكبوت : ٦٩] ، وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى. وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى) [الليل : ٥ ـ ٨].

وهذه الآية على المعتزلة ؛ لأنهم يقولون : إن الاستطاعة تتقدم الفعل ، وهي تزول عن الفاعل وتقدم عند الفعل ، ولو كان كذلك كان يجعل قوله : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) استطاعة زالت عنهم ، وكذلك قوله : (فَخُذْها بِقُوَّةٍ) [الأعراف : ١٤٥] ، وكذلك قوله : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) [البقرة : ٦٣] ، زالت عنهم هذا مستحيل ، والذي يؤيد قولنا قول الله جل ثناؤه : (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) [المجادلة : ٤] ، والحاجة إلى هذه الاستطاعة تقع عند أداء البدل عن الأصل ، فأما قبل ذلك إن كان مستطيعا أو غير مستطيع فهو سواء.

قوله تعالى : (وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا).

أي : اسمعوا إلى ما أمركم الله تعالى به ورسوله.

أو يكون قوله : (وَاسْمَعُوا) بمعنى : أجيبوا لما أمركم الله به ، وإلى ما دعاكم الله ورسوله ؛ كقوله : «سمع الله لمن حمده» ، أي أجابه.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ).

أي : وأنفقوا مما رزقناكم (٢) خيرا لكم من أن تدعوا الإجابة لما أمركم والإنفاق مما رزقكم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ).

قال سفيان بن عيينة : أي : ومن يوق ظلم نفسه ، والشح : الظلم

__________________

(١) في أ : فوجه.

(٢) في ب : رزقتم.

٤٤

[وقال بعضهم : الشح : البخل ، الذي فيه الحرص.

قال : (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ)](١) أضاف الوقاية إلى نفسه ؛ ليعلم أن من اتقاه فإنما اتقاه بما وقاه الله تعالى بلطفه وكرمه ، ألا ترى إلى قوله : (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) [التحريم : ٦] كيف علمهم ذلك التقوى بقوله : (وَقِنا عَذابَ النَّارِ) [البقرة : ٢٠١] [أن قولوا : وقنا عذاب النار ؛ ليعلم أن](٢) جميع أفعال العباد إنما تقوم وتصح بتدبير الله ـ تعالى ـ وتوفيقه وتسديده وتقديره ، والله أعلم.

ثم قوله : (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) فيه أوجه من الدلالة :

أحدها : أن قوله : (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) لم يبين فاعله ، ففيه بيان أن في سلطان الله وملكه ما يقي به شح عبده ، وأنه إذا وقاه شح نفسه أفلح ، وكذلك في قوله : (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ) [آل عمران : ١٦٠] إخبار أن من ينصره الله فلا يغلب ، وقد يرى في الشاهد من لا يوق شح نفسه البتة ، ومن قد يوق شح نفسه ولا يفلح ، وقد نرى من يجاهد أعداءه فيغلب ، مع ما وعده وأخبر أنه هو الغالب وأنه لا يغلب ، فلا بد في ذلك من أحد وجهين :

إما أن لم يكن لله تعالى النصرة في ملكه وسلطانه كما ادعى ، فهو كاذب فيما ادعى ، وإما أن آتاه من القوة ما يقي به شح نفسه فلم يفلح ؛ فصار كاذبا في خبره.

[فأما المعتزلة فإنهم زعموا](٣) أن الله تعالى قد آتى عبده جميع ما يقي به شح نفسه حتى لم يبق في خزانته شيء يؤتيه ليقي به شح نفسه ـ كذبة ، وإذا لم يكن بد من نسبة الكذب إلى الله تعالى أو إلى المعتزلة ، كانت المعتزلة أولى أن ينسبوا إلى الكذب من رب العالمين فيما أخبروا هم ، وأن الله تعالى [فيما أخبر صادق](٤) وأن في ملكه وسلطانه ما لم يؤت عبده ليقي به شح نفسه ، والله المستعان.

وفيه دلالة على إبطال قول من قال : إن على الكفرة أداء هذه العبادات ، والحقوق واجبة ، وذلك أن الله تعالى وعد في هذه الآية أن من وقي شح نفسه ، وأدى ما وجب عليه من هذه الحقوق فقد أفلح ، وقد ترى الكافر في الشاهد [يوقى شح نفسه](٥) ويؤدى

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في أ : فإن.

(٣) في أ : وأما إن كانت المعتزلة ـ فيما زعمتم.

(٤) في ب : صادق فيما أخبر.

(٥) في ب : حيث وقي شح نفسه.

٤٥

[حقوق أمواله](١) ويسخو بماله على الناس ، ولا يفلح ولو كان عليه هذه الحقوق واجبة ، لكان يحصل له الفلاح ، ثبت أنه ليس عليه أداءها وإنما عليه قبولها ، والله أعلم.

وفيه أن صاحب الكبيرة قد يرجى له الفلاح وإن لم يتب عن الكبيرة حتى مات ؛ لأنا قد نرى صاحب الكبيرة قد يوقى شح نفسه ، وقد وعد الله ـ عزوجل ـ أن من وقي شح نفسه ، فهو من المفلحين ، فإذا كان صاحب الكبيرة قد يوقى شح نفسه ؛ فقد ثبت أنه يرجى له الفلاح ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ، تولد من هذه الآيات ظنون فاسدة :

أحدها : ظن اليهود ، حيث قالوا : إن الله فقير ونحن أغنياء ؛ وذلك أنهم لما سمعوا أن الله تعالى يقول : (إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) والاستقراض في الشاهد يدل على الحاجة إلى ما يستقرض ، وكذلك قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ) [التوبة : ١١١] ، والشراء يدل على حاجة في المشتري ، وحيث استعمل عبيده في الأعمال ، ثم قال : (فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [آل عمران : ١٧٩] ، ورأوا أن من يستعمل آخر فإنما يستعمله في عمل ترجع منفعته عليه ويحتاج إلى عمله ، ظنوا بذلك أن الله فقير وأنه محتاج.

