تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٩٥

أحدها : أنه لما قال : (مِنْ بُيُوتِهِنَ) دل أنه ألزمهن السكون في بيوتهن التي كن فيها في حالة قيام النكاح ؛ فيكون دليلا [لقول](١) أصحابنا : إنه ليس للزوج أن يسكنها معه في بيته الذي هو فيه ، بل يتركها في ذلك المسكن ، وينتقل هو بنفسه إن كان يريد الانتقال ؛ يصحح هذا قوله : (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) فلما أدخل حرف (من) في هذه الآية دل أن الواجب على الزوج أن يسكنها في بيت من بيوته ، ولا يدخل عليها في ذلك البيت إلى أن تنقضي عدتها ، والله أعلم.

ثم المعنى عندنا في قوله : (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَ) ؛ ليحصنّ ماءكم ، ولا يخرجن ؛ خوفا من وطء غير الأزواج واشتباه النسب (٢) لو (٣) حبلن ، وإذا كان النهي عن إخراجها من البيت لهذا المعنى ، لم يكن بد من إيجاب النفقة عليه ؛ لأنها إنما تكتسب نفقتها بالخروج ، فإذا نهيت عن الخروج ؛ لتحصن ماءه ، لم يحتمل أن تكون النفقة على غيره ، والله أعلم.

ثم قوله : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَ).

روي عن [ابن](٤) مسعود ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : من شاء باهلته أن قوله : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَ) نزل بعد قوله في سورة البقرة : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) [البقرة : ٢٣٤] ، وجعل عدة الحامل بوضع الحمل ، ولا يعتبر أبعد الأجلين ، لكن إن كان ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ يباهل ، فعلي ـ رضي الله عنه ـ لا يباهل ، ويقول بأن قوله : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ) [البقرة : ٢٣٤] لا يجوز أن يدخل في قوله : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَ) ؛ وذلك لأن قوله : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَ) إنما ذكر في عدة الطلاق (٥) ، وعدة الطلاق لا تتضمن عدة الوفاة إذا كانت بالحيض ، لم تدخل عدة الطلاق في عدة الوفاة ؛ ألا ترى أن من طلق امرأته وهي حائل (٦) ممن تحيض ، ثم مات عنها زوجها قبل انقضاء عدتها ، لم تدخل عدة الوفاة في الحيض الثلاث ، بل الحيض [هي التي تدخل](٧) في عدة الوفاة [في الحيض ، وتؤمر : أن](٨) تعتد بأبعد الأجلين ، فكذلك أمر الحامل ، وإذا اشتبه الحال أمرت فيه بالاحتياط أن تعتد بأبعد الأجلين ،

__________________

(١) في أ : في قول.

(٢) في أ : الفساد.

(٣) في ب : أن لو.

(٤) سقط في ب.

(٥) أخرجه ابن المنذر عن المغيرة عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٣٦١).

(٦) في أ : حامل.

(٧) في أ : الذي يدخل.

(٨) في أ : وتأمر بأن.

٦١

ولأن (١) عدة الوفاة لم تلزم لوطء متقدم ؛ ألا ترى أنها قد تلزم من لم يكن زوجها من أهل الوطء ، وأما عدة الحبل والحيض ، إنما لزمت لوطء (٢) متقدم ، وإذا لم تكن عدة الوفاة من جنس العدة بالحبل ، لم تدخل في عدة الحبل فلا نوجب فيها الاحتياط ، وذلك في الاعتداد بأبعد (٣) الأجلين.

ثم التخصيص بذكر الإنفاق على الحوامل يحتمل أن يكون بمعنى أنها في الحقيقة لا تدخل في قوله : (لا تُخْرِجُوهُنَ) ؛ لأنا قد وصفنا أنها إنما نهيت ؛ لتحصين ماء الزوج ، وإذا مضت تسعة أشهر ، فقد خرجت عن التحصين ، فكان الواجب أن تسقط النفقة بعد التسعة ، لكن الله تعالى حث على الإنفاق في جميع المدة ؛ لأنها لا محالة إنما بقيت في هذه المدة ؛ لوطئه المتقدم ؛ فلذلك حث الله تعالى في الإنفاق على الحوامل فيما يقع عندنا ، والله أعلم.

وأما ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ فإنه يجوز أن يكون قوله ـ تعالى ـ : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَ) عنده مبتدأ خطاب ، ليس بمعطوف على قوله : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ) ؛ لأنا نعلم أنه لا يجوز أن يقع الارتياب فيمن تحتمل القروء ؛ وذلك لأن الأشهر في الآيسات إنما أقيمت مقام الأقراء في ذوات الحيض ، وإذا كانت الحامل ممن تحتمل القروء لم يجز أن يقع لهم شك في عدتها ؛ ليسألوا عن عدتها.

وإذا كان كذلك ، ثبت أنه خطاب مبتدأ ، وإذا كان خطابا مبتدأ تناول العدد كلها ، ومما يدل على أنه مبتدأ خطاب ما روي في خبر سبيعة بنت الحارث الأسلمية : أنها وضعت بعد وفاة زوجها بخمس عشرة ليلة ، فأمرها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن تتزوج ؛ فدل إباحته النكاح قبل مضي أربعة أشهر وعشر على أن عدة الحامل تنقضي بوضع الحمل في جميع الأحوال.

وقال الحسن : إن الحامل إذا وضعت أحد الولدين ، انقضت عدتها ، واحتج بقوله : (أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ)(٤) ، ولم يقل : «أحمالهن» ؛ ولكن لا يستقيم ما قاله ؛ لوجهين أحدهما : أنه قرأ في بعض القراءات أن يضعن أحمالهن.

والثاني : أنه قال : (أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) ، ولم يقل : «يلدن» ، بل علق بوضع حملهن ، والحمل (٥) اسم لجميع (٦) ما في بطنهن ، ولو كان كما قاله ، لكان عدتهن بوضع

__________________

(١) في ب : وأن.

(٢) في أ : الوقت.

