تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٩٥

الضعف والمرض في الشاهد ، ووجد طعم الأشياء على خلاف ما هي عليها ؛ فيكون في ذكر هذا تهويل وتفزيع أن هول ذلك اليوم شديد لا تقوم لهوله (١) السموات والأرضون (٢) مع صلابتها وغلظها في نفسها (٣) ، فكيف يقوم لهولها الآدمي الموصوف بالضعف واللين.

وجائز [أن تكون](٤) على ما ذكرنا أنها (٥) تصير شبيهة (٦) بالمهل ؛ للينها [ورخاوتها ، وهو](٧) أنها تلين وترخو من هول ذلك اليوم حتى تصير السماء كالمهل ، والجبال كالعهن ؛ فيكون في هذا ـ أيضا ـ تهويل ؛ ليرجعوا عما هم عليه ويقبلوا على عبادة الله تعالى ، ويتسارعوا إلى طاعته.

وتأويل العهن ، ووجه تشبيه الجبال بها يذكر بعد هذا في قوله ـ عزوجل ـ : (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) [القارعة : ٥].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) قرئ برفع الياء ونصبها ، فمن رفع (٨) الياء فتأويله : أي : لا يطلب حميم من حميم ، ولا يؤخذ بمكانه كما يفعل مثله في الدنيا ؛ لأن ذلك اليوم هو يوم العدل ، وليس من العدل أن يؤخذ الغير بذنب الغير.

ومن قرأه بالنصب فتأويله : ألا يسأل حميم حميما من شدة ذلك اليوم وهوله النصرة والشفاعة.

أو لا يسأل عن حاله بما حل [به](٩) من الشغل في نفسه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ) يحتمل أن يعرّف بعضهم عن بعض أن هذا أبوك وابنك وحميمك ؛ إذ لا يعرفه إلا بالتعريف ؛ لما حل به من شدة الهول والفزع ، ثم إذا عرفوا لا يسألونهم ؛ بل يفر بعضهم من (١٠) بعض ، كما قال تعالى : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ) الآية [عبس : ٣٤].

__________________

(١) في ب : لهولها.

(٢) في ب : الأرض.

(٣) في ب : أنفسها.

(٤) سقط في أ.

(٥) في ب : أنه.

(٦) في ب : شبيها.

(٧) في أ : ورخوتها.

(٨) في ب : يرفع.

(٩) سقط في ب.

(١٠) في أ : عن.

٢٠١

أو يكون معناه : أن يبصروا ما سبق منهم من الذنوب والأجرام ، فيعرفونها ، وتصير لهم حاضرة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ* وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ* وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ* وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) ففي هذا أنه (١) يستقبلهم في ذلك هول وفزع لم يكن لهم بمثله عهد في الدنيا ، ولا كان خطر ببالهم ذلك ؛ لأن المرء لا يبلغ به الهول في الدنيا مبلغا يود أن يفتدي به ببنيه وصاحبته ، وأخيه ، وأقربائه ، وجميع من في الأرض ؛ فيكون فيه إخبار عن شدة هول ذلك اليوم ؛ ليحمل الناس على الإنابة [إلى الله](٢) تعالى والانتهاء عما نهاهم عنه.

ثم بدأ بذكر البنين والأقربين وأنهاه بالأبعدين ، وحق هذا أن يبدأ بالأبعدين ، ثم يختم بذكر الأقربين (٣) ؛ لأن المرء قد تسخو نفسه بفداء الأبعدين ، ويضن ببذل الأقربين فداء ، فإذا سخت أنفسهم في ذلك اليوم بفداء البنين والأقربين فلأن تسخو بفداء الأبعدين أحق ، وإذا كان كذلك فغاية التهويل والتفزيع أن يبدأ بذكر الأباعد ، ويختم بذكر الأقارب ، فكيف ابتدأ بذكر الأقربين؟ فجوابه من وجهين :

أحدهما : أنه إنما يتوصل إلى فداء أهل الأرض إذا كان له عليهم ملك وكانوا بأجمعهم له ، وإذا كانوا جميعا له ملكا ، كانت شفقته على ملكه وأولاده واحدة أو أكثر ، فكما يضن ببذل أولاده ، وأن يكونوا عنه [فداء](٤) ، فكذلك يضن بالأباعد إذا (٥) كانوا جميعا ملكا له ؛ فلذلك استقام أن يبدأ بذكر الأقربين قبل الأبعدين ، إذ كل ذلك يستوي في التهويل والتفزيع ، والله أعلم.

وجائز أن يكون ذكر الأقربين وذكر أهل الأرض ليس على جهة الأولى ، ولكنه ذكر الآحاد أولا ، ثم ذكر الجماعة ثم ذكر جماعة الجماعة ؛ ليعلموا ألا ينفعهم الفداء في ذلك اليوم ، وأن الذين ودوا الفداء ؛ ليتخلصوا من عذاب الله تعالى لا يشتد عليهم ما فدوا ، وإن كان ذلك ملء الأرض ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ يُنْجِيهِ) رد وتنبيه ألا ينجيه ذلك اليوم.

__________________

(١) في أ : هذه الآية.

(٢) في ب : لله.

(٣) في ب : الأبعدين.

(٤) سقط في ب.

(٥) في ب : إذ.

٢٠٢

وقوله ـ عزوجل ـ : (كَلَّا إِنَّها لَظى. نَزَّاعَةً لِلشَّوى) الآية ، فاللظى : اسم من أسماء النار ، والشوى : قيل (١) : [هي](٢) مكارم خلقه.

وقيل (٣) : هي القوائم والأطراف.

وقيل : هي الجلود.

والأصل أن نار جهنم تعمل على أصحابها كل قبيح وكل مستشنع مستفظع ، فإن شئت صرفت ذلك إلى الأرجل ، وإن شئت إلى الجلود ، وإن شئت إلى مكارم خلقه الأخلاق (٤) ؛ لأن التقبيح في كل ذلك موجود ، وهو كقوله ـ عزوجل ـ : (لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) [النساء : ٥٧] فقيل في تأويل المطهرة وجوه.

إحداها : أنهن مطهرات من العيوب والآفات ، [وجملته](٥) : أنه ما من شيء يستحسن ويستقبح من خلق أو نفس أو معاملة إلا وهن مطهرات من ذلك ، وما من شيء يستشنع ويستفظع إلا وذلك في أهل النار موجود.

وقوله ـ عزوجل ـ : (تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى) فجائز أن يكون الدعاء منها على التحقيق ، وهو أن يجعل الله تعالى [لها] باللطف لسانا تدعو به ، أو يخلق فيها الكلام من غير لسان ، فتقول : إليّ ، إليّ.

وجائز أن يكون [هذا](٦) على التمثيل ، وهو أنها لا تدع أحدا يفر عنها ، ويتخلص من عذابها ، فكأنها دعته إلى نفسها.