وظنت المعتزلة أن أنفس العبيد وأملاكهم ملك لهم حقيقة ليس لله ـ تعالى ـ في شيء من ذلك ملك ولا تدبير ، قالوا : وذلك أن الله تعالى استقرض من عبيده ، والمرء في الشاهد لا يستقرض ملك نفسه ، فلما استقرض واستباع دل أن هذه الأشياء (٢) كانت ملكا لهم حقيقة.

والذي يدل على أن قول المعتزلة على ما وصفنا : أن من قولهم : إن ليس لله تعالى أن يمرض أحدا ولا يؤلم ذاته إلا بعوض ، ومن لم يملك فعل شيء إلا بعوض أو بدل تبين أنه لا يملكه (٣) ؛ فثبت على أن عندهم أنه لا يملك حقيقة ، وأن حقيقة الملك فيه للعبيد.

ويشبه أن يكون ظن [اليهود والمعتزلة](٤) جميعا إنما تولد من قولهم : إن ليس لله تعالى أن يفعل بعبيده إلا ما هو أصلح لهم في دينهم ، فذهبت اليهود إلى أن هذا لما كان حقّا على الله أن يفعله لا محالة حتى إذا لم يفعله يكون جائرا ، ومن كان مأخوذا بحق أو

__________________

(١) في ب : زكاة ماله.

(٢) في أ : زكاة ماله.

(٣) في ب : يملك.

(٤) في ب : المعتزلة واليهود.

٤٦

بشيء يفعله ، ففيه بيان أن حقيقة ذلك الفعل لغيره حتى أخذ به لا محالة ؛ لذلك قلنا : إن ظنونهم تولدت عن القول بالأصلح ، والله المستعان.

وأما الحكماء وأهل العقل ومن انتفع بعقله ، حمل هذه الآيات من الله تعالى على نهاية الكرم وغاية الغناء ؛ لأن الله تعالى أعطى عبده ، ثم استقرض منه ذلك الذي أعطاه ؛ ليصير ذلك العطاء دائما ببدله الدائم ، وهو النعيم في الآخرة ، ومعلوم أن من أراد دوام عطاء من أعطاه فهو في غاية الكرم ، وكذلك (١) اشترى منه حياة فانية ؛ [ليعطي له](٢) حياة دائمة ، وهذا من غاية الجود ، ومن استعمل عبده في عمل يوصف بأنه جواد سخي ويشرف به ، ويكرم ثم وعد له على ما فيه شرفه أجرا دائما ، دل على غناه ، فثبت أنه أراد بهذه الآيات أن يعلمنا غاية كرمه وغاية جوده ونهاية غناه ، وأن جوده وكرمه مما لا تدركه عقولنا ، والله المستعان.

والذي يدل على غاية كرمه وغاية جوده : أن جعل ما نتصدق به على فقرائنا وما نصل به أرحامنا قرضا حسنا على نفسه ، ووعد الأجر بعمل يعمله العبد لنفسه ، وعلى عمل [على](٣) العبد فعله لا محالة (٤) ، ولا شك أن ذلك من غاية [الجود والكرم](٥) والله المستعان.

ثم قوله : (إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً).

قال بعضهم : القرض : هو القطع ، كأنه قال : اقطعوا شيئا من أموالكم لله تعالى قطعا حسنا.

وقال بعضهم : اقرضوا ، أي : اجعلوا ما تتصدقون به مما فضل عن حاجاتكم على فقرائكم قرضا حسنا على الله تعالى يؤتكم أجره عند حاجتكم إليه.

وقوله : (يُضاعِفْهُ لَكُمْ).

يعني : يضاعف ما يعطيكم في الآخرة من الثواب الذي تكرمون به ، بما شرفتم به ، وتزينتم في الدنيا بالتصدق.

وقوله : (وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ).

يعني : شكور ؛ حيث شكر لكم على ما أعطيتموه شيئا هو أعطاكم إياه.

__________________

(١) في ب : ولذا.

(٢) في ب : ليعطيه.

(٣) سقط في أ.

(٤) في ب : لا محالة أجرا.

(٥) في ب : الكرم والجود.

٤٧

وقوله : (حَلِيمٌ).

وصف نفسه بالحلم ، وعلى قول المعتزلة لا يتحقق هذا الوصف ؛ لأنهم يقولون : إنه إذا وجبت العقوبة ، فليس لله تعالى أن يؤخرها كرما منه ، وأنه فيما أخرها كان ذلك حقّا عليه ؛ حيث رأى الأصلح في تأخيرها ، ومعلوم أن من أدى حقّا عليه لم يوصف بالحلم ، ولكنه يقال : إنه ينفي الجور (١) ، والحليم من يحلم عن عقوبة لزمت فيؤخرها ويتركها ويعفو صاحبها عنها ؛ فيوصف بالحلم عند ذلك ، وأما أن يكون عليه تأخيرها ، فلا يوصف بالحلم في هذا الموضع ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ).

يعني : عالم ما غاب من أفعال الخلق عن الملائكة ، وعالم بما شهدوا من أفعالهم ، وعالم بما غاب عن العباد ، وبما شهده العباد.