(٣) في ب : بأحد.

(٤) أخرجه عبد الرزاق بنحوه عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٣٦١).

(٥) في أ : والحامل.

(٦) في ب : بجميع.

٦٢

بعض حملهن ، والله تعالى جعل أجلهن أن يضعن حملهن ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً).

فقد وصفنا أن التقوى إذا ذكر مطلقا مفردا ، تناول الأوامر والنواهي ، فكأنه قال : ومن يتق الله في أوامره أن يضيعها أو في نواهيه أن يرتكبها ، يجعل له من أمره يسرا.

[ثم قوله : (يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً).

له وجهان :

أحدهما : له من أمره يسرا](١) في نفس التقوى أن نيسره عليه ، كما قال في قوله : [(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) [الحاقة : ١٩] ، وفي قوله](٢) : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) [الليل : ٥ ـ ٧] يعني : ييسر عليه فعل التقوى والطاعة ، فكذلك الأول.

ويحتمل أن يكون في جميع الأمور في المكاسب والتجارات وغيرها : أن من اتقى الله من الحرام ييسر الله عليه الحلال ، ومن اتقى الله من الشبه يسر عليه في المباح ، ومن يتق الله في تجارته ، رزقه ما يرجو من الربح ويأمله ، وكذلك جميع الأمور على هذا السبيل ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ذلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ) ، يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون معنى قوله : (ذلِكَ أَمْرُ اللهِ) أي : ذلك التقوى أمر الله أنزله إليكم.

ويحتمل أن يكون أراد (٣) بقوله : (ذلِكَ) ما تقدم من الآيات في المراجعة والإشهاد والطلاق والعدة وغير ذلك : أنها وإن خرجت في الظاهر مخرج الخبر ، فإنها كلها أمر الله تعالى ، أنزله إليكم ؛ فاتبعوها وخذوا بأمره فيها ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً).

هذا يدل على ما وصفنا : أن التقوى إذا ذكر مفردا انتظم الأمر والنهي جميعا ، ألا ترى إلى قوله : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) [هود : ١١٤] ، وقال هاهنا : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ). فجعل التقوى تكفر السيئات ، فلو لا أن في التقوى أعظم الحسنات ، لم يكن لقوله : (يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ) معنى ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ) ، وفي قراءة عبد الله بن

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط في ب.

(٢) سقط في أ.

(٣) في ب : المراد.

٦٣

مسعود رضي الله عنه : أسكنوهن من حيث سكنتم وأنفقوا عليهن من وجدكم ويجوز أن تكون قراءة عمر ـ رضي الله عنه ـ أيضا (١) ؛ ألا ترى [أنه قال](٢) : (لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا بقول امرأة ؛ لا ندري أصدقت أم كذبت) ، فالكتاب هذا ، والسنة يجوز أن يكون سمعها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك.

أو يجوز أن يكون عند عمر ـ رضي الله عنه ـ في هذا تلاوة قد رفع (٣) عينها وبقي حكمها ؛ لذلك قال : (لا ندع كتاب ربنا) ألا ترى إلى ما قاله عمر ـ رضي الله عنه ـ في أمر الزنى : «سيأتي على الناس زمان يقولون : لا نجد الرجم في كتاب الله ، وإنا كنا نتلو من قبل في سورة الأحزاب : الشيخ (٤) والشيخة إذا زنيا ، فارجموهما البتة ؛ نكالا من الله ، والله العزيز حكيم» فقد رفعت التلاوة ، وبقي حكمها ؛ فكذلك في أمر النفقة يجوز أن تكون التلاوة مرفوعة وحكمها باق ، والله أعلم ، وقوله : (لا ندع كتاب ربنا) في الخبر دلالة أن الكتاب قد ينسخ بالسنة ؛ لأن عمر ـ رضي الله عنه ـ إنما احتج في امتناعه عن ترك [كتاب الله](٥) بقول امرأة لم ندر أصدقت أم كذبت؟ ولو لا أن الكتاب قد ينسخ بالسنة ، وإلا لم يكن احتجاجه بقوله : (لا ندع كتاب ربنا بقول امرأة) معنى ، بل كان يقول : (لا ندع كتاب ربنا بالسنة) ، فلما قال : (لا ندع كتاب ربنا بقول امرأة ؛ لا ندري أصدقت أم كذبت)؟ دل أن السنة قد تنسخ الكتاب ، والله أعلم.

وروى أبو بكر الأصم أن فاطمة بنت قيس لما أنكر عليها عمر ـ رضي الله عنه ـ حديثها تركت روايتها إلى زمن مروان ، فلما استخلف مروان جعلت تروي حديثها ، فأخبر بذلك مروان ، فدعاها فروت هذا الحديث ، فقال لها مروان على ما كان يقول لها عمر ـ رضي الله عنه ـ فقالت له : أين كتاب ربنا؟ فتلا عليها قوله : (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ) ، فقالت : كيف يحتمل أن يكون هذا في المطلقة ثلاثا ، والله يقول في هذه (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ)؟ ومعنى الإمساك في المطلقة ثلاثا معدوم ؛ فأفحم مروان ، ولو فهم مروان ما فهمه عمر (٦) لم يفحم ؛ وذلك أن هذه العدة المذكورة في هذه الآيات إنما هي مكان قوله : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) [البقرة : ٢٢٨] ، ولا فرق هناك بين المطلقة الواحدة والثلاث ، وإذا كان المذكور في هذه

__________________

(١) في ب : هذه أيضا.

(٢) في ب : إلى قوله.

(٣) في أ : وقع.

(٤) في ب : أن الشيخ.

(٥) في ب : كتابه.

(٦) في أ ، ب : غيره.