ثم قوله ـ عزوجل ـ : (مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى) جائز أن يكون قوله : (مَنْ أَدْبَرَ) ، أي : من كان أدبر في الدنيا [عن](٧) طاعة الله تعالى ، وتولى عن الإجابة لرسله ؛ كقوله تعالى : (تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا) [النجم : ٢٩] أي : أعرض.

أو (٨) أدبر عن توحيده ، وتولى عن النظر في حجته ، وفيما جاء من عنده.

ويحتمل قوله : (أَدْبَرَ) ، أي : أدبر عن طاعة الله ـ عزوجل ـ ، (وَتَوَلَّى) أي : تولى الشيطان ، من الولاية.

__________________

(١) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٣٤٨٩٢) ، وعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر عنه ، كما في الدر المنثور (٦ / ٤١٨).

(٢) سقط في ب.

(٣) قاله مجاهد أخرجه ابن أبي شيبة عنه ، كما في الدر المنثور (٦ / ٤١٩) وهو قول أبي صالح أيضا.

(٤) كذا في أ.

(٥) سقط في ب.

(٦) سقط في ب.

(٧) في ب : من.

(٨) في ب : و.

٢٠٣

وجائز أن يكون أدبر في جهنم ، فيدبر رجاء أن يفر عنها ، ويتولى ؛ فلا تدعه النار ليفر ؛ بل تغشاه عن الإعراض ، كقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ) [النحل : ١٠٠] ، ولكن هذا قريب من الأول ؛ لأن من تولى عن ذكر الله فقد تولى الشيطان.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَجَمَعَ فَأَوْعى) يخبر بقوله : (وَجَمَعَ) عمّا جبل عليه من شدة الحرص على الدنيا ؛ فيكون الجمع كناية عن الحرص ، فبلغ به هذا الحرص مبلغا أنساه ذكر الآخرة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَوْعى) فيه بيان صفته فيما عليه من النهاية في البخل ، فيكون الإيعاء كناية عن البخل حتى لم يؤد حق الله تعالى في ماله ، أو لم يقم بشكر ما لله تعالى من النعم ، أو بلغ به البخل مبلغا منعه ذلك عن قبول حق الله تعالى في ماله.

قوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (١٩) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (٢١) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (٢٢) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (٢٣) وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (٢٦) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٢٧) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (٢٨) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٢٩) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٣٠) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٣١) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٣٢) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (٣٣) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٣٤) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ)(٣٥)

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً) اختلف في تأويل الهلوع من وجوه ، كل يرجع إلى معنى واحد :

فقال بعضهم : الطامع في اللذات ، الطالب لها ، والكاره للأثقال ، الهارب منها.

وقيل : (خُلِقَ هَلُوعاً) ، أي : على حب ما يتلذذ به ، والقيام بطلبه وبغض ما يتألم به ، والهرب عنه.

ومنهم من يقول (١) : الهلوع : الضجور ؛ وهو (٢) موافق للتأويل الأول ؛ لأن الذي يحمله على الضجر هو ما يصيبه من الألم ؛ فيضجر لذلك أو يضجر عن حق الله تعالى.

ومنهم من يقول : تفسيره ما ذكر على أثره من قوله : (إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً. وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) ، وهذا ـ أيضا ـ مثل الأول ؛ لأن الذي حمله على المنع شدة حبه إياه ، والذي حمله على الجزع ما مسه من الضر والشر ، فجزعت نفسه لذلك ؛ لأنها أنشئت

__________________

(١) قاله عكرمة أخرجه ابن جرير (٣٤٩٠٣) وابن المنذر عنه ، كما في الدر المنثور (٦ / ٤٢٠).

(٢) في ب : وهذا.

٢٠٤

نافرة عن الضر ومبغضة له ، وقال الله تعالى : (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) [الإسراء : ١٧] ، وقال في موضع آخر : (وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً) [الإسراء : ١٠٠] ، أي : لا يسخو على إخراج ما في يديه.

ففي هذه الآيات إنباء أن الإنسان خلق على هذه الأحوال : قتورا عجولا ، هلوعا ، فلما أنشئ على حب ما ينفعه وبغض ما يكرهه ويتألم به ، علم أنه خلق على هذه الأحوال ؛ للمحنة ، فمن تذكر فيما وعد الله تعالى من النعم لمن قام بوفاء ما أمره به ، حمله ذلك على التسارع في الخيرات وترك ما يحبه في الدنيا ؛ لينال الموعود في الآخرة ؛ إذ هو في الأصل أنشئ محبّا لما يتلذذ به ، ومن تذكر ما أوعد من العذاب بما يعطي نفسه من الشهوات من معاصي الله تعالى ، وبما يمنع من حقوق الله تعالى الواجبة في ماله ، سهل عليه ترك الشهوات ، وخف عليه بذل ما طلب منه ؛ لئلا يحل به ما ينغص بعيشه من الآلام والأوجاع والمكاره.

والأصل أن الإنسان وإن كان مطبوعا على هذه الأخلاق الذميمة من البخل ، والإقتار ، والعجلة ، وجبل عليها ، فقد ملك رياضة نفسه ، ويمكنه أن يستخرجها من تلك الطباع الذميمة إلى أضدادها من الأخلاق الحميدة ، والشمائل المرضية ؛ فلزمه القيام بذلك ؛ ألا ترى أنه يتهيأ له أن يقوم برياضة الدواب والسباع ، فيخرجها بالرياضة عن طباعها التي أنشئت عليها من النفار عن الخلق والامتناع عن الانقياد ، حتى تصير منقادة للخلق ، ذليلة لهم ، فيتهيأ لهم الاستمتاع والتوصل إلى منافعها ، فكذلك الإنسان إذا قام برياضة نفسه أمكنه أن يستخرجها عن خلقها ؛ فتصير مطيعة له ، ويخف عليها بذل ما يطلب منها ، ويسهل عليها تحمل ما كان يشتد عليها.

ثم الأصل : أن المرء ، وإن جبل على حب ما يتلذذ به ، وبغض ما يتألم ويتوجع [منه](١) ، فقد جبل أيضا على ترك ما هو فيه من اللذة ؛ للذة هي أعظم منها ، وعلى التصبر لاحتمال الأذى والمكروه ؛ ليتخلص عما هو أعظم من ذلك المكروه والألم ، وإذا كان كذلك فهو إذا قابل نعيم الدنيا بنعيم الآخرة ، وأقرب اللذتين بأبعدهما ، فرأى لذة الآخرة أعظم وأبقى ، خف عليه ترك أقربهما لأبعدهما وأقلهما لأكثرهما ، وإذا قابل مكروه الدنيا بمكروه الآخرة ، وعذابها بعذاب الآخرة ، فرأى عذاب الآخرة أشد وأبقى ، خف عليه تحمل المكاره في الدنيا ؛ فهذا السبب الذي ذكرنا ما (٢) يتوصل به إلى رياضة النفس.