وقوله : (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

[العزيز] : الذي لا يعجزه شيء ، والحكيم : الذي لا يلحقه الخطأ في تدبيره ، ثم المعتاد في القرآن أنه يذكر العزيز الحكيم بعد ذكره خلق الكفرة ؛ ليعلم أن فسادهم لا يوجب وهنا في حكمته وتدبيره ، ولا يبطل عزه وسلطانه ؛ لأن من صنع إلى آخر شيئا يعلم أنه يفسد ؛ دل ذلك على جهله بالتدبير وإذا استعمل عبده بما يهلكه ؛ دل على ذله فأخبر بعد خلق الكفرة : أنه عزيز ليعلم أن كفرهم لا يوجب نقصا في عزه ، ولا يدخل ذلا عليه ، وأن فسادهم لا يخرجه عن الحكمة والتدبير ، [والله أعلم بالصواب](٢).

* * *

__________________

(١) في أ : يبقى الجود.

(٢) في ب : والله المستعان.

٤٨

سورة الطلاق وهي مدنية

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (١) فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (٣) وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (٤) ذلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (٥) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (٦) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً)(٧)

قوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) :

فإنه يخرج على الإضمار ـ والله أعلم ـ كأنه يقول : يا أيها النبي قل لأمتك : إذا أردتم أن تطلقوا نساءكم فطلقوهن لعدتهن ؛ والدليل على أنه هكذا ؛ فإنه يخرج الخطاب بعده كله للجماعة ؛ حيث قال : (إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) أو خاطب به النبي [والمراد أمته](١) وذلك كثير في القرآن.

ثم قوله : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) أمر بالطلاق للعدة ، ولم يبين أن الطلاق للعدة كيف يكون؟ وذكر في بعض القراءات فطلقوهن لقبل عدتهن ، ثم ترك بيان ذلك لا يخلو : إما أن يكون الرسول ـ عليه‌السلام ـ قد بين ذلك لهم ، فعرفوا ذلك ؛ فلم يبين لهم ذلك في الآية ، أو جعل معرفة بيان ذلك إليهم ؛ ليعرفوا بالاجتهاد.

ثم قوله : لقبل عدتهن يحتمل أول عدتهن ، ويحتمل ما يقابل عدتهن وهو الحيض من المقابلة فمن يقول : الاعتداد بالأطهار يجعل القبل كناية عن أول الطهر (٢) ، ومن

__________________

(١) في ب : والمراد منه غيره.

(٢) في ب : التطهير.

٤٩

يقولها بالحيض يجعل القبل ما يقابل العدة وهو الحيض ، ثم لنا أن ننظر أي التأويلين أقرب؟

وقد أجمعوا أن له أن يطلقها في آخر الطهر إذا لم يجامعها فيه ، دل أن تأويل القبل بما (١) يقابل العدة أحق (٢) وهو الحيض ، [والاعتداد به](٣) أولى ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ).

يخرج على وجهين :

أحدهما : احفظوا الحقوق والأحكام التي تجب في العدة ؛ فأدوها.

والثاني : احفظوا نفس ما تعتدون به ، وهو عدد الحيض الذي بها تعتدون ؛ لئلا تزاد ولا تنقص.

ثم جعل الإحصاء إلى الأزواج ، يحتمل وجهين :

أحدهما : أنهم هم الذين تلزمهم الحقوق والمؤن.

والثاني : أنه بهم يقع تحصين الأولاد في العدة ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ).

دل قوله : (مِنْ بُيُوتِهِنَ) على صحة مسألة لأصحابنا ـ رحمهم‌الله ـ فيمن حلف ألا يدخل بيت فلان ، فدخل بيتا هو فيه بإعارة [أو إجارة](٤) أنه يحنث.

ووجه ذلك : أن الله تعالى أضاف البيوت إليهن وإن كان حقيقة الملك للأزواج فيها ، ألا ترى إلى قوله : (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) ، ثم قال : (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَ) ؛ فدل قوله (مِنْ بُيُوتِهِنَ) : أنه أراد به البيوت التي أسكنهن الأزواج فيها ، وإذا صحت هذه الإضافة ؛ دل على صحة المذهب.

وقال الشافعي فيمن حلف لا يدخل مسكن فلان ، فدخل مسكنا هو فيه بإعارة : إنه يحنث ، وقال فيمن حلف لا يدخل بيت فلان : إنه لا يحنث ، واحتج في المسكن : أنه إنما يحنث ؛ لأنه وجد حقيقة السكنى من المحلوف عليه ، فإن كان هذا هو الدليل على الحنث ، فالواجب عليه أن يحنثه في البيت ؛ لوجود البيتوتة على ما حنثه في المسكن ،

__________________

(١) في ب : ما.

(٢) في أ : أخف.

(٣) في أ : لا عند أدائه.

(٤) في أ : داره.

٥٠

لوجود السكنى.

وبعد : فإن الحنث أقرب في البيت ؛ لأن الله تعالى أضاف البيوت إليهن في كتابه وإن كن هن فيها بإعارة ولم يوجد في السكنى ذلك ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ).

و (مُبَيِّنَةٍ) قرئا جميعا : فمنهم من حمل الاستثناء [بقوله : (إِلَّا)](١) على قوله : (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَ) ، وصرفه إليه.