٦٤

العدة مكان تلك ، فالمذكور في النفقة في هذه كالمذكور في تلك ، وليس في تلك الآية ذكر الفرق بين الثلاث والواحدة ؛ فلذلك قلنا : في كتاب الله تعالى دلالة إيجاب النفقة للمبتوتة والمطلقة ثلاثا ، والله أعلم ؛ فيكون حجة على الشافعي ؛ ومما يدل عليه هو أنه لما استدل بذكر الإنفاق في قوله : (فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) على وجوب (١) الإسكان (٢) والنهي عن الإخراج مع توهم الإنفاق دون الإسكان ، فلأن يستدل بذكر الإسكان على الإنفاق ولا يكون (٣) الإسكان ، إلا بالإنفاق ؛ لاتصاله به ـ أحرى ، فصار قوله : (أَسْكِنُوهُنَ) دليلا على وجوب الإنفاق ، وإنما قلنا : إن الإنفاق متصل بالإسكان ؛ لأنه إذا نهي عن إخراجها عن بيته وأمر بإسكانها فلا يحتمل أن يؤمر بالإنفاق ؛ لأن في ذلك تضييقا عليها وتعسرا ؛ ألا ترى : أنها إنما تكتسب النفقة بالخروج ، فإذا نهى الزوج عن إخراجها ، ونهيت هي عن الخروج ، لم تصل إلى نفقتها إلا بالزوج ضرورة ، والله أعلم.

ولأجل أنا نظرنا : أن النفقة في الحامل للحمل أو العدة ، فوجدنا أنها لو كانت واجبة للحمل ، لم تجب إذا كان حملها بحيث لو وضعته ، لم يلزم نفقته (٤) عليه ، وقد وجدنا هذا الحكم ، نحو : حر يتزوج أمة رجل بإذن سيدها (٥) فولدت ولدا : أن نفقة الولد على السيد ، وكان يجب عليه ما دام في بطن أمه ، فلما (٦) استقام وجوب النفقة على الزوج ما دامت حاملا ، وإن كان الحبل بحيث لو وضعته لم يلزمه نفقته ـ ثبت أن النفقة في الحامل ؛ لمكان العدة لا للحبل ، [والعدة](٧) في الحائل والحامل واحدة ؛ فكذلك كان حكمهما واحدا ، والله أعلم.

ثم الأصل عندنا ما وصفنا : أن النفقة إنما وجبت ؛ لاستمتاعه المتقدم ، [فما دامت](٨) محبوسة ؛ لاستمتاعه السابق أوجبت النفقة عليه ، وإذا كانت محبوسة لا بهذا الحق لم يكن عليه النفقة ، والله أعلم.

ولأن في قوله : (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ) ، إضمار النفقة ، كأنه يقول : أسكنوهن من حيث سكنتم ، وأنفقوا عليهن من وجدكم ؛ لأنه لو لا هذا الإضمار ، لم يكن

__________________

(١) في أ : وجوه.

(٢) في ب : للإسكان.

(٣) في ب : يكاد.

(٤) في ب : النفقة.

(٥) في ب : سيدا لها.

(٦) في أ : فلو.

(٧) سقط في ب.

(٨) في ب : فإذا كانت.

٦٥

لقوله : (مِنْ وُجْدِكُمْ) على الظاهر معنى ؛ لأنه لما قال : (أَسْكِنُوهُنَ) ، علم أنه جعل الإسكان عليهم ، ومن كان عليه الإسكان ، فإنما يكون من وجده ، فلم يكن في قوله : (مِنْ وُجْدِكُمْ) إلا إعلام ما قد علمناه ، وإذا كان كذلك ثبت أن في قوله : (مِنْ وُجْدِكُمْ) إضمارا يستقيم عليه المعنى في قوله : (مِنْ وُجْدِكُمْ) ، وليس بين القراءتين اختلاف ، ولكن إحداهما خرجت على الإجمال ، والثانية على التفسير [على ما قرئ في قوله : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) [المائدة : ٣٨] و : (أيمانهما) ، ولم يحمل ذلك على الاختلاف ، بل حملت إحداهما على الإجمال والثانية على التفسير](١) فكذلك الأول (٢) ، والله أعلم.

مع أنه لم يثبت اللفظ في قراءة ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ فأقله أن يكون من خبر الآحاد ، ومعلوم أن خبر ابن مسعود وإن كان من خبر الآحاد فما يسنده إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقبول ، ولما وجب قبول خبر أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ مع ما قيل فيه من الضعف ، فلأن يقبل خبر ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ مع فضله وورعه وكثرة صحبته [مع النبي](٣) صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتبحره في الفقه أولى ، ومن هجر قراءة ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ خيف عليه الزلة ، ألا ترى [إلى ما](٤) روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه سأل أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : ما تعدون آخر القراءة؟ قالوا : قراءة زيد بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ فقال : كلا ، كان يعرض القرآن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كل عام مرة ، وعرض عليه في العام الذي قبض فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرتين ، وقد شهدهما جميعا ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ فإذا كان ابن مسعود قراءته آخر القراءات ، وهو الذي شهد قراءة القرآن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم آخر مرة لم ينبغ أن نعرض عن قراءته ، ونهجره ، والله أعلم.

وفي قوله : (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) دلالة أنه إنما يسكنها في جزء من أجزاء مسكنه ، لا في الموضع الذي يسكنه هو ؛ لأن حرف (من) للتجزئة والتبعيض.

وقوله : (وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ).

يحتمل وجهين [من التأويل](٥) :

أحدهما : أي : لا تضاروهن في الإنفاق عليهن فتضيقوا عليهن النفقة ، فيخرجن ، أو لا

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط في ب.

(٢) في ب : للأول.

(٣) في ب : للنبي.

(٤) في ب : إلى قوله فيما.

(٥) سقط في أ.

٦٦

تضاروهن (١) في المسكن ، فتدخلوا عليهن من غير استئذان ؛ فيضيق عليهن المسكن ؛ فيخرجن ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ).

دل الأمر بالإنفاق على النهي عن الإخراج ، كما دل النهي عن الإخراج على وجوب الإنفاق.