والذي يدل على أن المرء قد يخف عليه تحمل الشدائد وترك اللذات الحاضرة ؛ لما

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : فما.

٢٠٥

يأمل من اللذات الآجلة أنك ترى المرء قد يهون عليه الضرب في الأرض ، وقطع الأسفار ، وتحمل المؤن ، وركوب الأهوال والفظائع ، والانقطاع عن اللذات ؛ كالذي يخرج للتجارة من بلده إلى بلاد نائية ؛ لما يرجو من النفع والربح في ذلك ، فتحمل ما يمسه من المكاره والمؤن ، لما يطمع من نيل اللذات التي هي أعظم من اللذات التي تركها ؛ فعلى ذلك إذا تفكر في نعيم الآخرة ، وتفكر في عقابها ، سهل عليه ترك اللذات الحاضرة ، وخف عليه تحمل المكاره في الدنيا.

ووجه آخر : أنه لما جبل على حب اللذات وبغض المكاره ، أمر أن يجعل ما يحبه من العاجل آجلا ، فيكون شغله أبدا فيما (١) يوصله إلى نعيم الآجل ، وأمر أن يجعل هربه عن الآلام الآجلة ، فيجتهد فيما فيه التخلص والنجاة عن تلك الآلام ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِلَّا الْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) معناه ـ والله أعلم ـ : لأن المصلين يقومون برياضة أنفسهم حتى يصرفوها عن خلقتها (٢) التي أنشئت عليها (٣) ، ثم بين أن الذين يقومون برياضة أنفسهم هم الذين يقومون على صلواتهم (٤) دون الذين يقومون إلى الصلاة كسالى ولا يدومون عليها ، ولا ينفقون من أموالهم إلا عن كراهة.

ثم قوله ـ عزوجل ـ : (عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) دوامهم عليها في لزوم ما عرفوها ، وهو أن يقيموها في أوقاتها ، ويحافظوا عليها دون أن يكون دوامهم أن يكونوا فيها أبدا ؛ ألا ترى [إلى](٥) ما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل» وأراد بقوله : «أدومها» : لزومها في الوقت الذي أوجبوا فعل ذلك على أنفسهم ، لا أن يكونوا أبدا فيها ؛ لأنهم إذا بقوا فيها أبدا ، كثر ذلك منهم ، فلا يكون لقوله : «وإن قل» معنى ، فثبت أن معنى الدوام ما وصفنا ، والله أعلم.

وجائز أن يكون المراد من المداومة هو أن يدوم على الأحوال التي تليق بالصلاة عند كونه فيها من الإقبال على المناجاة ، وترك الالتفات ، وتفريغ القلب عن الأشغال والوساوس.

وقال بعضهم : (عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) : هو التطوع ، و (عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ) [المؤمنون : ٥] : الفريضة.

__________________

(١) في ب : فما.

(٢) في ب : خلقها.

(٣) في ب : عليه.

(٤) في ب : صلاتهم.

(٥) سقط في ب.

٢٠٦

قالوا : وتصديقه أن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا إذا صلوا صلاة داموا عليها ، [وكانوا يقولون : «خير العمل](١) أدومه وإن قل».

وأصله : أن الله تعالى قال : (وَأَقامُوا) [البقرة : ٢٧٧] ، والإقامة على الشيء هي الدوام عليه ؛ لأنه إذا فعل الشيء مرة ثم تركه ، لم يوصف بالإقامة عليه ؛ فقوله : (دائِمُونَ) و (يُقِيمُونَ) [المائدة : ٥٥] يقتضي معنى واحدا ؛ فيكون فيه إبانة أن الصلاة يلزم فعلها مرة بعد مرة ، وليست كالفرائض التي إذا أديت مرة ، سقطت ؛ من نحو الجهاد ، والحج.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ) قيل (٢) : هو الزكاة ، ذكر ذلك عن قتادة وغيره.

وقال أبو بكر : هذا غير محتمل ؛ لأن هذه الآية (٣) مكية ، وإنما فرضت الزكاة عليهم بعد هجرتهم إلى المدينة.

ولكن ليس فيما ذكره (٤) دفع لهذا التأويل ؛ لأنه يجوز أن تكون الزكاة لم تفرض عليهم ؛ لما لم يكونوا أصحاب أموال ؛ لأن الزكاة لم تكن مفروضة في الجملة ، وبين الوجوب إذا استفادوا الأموال ؛ ألا ترى أن الفقير قد يعلم إيتاء الزكاة من المال وإن لم يكن له مال ؛ ليقوم بأدائها إذا صار من أهلها ؛ فقوله : (حَقٌّ مَعْلُومٌ) أي : أعلمه الله تعالى في أموالهم ، فلزمهم إخراجه ، ثم بين أن خروجهم مما لزمهم من حق الله تعالى في أموالهم بالدفع [إلى السائل والمحروم](٥).

وجائز أن يكون ذلك الحق المعلوم هو حق القرابة وغيره.

ومن ذكر أن هذا الحق غير الزكاة ، قالوا : إنهم كانوا أعلموا في أموالهم حقّا ، فجعلوا طائفة (٦) منها للسائل ، وطائفة للمحروم ؛ لذلك سماه : حقا معلوما.

ويحتمل أن يكون في ذلك الوقت شيئا معلوما مفروضا عليهم في أموالهم نسخته آية الزكاة ، ولم يذكر لنا ذلك ؛ لعدم حاجتنا إليه (٧).

ثم السائل معروف ، وهو الذي يسأل.

__________________

(١) في ب : وكان يقال : خير الأعمال.

(٢) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه (٣٤٩١٦ ، ٣٤٩١٧).

(٣) في أ : الآيات.

(٤) في ب : ذكر.

(٥) في ب : إلى الفقير السائل المحروم.

(٦) في أ : فجعله لطائفة.

(٧) في أ : إلى معرفة.

٢٠٧

وأما المحروم فقد روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سئل عن المحروم ، فقال : «المحروم هو الذي لا يثمر نخله ، ويثمر نخل الناس ، ولا يزكو زرعه ، ويزكو زرع الناس ، ولا تلبن شاته وتلبن شاة الناس» فعنوا بالمحروم هذا : أنه حرم بركة ماله.

وفي هذا [الخبر](١) دليل على أن المرء لا يصير غنيّا بملك النخيل والأرض.

وجائز أن يكون المحروم هو الذي حيل بينه وبين وجوه المكاسب ، فمن كان حاله هكذا كان علينا أن نتعاهده ونقوم بكفايته.