ومنهم من صرفه إلى قوله : (وَلا يَخْرُجْنَ) ولكل من ذلك وجهان :

فأما من حمله على قوله : (لا تُخْرِجُوهُنَ) فإنه جعله استثناء ، وللاستثناء وجهان :

أحدهما : لا تخرجوهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة أي : بزنى يزنين ، فتخرجوهن ؛ لإقامة الحد عليهن.

أو لا تخرجوهن إلا أن يظهر منهن بذاءة اللسان على أهل أزواجهن فتخرجوهن ؛ لمكان البذاءة التي في لسانهن.

ومن حمله على قوله : (وَلا يَخْرُجْنَ) ؛ فإنه يجعل معنى قوله : (إِلَّا) على معنى : لكن ؛ كما قيل في قوله تعالى : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً) [مريم : ٦٢] ، أي : لا يسمعون فيها لغوا ، ولكن سلاما ، إذ لا يحتمل استثناء السلام من اللغو ؛ لما ليس في جملة اللغو سلام ؛ فيستثنى منه فكذلك قوله ـ عزوجل ـ : (وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ) فكأنه قال : لا يخرجن ، ولكن إذا خرجن فخروجهن فاحشة ، ويدل هذا على أن النهي لنفس الخروج ، لا للانتقال.

ووجه آخر في ذلك ، وهو : ألا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة ، فإنهن إذا خرجن ، خشي عليهن أن يأتين بفاحشة مبينة كما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر» (٢) ، وكان المعنى من ذلك : أنه إذا تزوج فوطئ فهو عاهر ، ولكن نهي عن النكاح ؛ لأنه يخشى عليه في النكاح أن يطأها فيصير عاهرا ، لا أن يكون نفس التزوج منه زنى ، فكذلك (وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ) فيكون النهي لا عن نفس الخروج ، ولكن لكونه سببا للفاحشة في الجملة ، وطريقا إليها.

ثم قوله ـ عزوجل ـ : (مُبَيِّنَةٍ).

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) أخرجه الترمذي (٢ / ٤٠٤) أبواب النكاح ، باب : ما جاء في نكاح العبد (١١١١) و (١١١٢) وأبو داود (١ / ٦٣٣) كتاب النكاح ، باب : في نكاح العبد (٢٠٧٨) من حديث جابر بن عبد الله ، وقال الترمذي : حديث حسن.

٥١

فمن قرأ مبينة بالخفض فمعناه : أن نفس الفاحشة إذا تفكر فيها المرء ، ونظر تبين له : أنها فاحشة.

ومن قرأ مبينة بالفتح ، عني به : أنها مبينة بالبراهين والحجج.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ).

الحدود : الموانع والنواهي ، لا يحل مجاوزتها ، ومن ذلك سمي الحداد : حدادا ؛ لأنه يمنع تحديده (١) كل أنواع أمتعته (٢) أن تجاوز حدها الذي جعل لها ، والحد في الحقيقة هو : النهاية التي ينتهى إليها فلا يجاوز ، وإذا كان كذلك كان الخيار إلى صاحب التأويل : فإن شاء حمله على الحد بين الطاعة والمعصية [أو بين](٣) الحلال والحرام ؛ حيث ذكر في هذه الآية أنواعا من النهي ؛ فسمي ذلك كله : حدودا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ).

أي : ضر نفسه ، ويجوز أن يكون المعنى منه ، أي : إن جاوز هذا الحد الذي جعله لله تعالى ، فقد وضع نفسه مكانا لم يضعه فيه ربه ، والظلم في الحقيقة وضع الشيء في غير موضعه.

والتأويل الآخر : أن (٤) من جاوز موانع الله ونواهيه ، فقد ظلم نفسه ؛ دل هذا على أن منافع هذه النواهي ومضارها لا ترجع إلى الله ، بل ترجع نفس الممتحنين (٥).

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً).

أي : لا يطلق ؛ فإنه إذا طلق لا يدرى لعل الله يحدث بعد ذلك ندامة على ما سبق من فعله أو رغبة فيها ؛ فيكون فيه دلالة النهي عن نفس الطلاق ، وقد بينا كراهة نفس الطلاق في الحكمة في أنه ليس من نوع ما يتقرب به ؛ فيكون فيه [الزيادة في القربة](٦) ولا مما يستمتع به فيكون فيه زيادة في الاستمتاع ، بل المقصود منه التأديب والمخلص ، وفي الواحدة كفاية عما (٧) زاد عليها ؛ فكان في هذه الآية دلالة النهي عن نفس الطلاق ، وعن الزيادة على الواحدة والله أعلم.

__________________

(١) في ب : بحديدة.

(٢) في أ : فيه.

(٣) في ب : أو ما بين.

(٤) في ب : أي.

(٥) في أ : رجع نفس الممتحن.

(٦) في ب : زيادة في القرابة.

(٧) في ب : فيما.

٥٢

قال : فإن كان تأويل قوله ـ عزوجل ـ (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) هو الرغبة فيها أو الندامة على ما سبق منه ؛ فإنه دلالة على إبطال قول المعتزلة ؛ لأن الرغبة والندامة جميعا من فعل العباد ، والله تعالى قد أضاف ذلك إلى نفسه بقوله : (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) ، وإذا كان كذلك ، ثبت أن لله تعالى في إحداث أفعال (١) العباد صنعا وتدبيرا ، والله أعلم.

