تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٩٥

الأول ، وهو أن يحمده بالثناء الذي يتضمن التوحيد والتنزيه عن معاني الخلق.

ومن قال : سبح ربك بأسمائه ؛ فهذا ظاهر ، وهو أن يقول : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأسماؤه معروفة ، لا نحتاج إلى إظهارها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (الْأَعْلَى) ظاهره يقتضي أن يكون هناك أدون وأسفل ، وكذلك قول : «الله أكبر» ظاهره يقتضي الأصغر ، ولكن معنى قوله : (الْأَعْلَى) أي : هو أعلى من أن تمسه حاجة أو تلحقه آفة ، وكذلك هذا في الأكبر ، ويكون الأكبر والأعلى في النهاية عن تنزيه المعاني التي ذكرنا ، وهو كقولك : هو أحسن وأجمل ، فإذا قلت : أحسن وأجمل ، أردت به النهاية في الحسن والجمال.

أو يكون (الْأَعْلَى) بمعنى : العلي و «الأكبر» بمعنى : الكبير ، وذلك جائز في اللغة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) يحتمل أوجها :

أحدها : أن يكون سواه على ما قدره ، خلافا لأفعال الخلق ؛ لأن الفعل من الخلق يخرج مرة سويا على [ما](١) قدر ، ومرة بخلافه.

أو يكون سوى الخلق كله في دلالة وحدانيته وشهادة ربوبيته ، فما من خلق خلقه إلا إذا (٢) تفكر فيه العاقل ، دلت خلقته على معرفة الصانع ، ووحدانية الرب.

أو سواه على ما فيه مصلحته ومنفعته.

أو سواه على ما له خلق ؛ ألا ترى أن الإنسان إذا أمر بالركوع والسجود خلقه من وجه يتمكن من الركوع والسجود ؛ فهذا معنى قولنا : إنه سواه على ما له خلق ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) يحتمل أوجها :

أحدها : هداه إلى ما أحوجه إليه ، فهدى العبد [إلى] معيشته من أين يأخذها؟ وهدى كل دابة إلى رزقها وعيشها ، فعرفت كل دابة رزقها.

أو يكون قوله : (فَهَدى) ، أي : هدى به.

أو تكون الهداية منصرفة إلى أمر الدين ، وذلك يرجع إلى الخصوص من الخلق الذين لهم عقول مميزة ؛ فيكون معناه : هدى فيمن هدى.

وطعنت المعتزلة علينا بهذه الآية ، فقالت : إن الله ـ تعالى ـ يقول : (قَدَّرَ فَهَدى) ، وأنتم تقولون : قدر فأضل ؛ ولكن هذا التحقيق يرجع (٣) إليهم ؛ لأنهم يحملون تأويل

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : ذا.

(٣) في ب : راجع.

٥٠١

الهداية على البيان ، وإذا كان كذلك وقد بين الله تعالى سبيل الهدى وسبيل الضلال جميعا ، فإذن قد أضله ؛ حيث بين له سبيل الضلال على قولهم.

ثم ليس في قوله : (قَدَّرَ فَهَدى) نفي الإضلال ؛ إذ التخصيص بالذكر لا يدل على نفى ذلك عما عداه ؛ فلم يجب قطع الحكم على ما ذكروه ، وقد ذكر في موضع آخر المكرمين بالهدى ؛ فقال : (الم. ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) الآية [البقرة : ١ ، ٢] ؛ فثبت أن الهدى راجع إلى الخصوص ؛ فقوله : (قَدَّرَ) ، أي : قدر لخلقه معايشهم ، وهداهم وجه أخذ المعيشة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى. فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى) : في هذه الآية تعريف الرب الأعلى ؛ كأنه يقول : الرب الأعلى : (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى. وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى. وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى).

ثم ذكر هذه الأشياء التي يعرف انقضاؤها وبدؤها وإنشاؤها وإهلاكها من المرعى وغيره ؛ لأن وجه الدلالة بمعرفة الصانع بالأشياء التي يعرف بدؤها وانقضاؤها وحدوثها وفناؤها أقرب منه بالأشياء التي لم يشهد الخلق بدأها ولا انقضاءها ، وهي السموات والأرضون ؛ إذ المرء يصل إلى وحدانية الرب ومعرفة الصانع بالأشياء التي تحدث وتتغير بأدنى نظر وتأمل ، ولا يصل إلى ذلك فيما يدوم إلا بلطائف الفكر ، وفضل بصر ، وزيادة تأمل.

وجائز أن يكون خص المرعى بالذكر ؛ لما بالمراعي قوام هذا الخلق ؛ لأنه لا بد للبشر من الدواب والأنعام ؛ للتعيش ، والدواب (١) حياتها بالمراعي ؛ فكان قوام الخلق في التحصيل بإخراج المراعي ، فذكرهم هذا ؛ ليستأدي (٢) منهم الشكر ؛ إذ كانت الدواب لم تنشأ لأنفسها ، وإنما أنشئت للخلق ؛ ليتمتعوا بها ، ثم الله ـ تعالى ـ بفضله أنشأ للدواب مراعي ، وقدر لها أوقاتها ، ولم يضيعها ، فكيف يضيع هذا الخلق ، وهم الذين قصد إليهم من خلق هذا العالم ، فلا يرزقهم ، ويخرجهم من تدبيره

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى) قيل : الغثاء : اليابس الذي تحمله السيول والأمطار (أَحْوى) أي : أسود من قدمه.

وقيل : الأحوى : هو الأخضر الذي يضرب إلى السواد ، وهو على التقديم والتأخير ؛ أي : جعله غثاء بعد ما كان أحوى.

__________________

(١) في ب : فالدواب.

(٢) في ب : استأدى.

٥٠٢

قوله تعالى : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (٦) إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (٧) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (٨) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (٩) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (١٢) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى)(١٣)

وقوله ـ عزوجل ـ : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) ، أي : سنحفظ عليك ما أوحينا إليك من القرآن فلا تنسى ، وفي حفظه ـ عليه‌السلام ـ ما يوحى إليه دلالة رسالته ؛ لأنه لم يكن يعرف الكتابة ، ولا كان يتلو الكتب ، ثم كان يقرأ جميع ما يلقى إليه بمرة واحدة ، مع ما كان مأمورا ألا يحرك لسانه بشيء مما يوحى إليه إلى أن يقضى إليه الوحي ، ومن كانت حالته ما ذكرنا ، تعذر عليه حفظ ما يلقى إليه بمرات وإن كان ذلك لسانه ، فكيف يضبطه بمرة واحدة ؛ فكان حفظه بالمرة الواحدة نوعا من آيات نبوته.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) قال بعضهم (١) : تأويله : إلا ما شاء الله من ذلك ؛ فإنه ينسيك ما أراد أن ينسيكه.