وقال الحسن : المحروم هو الذي يتعفف عن السؤال وإن هلك ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) فيوم الدين هو يوم الجزاء ويوم الحساب ، فكل من عرف الجزاء وآمن به لم يجزع بما يصيبه ، ولا منع الحق الذي طلب منه ، ولم يوصف بأنه هلوع ، وإنما الهلوع هو الذي يكذب بيوم الدين ، كما قال : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ* فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) [الماعون : ١ ، ٢] [فأخبر أن الذي يدع اليتيم](٢) ولا يحض على طعام المسكين هو الذي لا يؤمن بالآخرة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) ، أي : خائفون ، وجلون ، وهم الذين قال ـ عزوجل ـ في آية أخرى : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) [المؤمنون : ٦٠].

وسئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقيل [له](٣) : أهم الذين يسرقون ويزنون ويعملون بالمعاصي؟ فقال : «لا ، بل هم الذين يصومون (٤) ويصلون ويؤتون الزكاة» ، أو كما قال بلفظه عليه‌السلام.

ووجلهم هو أنهم يخافون ألا يقبل منهم حسناتهم.

أو يخافون أن يكونوا قصروا عن الوفاء بشكر النعم ، أو (٥) غفلوا عن شكر كثير منها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ) فهذا هو الحق ألا يأمن أحد من عذابه [وإن دأب في عبادته واجتهد في طاعته ؛ لما لا يدري](٦) على ما ذا يختم أمره؟ أو يخاف

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في ب.

(٤) في أ : يقومون.

(٥) في ب : و.

(٦) في ب : وإن كان في عبادته مجدّا ، مجتهدا ، مطيعا ، لما لا ندري.

٢٠٨

ألا يقبل منه ويرد عليه ، أو يخاف أن يكون قد قصر عن شكر كثير من النعم ، وغفل عنها.

والأصل أنه ما من أحد ينظر في أمره وحاله إلا وهو يرى على نفسه من الله تعالى نعما لو أجهد نفسه ليقوم [بشكر واحد](١) منها لقصر عن ذلك ، ولم يتهيأ له القيام بوفائها ، فمن كان هذا وصفه ، فأنى يقع له الأمن من عذابه ، ويوجد (٢) منه الوفاء بالأسباب التي يؤمن بها إلا أن يكون من الخاسرين.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) ، ذكر حفظ الفرج ، ولم يذكر بم يحفظ؟ [وحفظه يكون](٣) بخصال :

أحدها : أن يسكن في قلبه جلال الله وهيبته ، ويخشى عقابه في المعاد.

والثاني : بما جعله [الله](٤) سببا للتعفف ، من النكاح وملك اليمين ؛ فيمنعه ذلك عن الزنى ويحفظ الفرج.

والثالث : يجيع بطنه بالصيام كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من لم يقدر على الباه فليصم ؛ فإن الصوم له وجاء».

والرابع : بما يترك النظر إلى النساء ولا يخلو بهن ، ويدع مجالسة الفجار وأهل الريبة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) ولو لم يقل (٥) : (غَيْرُ مَلُومِينَ) ، لكنا نعلم بقوله : (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) أنهم لا يلامون ؛ لأنه قد أباح لهم الاستمتاع بمن ملكت أيمانهم (٦) ومن كان تحتهم بملك النكاح ، ولا يجوز أن تلحق اللائمة باستعمال المباح المطلق ، ولكن فيه فوائد :

أحدها : أن من الناس من يحرم الاستمتاع بملك النكاح وملك اليمين ، فيخبر أنهم عند من اعتقد الإيمان بالرسل غير ملومين ، وإنما يلومهم (٧) من أنكر الرسالة ، وهم (٨) الثنوية والبراهمة.

وجائز أن يكون معناه : أنهم وإن منعوا النساء عن الجماع بما هو خير لهم من الصيام

__________________

(١) في ب : يشكرها أو بواحد.

(٢) في أ : ويؤخذ.

(٣) في ب : ممكن.

(٤) سقط في ب.

(٥) زاد في ب : إنهم.

(٦) زاد في ب : أنهم لا يلامون.

(٧) في أ : يلزمهم.

(٨) في ب : وهو.

٢٠٩

وأنواع القرب ، لم تلحقهم اللائمة كما يلام (١) من يمنع آخر عن طاعة الله تعالى ، وإذا استمتعوا بملك النكاح وملك اليمين ، لم يبلوا بالزنى ؛ فتلحقهم اللائمة بذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) العادي : هو الظالم في الحقيقة ؛ يقال : عدا فلان على فلان ؛ إذا ظلمه ، فهم عادون (٢) ؛ حيث ظلموا أنفسهم فوضعوها في موضع لم يؤذن لهم بالوضع فيها.

وقال الحسن : هم العادون حيث عدوا من الحلال إلى الحرام.

وفي هذه الآية دلالة (٣) تحريم المتعة ؛ لأنه أخبر أن من ابتغى وراء ملك اليمين وملك النكاح ، فهو إذن من العادين.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) فالأمانات لها وجهان :

أحدهما : ما ائتمن الله ـ عزوجل ـ عباده على ما له من الحقوق عليهم.

والثاني : ما ائتمن بعضهم بعضا على الحقوق والعهود التي تجري بين الخلق من الذمم ، والنذور ، وغير ذلك ؛ فيدخل فيه كل أمانة بين العبد وبين ربه ، وبينهم وبين الخلق ، وكل عهد أخذ عليهم ؛ من نحو قوله : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [المائدة : ١] ـ قيل في التأويل : العهود ـ ثم بين ذلك فقال : (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ ..). الآية [المائدة : ١٢] ، والعهد الذي أعطينا للمعاهدين (٤) ، فكل ذلك داخل تحت الآية ، وقد يدخل معنى الأمانة في العهد والعهد في الأمانة ، وقد يجوز أن يقع بينهما فرق ، والله أعلم.

[وقوله ـ عزوجل ـ :](٥)(وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ) أي : يقيمونها لله تعالى كقوله : (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ) [النساء : ١٣٥] ، أو قائمون بالوفاء بما عليهم من الشهادة ، فيقومون لها ، أحبوا أو كرهوا ، ضرهم ذلك أو نفعهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) محافظة الصلاة إقامتها في أوقاتها بشرائطها ، والذي يحملهم على المحافظة ما يخشون الله تعالى ، ولما جعلت تكفيرا لسيئاتهم ؛ فيرغبون في إقامتها ؛ تكفيرا عن سيئاتهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ) في الآية إبانة أن من يكرم بالجنان هؤلاء.

__________________

(١) في أ : لا يلام.

(٢) في ب : معادون.

(٣) في ب : دليل.

(٤) في ب : المعاهدين.

(٥) سقط في ب.