وقال أصحاب الشافعى : إن قوله (فَطَلِّقُوهُنَ) يدل على تعليم الوقت في الطلاق دون العدد ، فله أن يطلقها في الوقت أي عدد كان ، ولا يستقيم ذلك ؛ لأن التأويل إنما يستقيم على أحد وجهين : إما [على ما](٢) جرى به التفاهم في العادات بين العباد ، وإما على ما جرى به التفاهم في حق الحكمة ، وليس يفهم من قوله : (فَطَلِّقُوهُنَ) العدد الثلاث على واحد من الوجهين اللذين وصفناهما (٣) ؛ ألا ترى أن من قال لآخر : طلق امرأتي ، لم يجز أن يطلقها ثلاثا إلا أن يكون نوى ثلاثا ؛ فثبت أنه لا يفهم به في [عبارته لفظ](٤) الثلاث.

وأما وجه الحكمة ؛ فلما ذكرنا : أن الطلاق ليس مما يتقرب به رغبة (٥) في الاستكثار منه زيادة في القربة ، ولا مما يستمتع فيستكثر منه زيادة في الانتفاع ، وإنما المراد منه التأديب و (٦) المخلص ، وما كان مخرجه هذا المخرج ، كان في حد الرخصة وما خرج مخرج الرخص ، لم يعتد به عما وقعت به الرخصة ، وإذا ثبت ما وصفنا ، ثبت أنه لا يجوز الفهم من قوله تعالى : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) الثلاث ، والتعليم في العدد أليق به من الوقت ؛ لأنه لا ضرر يلحقه في تعديه عن الوقت المجعول له فيه الطلاق ، ولا شك أنه يلحقه الضرر في تعديه في العدد والزيادة منه ، والله أعلم.

ومما يدل على أن المراد من قوله (فَطَلِّقُوهُنَ) ليس عدد الثلاث قوله : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) ، ولا شك أنه إذا أوقع عليها ثلاثا ، لم يملك إمساكها ، ومعلوم أن قوله : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) الطلاق المتقدم من قوله : (فَطَلِّقُوهُنَ) ، ولو كان المراد عدد الثلاث ، لم يكن لقوله : (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَ) معنى ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) ، فيه فوائد

__________________

(١) في ب : فعل.

(٢) في أ : عليها.

(٣) في أ : وضعناهما.

(٤) في ب : عادة اللفظ.

(٥) في ب : فرغب.

(٦) في ب : أو.

٥٣

شتى ، وأدلة متفرقة من الفقه والأحكام :

أحدها : أن الله تعالى قال : (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) والمعروف إليها في المتعارف من نوع الفعل أظهر من نوع القول ؛ لأنه إنما يحسن إليها ، استمتاعا وإنفاقا ونحو ذلك ، فذلك نوعه نوع الفعل ؛ فثبت أن حقيقة الإمساك بالمعروف في الأفعال ؛ فلذلك قلنا : إنه إذا راجعها بالفعل يكون مراجعا ؛ فإن قيل : أليس قال الله تعالى : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) والإشهاد على الفعل غير صحيح؟

فجوابه أن يقال : إن الله تعالى قال : (وَأَشْهِدُوا) ، ومعلوم أن هذا لو كان بحضرة الشهود ، لم يكن للإشهاد معنى ، بل إذا سمعوا ذلك ، [صاروا شهداء](١) أشهدوا أو لم يشهدوا ، وإذا كان كذلك ، ثبت أن المعنى من هذا الإشهاد على الإمساك المتقدم ، وذلك في الأفعال مستقيم ، والله أعلم.

ووجه آخر : وهو أن كل عقد استقام بغير شهود جرى فيه الأمر بالإشهاد نحو قوله : (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) [البقرة : ٢٨٢] ، وكل ما جعل الشهود فيه شرطا لقوام العقد ، جرى الذكر فيه «لا ... إلا» بشهود ، نحو قوله : «لا نكاح إلا بشهود» ، فلما جرى الذكر في هذه الآية بالأمر بالإشهاد بقوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) ، ثبت أنه يستقيم من غير شهود ، والله أعلم.

ثم في قوله : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) دليل على أن المراد من الأقراء هو الحيض ؛ فإنه ذكر نوع هذا في كتاب الله في مواضع ؛ قال الله تعالى في موضع : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة : ٢٣٤] ، وقال في آية أخرى : (فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَ) [البقرة : ٢٣٢] ، وقال في هذا الموضع : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) ، ومعلوم أن معاني هذه الألفاظ مختلفة وإن اتفقت مخارجها ، واختلافها : أن يكون المراد ببلوغ الأجل في أحد النوعين على التمام وانقضاء الأجل ، والثاني على الإشراف عليه ، وأحق ما يكون في حق الإشراف على البلوغ هو ما يرجع إلى الأزواج ؛ لأنه قد كان لهم حق الإمساك قبل انقضاء الأجل ، وهم أحق بهن ما لم [يتم بلوغ الأجل](٢) لا بعده ، وإذا ثبت أن المعنى من قوله : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) في هذا الموضع هو الإشراف على البلوغ والقرب من انقضاء الأجل دون التمام ، ثبت أن الأقراء : هي الحيض ؛ لأنه لو كان المراد منها الأطهار لم يعرف إشراف الأجل

__________________

(١) في ب : كانوا شهودا.

(٢) في ب : تتم المدة.

٥٤

على البلوغ ؛ لأنه لا نهاية لأكثر الطهر ، وأما الحيض فإنه له غاية معلومة ؛ لأن أيامها لا تخلو إما أن تكون عشرا أو دون العشر ، فإن كان عشرا فيعرف بالعد ، وإن كان دون العشر فإن دمها إذا انقطع راجعها قبل أن تغتسل ، وذلك وقت إشراف أجلها على البلوغ ، والأطهار ليس يتحقق فيها المعنى الذي وصفنا ، والله أعلم.