ولكن ما أرى هذا التأويل صحيحا ، وذلك أن الذي أوحي إليه آية نبوته ؛ فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قرأ ، ثم أنسي ، فلمن طعن في رسالته أن يستقرئه تلك الآية ، ولا يتهيأ له أن يقرأها إذا كان قد أنسي ؛ فيجد في ذلك موضع الطعن عليه.

وقد روي في بعض الأخبار أنه أنسي ، ولكنها من أخبار الآحاد ؛ فلا يجوز قطع الحكم بها ؛ لأن خبر الآحاد يوجب علم العمل ، ولا يوجب علم الشهادة ، وهي في موضع الشهادة هاهنا ، ولكن تأويله عندنا ـ والله أعلم ـ يخرج على أوجه ثلاثة :

أحدها : أن الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ لم يكونوا آمنين على أنفسهم بالعصمة عن الزلات التي لديها يخاف زوال ما أنعموا به وإن ظهرت عصمتهم اليوم عندنا ؛ ألا ترى إلى قصة إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ عند محاجة قومه قال : (أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي) [الأنعام : ٨٠] ، وقال : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) [إبراهيم : ٣٥] ، فخاف زوال ما أكرم به ، وخشي أن يبتلى بما ابتلي به أهل المعاصي حتى فزع إلى الدعاء ، وقال في قصة شعيب ـ عليه‌السلام ـ : (وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا) [الأعراف : ٨٩] ، وقال في قصة يوسف ـ عليه‌السلام ـ : (ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [يوسف : ٧٦] ؛ فثبت أنه لم يتبين لهم حقيقة العصمة عن الوقوع في الزلات التي تزيل النعم ، فكذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يؤمن عما

__________________

(١) قاله ابن عباس أخرجه ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٦٧).

٥٠٣

يعقب الإنساء (١) ؛ بل قيل له : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى. إِلَّا ما شاءَ اللهُ) ؛ ألا ترى إلى قوله : (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر : ٦٥] ؛ فثبت أنهم كانوا على خوف ووجل عن ارتكاب ما يسلب به الوحي وينسي.

أو يكون الاستثناء راجعا إلى إنساء حكمه ، وهو أن ينسخ حكمه حتى يترك فيصير كالمنسي ؛ كقوله : (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) [التوبة : ٦٧] ، أي : جعلهم كالشيء المنسي بما آيسهم من رحمته ، لا أن يكون هناك حقيقة نسيان ، فكذلك ما نسخ حكمه وترك ، صار كالمنسي ، وإن لم يكن فيه حقيقة نسيان ؛ فيكون النسيان منصرفا إلى حكم التلاوة ، لا إلى عينها.

أو يكون ـ عليه‌السلام ـ يذهب خاطره عن [بعض ما يوحى إليه ؛ إذا اشتغل فكره في أشياء أخر ؛ فيصير الذي ذهب عن](٢) وهمه كأنه نسيه وإن كان يعود ذلك إليه عند إحضاره (٣) ذهنه ، كما ترى المرء في الشاهد يذهب عن وهمه جميع ما في فاتحة الكتاب من الحروف إذا أعمل رؤيته في أشياء أخر ؛ حتى يصير كالناسي لها وإن كان يعود إلى تذكرها إذا رام أن يقرأها.

فعلى هذه التأويلات يستقيم أن يوجه إليه الاستثناء ، والله أعلم.

وقوله : (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى) ، أي : ما يجهر بعض لبعض من الخلائق ، أو ما يسر بعض عن بعض.

أو يعلم ما تطلع عليه الملائكة من أعمالهم ، ويعلم ما يعزب (٤) عنهم ، فعلمه فيما أسر العبد كعلمه فيما أظهر وجهر به ؛ فذكرهم هذا ؛ ليكونوا متيقظين ؛ فلا يخافون ، ولا يجهرون إلا بالذى يحق عليهم ؛ إذ الله ـ تعالى ـ حفيظ عليهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) قالوا : ونيسرك للخير ولعمل (٥) أهل الجنة ، فسميت أعمال الخير : يسرى ؛ لأنها تعقب ذلك ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) : ظاهر هذا يقتضي ألا يذكر إلا من نفعته الذكرى ، ولكن (٦) تخصيص الحكم في حال بوصف لا يوجب قطع ذلك الحكم فيما

__________________

(١) في ب : الإنشاء.

(٢) سقط في أ.

(٣) في ب : احتضاره.

(٤) في ب : يعرف.

(٥) في ب : وبعمل.

(٦) في ب : وقال.

٥٠٤

كان الحال بخلاف ذلك الوصف ؛ بل يلزمه أن يذكر من نفعه ومن لا ينفعه ؛ قال الله ـ تعالى ـ : (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ) الآية [الغاشية : ٢١] ، أمر بالتذكير (١) على الإطلاق (٢).

ثم قوله ـ تعالى ـ : (إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) يحتمل وجهين :

أحدهما : أن ذكر فقد نفعت الذكرى ، وهو كقوله تعالى : (وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً) [الإسراء : ١٠٨] ، ومعناه : قد كان وعد ربنا مفعولا.

وقد نفعت الذكرى ؛ لأنه بتذكيره أسلم من أسلم منهم ، وبه فازوا ، وبه نالوا الدرجات العلى ، وقال تعالى : (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) [الذاريات : ٥٥].