٢١٠

وذكر عن أبي بكر الأصم أنه قال : في هذه [الآية] دلالة أن من وفى بهذه الأشياء التي ذكرها في هذه السورة من الإدامة على الصلاة ، وإيتاء الحق المعلوم ، والتصديق بيوم الدين ... إلى آخر ما ذكر ـ فهو الذي يكرم بالجنة ، و (١) الخاطئ الذي يرجع عن خطيئته ويتوب عنها ، فأما غير هذين فهو لا يستوجب الإكرام بالجنة ، فما ذكر من الإكرام بالجنة للصنفين اللذين ذكرهما فهو كما ذكر ، وأما الصنف الثالث فهم الذين بلوا بالخطيئات من أهل الإيمان ولم يتوبوا عنها ، فقد يرجى لهم هذه الكرامة بعفو الله سبحانه وتعالى ، وكرمه وجوده ، ومن كان هذا وصفه لم يؤيس من إحسانه ، بل كان العفو منه مأمولا والإحسان منه مرجوّا.

قوله تعالى : (فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (٣٦) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (٣٧) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (٣٨) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (٣٩) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (٤٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٤١) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٤٢) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (٤٣) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ)(٤٤)

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ. عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ) اختلف في تأويل الإهطاع :

فمنهم من يقول : هو الإسراع في المشي.

ومنهم من يقول : هو إدامة النظر.

فمن حمله على الإسراع ، فمعناه : أن أئمة الكفر كانوا يأتون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيستمعون القرآن منه ، ثم يسرعون إلى أتباعهم ، ويجلسون حلقا حلقا ، ويحرفون ما يستمعون من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويلبسون على ضعفائهم وأتباعهم ؛ ليصدهم ذلك عن الإيمان بالله ـ عزوجل ـ ورسوله.

فإن كان الأمر على هذا فتأويله : ما لهم يسرعون إليك ليسمعوا كلامك ثم يتفرقوا عن اليمين وعن الشمال ويكذبونك ، نحو أن يقول بعضهم : ما هذا إلا سحر مبين (٢) ، و : (ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [الأحقاف : ٤٦] ، (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ)(٣) [المؤمنون : ٣٨] ، ونحو ذلك.

__________________

(١) في ب : أو.

(٢) في ب : مفترى.

(٣) في ب : إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ.

٢١١

وما (١) المنفعة لهم في طعنهم عليك [سوى استحقاقهم](٢) المقت والهلاك بذلك من الله تعالى ، وما يرجون بإعراضهم عن تصديقك بعد ما رأوا الآيات.

ومن حمله (٣) على النظر ، فمعناه : أنهم كانوا يجلسون من بعيد ، فينظرون (٤) إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ويطعنون عليه بالسحر والافتراء ، وأنه من [أساطير الأولين ، فيمكرون](٥) بمن يقتدي برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن يعاديه (٦) من الكفرة.

فإن كان على هذا فتأويله كأنه يقول له (٧) : يجلسون من البعد (٨) ناظرين إليك ، ولا يدنون منك ؛ ليستمعوا ما أنزل إليك فينتفعوا به ، لكنهم متفرقون (٩) عن اليمين وعن الشمال ، يصدون الناس عن مجلسك ، وقد علموا أن لهم إلى من يعلمهم الكتاب والحكمة حاجة ؛ إذ ليس عندهم كتاب ولا علم بالأنباء المتقدمة ؛ ليعلموا أنك جئت بالعلم والحكمة دون السحر والكهانة.

فإن كان على هذا الوجه ؛ فالعتاب لمكان التحريف والتبديل ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ) : قوله : (أَيَطْمَعُ) حرف استفهام ، وقد ذكرنا أن حرف الاستفهام ممن لا يستفهم إيجاب.

ثم اختلف في وجه الإيجاب.

فمنهم من يقول : معنى قوله : (أَيَطْمَعُ) ، أي : لا يطمع كل امرئ منهم بعبادتهم الأصنام والأوثان أن يدخلوا جنة نعيم ؛ إذ هم منكرون للبعث والجنة والنار ، ثم مع هذا ينصرون الأصنام ويعبدونها ، ويخضعون لها ، وإن كان لا طمع لهم في نصرها إلى شيء في العاقبة ، ولا يرجون منها العواقب ؛ فيكون [في](١٠) هذا ترغيب للمؤمنين على القيام بنصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنهم يطمعون في نيل الجنة والكرامة من الله تعالى والنجاة من النار بنصرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعبادتهم لله تعالى ، كأنه يقول : إنهم [لا](١١) يطمعون نيل

__________________

(١) في ب : لما.

(٢) في أ : استحبابهم.

(٣) في أ : حمل.

(٤) في ب : وينظرون.

(٥) في ب : الأساطير ويمكرون.

(٦) كذا في أ.

(٧) في ب : لهم.

(٨) في أ : بعد.

(٩) زاد في ب : متفرقهم.

(١٠) سقط في ب.

(١١) سقط في ب.

٢١٢

شيء ، ولا يخافون [من شيء](١) في العاقبة ، ثم يقومون (٢) بنصر الأصنام ، فأنتم أحق بنصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ إذ تطمعون نيل الجنة والدخول فيها بنصركم إياه ، والله أعلم.

ومنهم من حمله على إيجاب الطمع ، وهو أنهم كانوا يطمعون دخول الجنة ونيل نعيمها إذا رجعوا إلى ربهم ؛ ظنّا منهم أنهم إذا ساووا المسلمين في نعيم الدنيا وسعتها ، فكذلك يساوونهم في نعيم الآخرة ، كما قال الله تعالى خبرا عنهم : (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) [فصلت : ٥٠] ، وقال : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ..). الآية [الجاثية : ٢١] ، هكذا ظن الكفرة أنهم إن رجعوا إلى ربهم فسيجدون عنده خير منقلب ، فقال تعالى : (كَلَّا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) ، فقوله (٣) : (كَلَّا) على هذا التأويل رد لاعتقادهم وقطع لأطماعهم ، فقال : (كَلَّا) أي : لا يدخلونها قط ، ثم استأنف الكلام فقال ـ عزوجل ـ : (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ).

وعلى التأويل الأول : (كَلَّا) بمعنى : حقّا أنهم لا يطمعون ، ثم استأنف بقوله : (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) ، أي : من تلك النطف ؛ فيذكرهم بهذا عظيم نعمه وإحسانه إليهم بما أخرجهم منها ونقلهم من حال إلى حال حتى صاروا بشرا سويّا ؛ ليعلموا أنه (٤) لا يتركهم سدى ؛ بل ليمتحنهم (٥) ويستأدي منهم شكر ما أنعم عليهم ؛ فيوجب ذلك تصديق الرسل.

وفيه تذكير قدرته وسلطانه ، وبيان ضعف ابتدائهم ؛ ليعلموا أن من قدر على إنشائهم (٦) لقادر على أن يحييهم بعد ما أفناهم ، والله أعلم (٧).