ثم قال هاهنا : (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) ؛ فدل الأمر بالإمساك في الظاهر أنها ما دامت في العدة ، فهي على ملكه ، وقال في موضع آخر : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ) [البقرة : ٢٢٨] ؛ فدل على أنه قد وقع شيء من الزوال حتى أمره بردها ؛ فيكون حجة للشافعي في أن الطلاق الرجعي يحرم الوطء ، ولكن المعنى (١) عندنا في هذا ـ والله أعلم ـ : أنا قد عرفنا بقوله : (أَوْ فارِقُوهُنَ) بعد وجود الطلاق المتقدم : أنه لم يرد به الفرقة للحال ، ولكن معناه : اتركوهن حتى تنقضي عدتهن ، فتفارقوهن ؛ فثبت أنه قد وقع شيء من شبهة الفراق بالطلاق ، وهو أن صار الفراق مستحقّا لازما حال انقضاء العدة ؛ فيكون له عرض الوجود للحال ، فقال : (فَأَمْسِكُوهُنَ) على إبقائهن على أصل الملك ، وقال : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) [البقرة : ٢٢٨] في ذلك ؛ لرفع تلك الشبهة الواقعة بالطلاق ؛ وهذا على سبيل ما قال تعالى : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ* رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [البقرة : ٢٢٦ ، ٢٢٧].

وكان الفيء هو الرجوع ، ومعلوم أنه لم يقع بالإيلاء شيء من الفرقة ، ولكن لما كان الإيلاء موجبا للبينونة في العقد ، أوجب في الحال شبهة الفرقة ، وهو استحقاق الزوال ، فذكر الفيء ؛ لرفع تلك الشبهة ؛ وكان تركها منه لا يفيء إليها عزم منه على الطلاق ، فكذلك الأول والله أعلم.

والمعروف إذا صنع إليك إنسان صنيعة ، فعرفتها واستحسنتها ، فهو معروف ، وما دفعته وأنكرته ، فليس بمعروف.

أو هو الذي عرّفنا الله ـ تعالى ـ من المراجعة والمفارقة.

ثم المعروف في الحقيقة ما تطمئن إليه القلوب وتسكن عنده الأنفس.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ).

دل قوله ـ تعالى ـ : (ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) أن قد يكون منا فساق ، وأن الفسق لا يخرجه من الإيمان ، وكذلك قوله : (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) [البقرة : ٢٨٢] فثبت أن قد يكون منا من لا يرضى ، وأن خروجه ممن يرضى لا يخرجه من الإيمان.

__________________

(١) في أ : المعتمد.

٥٥

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ).

حيث أضافها إلى نفسه هو أنه لا بد في الشهادة من نفع يقع لأحد الخصمين ، وضرر يرجع إلى الآخر ، فكأنه (١) قال : لا ينظر بعضكم إلى رضا من تنفعه الشهادة وإلى سخط من تضره ، ولكن اجعلوها لله تعالى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ).

الموعظة وإن كانت لمن يؤمن ولمن لا يؤمن ، فالمعنى في هذا : ذلكم يتعظ بما يوعظ [به](٢) من كان يؤمن بالله واليوم الآخر كما كان المعنى (٣) من قوله : (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) [يس : ١١] أي : إنما ينتفع بالإنذار من يتبع الذكر ، وكما كان في قوله : (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) [البقرة : ١٢١] ، أي : ينتفعون بتلاوته فكذلك الأول ، والله أعلم.

وقوله : (يُوعَظُ بِهِ).

أي : بما أمر فيما تقدم من الآيات من الطلاق للعدة ، والنهي عن إخراجهن من البيوت والإنفاق عليهن ، ونحوه إنما يوعظ به ـ أي : يأخذ بما أمر به ، ونهي عنه في هذه الآيات ـ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً).

قد بينا أن التقوى إذا ذكر مفردا انتظم الأوامر والنواهي ، وإذا ذكر معه البر والإحسان ، صرف التقوى إلى معنى ، والبر إلى معنى ، وذكر في هذا الموضع مفردا ؛ فجاز أن ينتظم الأوامر والنواهي ، ثم جاز أن يكون المعنى من قوله : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) فيما بين له من الحدود ، فلم يضيعه ، (يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) فيما لم يبين له ، وفيما اشتبه من الحد.

أو يجوز أن يكون المعنى من قوله (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) ، أي : يجاهد (٤) فيما أمره ونهاه ، يجعل له مخرجا في أن يهديه ، ويبين له السبيل ؛ ألا ترى إلى قوله : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) [العنكبوت : ٦٩].

قال : ويجوز أن ينال من يلزم التقوى خير الدنيا والآخرة ؛ لأن الله تعالى ذكر التقوى ، وما يليه بألفاظ مختلفة ، فقال في موضع : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) وقال : في موضع آخر (يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) ، وفي موضع آخر (يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ) وفي موضع آخر (إِنَ

__________________

(١) في أ : فكأنما.

(٢) سقط في ب.

(٣) في أ : المعتمد.

(٤) في أ : الجاحد.

٥٦

اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) [النحل : ١٢٨] ، أي : إن الله مع الذين اتقوا في النصرة والمعونة أو التوفيق والعصمة ، ومن نصره الله ـ تعالى ـ فلا يغلبه أحد ، ومن يعصمه الله تعالى فلا يضله أحد ، وإذا نال هاتين الخصلتين ، فقد نال خير الدنيا والآخرة.