أو يكون قوله ـ عزوجل ـ : (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) فسيأتي على أقوام [حالة] لا تنفعهم الذكرى لديها ، وتلك حالة المعاينة لبأس الله وعذابه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى) ، أي : يتعظ بها من يخشى الله تعالى أو المعاد ، قال الله ـ تعالى ـ : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ) [الأنعام : ٩٢] ، أي : بالقرآن ، وذلك أن الذي يحملهم على الإيمان بالآخرة إيمانهم بهذا الكتاب ؛ لأن في القرآن تذكيرا (٣) للآخرة ، وأمرا بالاستعداد لها ؛ فلذلك خشيته تحمله على الاتعاظ بالذكرى والانتفاع بها ، والخشية هي الخوف اللازم في القلوب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى. الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى) : أضاف التجنب (٤) هاهنا إلى الأشقى ، وهو الشقي ، وفيما ذكر الأتقى أضاف التجنب (٥) إلى نفسه بقوله : (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى. الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى) [الليل : ١٧ ، ١٨] ؛ فيكون في هذا دلالة الإذن بإضافة الخيرات إلى الله ـ تعالى ـ وفي الأول دلالة منع إضافة الشرور إليه ؛ وهذا لأن إضافة الخيرات إلى الله تعالى تخرج مخرج الشكر له ، وهو حقيق بأن تشكر نعمه ، وليس في إضافة الشرور إلى آخر شكر له ؛ فلم يصح (٦) أن تضاف إليه ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) ، أي : لا تنقضي عنه أفعال الموت ، وهي آلامها وأوجاعها ، [بل] يبقى في آلامها أبدا ؛ قال الله ـ تعالى ـ : (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ

__________________

(١) في ب : بالتذكر.

(٢) في ب : إطلاق.

(٣) في ب : تذكرا.

(٤) في ب : التجنيب.

(٥) في ب : التجنيب.

(٦) في ب : يصلح.

٥٠٥

كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ) [إبراهيم : ١٧] ، أي : لا يقضى عليه حتى يتخلص من أوجاعها.

(وَلا يَحْيى) ، فالحياة التي ينتفع بها في الدنيا هي التي ترتفع عنها آلام الموت ، وأوجاعه ، فقوله : (وَلا يَحْيى) ، أي : لا يرتفع عنه ألم الموت.

أو يكون قوله : (لا يَمُوتُ) فيستريح (وَلا يَحْيى) حياة يتلذذ بها.

قوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٧) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٨) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى)(١٩)

وقوله ـ عزوجل ـ : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) ، أي : من أتى بما تزكو به نفسه ، أو أتى بما تطهر نفسه به ، وسنذكر في سورة : (وَالشَّمْسِ وَضُحاها) ما تأويل الفلاح؟ [إن شاء الله تعالى](١).

وقوله : (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) ، يحتمل أن يكون أريد به أنواع العبادات ، لا الصلاة المعروفة وحدها ؛ لأن الصلاة اسم للدعاء والثناء ولأنواع من الكرامات ؛ فإنه يقول : بذكر الرب ما يصل إلى العبادات ، ومن أعرض عن ذكره حرم أداء العبادات.

أو يكون منصرفا إلى الصلاة المعروفة ؛ فيكون قوله : (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) ، أي : يصلي بتقديمه اسم الرب ؛ فيكون ذلك منصرفا إلى الافتتاح ؛ فيكون حجة لأبي حنيفة ـ رحمه‌الله ـ أن المصلى له أن يفتتح صلاته بأي أسماء الله تعالى أحب.

ثم ذكر اسم الرب يقتضي المعاني التي ذكرنا في قوله تعالى : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) [الأعلى : ١].

وقوله ـ عزوجل ـ : (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا. وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) ، أي : تؤثرون حياتها على حياة الآخرة ، ويكون الخطاب منصرفا إلى المنافقين والكفرة ، لا إلى أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم كانوا في الإيثار (٢) مختلفين ؛ فمنهم من آثرها في أن نظر في الدنيا وأعرض عن النظر في الآخرة وجحدها.

ومنهم من كان أغلب سعيه لأمر الدنيا.

ومنهم من كان يؤثر بعض أحوالها على الآخرة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) ، أي : إيثار الحياة الآخرة خير وأبقى من إيثار الحياة الدنيا.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : الإتيان.

٥٠٦

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى. صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) :

قال بعضهم : الآيات الأربع في صحف موسى وإبراهيم ، أولهن (قَدْ أَفْلَحَ ..). إلى قوله (خَيْرٌ وَأَبْقى).

وقال بعضهم : السورة (١) كلها أنزلت على إبراهيم وموسى عليهما‌السلام ، فإن كانت السورة كلها في الصحف الأولى ، فجميع ما في هذه السورة ذكر فيها بحق الحاجة لهم إلى تعرفها (٢) ، ويكون قوله : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) [الأعلى : ٦] مذكورا بحق (٣) الثناء على رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووجه الثناء : ما ذكر في قوله : (يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ ..). إلى آخر الآية [الأعراف : ١٥٧] ، وهو يستحق الثناء بهذا الحرف لما في حفظه ـ عليه‌السلام ـ جميع ما يوحى إليه بمرة واحدة إكرام له وتفضيل ؛ فصلح أن يثنى عليه بهذا.

وفي قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى. صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) دلالة أن اختلاف الألسن لا يغير الأشياء عن حقائقها ؛ لأن الله ـ تعالى ـ شهد بكون هذا في الصحف الأولى ؛ وليس في الصحف الأولى بهذا اللسان ؛ فيكون فيه حجة لأبي حنيفة ـ رحمه‌الله ـ في تجويز القراءة بالفارسية ، والله أعلم.

* * *

__________________

(١) في ب : السور.

(٢) في ب : تعريفها.

(٣) في ب : لحق.

٥٠٧

سورة الغاشية

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (٣) تَصْلى ناراً حامِيَةً (٤) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (٦) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ)(٧)

قوله ـ عزوجل ـ : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) قيل : معناه : قد أتاك حديث الغاشية ؛ فإما أن يكون الإتيان سابقا أو (١) أتاه حديث الغاشية بنفس هذه السورة (٢).

ثم في هذه الآيات ترغيب فيما تحمد عاقبته ، وتحذير عما يذم في العاقبة ، وتبيين أن العاقبة المحمودة متصلة باكتسابه وكدحه ، وكذلك العاقبة المذمومة ينالها بعمله ونصبه (٣).

ثم اختلف في تأويل (الْغاشِيَةِ) :

فقيل : (الْغاشِيَةِ) : النار تغشاهم ، كما قال تعالى : (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) [الزمر : ١٦] ، وقال في آية أخرى : (وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) [إبراهيم : ٥٠].

ومنهم من يقول (٤) : (الْغاشِيَةِ) : هي الساعة ؛ سميت : غاشية ؛ لأنها تغشى الصغير والكبير ، والمحمود والمذموم ، والشقي والسعيد ؛ فتعمهم جميعا ؛ وهذا التأويل أقرب ؛ لأنه ذكر الغاشية أولا ثم ذكر الجزاء بعد ذلك بقوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ. عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) ، وقوله ـ عزوجل ـ : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ) [الغاشية : ٨].