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ ..). [الآية](٨).

ذكر المشارق والمغارب : ذكر السموات والأرض ، وفي ذكرهما ذكر أهل السموات [وأهل الأرض](٩) ، فيكون معناه : فلا أقسم برب الخلائق أجمع ، ويكون حرف «لا» زائدا في الكلام تأكيدا للقسم على ما يذكر ، فيكون معناه : فلا أقسم.

ثم حق هذا القسم أن يقول مكان قوله : (بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) : «فلا أقسم بي» إذا كان القسم

__________________

(١) في ب : شيئا.

(٢) في أ : يقولون.

(٣) زاد في ب : له.

(٤) في ب : أنهم.

(٥) في أ : ليمنحهم.

(٦) في أ : إشفائهم.

(٧) في ب : الله الموفق.

(٨) سقط في ب.

(٩) في أ : والأرضين.

٢١٣

من الله تعالى ، هذا هو [ظاهر الكلام](١) في متعارف اللسان ، ولكن يحتمل هذا وجوها :

أحدها : أن يكون هذا القسم من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كأنه علمه أن يقسم به ويقول له : قل يا محمد : (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ).

وإن كان هذا قسما من الله تعالى فهو مستقيم ـ أيضا ـ من وجهين :

أحدهما : على الإضمار ؛ كأنه قال : فلا أقسم بي ؛ فأنا رب المشارق والمغارب.

والثاني : وإن كان هذا القسم من الله تعالى يستقيم بلفظ الغائب كما يستقيم بلفظ الحاضر ؛ لأن الخلق كله لله شهود ، وليس هو شاهدا للخلق ، فيخرج الكلام بينهم على ما يخاطب الغائب ، ومرة على الوجه الذي يخاطب به الشاهد ، ومثل هذا مستعمل في متعارف اللسان ، والله أعلم.

وفي الآية دلالة على أن ملك السموات والأرضين ومدبرهما واحد ؛ إذ لو لم يكن كذلك لكان لملك السماء أن يمنع الشمس والقمر والكواكب من إيصال النفع إلى أهل الأرض ، ويكون لملك الأرض أن يمنع ملك السماء عن الإغراب في الأرض.

ثم الذي يشرق ويغرب منذ خلق يجري على ما جرى عليه التدبير جريا واحدا لم يقع فيه تغيير ولا تبديل ، ولو كان لله تعالى فيه شريك لكان لا بد من وقوع التغيير فيها ؛ فثبت أن تدبير (٢) السموات والأرضين (٣) وتدبير سلطانهما راجع إلى الواحد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّا لَقادِرُونَ. عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) هذا موضع القسم ، فجائز أن يكون أريد به : أن يبدل الخير منهم ، فيجعل مكان ما كانوا من الشر خيرا ؛ كقوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) [يونس : ٩٩] وقد فعل ذلك ؛ لأنهم أسلموا.

ويحتمل أن يكون أراد به أن يبدل قوما خيرا منهم.

ثم هذا يخرج على وجهين :

أحدهما : على تحقيق القدرة.

والثاني : أن يكون معنى القدرة [إرادة الفعل](٤).

أما الأول فعلى وجهين :

أحدهما : على معنى تخويف أهل مكة أنهم إن لم ينتهوا عن ذلك ، أنزل الله تعالى

__________________

(١) في ب : الظاهر في الكلام.

(٢) في ب : تغيير.

(٣) في ب : الأرض.

(٤) في ب : الإرادة للفعل.

٢١٤

مكانهم من هو خير لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والبدل لا يكون إلا بعد المبدل عنه ، وقد فعل الله تعالى ذلك بهم ، أهلك المعاندين منهم ، وأبدل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولادهم والمهاجرين منهم والأنصار الذين آووا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونصروه.

والثاني : أي : كنا قادرين على أن نجعل المرسل إليهم خيرا منهم ؛ إذ قد علموا من قدرة الله عزوجل أنه هو الذي خلقهم وأنشأهم ، لكن إنما أرسل إليهم وأمرهم ؛ لحاجات أنفسهم ، لا لنفع يرجع إليه (١) ، ليس على ما عليه ملوك الدنيا ، لكنه إنما امتحنهم بالأمر ليسعوا في نجاة أنفسهم ، ونهاهم ؛ ليفكوا (٢) رقابهم من النار ؛ فيكون فيه تسكين قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند وجده عليهم حيث لم يؤمنوا.

وأما الوجه الثاني : أن يكون معنى القدرة إرادة الفعل خاصة ؛ إذ قد يكنى بالقدرة عن الفعل إذ هي سبب الفعل ؛ كالأمر المعتاد بين الخلق يأمر رجل آخر بفعل فيقول : لا أستطيع ولا أقدر ، أي : لا أفعل ، وعلى هذا تأويل قوله ـ عزوجل ـ (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) [المائدة : ١١٢] أي هل يفعل ذلك فعلى هذا تأويل هذا تأويل قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّا لَقادِرُونَ) ، أي : لفاعلون ما هو خير لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدلا عن هؤلاء.

فإن كان على هذا فيكون فيه بشارة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه يجعل له أصحابا يرضاهم ، ويكون فيه إخبار الله ـ [عزوجل] ـ لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنصر والغلبة على المكذبين منهم ، ويكون فيه إنباء لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه لا ينفذ فيه مكرهم وإن اجتهدوا ، ويكون فيه إعلام أنه ينتقم منهم له ويعذبهم ، وقد فعل ذلك [كله](٣) بحمد الله ـ عزوجل ـ والله المستعان ؛ حيث بدل من أهل مكة أهل المدينة ، وكانوا خيرا منهم ؛ لأن أهل مكة كانوا عليه ، وأهل المدينة كانوا له ، فكانوا هم خيرا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ).

والمسبوق : المغلوب ، فكأنه قال : لا يسبقنا أحد ولا يعجزنا أحد عن ذلك ، ولا يفوتنا أحد فيما نريده.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا)

قال أبو بكر : الخائض : المتحير ، واللاعب : الخاطئ ، فقوله : (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا) أي : دعهم فيما هم [فيه] من خطاياهم وتحيرهم في دينهم ، فكل من اشتغل بما لا يحتاج (٤) له فهو خائض لاعب ، وأصله أن كل أمر لا عاقبة له [تحمد فهو فيه لاعب

__________________

(١) في ب : إليهم.

(٢) في أ : ليكفوا.

(٣) سقط في ب.

(٤) في ب : يحتج.

٢١٥

لاه](١) ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) [محمد : ٣٦] ، أي : من يعمل في الحياة الدنيا للدنيا لا للآخرة فهو لاعب لاه ، وكأن هذه الآية صلة قوله تعالى : (فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ) الآية ، أمره بألا يشتغل بأولئك ويقبل على من يرجو منهم الإيمان.