أو يجوز أن يكون قوله : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) يعني : يتقي عقابه ، يجعل له مخرجا (١) من الشدة في الدنيا وعن سكرات الموت وغمراته وعن شدائد الآخرة وأهوالها.

ويجوز أن يكون قوله : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) في مكاسبه ، يجعل له مخرجا من الشبه والحرمات فيسلم منها.

أو يجوز أن يكون قوله : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) فيما بين له من الحدود في هذه الآيات المتقدمة ، فحفظها من صحبة النساء على ما أمر به ، (يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) مما أهمه من ناحيتهن ، (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) يجوز أن يكون هذا فيما بين له من الحدود إذا حفظها أن يرزقه ما وصفنا من المرأة والمال.

ويجوز أن يكون هذا في جميع الأمور من المكاسب والتجارات ؛ لأن التجار يظنون أنهم إنما يرزقون الفضل والربح ؛ لما يدخلون فيها من الشبه والحرمات ، وأنها إذا نفيت من تجاراتهم لا يرزقون مثل ذلك ؛ فأخبر ـ جل ثناؤه ـ أنهم إذا اتقوا في تجاراتهم تلك الشبه والحرمات ، رزقهم من حيث لم يحتسبوا.

أو يجوز أن يكون هذا خطابا للكفرة ؛ وذلك أنهم كانوا يخافون أنهم إذا آمنوا [برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم](٢) حرموا من الرزق ، وابتلوا بالضيق ، ألا ترى إلى قوله : (وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا.). الآية [القصص : ٥٧] فكأن الله ـ تعالى ـ أمنهم عما يخافون بسبب الإسلام ، وأخبرهم أنهم إذا وحدوا الله تعالى وآمنوا برسوله ، رزقهم من حيث لم يحتسبوا ، ووسع عليهم الرزق ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ).

يجوز أن يكون معناه : أي : من يعتمده في كل نائبة ، ويفوض إليه كل نازلة.

والوكيل : هو الموكول إليه الأمور.

وقيل الوكيل : هو الحافظ ؛ فكأنه قال : ومن يعتمد على الله فيما نابه كفى به وكيلا موكولا إليه أمره ، وكفى به حافظا وناصرا ومعينا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ).

__________________

(١) زاد في ب : وفي نسخة : من الشبه في الدنيا.

(٢) في ب : بالرسول عليه‌السلام.

٥٧

أي : فيما أخبر من حكمه ووعده ووعيده : أن ينزل بهم.

ويجوز أن يكون (بالِغُ أَمْرِهِ) ، أي : مبلغ ما أمر رسوله بتبليغه إلى آخر عصابة [تكون من أمته](١) في تسخيرهم ؛ ليصيروا كأن الرسول بلغهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً).

قال الحسن : [جعل] لكل شيء من أعمال (٢) العباد قدرا وثوابا في الآخرة.

والوجه عندنا : قد جعل الله لكل شيء مما كان ويكون إلى يوم القيامة من حسن وقبيح في الحكمة قدرا ؛ ألا ترى إلى أفعال العباد أنها كيف تخرج عن تدبيرهم من زمان إلى زمان ومكان ونحو ذلك ؛ ليعلم أن الله ـ تعالى ـ هو الذي قدر ذلك المكان والزمان والفعل ، حتى خرج فعل هذا العبد عن تقديره الذي قدره ، والله أعلم.

وفي قوله ـ تعالى ـ : (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) وجه آخر ، وهو أنه لو جعل جميع الرزق من حيث لا يحتسب ، جاز ؛ لأن الرزق في الحقيقة هو الذي يتقوى به الإنسان ويتغذى به ، وليس ذلك في عين الأكل والشرب ، ولكن فيما يتفرق من قوة الطعام والشراب في الأعضاء ، وذلك باللطف من الله تعالى ، فثبت أن قوة الأكل والشرب إنما تصل إلى الأعضاء من حيث لا يحتسب الإنسان ، والله أعلم.

ثم ليس في قوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) تخصيص أن من لا يتقيه لا يرزقه من حيث لا يحتسب ؛ لأنا قد نرى في الشاهد من يرزق من حيث لا يحتسب اتقاه أو لم يتقه ؛ فثبت أن فائدة التخصيص ليس نفي غير المذكور ، ولكن فائدة تخصيص المتقي بالذكر هو أنه يرزقه من حيث يطيب له ، ولا يلام عليه ، وليس ذلك في غير المتقي ، والله المستعان.

ثم ليس في قوله : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) ما يدل على ترك الأسباب ، ولكن لما رأى الناس يفزع بعضهم إلى بعض ويستغيث بعضهم ببعض ، أمرهم أن يجعلوا المقصد والمفزع إلى الله تعالى ، وأن يصيروا هذه الأسباب كلها محنة عليهم ، لا أن يروا أرزاقهم معصومة متعلقة (٣) بها ، ألا ترى إلى قوله ـ تعالى ـ : (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) [الجمعة : ١٠] كيف أمر بإدراك فضله من تلك التجارة ؛ فثبت أن هذه المكاسب كلها (٤) أسباب للخلق ، بها يتوصلون إلى فضل الله تعالى ، وأن المقصد والمفزع فيها إلى الله

__________________

(١) في أ : يكون أمر منه.

(٢) في أ : أفعال.

(٣) في أ : مقصودة معلقة.

(٤) في أ : بها.

٥٨

تعالى ، والله أعلم.

ثم اختلفوا في العدة :

فمنهم من قال : هي استبراء الرحم.