ثم قوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ) أي : ذليلة ، وإنما خص الوجه بالذكر ؛ لأن الحزن والسرور إذا استحكما في القلب أثرا في الوجه ؛ فيكون في ذكر الوجه وصف للغاية (٥) التي هم عليها من الذل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) قال بعضهم : إلى عباده الكفرة ، و [هو](٦) أنهم

__________________

(١) في ب : إذ.

(٢) في ب : الآيات.

(٣) في ب : نصيبه.

(٤) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٣٧٠٠٣ ، ٣٧٠٠٥) ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٧٢).

(٥) في ب : الغاية.

(٦) سقط في ب.

٥٠٨

بقوا (١) أبدا في النصب والعمل في الدنيا والآخرة.

وجائز أن يكون نصبها وعملها في النار ، وهو أنها لم تعمل في الدنيا ؛ بل تكبرت (٢) عن طاعة الله ـ تعالى ـ فأعملها وأنصبها في الآخرة بمعالجة الأغلال والسلاسل في النار الحامية.

أو عملت في الدنيا بالمعاصي ونصبت في الآخرة ؛ فيكون فيه (٣) تبيين العمل والجزاء.

وقوله ـ عزوجل ـ : (تَصْلى ناراً حامِيَةً) ، أي : حارة ، قد أحماها الله ـ تعالى ـ من يوم خلقت إلى الوقت الذي يسقى منها.

وقوله : (تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) قيل (٤) : الآني : الذي قد انتهى في الحر غايته حتى لا حر أحر منه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) ، اختلف في الضريع :

منهم من يقول : سمي : ضريعا ؛ لأنهم يتضرعون عنه ، ويجزعون (٥) إذا طعموا.

ومنهم من جعل الضريع لونا من ألوان العذاب لم يبينه الله ـ تعالى ـ للخلق.

ومنهم من قال : الضريع : اسم لنبت قد عرفته العرب فيما بينهم تأكله (٦) الإبل والدواب ما دام رطبا ؛ فإذا هاج ويبس تركت الدواب أكله ، وعافته لخبثه وكثرة ما عليه من الشوك ، ويسمونه : شبرقا في الربيع ، وإذا هاج وجف ، يسمونه ضريعا ، فذلك النبت في الدنيا يعمل في اسمان الدابة ويغنيها من الجوع ، فنفي الله ـ تعالى ـ وجه الإسمان والإغناء ، وحصل أمره على الخبث بقوله : (لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) ، وهو كقوله : (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ. وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) [الواقعة : ٢٨ ، ٢٩] ، فالسدر اسم شجرة ذات شوك في الدنيا ، فأنشئت في الآخرة بلا شوك ، ووصف خمر (٧) الجنة فقال : (لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ) [لواقعة : ١٩] ، والخمر في الدنيا تعمل في التصديع ، وهي تنزف (٨) ؛ فنفى عنها هذه الآفات ، وجعلها شرابا سائغا لذة للشاربين ، فكذلك الضريع نفى به ما يقع به الإسمان والإغناء ، وحصل أمره على الخبث ، والله أعلم.

__________________

(١) في ب : لقوا.

(٢) في ب : يكترث.

(٣) في ب : في.

(٤) قاله السدي أخرجه ابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٧٣).

(٥) في ب : ويخرجون.

(٦) في ب : تأكلها.

(٧) في ب : أحمر.

(٨) في ب : تنصرف.

٥٠٩

قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (٩) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (١٠) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (١١) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (١٢) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ)(١٦)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ. لِسَعْيِها راضِيَةٌ) ، أي : ناعمة بما عاينت من عاقبة عملها الصالح في الدنيا ، ورضيت بما أوتيت جزاء عن سعيها في الدنيا ، جعل الله تعالى في وجوه الخلق يوم القيامة آثار صنائعهم في الدنيا : فمن أطاعه جعل علم طاعته في وجهه يوم القيامة ، ومن عصاه جعل أثره في وجهه يعرف به.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون قد علا قدرها ، وعظم شأنها ؛ فتكون (عالِيَةٍ) نعتا للجنة ، فوصفها بالعلو من هذا الوجه.

والثاني : يحتمل العلو من حيث الدرجات والمكان ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً) ما يحق أن يلقى من الشتم ومن كل ما يؤثم صاحبه ؛ بل هم كما وصفهم الله تعالى : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) [الحجر : ٤٧].

ثم الذي يحمل المرء على شتم المرء إما ضغن أضمره في صدره ، أو خصومة حدثت بينهما ، أو آفة تدخل في عقله بسكر أو (١) ما أشبهه ، والله ـ تعالى ـ نفى عن الشراب الآفات بقوله : (لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ) [الواقعة : ١٩] ، ونزع الغل عن صدورهم ؛ فارتفعت دواعي السفه كلها ؛ فلا يسمع (٢) فيها [ما يحق](٣) أن يلغى به.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ) ، أي : عيونها جارية تأخذها العين ، وتجرى على وجهها ، ليست كمياه الدنيا في أن بعضها يجرى على وجه الأرض ، وبعضها تحتها ، نحو ماء القناة وماء البئر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ) ، قال بعضهم (٤) : مرفوعة بعضها فوق بعض ، ترتفع ما شاء الله ، فإذا جاء ولي الله ـ تعالى ـ ليجلس عليها ، تطامنت له ، فإذا استوى عليها ارتفعت حيث شاء الله تعالى.

وقال بعضهم : معنى (مَرْفُوعَةٌ)(٥) هاهنا : أنها أنشئت مرفوعة القدر عند أهلها ، فوعدوا

__________________

(١) في أ : و.

(٢) في ب : مسمع.

(٣) في ب : بالحق.

(٤) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير عنه (٣٧٠٣٧).

(٥) في ب : المرفوعة.

٥١٠

في الآخرة على ما هي عليه رغبتهم في الدنيا وإيثارهم لها ، والمرء يرغب في الوجهين اللذين ذكرناهما في الدنيا ؛ فعلى مثله جرى الوعد في الآخرة ، وكذلك يرغب في الأكواب والنمارق المصفوفة والزرابي المبثوثة ؛ فوعد لهم مثلها في الآخرة.

وقال في موضع : (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) [الواقعة : ٣٤] ، ورفعها يكون من الوجهين اللذين ذكرناهما في السرر ؛ فوعدوا بها ـ أيضا ـ في الآخرة ؛ ليرغبهم (١) بها في الدنيا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ) الأكواب هي الكيزان التي لا عرا لها ؛ فإما أن يكون وصفا لكبر تلك الأكواب في أنفسها حيث لا عرا لها كالحباب في الدنيا.