ثم التخصيص بذكر الإنفاق على الحامل (٢) يحتمل أن يكون لمعنى : أنها في الحقيقة ، لم تدخل في قوله : (لا تُخْرِجُوهُنَ) ؛ لأنا قد وصفنا أنها نهيت [عن الخروج] لتحصين ماء الزوج ، وإذا مضت تسعة أشهر فقد خرجت عن التحصين ؛ فكان الواجب أن تسقط النفقة بعد التسعة ، وقد ذكرنا هذا المعنى فيما تقدم.

ويحتمل أن يكون الفائدة في [تخصيص الحوامل](٣) بالإنفاق عندنا ـ والله أعلم ـ [أنه لو لا](٤) هذه الآية ، لكانت الحوامل يخرجن عن قوله ـ تعالى ـ : (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَ) ، ومن قوله : (وَلا يَخْرُجْنَ) ؛ لأن الأزواج لهم أن يحتجوا عليهن بأن حرمة النكاح في ذوات الأحمال ليس لحق الأزواج ، ولكن لحق ما في بطنها من الولد ؛ ألا ترى أنه يحرم عليها النكاح وإن كان الولد من غيره ، وقد قلنا : إن النفقة إنما وجبت في غير الحوامل ؛ لأنهن يحبسن عن نكاح الأجانب بحق الأزواج ، فإذا كان الحبس في الحوامل لا لحق الأزواج ، جاز أن يكون هذا حجة لهم في إسقاط النفقة عنهم ، وإذا كان كذلك ، حث الله لهم في الإنفاق على الحوامل ما لم يضعن حملهن ؛ لأن ذلك الحمل من أثر استمتاعهم المتقدم ؛ ففائدة تخصيص ذكر الحوامل هذا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ).

هذا يتضمن أوجها من أدلة الفقه :

أحدها : أنه قال : (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) ، ثبت أن الإرضاع كان بإجارة ، وأنه إذا استأجرها ليرضع ولده منها بعد المفارقة ، جازت الإجارة وحل لها أخذ الأجر ، وأنه إذا استأجر امرأته في صلب النكاح على إرضاع ولده منها لم يجز ، ولم يكن لها أخذ الأجر ؛ لأن الله ـ تعالى ـ ذكر بدل الرضاع في صلب النكاح بلفظ : (الرزق) بقوله : (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ

__________________

(١) في ب : تضيقوا عليهن.

(٢) في ب : الحوامل.

(٣) في ب : التخصيص للحوامل.

(٤) في ب : أن تكون الفائدة لو لا.

٦٧

رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة : ٢٣٣] ، فإذا سمى ما ذكره الله تعالى رزقا : أجرا ، لم يكن أجرا وكان بحق الرزق والكسوة ؛ فلذلك لم تجز الإجارة في صلب النكاح ، والله أعلم.

ثم قوله : (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ).

دليل على أن اللبن وإن خلق لمكان الولد فهو ملك لها ، ولو لا ذلك ، لم يكن لها أن تأخذ الأجر على لبن ليس لها فيها ملك ، وفيه دليل على أن حق الإرضاع والنفقة على الأزواج في حق الأولاد وحق الإمساك والحضانة والكفالة على الزوجات ، ولو لا ذلك لكان لها بعض الأجر دون الكل ، فلما أمر بإيتاء كل الأجر ، ثبت أن حق الإرضاع على الأزواج وعلى الزوجات الكفالة والإمساك ، والله أعلم.

ولأجل أنا لو جعلنا اللبن ملكا للولد مخلوقا له ، وجعلنا النفقة على الأم من مال نفسها ، لكانت نفقتها تفنى ولا يتهيأ لها كسب النفقة ؛ لاشتغالها بالإرضاع ؛ فتجوع وتهلك ويذهب لبنها ؛ فيبطل الإرضاع ؛ فإذا كان (١) إيجاب الإرضاع عليها يسقط من حيث يراد جعل النفقة ، فأسقطنا عنها ، وجعلنا ملك اللبن [لها] ؛ لتأخذ الأجر عليه ، والله أعلم.

وفي هذه الآية دلالة على أن الأجر إنما يجب بعد استيفاء المنافع ، فإنه قال : (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) إنما أوجب الإيتاء بعد الإرضاع.

وفي قوله : (أُجُورَهُنَ) دلالة على أن الإرضاع إنما هو بإجارة قد سبقت ؛ لذلك قال أصحابنا : إن الأجرة إنما تجب عند استيفاء العمل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) ، له وجهان :

أحدهما : أن يقول : (وَأْتَمِرُوا) يعني : تشاوروا في إرضاعه إذا تعاسرت هي.

والثاني : (وَأْتَمِرُوا) أي : اعملوا بأمر من جعل الله تعالى إليه الأمر بالمعروف ، وهو الحاكم ، إذا أمركم في أمر الولد بالمعروف.

وقوله : (وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى).

يعني : إذا تنازعتم في الرضاع ، وأبت الأم أن ترضعه ، فاطلبوا أخرى ترضعه عندها.

وقوله : (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ).

أي : من وسع الله عليه في الرزق ، فلينفق نفقة واسعة ، (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ) ، يعني : ضيق عليه و (قُدِرَ) هاهنا بمعنى : ضيق [عليه](٢) ، وهو كما قال : (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ)

__________________

(١) في أ : وإذا كانت.

(٢) سقط في ب.

٦٨

[الأنبياء : ٨٧] ، أي (١) : فظن أن لم نضيق عليه ، وكذلك قوله : (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) [العنكبوت : ٦٢] ، يعني : ويضيق عليه ، أي : من ضيق (٢) عليه ، فلينفق نفقة ضيقة ؛ فذلك قوله : (فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ) ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها).

فهو يدل على أن العباد ما اكتسبوا من الأموال ، فهي كلها مما آتاهم الله تعالى ، وأن لله ـ تعالى ـ في أفعال العباد وفيما يكتسبونه من الأموال صنعا وتدبيرا ؛ لأنه لو لا ذلك ، لكان يجوز أن يكلفه الله تعالى وإن لم يؤتها لهم ، إذا كان في قدرته أن يكتسب ما لم يؤته الله تعالى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً).