أو أمره بألا يشتغل بمكافأتهم بسوء صنيعهم ؛ فإن الله سينصره عليهم ويكافئه عنهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) قد (٢) لاقوا ذلك اليوم وهو يوم بدر ، وسيلاقون اليوم الثاني وهو يوم الآخرة.

وقوله تعالى : (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً) يخبر أنهم يخرجون من الأجداث ، وهي القبور سراعا إلى الداعي ، والذي يحملهم على الإسراع هو أن أنفسهم أبت إجابة الداعي في الدنيا ؛ فنزل بهم الهلاك بتركهم الإجابة ، فيسارعون في ذلك اليوم إلى إجابة الداعي ؛ رجاء أن يتخلصوا من العذاب الذي حق عليهم بترك الإجابة ، وذلك لا ينفعهم وإن وجدت منهم التوبة والرجوع عن تلك الإجابة ؛ لأن ذلك اليوم ليس بيوم ينفع فيه الندامة والتوبة ، وإنما هو يوم تجزى فيه كل نفس بما كسبت ؛ وهذا كقوله : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ) [غافر : ٨٤] فأخبر أنهم يفزعون إلى الإيمان بالله تعالى لما أيقنوا أنهم إنما حل بهم البأس بإعراضهم عن الإيمان ، ففزعوا عند إيقانهم بالعذاب إلى الإيمان ؛ رجاء أن يتخلصوا من العذاب ، فلم ينفعهم ذلك ولم يغنهم من (٣) عذاب الله شيء ؛ إذ ذلك الوقت ليس بوقت قبول التوبة ، فيكون هذا تحريضا بالإسراع إلى إجابة الداعي والإيمان بما يدعو إليه قبل أن يؤمنوا إيمانا لا ينفعهم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ)

قرئ بنصب النون ، وجزم الصاد ، وهو اسم العلامة كالغرض وأشباهه.

وقرئ بضم النون والصاد ، وهو اسم الصنم.

فإن كان على العلامة ، فمعناه : أنهم يسارعون في ذلك الوقت إلى إجابة الداعي مسارعة من يسارع في هذه الدنيا إلى الغرض والعلامة المنصوبة ؛ كذا قاله بعض أهل التأويل.

وذكر عن الكلبي (إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ) : إلى علم يسعون.

وقال قتادة : إلى علم يستبقون (٤).

__________________

(١) في ب : تحمد فيه ، وهو لاعب فيه ، لاهي.

(٢) في ب : وقد.

(٣) في ب : عن.

(٤) أخرجه عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير (٣٤٩٨٠ ، ٣٤٩٨١) ، وابن المنذر بنحوه ، كما في الدر المنثور (٦ / ٤٢٢).

٢١٦

وعن مجاهد : إلى علم ينطلقون (١).

فإن كان على الثاني ، فمعناه : أنهم يسرعون إلى إجابة الداعي في ذلك ؛ كسرعتهم إلى عبادة النصب عند خوفهم فوت عبادتها وعند اجتماع عبادها عندها لو يبتدرون (٢) نصبهم حتى يستلموها.

ومنهم من ذكر أن النصب برفع النون والصاد هي الأغراض التي يسبقون إليها ، ومن تأول هذا فهو يجعل النّصب هاهنا جمع النّصب.

وقوله : (يُوفِضُونَ) أي : يسرعون.

وقال الحسن : أي : يرملون ، وهما واحد ؛ لأن الإسراع في الرمل موجود.

وقوله ـ عزوجل ـ : (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ) :

يحتمل أن يكون هذا على بصر الوجوه وصفة خشوعها [على] ما قال في آية أخرى : (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) [إبراهيم : ٤٣] فيخشع خشوعا لا يملك صرف طرفه عن الداعي ، ففيه أن الذّلة قد أحاطت بهم حتى أثرت في الأعين والوجوه ، وفي كل عضو.

وجائز أن يكون هذا على بصر القلوب ، وهو أن قلوبهم تشتغل بإجابة الداعي عن أن تبصر لنفسها حيلة تتخلص [بها] من أهوال ذلك اليوم وشدائده.

وقوله ـ عزوجل ـ : (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) :

أي : تعلوهم ، والذلة : الحالة في النفس تبدو وتظهر من الأبصار.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ).

حقه أن يقول : هذا اليوم الذي كانوا يوعدون ؛ لأنه أضاف إلى اليوم الذي كانوا يوعدون (٣) في الدنيا.

ولكن معناه : كانوا يوعدون ذلك اليوم في الدنيا ، وذلك اليوم في الوقت الذي كانوا (٤) يوعدون غير موجود ، فيعبر عنه بما يعبر به عن الغائب ، والله أعلم ، [وصلى الله على سيدنا محمد وآله أجمعين](٥).

* * *

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٣٤٩٧٩) ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر بنحوه ، كما في الدر المنثور (٦ / ٤٢٢).

(٢) في أ : بتبديل.

(٣) زاد في ب : به.

(٤) في ب : كان.

(٥) سقط في ب.

٢١٧

سورة نوح عليه‌السلام مكية

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(٤)

قوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

في ذكر نبأ نوح ـ عليه‌السلام ـ دلالة رسالته وآية نبوته ؛ لما (١) ذكرنا : أن هذا لم يكن من علمه ، ولا علم قومه ، ولم يختلف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى من عنده علم [به](٢) فتعلمه منه ، فعلم أنه بالله تعالى علمه لا بأحد من خلقه ؛ فيكون فيه إلزام الحجة عليهم ، وفيه إعلام رسول الله ـ عليه‌السلام ـ ما لقي نوح ـ عليه‌السلام ـ من قومه ؛ ليصبره بذلك (٣) على أذى قومه ؛ إذ السورة مكية.

ثم أمره بالإنذار ، ولم يذكر معه البشارة ، فكذلك قال نوح ـ عليه‌السلام ـ (إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) ولم يقل : بشير ، وقد كان هو بشيرا ونذيرا ، فجائز أن يكون اقتصر على ذكر النذارة ؛ لأن في ذكرها ذكر البشارة ؛ وذلك أنهم إذا استوجبوا العذاب إذا داموا على ما هم فيه من الضلالة وعبادة غير الله تعالى ، فهم إذا انتهوا عن ذلك استوجبوا العفو ، واستيجاب العفو وقوع البشارة ، فإذا كان ذكر أحد الوجهين يقتضي ذكر الوجه الآخر ، اكتفي بذكر أحدهما عن ذكر الآخر.