أو يكون لهم خدم وولدان يتولون نقلها إلى أين أحبوا ، وليست لها عرا يمدون أيديهم إليها فيرفعونها (٢).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ) قيل (٣) : هي الوسائد وضعت على البسط ، وكذلك تبسط الوسائد في الدنيا ؛ فرغبوا كذلك في الآخرة.

قوله تعالى : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (٢٠) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (٢٤) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ)(٢٦)

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ..). إلى قوله : (وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) : خص الإبل بالذكر من بين جملة الدواب ، وخص السماء والجبال والأرض بالذكر ، وتخصيصها يكون لأحد وجهين :

أحدهما : أن الإبل كانت من أخص دواب أهل مكة ، عليها كانوا يسافرون ، وعليها كانوا ينقلون ما احتاجوا إليه ، وهي أيضا ـ أعني : مكة ـ منشأة بين الجبال ، فكانت لا تفارقهم الجبال ، وكانت السماء من فوقهم والأرض من تحتهم ؛ فخصت هذه الأشياء بالذكر ؛ ليعتبروا بها ، ويتدبروا.

ويحتمل وجها آخر : وهو أن المنافع المجعولة في الدواب كلها تجتمع في الإبل ؛ لأن منافع الدواب أن ينتفع بطهرها وبضرعها وبصوفها وبلحمها ونسلها ، فكل ذلك يوجد في

__________________

(١) في أ : لترغيبها.

(٢) في ب : يرفعونها.

(٣) قاله قتادة أخرجه عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير (٣٧٠٤٠) ، وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٧٤).

٥١١

الإبل ؛ فصارت الإبل كالأنعام تصلح للمنافع المتخذة في الدواب والبركات المعقودة فيها ، وكذلك عظم [المنافع و](١) البركات المعقودة فيها متصلة بالسماء ؛ ففيها جعلت أرزاقهم ، وفيها عين الشمس التي بها مصالح الأغذية وتراها مزينة بزينة الكواكب ، فهي ـ أيضا ـ كالأم في المنافع ، وكذلك الأرض كالأم (٢) في المنافع ؛ إذ فيها مأوى الخلق ، وقدر فيها أقوات الخلق وأرزاقهم ، ومنها يخرج ما يتخذون منه اللباس.

ثم بالجبال قوام الأرض ، ولولاها لكانت الأرض تميد بأهلها ؛ فخصت هذه الأشياء بالذكر ؛ لما ذكرنا.

ثم قوله : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ) يحتمل وجهين :

أحدهما : على الأمر ؛ أي : فلينظروا.

والثاني : أن يكون على سؤال تقدم منهم لأمر اشتبه عليهم ؛ فنزلت هذه الآية : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ..). إلى آخر الآيات ؛ أي : لو نظروا في هذه الأشياء لكان نظرهم فيها وتفكرهم بها ينزع عنهم الإشكال ، ويوضح لهم ما اشتبه عليهم.

وذكر عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال : لما ذكر الله ـ تعالى ـ ما ذكر من نعيم الجنة عجبت قريش ، وقالت : يا محمد ، ائتنا بآية أن ما تقوله حق ؛ فأنزل الله ـ تعالى ـ : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ).

ثم النظر في رفع السموات والتفكر (٣) في خلقها بغير عمد ترونها والنظر والاعتبار في خلق الإبل ونصب الجبال وسطح الأرض ، وهو البسط ـ مما يوجب القول بالبعث ، ويدعو إلى وحدانية الرب تعالى ، وإلى القول بإثبات الرسالة ، وذلك أن الذي كان يحملهم على إنكار البعث هو أنهم كانوا يقدرون الأشياء بقوى أنفسهم ؛ فكانوا يظنون أن القوة لا تبلغ هذا ؛ إذ إحياء الموتى خارج عن وسعهم ، فلو نظروا ، وتفكروا في خلق السموات والأرض ، لعلموا أن قوة الله غير مقدرة بقوى الخلق ، وذلك أن السموات خلقت ورفعت في الهواء بغير عمد ، وأقرت كذلك ، لا تنحدر عن موضعها ، ولا تتصعد ، ولو أراد أحد أن يقر في الهواء ريشة حتى لا تسقط ولا تتصعد (٤) لم يقدر عليه ؛ فيكون في ذلك تنبيه أن قدرته قدرة ذاتية ليست بمستفادة ، وكذلك الجبال ترونها مع شموخها وارتفاعها وصلابتها

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : كالأمر.

(٣) في أ : التذكر.

(٤) في ب : تصعد.

٥١٢

زينت بالمياه والأشجار الملتفة من وجه لو تفكر فيه الخلائق (١) فاستفرغوا مجهودهم ؛ ليعلموا (٢) من أي موضع يجتمع الماء؟ وكيف ينبع؟ وكيف تنبت الأشجار من بين الأحجار ـ لم يصلوا إلى معرفته ؛ فيعلموا أن علمه ليس بالذى يحاط به ، فيكون في ذكر هذا إنباء أنه لا يخفى عليه أمر ، ولا يعجزه شيء ، بل العالم كله تحت تدبيره يفعل بهم ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، وأن الذي قدر على خلق هذا لقادر (٣) على إحيائهم وبعثهم للجزاء.

وفي خلق هذه الأشياء ما يدعوهم إلى الوحدانية ؛ لأن الله ـ تعالى ـ جعل منافع الأرض متصلة بمنافع السماء ؛ فالقطر ينزل من السماء إلى الأرض الغبراء (٤) المتهشمة ؛ فينبت لهم من ألوان النبات رزقا لهم ولأنعامهم ، فلو كان مدبر السماء غير مدبر الأرض ، لكان يمنع منافع السماء عن خلق مدبر الأرض ، فلو تفكروا فيها ، لكان يزول عنهم الإشكال ؛ فلا يدعون مع الله إلها آخر ، ولا يقولون : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) [ص : ٥].

وقولنا : إن فيه إثبات الرسالة ، وذلك أنهم بما أنعموا من النعم التي ذكرناها لا بد (٥) أن يستأدي منهم الشكر ، ولا يعرف شكر كل شيء على الإشارة إليه بم يكون؟ فلا بد من رسول يطلعهم على ذلك.