هذا دليل على أنه إذا عجز عن نفقة امرأته ، لم نفرق بينها وبينه ؛ لأنه إذا فرق بينهما ، لم نصل إلى زوج ينفق عليها للحال ، بل نحتاج فيه إلى انقضاء العدة ، وقد يتوهم في خلال ذلك أن يوسر الزوج ؛ لأن إنجاز وعد الله تعالى في اليسار بعد العسر أقرب من قدرتها على زوج ينفق عليها ، وليس هذه كالأمة ؛ لأنه إذا باع الأمة دخلت في ملك آخر ينفق عليها ، والله أعلم.

ثم يجوز أن يكون قوله : (سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) وعدا لجميع الأمة أن من ابتلى بالعسر يتبعه اليسر.

ويجوز أن يكون خطابا لأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين كانوا في عسر وضيق عيش ، فوعدهم الله ـ تعالى ـ بعد ذلك العسر الذي كانوا فيه يسرا ، وقد أنجز ذلك الوعد حيث فتح لهم الفتوح ، ونصرهم على أعدائهم ؛ فغنموا أموالهم ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (٨) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (٩) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (١٠) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً (١١) اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً)(١٢)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ) ، وصف الله تعالى القرية

__________________

(١) في ب : يعني.

(٢) في أ : قدر.

٦٩

بالعتو ، ومعلوم أنها لا تعتو ، ولكن المراد منه ، أي : عتا أهلها عن أمر ربهم ، وقد يجوز أن يكنى بالمكان عن الأهل ، كما قال في آية أخرى (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها) [يوسف : ٨٢] [يعني : واسأل أهل القرية](١) وفي هذا دلالة أن ما خرج مخرج الكناية في الحقيقة ، لم يكن كذبا ، وإن كان في ظاهره يرى أنه كذب ؛ ألا ترى إلى قوله : (إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً) [ص : ٢٣] ، ومعلوم أنه لم يكن هناك نعجة ، ولكن كناية عن النساء ، فخرج على الصدق في الحقيقة ؛ كأنه قال : إن هذا أخي ، لو كان له تسع وتسعون امرأة ، فكذلك الأول والله أعلم.

والعتو : النهاية في الاستكبار ؛ ألا ترى إلى قوله ـ تعالى ـ : (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً) [الفرقان : ٢١].

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً) : له أوجه من التأويل : أحدها : يقول : (فَحاسَبْناها) ، أي : بلغوا في الكفر والعتو والاستكبار مبلغا صاروا من أهل الحساب الشديد والعذاب المنكر.

أو يجعل ما ذكر الله تعالى من نزول النقمة بالأمم الماضية ؛ لعتوهم واستكبارهم حسابا شديدا لهذه الأمة ؛ ليتذكروا ويتعظوا.

أو يكون معناه (فَحاسَبْناها) أي : سنحاسب حسابا شديدا في الآخرة ، كما [كان معنى](٢) قوله ـ تعالى ـ : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) [المائدة : ١١٦] بمعنى : وإذ يقول الله ، فكذلك الأول ، والله أعلم.

ووجه نزول هذه الآيات (٣) : أن يكون له معنيان :

أحدهما : تخويف أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والكفرة من أهل مكة بما نزل بالأمم الخالية حين تركوا اتباع رسلهم والإيمان بهم ، واستكبروا في أنفسهم ، وعتوا لكي ينتهي أهل قريته ـ عليه‌السلام ـ عما هم فيه من الكفر والعتو ، ويحظروا الوقوع فيه في حادث الأوقات.

ويحتمل أن يكون هذا تسكينا لقلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتهوينا عليه ما يلقى من كفر (٤) قومه وعصيانهم وعتوهم ، وليعلم ما لقيت الرسل المتقدمة من أممهم حتى بلغ كفرهم واستكبارهم المبلغ الذي وقع اليأس منه عن إيمانهم ، حتى أنزل الله تعالى بهم ما أنزل من

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : قال في.

(٣) في ب : الآية.

(٤) في أ : أمر.

٧٠

النقم والعقوبة.

ويجوز أن يكون هذه محنة امتحن بها رسوله ؛ ليعلم شفقته على أمته في ترك الدعاء عليهم بالإهلاك ، والله أعلم.

وقوله : (فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها).

أي : شدة أمرها ، أو نقمة أمرها ، وعقوبة كفرها.

وقوله : (وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً).

أي : عاقبة عتوها خسارة (١) في الآخرة.

وقوله : (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ).

أي : فاتقوا الله يا من تدعون أن لهم لبّا ، فاتقوه عن أن تكفروا به وبرسوله.

وفيه دلالة : أن خطاب الله إنما يتناول العقلاء منهم ، وأن من لا عقل له لا خطاب عليه.

وقوله : (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً) ، له وجهان :

أحدهما : أن يجعل الذكر والرسول كله واحدا ، فيقول : أنزل الله إليكم ذكرا ، وهو الرسول ، وإنما سماه : ذكرا ؛ لوجهين :

أحدهما : أن من اتبعه شرف وصار مذكورا.

أو سماه : ذكرا ؛ لأنه يذكرهم المصالح والمضار ، وما يرجع إليهم من أمر دينهم وعقباهم.

ويجوز أن يكون فيه إضمار ، وهو أن يقول : أنزل الله إليكم ذكرا ، وأرسل إليكم رسولا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ).

[بالخفض ؛ فمعناه أنه يبين الحلال والحرام والأمر والنهي ونصب](٢) الآيات والأعلام والحجج.

فمن قرأ مبينات بالخفض ، فمعناه : أنها تبين الحلال والحرام والأمر والنهي.

ومن قرأ بالنصب ؛ فكأنه يريد به : أن الله ـ تعالى ـ أوضح آياته وبينها ، حتى إن من تفكر فيها وفي جوهرها ، علم أنها من عند الله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) كل من

__________________

(١) في ب : خسارا.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في ب : بالخفض والنصب.