وجائز أن يكون خص النذارة بالذكر ؛ لأن الحال كانت حال الإنذار ؛ لأنهم كانوا معرضين عن طاعة الله تعالى ومقبلين على عبادة غيره ، فكانوا مستوجبين للنذارة ، ولم يكونوا من أهل البشارة ، وإنما يصيرون من أهلها إذا انتهوا عما هم عليه ؛ فيكون قوله : (أَنْذِرْ قَوْمَكَ) إن داموا على ما هم عليه ، وفي هذا دلالة على أن المرء إذا أخذ غير طريق الهدى ، فالسبيل فيه أن يفسد عليه مذهبه ، ثم إذا ظهر فساده عنده ، أمره باتباع سبيل الهدى وبين له الحجج والدلائل ؛ لينجع فيه ذلك ، ليس أن يحتج عليه بالحجج التي هي

__________________

(١) في أ : إنما.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : ذلك.

٢١٨

حجج مذهب الحق قبل أن يبين له فساد ما هو فيه ؛ فإن ذلك لا ينجع فيه ، ولا يدعوه إلى قبول الحق والتزامه ، بل يبين له قبح ما هو فيه وفساد ما اعتقده ، فإذا بان له ذلك يحتاج إلى أن يسأله عن سبيل الهدى فيه ؛ ليعرفه بالتعلم.

ثم الأصل أن الدنيا هي سبيل الآخرة ، والضلال سبيل يفضي بمن سلكه إلى العذاب الدائم ، والهدى سبيل يفضي إلى الثواب الدائم ، فالنذارة هي تبيين ما ينتهي إليه عاقبة من يلزم الضلال ، والبشارة هي تبيين ما ينتهي إليه عاقبة من يلزم الهدى.

وإن شئت قلت : إن النذارة هي أن يبين عسر ما يحل به في العاقبة ، والبشارة هي أن يثبته بما يصير إليه في العاقبة من اليسر.

ثم في قوله ـ عزوجل ـ : (أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) دلالة أن حجة الإسلام تلزم (١) الخلق قبل أن يأتيهم النذير ؛ لأنه لو كانت لا تلزمهم ، لكانوا في أمن من نزول العذاب قبل أن يأتيهم النذير ؛ فلا يخوفون (٢) بنزل العذاب بهم قبل أن ينذروا ، فلما خوفوا بنزول العذاب بهم قبل أن يأتيهم النذير دل أن الحجة لازمة عليهم ، وأن لله تعالى أن يعذبهم لتركهم التوحيد وإن لم يرسل إليهم الرسل ، فيكون تأويل قوله ـ عزوجل ـ : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء : ١٥] على عذاب الاستئصال في الدنيا ليس على عذاب الآخرة ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) :

أي : مبين بما يقع به الإنذار والتخويف ؛ فيكون الإبانة منصرفة إلى النذارة.

ويحتمل أن يكون هذا الوصف راجعا إلى نفسه خاصة ؛ كأنه قال : نذير لكم مبين ، أي : إني لم أقم في دعائي إياكم إلى عبادة الله تعالى وإنذاركم من عند نفسي ، ولكن بما اختصني الله تعالى وولاني ذلك.

ثم الأصل في الإنذار [أن يقتضي] نهيا وفي النهي [أن يقتضي] أمرا ، لكن الإنذار يقتضي نهيا وكيدا ، والنهي الوكيد يقتضي الأمر بالخلاف أمرا وكيدا.

وأما البشارة فهي تقتضي الأمر الوكيد وغير الوكيد ؛ لأنه يستوجب البشارة بكل خير يفعله ، وإن كان للمرء ترك ذلك الخير بخير آخر يأتى به ، فلا يفهم بنفس البشارة الأمر الوكيد ؛ ويفهم بتصريح النذارة كلا الوجهين اللذين ذكرناهما.

وإذا كان كذلك ، فمطلق البشارة لا يدل على تحقيق النذارة ، وأما النذارة فهي تدل على

__________________

(١) في أ : دلالة أن حجته لأن يلزم.

(٢) في أ : يخافونهم.

٢١٩

البشارة ؛ لأن النذارة على ما هو فيه في الفعل تلزم النهي ، وإذا انتهى عنه فقد حصل العفو ، وفي حصول العفو ارتفاع ما خوف وذهابه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ) فكأنه قال : أنذرهم على عبادة غير الله ، ومرهم بعبادة من يستحق العبادة ، وهو الله تعالى ؛ إذ الأمر بالإنذار يقتضى النهى عما هم عليه ويدعو إلى خلافه ، وبين لهم الخلاف الذي دعوا إليه ؛ لقوله ـ عزوجل ـ : (اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ).

وقيل : (اعْبُدُوا اللهَ) ، أي : وحدوه.

وقال [بعضهم] : كل عبادة جرى بها الأمر في القرآن على الإرسال فهي منصرفة إلى التوحيد.

فكأن الذي حملهم على هذا التأويل هو أن الآيات التي فيها أمر بالعبادة نزلت في أهل الكفر ؛ لأنه خاطب بقوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) [البقرة : ٢١] ، ولم يخاطب بقوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ) ، وإذا ثبت أنها في أهل الكفر ، والكافر أول ما يؤمر يؤمر بالتوحيد ليس يخاطب بعبادة أخرى سواه ؛ لأنه ما لم يأت بالتوحيد لم يقبل منه شيء من العبادات ، فجعلوا تأويل العبادة التوحيد لهذا ؛ لا أن يكون العبادة عبارة عن التوحيد خاصة ، بل العبادة يراد بها التوحيد مرة إذا ذكرت عقيب الكفر ، وإذا ذكرت (١) في أهل الإيمان فالعبادة منهم أن يفوا بمعاملة ما اعتقدوه بالقول ؛ وأن ينجزوا (٢) ما وعدوا من أنفسهم ، وهذا كما ذكرنا في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة : أنهما إذا ذكرتا في أهل الكفر ، انصرف المراد من ذلك إلى الاعتقاد لا إلى الفعل ؛ لأنهم ليسوا من أهل الفعل ، وإذا ذكرتا في أهل الإسلام أريد بالإقامة والإيتاء إيجاد الفعل ، فكذلك الحكم في العبادة بقوله : (اعْبُدُوا اللهَ) أي : وحدوه واتقوه ، أي : اتقوا الإشراك في عبادته ، وأطيعوني فيما آمركم به من توحيد الله تعالى وألا تشركوا به شيئا.

وجائز أن يكون قوله : (وَاتَّقُوهُ) ، أي : اتقوا المهالك كلها ، واتقوا النار ؛ كما قال الله ـ عزوجل ـ : (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) [آل عمران : ١٣١] ، وقوله تعالى : (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) [التحريم : ٦] فالتقوى إذا ذكر على الانفراد مرسلا ، اقتضى الانتهاء عما فيه الهلاك ، واقتضى الأمر بالعبادة والطاعة ، وإذا جمع بين العبادة والتقوى ،

__________________

(١) في أ : ذكر.

(٢) في أ : يتخذوا.

٢٢٠