فإن قيل : كيف أمروا بالنظر في كيفية خلق هذه الأشياء ، وهم لو نظروا آخر الأبد ؛ ليعرفوا كيف خلقت هذه الأشياء ، لم يهتدوا إلى ذلك الوجه؟

فجوابه : أنهم لو تداركوا ذلك الوجه وفهموه ، لكان النظر فيها لا يرفع عنهم الإشكال ؛ إذ يقدرونه بأفعال الخلق التي يهتدى إليها ؛ فارتفاع التدارك ، وخروجه عن أوهامهم هو الذي يوضح لهم المشكل ، ويزيل عنهم الشبه ؛ إذ به عرفوا أنه حاصل بقدرة من لا تقدر قوته بقدرتهم ، وأنه خلافهم من جميع الوجوه ، والله الموفق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) : في هذه الآية ـ والله أعلم ـ أمر من الله تعالى لرسوله عليه‌السلام ألا يجازيهم بصنيعهم إذا استقبلوه بما يكره من أذى يوجد منهم واستخفاف يجيء منهم ؛ فيقول : ذكرهم بالله تعالى ، وذكرهم عظيم نعمه وذكرهم كيف هلك مكذبو الرسل ، وكيف نجا من صدقهم وعظم أمرهم ولا تقهرهم ، ولا تجازهم بصنيعهم ، وكل ذلك إلى الله تعالى.

__________________

(١) في ب : الخلق.

(٢) في ب : لعلموا.

(٣) في ب : القادر.

(٤) في أ : الغير.

(٥) زاد في ب : من.

٥١٣

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) ، قال بعضهم (١) : بمسلط.

وقال بعضهم (٢) : لست بجبار.

فإن أريد به الوجه الأول فهو مما يحتمله ، ويجوز أن يسلط عليهم في أن يؤذن بقتالهم ، وأسرهم وقهرهم ببذل الجزية ؛ ولهذا قيل : إن هذا كان قبل نزول سورة براءة.

وإن (٣) كان تأويله : لست بجبار عليهم ؛ على ما روي عن مجاهد (٤) ؛ فهذا الوجه مما لا يرد عليه النسخ ، ولا يجوز أن يصير جبارا عليهم ، ولا يكون قوله : (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ) استثناء ، ويكون معناه : لكن من تولى وكفر فيعذبه الله العذاب الأكبر ، أي : من أعرض عن طاعة الله تعالى وكفر بوحدانية الله تعالى وبكتبه ورسله ، [فيعذبه الله العذاب](٥) الأكبر.

وعلى التأويل الذي قيل : إن المسيطر هو المسلط بالسيف والأسر والقهر بالجزية التي هي صغار عليهم ـ يكون قوله تعالى : (تَوَلَّى وَكَفَرَ) على الاستثناء ، أي : من أعرض عن طاعة الله تعالى ، وكفر بوحدانية الله فسيسلط عليهم بالسيف ، والأسر ، وأخذ الجزية.

وقيل : (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ) ، أي : أعرض ، ولزم الإعراض ؛ فيكون مسيطرا عليهم.

أو تولى وقت التذكير فسينتصر عليه ، وبالله النجاة.

وفي هذه الآية بشارة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالظفر على الذين تولوا عن طاعة الله تعالى وكفروا به.

وفيه آية رسالته ؛ لأنه قال هذا في وقت ضعفه ، وقلة أنصاره ، وكان الأمر كما قال ؛ إذ نصره الله ـ تعالى ـ بالرعب مسيرة شهرين ، وفتحت له الفتوح ؛ ليعلم أنه بالله ـ تعالى ـ علم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ) ، أي : مرجعهم.

وقوله : (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) ، أي : من الحكمة أن نحاسبهم ، وإذا كانت الحكمة توجب حسابهم وتعذيبهم ، كان عليه أن يحاسبهم لما في تركه ترك الحكمة ، وفي تركها سفه ، تعالى الله عن ذلك ، وبالله النجاة ، ومنه التوفيق.

__________________

(١) قاله الضحاك أخرجه ابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٧٥) وهو قول ابن زيد أيضا.

(٢) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٣٧٠٤٧) ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٧٥).

(٣) في ب : فإن.

(٤) أخرجه ابن جرير (٣٧٠٤٩) ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٧٥).

(٥) في ب : فيتعذب العذاب.

٥١٤

سورة (١) الفجر

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (وَالْفَجْرِ (١) وَلَيالٍ عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (٤) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (٥) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (٦) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (٧) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (٨) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (٩) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (١٠) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (١١) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (١٢) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (١٣) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ)(١٤)

قوله ـ عزوجل ـ : (وَالْفَجْرِ. وَلَيالٍ عَشْرٍ) كان العرب من عادتهم أنهم إذا استحسنوا شيئا عظموه ، وإذا عظموه أقسموا به.

ثم إن الله ـ تعالى ـ جعل في الحج وأوقاته لطائف من الحكمة وعجائب من التدبير ، فمن لطيف حكمته وعجائب تدبيره أنه جعل المكان الذي يحج فيه مأمنا للخلق من وجه لا يعرف الخلائق المعنى الذي به وقع الأمن والإلف بين الخلق ؛ حتى رغبوا جميعا في الاجتماع هنالك مع تباغضهم وتعاديهم فيما بينهم من وجه (٢) لا يدرك معناه ، وجعل أهلها يتقلبون في البلاد آمنين ؛ حتى قال ـ عزوجل ـ لنبيه ـ عليه‌السلام ـ : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ) [آل عمران : ١٩٦] [و] سخر أهل الآفاق في حمل ما يقع لأهل مكة إليه حاجة من الميرة وغيرها ، وجعلهم بحيث يرغبون في الإتيان إليها مع عظم ما يلزمهم من المؤن في الإتيان إلى مكة للحج ؛ فثبت أن فيها معاني ولطائف هي خارجة عن قواهم وتدبيرهم ؛ فكان في ذكرها ما يوجب القول بالقدرة على البعث ، ويزيل عنهم الشبهة (٣) في أمرهم ؛ فأقسم لما عظم من شأنها لمكان أنها أوقات الحج ، فعامة (٤) أركان الحج تؤدى فيها ، وعادة العرب أنهم يقسمون بآبائهم وأجدادهم وأصنامهم ؛ لما هي معظمة عندهم ، وهذه الأشياء معظمة عندهم ؛ فجرى القسم بها ؛ جريا على عادتهم ، ويدخل في أوقاتها الشفع والوتر والفجر ، فقالوا : الشفع : يوم النحر ؛ لأنه اليوم العاشر من الشهر ، والوتر يوم عرفة ؛ لأنه اليوم التاسع.