٧١

آمن ، فقد خرج من الظلمات إلى النور.

وإذا كان هذا هكذا فحق هذا الكلام أن يقول : ليخرج الذين كفروا من الظلمات إلى النور ، ولكن يحتمل أن يكون معناه : ليخرج الذين يؤمنون ؛ على ما جاز أن يراد من الماضي المستقبل.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) [المائدة : ١١٦].

أي : إذ يقول الله : يا عيسى بن مريم ، جاز أن يراد من المستقبل الماضي ، وهذا سائغ في اللغة.

ويحتمل أن يقول : ليخرج الذين آمنوا من ظلمات تحدث لهم بعد إيمانهم إلى النور ، والله أعلم.

وقيل قوله : (الَّذِينَ آمَنُوا) يعني : الذين وحدوا الله ، وعظموه وبجلوه من معاني الشبه ووصفوه بالتعالي [عن العيوب](١) والآفات ، وعملوا في إيمانهم صالحا إذا خافوه ورجوه بإيمانهم وذلك عملهم الصالح في الإيمان ، وذلك معنى قوله : (أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) [الأنعام : ١٥٨] ، ومعنى ذلك الكسب : ما وصفنا من التعظيم والتبجيل والرجاء والخوف في نفس الإيمان ، والله أعلم.

ويجوز أن يكون معنى قوله : (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) في أداء الفرائض التي افترض الله عليهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً).

أي : طاعة في الدنيا وثوابا في الآخرة ؛ وذلك معنى قوله : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ) [البقرة : ٢٠١] ، وفي هذه الآية دلالة أن من نال الإيمان ، فإنما ناله بفضل الله تعالى وبرحمته ، لأنه لو لا ذلك ، لم يكن ليمن الله ـ تعالى ـ عليه بذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ).

اختلفوا في قوله : (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) :

منهم من قال (مِثْلَهُنَ) أي : طباقا مثل السموات بعضها طباق فوق بعض.

ومنهم من قال (مِثْلَهُنَ) يعني : سبع جزائر ، على مثل ما قال : (سَبْعَةُ أَبْحُرٍ) [لقمان : ٢٧] ، فكذلك خلق سبع جزائر.

ومنهم من قال : خلق هذه الأرض التي نشاهدها على حد السماء ومقدارها ، والست من وراء هذه السماء ، والله أعلم.

__________________

(١) في أ : وبالقبول.

٧٢

وليس بنا إلى أن نعرف ما بينها وكيفيتها وعددها حاجة ؛ لأنه ليس في تعرفها حكم يتعلق به ، والله أعلم.

وقوله : (يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ).

له تأويلان :

أحدهما : ينزل الوحي بينهن ، وما ينزل الله تعالى من الكتب والرسل بينهن ، ومعناه : أن الله تعالى ذكر أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنهم لم يخصوا بمحنة الرسل والكتب والوحي ، بل كل من في السموات والأرض ممتحن بذلك.

والثاني : (يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ) يعني التكوين ، ووجه ذلك : أنه لا يخلو مكان في السموات والأرض في كل وقت من مكون يكونه الله تعالى ، أو محدث يحدثه ، وذلك قوله : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس : ٨٢] ؛ فيجوز أن يكون المراد بالأمر في قوله : (يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ) : أمر التكوين ، ومعناه : ما وصفنا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

أي : لكي تعلموا إذا تفكرتم في خلق السموات (١) والأرض ، وما جرى من التدبير فيهما (٢) أن من بلغت قدرته هذا المبلغ كانت قدرته ذاتية ، لا يعجزه شيء عما أراده.

أو يدل هذا التدبير أنه خرج عن عالم لا يخفى عليه شيء ، والله أعلم.

قوله : (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

يحتمل أوجها :

أحدها : أن الله تعالى [على](٣) خلق فعل كل فاعل من خلائقه قدير.

ووجه ذلك : أن الله تعالى قد كان أعلمهم بخلق السموات والأرضين (٤) بقوله : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ) فلما قال : (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، لم يكن بد من أن يكون هذا في غير خلق السموات والأرضين ؛ فثبت أن فيه دلالة قدرته على خلق فعل كل مخلوق.

ولأنه لما بلغ قدرته وتدبيره في السموات والأرضين مع عظم أمرهما وشأنهما ، ومع عجز البشر عن تدبير مثلهما ؛ فلأن يبلغ قدرته وتدبيره فيما يقع فيه تدبير البشر ـ وهو أفعالهم ـ أحق ، والله المستعان.

ووجه آخر : أن يقول : (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) بما وعد وأوعد أو على كل

__________________

(١) في ب : السماء.

(٢) في ب : بينهما.

(٣) سقط في ب.

(٤) في ب : الأرض.

٧٣

شيء من منافع العباد [ومضارهم قدير](١) ، وعلى قول المعتزلة : إن الله تعالى لا يقدر على فعل بعوضة فما فوقها ، ولا يقدر على إصلاح أحد من خلقه وإن أنفد جميع خزائنه ، وإن من صلح فإنما يصلح بنفسه ، ومن فسد فإنما يفسد بنفسه ؛ وهذا خلاف ما وصف الله به نفسه من أنه على كل شيء قدير.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً).

يعني : أن علمه لا يشذ عنه شيء ، ولا يخفى عليه شيء من الفعل والأمر وغيره ، والله أعلم [تمت السورة](٢).

* * *

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في أ.

٧٤

سورة التحريم [وهي](١) مدنية

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١) قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٢) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (٣) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (٤) عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً)(٥)

قوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ).

هذا في الظاهر فظيع بأن يحرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أحل الله له ، ومن قال بأنه حرم ما أحل الله ، فقد قال قولا منكرا ، ولو اعتقد ذلك كان كفرا منه ؛ إذ من حرم ما أحل الله تعالى كان كافرا ، ومن كان اعتقاده في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا ، فهو كافر.