ومنهم من قال : هي عبادة تتبع النكاح الذي استوفي فيه المقصود بالنكاح ، وهذا القول عندنا أصوب ؛ لأوجه :

أحدها : أن الاستبراء واجب في حق السنة والأدب قبل الطلاق ؛ فإن من أراد أن يطلق امرأته فالواجب عليه أن يستبرئها بحيضة ثم يطلقها ، وأما العدة فإنها لا تجب إلا بعد الطلاق ، فثبت أنها على ما ذكرنا من العبادة التي تتبع النكاح الذي استوفي فيه المقصود (١) ، والله أعلم.

ومعنى آخر : وهو أن العدة لو كانت استبراء ، لكانت تكتفى بالحيضة الواحدة ، فلما قرنت بالعدد ، وفي الواحدة مندوحة عما سواها في حق الاستبراء ، ثبت أنها على الوجه الأول ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ).

هذا يدل على أن المراد من الأقراء الحيض ؛ وذلك لأن الأصل عندنا في الأصول [أن الشيء](٢) متى ذكر باسم مشترك ، ثم جرى البيان له عند ذكر البدل باسم خاص ؛ دل على أن المراد من الاسم المشترك هذا الاسم الخاص المذكور عند البدل ؛ ألا ترى إلى قوله تعالى : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) [المائدة : ٦] وكان اسم الغسل مشتركا يتناول الماء وكل مائع ، فلما قال عند ذكر البدل : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا) [النساء : ٤٣] ، تبين أن المراد من ذلك الاسم المشترك هو هذا الاسم الخاص المذكور عند البدل ، فكذلك الأول ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ).

اختلفوا في قوله : (إِنِ ارْتَبْتُمْ) : أنه أريد به : إن ارتبتم في حيضهن أو في عدتهن؟ وعندنا الارتياب في عدتهن ؛ لأنه لو كان المراد منه الارتياب في حيضهن ، لكان من حق الكلام أن يقول : «إن ارتبتن» أو يقول : «واللائي ارتبن» ليكون منسوقا على قوله : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ) فلما قال : (ارْتَبْتُمْ) ثبت أن المراد : إن ارتبتم في عدة الآيسات والصغائر ، فهي ثلاثة أشهر ، والله أعلم.

أو لأن المرتابة إذا رأت الحيض (٣) ارتفع ريبها ، وصار عدتها بالحيض ، وخرجت من العدة بالشهور ، وأما الآيسة والصغيرة ؛ فإنه لا يتوهم عليهما ارتفاع الإياس والصغر ؛

__________________

(١) زاد في أ : أن الاستبراء واجب.

(٢) سقط في ب.

(٣) في أ : الحيضة.

٥٩

فيكون عدتهما بالأشهر ؛ فلذلك قلنا : إن هذا الارتياب في عدة الآيسات والصغائر.

ثم من قول أصحابنا : إن الرجل إذا طلق امرأته الآيسة أو الصغيرة أو الحامل للسنة يطلقها متى شاء ، وليس له وقت معين في طلاقها للسنة ، وإنما كان كذلك ؛ لأنا قد وصفنا في قوله : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) : أن المراد منه : لقبل عدتهن ، ومعلوم أن عدة التي ترى الحيض أحد شيئين : إما الدم (١) ولم يعتبر ما يقابله (٢) وهو الطهر من العدة ، وكذلك من جعل عدتها بالأطهار لم يعتبر ما يقابلها وهو الحيض من العدة ، وإذا كان كذلك لم يكن بد من أن يكون هاهنا شيء يقابل عدتها ؛ فثبت فيه معنى قبل عدتها ؛ فجعل ذلك الطهر ، وأما الآيسة والصغيرة والحامل فجميع أيامها من عدتها ، وهي (٣) ثلاثة أشهر ، وليس في أيامها شيء يقابل عدتها ، فلذلك قلنا : إن له أن يطلقها في أي وقت شاء ، وكذلك (٤) له أن يطلق الحامل التي من ذوات الأقراء ؛ وذلك لأنه إنما نهي ـ عندنا ـ عن الطلاق على أثر الجماع في التي تحيض ؛ لتوهم أن يكون الجماع أحبلها ، فإذا طلقها [ثم أراد](٥) نفي الحبل في العدة ، لم يتهيأ له ذلك ، وأما الآيسة والصغيرة والحامل ، فليس فيهن هذا التوهم ، والله أعلم.

ثم إن هذه العدة وإن ذكرها في هذه السورة (٦) على أثر الطلاق الواحد ؛ فكأنها في التطليقات الثلاث ؛ لأن هذه العدة مكان العدة التي ذكر الله تعالى في سورة البقرة من قوله : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) [البقرة : ٢٢٨] ؛ لأنه ذكر هاهنا : (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) على الإجمال وذكرها ثمّ على التفسير ؛ فإذا التحق التفسير بالمجمل يصير في المعنى والحكم كأنه واحد ، ومعلوم أن تلك في الواحدة والثلاث ؛ ألا ترى إلى قوله تعالى : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) [البقرة : ٢٢٩] وقوله : (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) هي التطليقة الثالثة.

وإذا كان الأمر على ما وصفنا ، ثبت أن للمرء أن يطلق امرأته الحامل للسنة ثلاثا ، والله أعلم.

قال ـ رحمه‌الله ـ : في (٧) قوله : (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ) أوجه من الفقه :

__________________

(١) في ب : تعبد.

(٢) في ب : يقابلها.

(٣) في ب : وهو.

(٤) في ب : كذا.

(٥) في ب : وأراد.

(٦) في أ : الصورة.

(٧) في ب : ثم.

٦٠