وجائز أن يكون أريد بالشفع والوتر والليل إذا يسر : العبادات جملة إذ ما من عبادة إلا وفيها شفع ووتر.

__________________

(١) زاد في ب : و.

(٢) زاد في ب : الأرض.

(٣) في أ : البشرية.

(٤) في أ : فغاية.

٥١٥

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) ، أي : يسرى بها ، وفي ذلك كناية عن الجهاد والإغارة بالليل ، كما يذكر في قوله : (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً. فَالْمُورِياتِ قَدْحاً. فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً) [العاديات : ١ ـ ٣] ؛ فيكون هذا كله إشارة إلى جملة العبادات.

ووجه القسم بالعبادات (١) : أن الله ـ تعالى ـ عظم (٢) أمر العبادات (٣) في قلوب الخلائق ؛ حتى تراهم جميعا يستحسنونها ويعظمون أمرها ، وإنما يقع الاختلاف بينهم في ماهيتها ـ إلا أن يقع التمانع بينهم في أنفسها ـ فأقسم بها.

وجائز أن يكون أريد بالوتر هو الله تعالى ، وأريد بالشفع الخلائق ؛ إذ خلقهم أزواجا ، والله تعالى هو الواحد بذاته ؛ فيكون القسم بذاته وبجميع الخلق.

ويحتمل أنه أريد بالشفع والوتر [الخلائق جملة ؛ إذ فيهم المعنيان جميعا : الشفع ، والوتر ؛ فيكون قسما بجميع الخلائق](٤).

وقوله ـ عزوجل ـ : (هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) يحتمل أن يكون تأويله : أن وجه القسم بهذه الأشياء يعرفه ذوو الحجر ، وهم ذوو الألباب والحجا ، لا أن يعرفه الجهلة.

قالوا : وموضع (٥) القسم على قوله : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ).

وجائز أن يكون وقع التنازع فيما بينهم ، وكانوا يزعمون أن أوقات الحج ، وهي الليالي العشر ، والشفع والوتر ، ليس يقسم بها ؛ فقال : (هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) ، أي : للعاقل إذا تدبر فيها عرف أن هذه الأوقات بالتي (٦) تحتمل أن يقسم بها أو هذه الأوقات بالتي تدلهم على القول بالبعث.

وقيل : إنما أقسم بهذه الأيام ؛ لعظم قدر هذه الأيام وخطرها عندهم ؛ لما فيها من صلاح معايشهم ، ويكون لهم فيها سعة العيش : أما الفقراء بالهدايا والبدن ، وأما غيرهم بأنواع المكاسب والتجارات ؛ فإنهم كانوا يستعدون الأشياء ، ويهيئون من السنة إلى السنة للتجارة في هذه الأيام ؛ فأقسم الله ـ تعالى ـ بهذه الأيام لكونها معظمة عندهم.

وقيل : إن موضع القسم غير مذكور في هذه السورة ؛ لأنه كان على أثر حادثة عندهم معروفة ، استغنى عن ذكرها ؛ لشهرتها عندهم ؛ فأقسم أنها لحق ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ. إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ. الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي

__________________

(١) في ب : بالعادات.

(٢) في ب : أعظم.

(٣) في ب : العادات.

(٤) سقط في أ.

(٥) في ب : وموقع.

(٦) في ب : بالذي.

٥١٦

الْبِلادِ) في [ذكر نبأ](١) عاد وثمود وفرعون فوائد ثلاث :

إحداها : في موضع (٢) التخويف لأهل مكة الذين كذبوا رسوله ـ عليه‌السلام ـ و [هو](٣) أن أولئك القوم كانوا أكثر أموالا وأولادا وأعدادا ، وأكثر في القوة من هؤلاء الذين كذبوا محمدا [عليه أفضل الصلوات](٤) ، فلم يغنهم ذلك كله من الله تعالى شيئا ؛ بل الله تعالى انتقم منهم لرسله ـ عليهم‌السلام ـ بما كذبوهم ، فما بال هؤلاء الذين كذبوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يخافون مقته وحلول النقمة بهم بتكذيبهم رسوله ، وليسوا بأكثر من أولئك في العدد والمال والقوة؟!

وفائدة أخرى : أن أولئك كانوا يزعمون أنهم بالله ـ تعالى ـ أولى من محمد عليه الصلاة والسلام وأتباعه ؛ لما بسط لهم (٥) من النعيم ، وضيق على الرسول وأتباعه ؛ فبين أن الذين تقدمهم من مكذبي الرسل كانوا أرفع منهم في القوى والأموال والأولاد والأعداد ، وكانت رسلهم في ضيق من العيش ، ثم كانوا هم أولى بالله تعالى من المكذبين (٦) المفتخرين بكثرة الأعداد والقوى ؛ فبين لهم هذا ليعلموا أن ليس الأمر على ما ظنوا وحسبوا.

والثالثة : أنهم كانوا يمتنعون عن الإيمان بالله تعالى وبرسوله ، وكانوا يقولون : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) [الزخرف : ٢٣] ؛ فيكون في ذكر هذا نفي التقليد لأولئك ؛ لأنه كان في آبائهم من أهلك بتكذيبهم الرسل ، وهم الفراعنة وأتباعهم ، وفيهم من نجا ، وهم الرسل وأتباعهم المصدقون لهم (٧) ، فما بالهم قلدوا المهلكين منهم دون الذين (٨) نجوا؟!.

ثم الآية لم تسق ؛ لتعرف نسب عاد وثمود وفرعون حتى نشتغل بتعرفه ، وإنما سيقت للأوجه التي ذكرنا ؛ فالاشتغال بتعرف أنسابهم وأحوالهم نوع من التكلف.

وقوله : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ) فقوله : (أَلَمْ تَرَ) يحتمل وجهين :

أحدهما : أي : قد رأيت ؛ أي : علمت ؛ كما يقال في الشاهد : ألم تر إلى ما فعل

__________________

(١) في ب : ذكرها.

(٢) في ب : مواضع.

(٣) سقط في ب.

(٤) في ب : صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٥) في ب : عليهم.

(٦) في ب : المكثرين.

(٧) في ب : لا.

(٨) في ب : الذي.

٥١٧

فلان ؛ أي : قد رأيت وعلمت ، فتخبره بصنيعه على جهة التشكي منه.

ويحتمل أن يكون هذا ابتداء إعلام منه ، فيقول له : اعلم أن ربك فعل بعاد كذا.

واختلفوا في قوله : (إِرَمَ) :

فقال بعضهم (١) : هو أبو عاد.