وقال أبو بكر الأصم : دلت هذه الآية على أن ليس لأحد أن يحرم ما أحله الله تعالى ؛ لأن الله تعالى منع رسوله عن ذلك.

لكن الأمر عندنا ليس على ما ظنه أبو بكر ، ولا على ما سبق إليه ظن (٢) بعض الجهال : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حرم شيئا أحله الله تعالى ، ومن توهم هذا في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقد حكم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالكفر.

وتأويله عندنا ـ والله أعلم ـ : على وجهين :

أحدهما : أن تحريم ما أحل تعالى هو أن يعتقد تحريم المحلل ، وتحليل المحرم فيما حرم الله تعالى مطلقا ، فمن اعتقد تحريمه (٣) حكم عليه بالكفر ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يعتقد تحريم ما أحل الله تعالى ؛ إذ لم ير جماعها عليه محرما ، بل امتنع عن الانتفاع بها باليمين ، والحرمة التي ثبتت بسبب اليمين ، لم تكن من فعل الآدمي ، وإن ثبتت بمباشرة السبب منه ؛ كالتحريم بالطلاق وبغيره من الأسباب ، وإنما تثبت من الله تعالى عقيب مباشرة الأسباب من العباد ، كسائر الأحكام ، كيف وأنه باليمين لا تثبت حرمة نفس

__________________

(١) في ب : كلها.

(٢) في أ : وهم.

(٣) في ب : ذلك حراما.

٧٥

الفعل ، وإنما المحرم ترك تعظيم الله تعالى الواجب بسبب اليمين ، وهذا لا يعد تحريم الحلال وتحليل الحرام.

أو أريد بالتحريم منع النفس عن ذلك مع اعتقاده بكونه حلالا ، لا أن يكون قصد به قصد تحريم عينه ، وقد يمتنع المرء عن تناول الحلال ؛ لغرض له في ذلك ؛ وهو كقوله تعالى : (وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ) [القصص : ١٢] ، ولم يرد به تحريم عينه ، ولا التحريم الشرعي ؛ إذ الصبي ليس من أهله ، وإنما أريد به امتناعه من الارتضاع إلا من ثدي أمه ، [فعلى ذلك](١) هاهنا ، والله أعلم.

والثاني : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان ندب إلى حسن العشرة مع أزواجه ، وإلى الشفقة عليهن ، والرحمة [بهن ، فبلغ](٢) في حسن [العشرة والصحبة](٣) معهن مبلغا امتنع عن الانتفاع بما أحل الله له ، وأباح له التلذذ به ؛ يبتغي به حسن عشرتهن ، ويطلب به مرضاتهن ، فقال : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ) ، أي : لا يبلغنّ بك الشفقة عليهن وحسن العشرة معهن مبلغا تمتنع عن الانتفاع بما أحل الله لك ؛ فيخرج هذا مخرج تخفيف المؤنة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حسن العشرة معهن ، لا مخرج النهي والعتاب عن الزلة ؛ وهو كقوله تعالى : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) [فاطر : ٨] تخفيفا للأمر عليه ، وكذلك قال : (وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) [الإسراء : ٢٩] ليس في الحقيقة نهيا عن السخاء على النهاية ، لكن تخفيفا للأمر عليه : أن ليس عليك الإسراف في السخاء والنهاية في ذلك ؛ بحيث لم تبق لنفسك وعيالك شيئا وتؤثر غيرك ؛ فعلى ذلك قوله : (لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) خارج مخرج تخفيف المؤنة عليه في حسن العشرة ، لا مخرج النهي ، والله أعلم.

ثم اختلف أهل التأويل في سبب التحريم :

فمنهم من ذكر أن حفصة ـ رضي الله عنها ـ زارت أهلها ، والنبي ـ عليه‌السلام ـ في بيت حفصة ، فجاءت أم إبراهيم مارية القبطية حتى دخلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فواقعها ، فجاءت حفصة ، وهما نائمان فرجعت إلى بيت أهلها ، فمكثت عامة الليل (٤) ... القصة ، وقالت حفصة في آخر هذا الخبر : ما رأيت لي حرمة ، وما عرفت لي حقّا ، فقال لها النبي ـ عليه‌السلام ـ : «اكتمي عليّ ، وهي عليّ حرام» ، فنزلت هذه الآية (٥).

__________________

(١) في ب : فكذلك.

(٢) في ب : بهن ، فقال : فبلغ.

(٣) في ب : الصحبة والعشرة.

(٤) في ب : الليلة.

(٥) أخرجه ابن جرير (٣٤٣٩٢) وابن سعد وابن مردويه عن ابن عباس كما في الدر المنثور (٦ / ٣٦٧).

٧٦

ومنهم من يذكر : أن ذلك اليوم كان يوم عائشة ـ رضي الله عنها ـ فاطلعت حفصة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجاريته مارية ، فأمرها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن تكتم عليه ، فأخبرت حفصة بما رأت عائشة ـ رضي الله عنها ـ فغضبت عائشة ، فلم تزل بنبي الله حتى حرمها ، [فأنزل الله تعالى](١) هذه الآية (٢).

وقال عكرمة : نزلت الآية في امرأة يقال لها : أم شريك وهبت نفسها للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فلم يقبلها النبي ـ عليه‌السلام ـ طلبا مرضاة أزواجه ؛ فنزلت الآية ، والله أعلم.

ومنهم من قال : إن الذي حرمه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان عسلا ، كان رسول الله ـ عليه‌السلام ـ شربه عند بعض نسائه ، فقالت امرأة من نسائه لصاحبتها : إذا جاءك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقولي (٣) له : ما ريح المغافير فيك؟ فقالت للنبي ؛ فحرمه النبي ـ عليه‌السلام ـ فنزلت هذه الآية.

وليس لنا إلى تعرف السبب الذي وقع التحريم به ، ولا إلى تعيين الشيء الذي حرمه النبي ـ عليه‌السلام ـ حاجة ، ولكنا نعلم أن الأمر الذي كان فهو جرى بينه وبين زوجاته.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

أي : غفور لما تقدم من ذنبك وما تأخر لو كان.