وقال بعضهم (٢) : أبو القبيلة ؛ فنسبت إليه عاد ؛ كما يقال : هو من بكر بن وائل ، وإن لم يكن ابنه.

وقال بعضهم : الإرم مساكن عاد.

وقيل : هو اسم الذي بنى تلك الأماكن.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ذاتِ الْعِمادِ) : قال بعضهم (٣) : ذات الأجساد الطوال ، أي : عاد ذات الأجساد الطوال ، كما ذكر في القصة.

وقال بعضهم : ذات البناء المشيد المرفوع في السماء كالعمد الطوال ؛ فيرجع إلى الإرم على تأويل من جعله عبارة عن المساكن.

وقال بعضهم : ذات العماد هي الخيام لها أطناب وعمد ، وكانوا أصحاب خيام وقباب ، وكانت مساكنهم مرفوعة بالعماد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ) :

قال بعضهم : هذا وصف القوم بالشدة والقوة وعظم الخلقة ، وفضل البصر (٤) في الأمور ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً) [الأعراف : ٦٩] ، وقال حكاية عنهم : (وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) [فصلت : ١٥] وقال ـ تعالى ـ : (وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) [العنكبوت : ٣٨] فوصفهم بفضل البصر.

وجائز أن يكون أريد بها المساكن التي (٥) بنوها أن ليس مثلها في البلاد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ) :

قال بعضهم : اتخذوا من الصخور جوابي (٦) ـ أي : قصاعا ـ كما قال تعالى : (وَجِفانٍ

__________________

(١) قاله السدي أخرجه ابن المنذر عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٨٣).

(٢) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٣٨١٢٨ ، ٣٨١٢٩) ، وعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٨٣) ، وزاد في ب : الإرم.

(٣) قاله ابن عباس بنحوه أخرجه ابن جرير عنه (٣٧١٣٣) وهو قول مجاهد مثله.

(٤) في ب : النصر.

(٥) في ب : الذين.

(٦) في ب : خوابي.

٥١٨

كَالْجَوابِ) [سبأ : ١٣].

وقال بعضهم (١) : قطعوا في الصخور بيوتا ؛ كقوله : (يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ) [الحجر : ٨٢] ؛ فيكون في هذا إخبار عن قواهم وشدتهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ) :

قال بعضهم : سماه : ذا الأوتاد ، والوتد : الحبل.

وقال بعضهم (٢) : سمي : ذا الأوتاد ؛ لأنه كانت له أوتاد نصبها لتعذيب من غضب عليه.

وقال بعضهم : إنه كان نصب على الطرق أناسا ، على كل طريق إنسانا راصدا وحافظا.

وقيل : أي : ذو قصور وبنيان مشيدة مرفوعة تشبه الجبال ؛ إذ هي أوتاد الأرض.

وقوله ـ عزوجل ـ : (الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ. فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ) : طغيانهم في البلاد : تمردهم (٣) وعتوهم فيها.

وقوله : (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ) :

قال بعضهم : عذبهم بسوطهم الذي كانوا به يعذبون الخلق ، ويضربونهم.

وقال أبو بكر الأصم : إن السوط لون من العذاب ؛ فعذب عادا بلون منه ، وعذب ثمود بلون منه ، وفرعون وأتباعه بلون منه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) :

قال أبو بكر الأصم : يرصد عذابه بأعدائه ينتظر به آجالهم ، ثم يوقع بهم العذاب إذا أتى الأجل.

وعندنا : أنه يرصد عليهم [ما عملوا](٤) ، فلا يشتد عليه ، ولا يعزب عنه شيء من علمهم ؛ بل يحفظ عليهم ما استتر منه وما ظهر.

وقيل : أي : لا يجاوزه ظلم ظالم ، ولا يفوته هارب.

ثم لم ينصرف وهم أحد في قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) إلى إتيان (٥) مكان ، فما بال بعض الناس انصرف وهمهم في قوله : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) [طه : ٥]

__________________

(١) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٣٧١٤٢ ، ٣٧١٤٣) ، وابن أبي حاتم ، وابن المنذر عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٨٣).

(٢) قاله الحسن أخرجه ابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٨٤) وهو قول سعيد بن جبير أيضا.

(٣) في ب : وتمردهم.

(٤) في ب : فاعملوا.

(٥) في أ : إيثار.

٥١٩

على : جعل العرش مكانا له.

قوله تعالى : (فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (١٥) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (١٦) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (١٨) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (١٩) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (٢٠) كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (٢١) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (٢٣) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (٢٤) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (٢٥) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (٢٦) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي)(٣٠)

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ. وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ. كَلَّا) الإشكال أن يقول قائل : قول ذلك (١) الإنسان : (رَبِّي أَكْرَمَنِ) ، و (رَبِّي أَهانَنِ) خرج موافقا لما قاله الرب تعالى ؛ لأنه قال : (فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ) ؛ فخرج قوله : (رَبِّي أَكْرَمَنِ) على الموافقة لما قال ، وكذا قول هذا الإنسان حيث ابتلي بنقيضه : (رَبِّي أَهانَنِ) ، خرج موافقا لما قال : (وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) ، فإذا كان الأول إكراما كان الذي يضاده إهانة ؛ ألا ترى أن الله ـ تعالى ـ سمى المال : خيرا ، والفقر : شرا ، وسمى المطيع : محسنا (٢) ، والعاصي : مسيئا ، فكذا إذا استقام القول بالإكرام عند ما ينعم عليه ويكرم ، استقام القول بالإهانة إذا ضيق عليه الرزق ولم يكرم ، وإذا كان هكذا فكيف رد (٣) عليه مقالته بقوله : (كَلَّا) ، وهو في ذلك صادق.

ولكن نحن نقول : إن الرد بقوله : (كَلَّا) لم يقع على نفس القول ، ولا انصرف إليه ، وإنما انصرف (٤) إلى ما أراده (٥) بقوله ؛ لأن القائل بهذا كافر بالله تعالى وباليوم الآخر ، وكان يقول : لا بعث ولا جزاء ، وإنما يجازون بأعمالهم في هذه الدنيا ، فمن أحسن أحسن له ، ومن أساء أهين (٦) ؛ فيكون قوله : (كَلَّا) ، أي : ليس الأمر كما صوره في

__________________

(١) في ب : تلك.

(٢) في ب : محبّا.

(٣) في ب : يرد.

(٤) في ب : الصرف.

(٥) في ب : أراد.

(٦) زاد في ب : به.

٥٢٠