أو يكون رحيما ؛ حيث لم يعاقبك بما اجترأت من الإقدام على اليمين ؛ لا بإذن سبق من الله تعالى لك فيه.

أو غفور رحيم عليك وعلى زوجتيك إن تابتا ولم تعودا إلى صنيعهما.

أو غفور رحيم بما خفف عليك من مئونة العشرة ، ولم يحمل عليك ما حملت على نفسك.

وقوله ـ تعالى ـ : (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ).

فمنهم من يحمل هذا على ابتداء الخطاب ، ويصرف المراد إلى غير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [قد كان غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر](٤) ؛ بحكم وعد الله ـ تعالى ـ فلم يكن يحتاج إلى التكفير ؛ لإزالة المأثم.

ولكن نحن نقول : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن كان هذا محله ، فهو وأمته في أحكام الشرائع مأخوذون ، ويكون على هذا مغفرة زلاته : ما تقدم وما تأخر بمباشرة أسبابها من التوبة والكفارة ، ونحو ذلك ؛ فيكون قوله تعالى : (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) منصرفا إلى

__________________

(١) في أ : فنزلت.

(٢) أخرجه ابن جرير (٣٤٣٨٩) عن الضحاك.

(٣) في أ : فقربي.

(٤) في ب : قد تقدم غفران ذنوبه.

٧٧

النبي ـ عليه‌السلام ـ وأمته.

ثم يجوز أن يكون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قصد إلى التحريم أعني : منع نفسه عن الانتفاع بها مع اعتقاد الحل لا إلى اليمين ؛ فجعل الله تعالى ذلك منه يمينا ؛ فيكون فيه دلالة على أن التحريم يمين ؛ ولهذا قال أصحابنا ـ رحمهم‌الله ـ : إن من قال لامرأته : «أنت عليّ حرام» ، ولا نية له ، فهو يمين.

وجائز أن يكون أفصح بالحلف ؛ فكنى عنه باليمين.

ثم قوله : (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) على قراءة (١) العامة ، وفي بعض القراءات : قد فرض الله لكم كفارة أيمانكم.

ووجه الفرض فيه : أن الأمم من قبل ، لم تكن يؤذن لهم بالحنث (٢) في اليمين ، ولا أن يحلوا منها بالكفارة ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ) [ص : ٤٤] ، فلم يأذن له بالحنث وأباح له الضرب ، ثم أباح لهذه الأمة حل اليمين بالحنث والكفارة ، فنسب الحل إلى الكفارة ، ومرة إلى انحلالها بنفسها من جهة الحنث.

ثم قوله : (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ) أي : وسع عليكم ، وأحل لكم تحلة اليمين ؛ ففي هذا أن كل ما ذكر فيه (كتب لكم) ، أو : (فرض لكم) ، فهو في موضع الإباحة والتوسيع ، وما ذكر فيه (عَلَيْكُمُ) فهو على الإيجاب والإلزام ؛ قال الله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) [البقرة : ١٨٣] ، وقال : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) [البقرة : ١٨٠] ، وذلك كله في موضع الوجوب ، وقال الله تعالى : (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) [المائدة : ٢١] معناه : أباح لكم الدخول فيها.

وقوله تعالى : (وَاللهُ مَوْلاكُمْ).

أي : أولى بكم فيما امتحنكم من الكفارة وغيرها.

أو (وَاللهُ مَوْلاكُمْ) ، أي : أولى بكم في نصركم والدفع عنكم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ).

أي : (الْعَلِيمُ) بمصالحكم أو مقاصدكم ، أو بما تسرون وما تعلنون ، أو بما كان ويكون ، (الْحَكِيمُ) : هو الذي لا يلحقه الخطأ في التدبير ، أو حكيم بما حكم عليكم من تحلة الأيمان ، والله أعلم.

ثم في قوله : (الْعَلِيمُ) إلزام المراقبة والمحافظة ، ودعاء [إلى التبصر](٣) والتيقظ في

__________________

(١) في ب : القراءة.

(٢) في ب : في الحنث.

(٣) في أ : للتبصر.

٧٨

كل ما يتعاطاه المرء من الأفعال ، ويأتي به من الأقوال.

وفي قوله : (الْحَكِيمُ) دعاء إلى التسليم بحكم الله تعالى ؛ إذ الحكيم لا يحكم على أحد إلا بما فيه حكمة وفائدة ؛ فلزمه تسليم النفس لحكمه (١) على وجه الحكمة فيه أو جهله.

ثم الأصل بعد هذا : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبيح له نكاح التسع ، وأمر بأن يحسن صحبتهن ويبتغي مرضاتهن ، والمرء يعسر عليه صحبة الأربع بحسن العشرة ، ويتعذر عليه القسم والقيام بمرضاتهن (٢) جميعا ، فكيف إذا امتحن بصحبة التسع؟! فكانت المحنة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أمر النساء أعسر منه على غيره ، وأمر مع هذا أيضا بمعاملة الخلق مع اختلاف هممهم وأطوارهم بأحسن المعاملة ، ولكن الله تعالى لما امتحنه بما ذكرنا آتاه من الأخلاق الحميدة والشمائل المرضية (٣) ما خف بها عليه هذه المحنة ، وسهل عليه المعاملة مع الجملة ، وآتاه من القوة ما ملك بها حفظ حقوقهن وإرضاء جملتهن ، حتى بلغ في حسن العشرة وابتغاء المرضاة ما عوتب عليه ، وبلغ من جهده في الإسلام إلى أن قيل : (عَبَسَ وَتَوَلَّى) [عبس : ١] ، وبلغ في الشفقة والرحمة على الأمة إلى أن قيل له : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) [فاطر : ٨] ، وقال : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم : ٤] ، وكان من عظيم خلقه ما جاوز خلقه قوة نفسه ، فكادت نفسه تهلك فيه.

ثم في قيامه ـ عليه‌السلام ـ بما يوفي حقوق التسع ويرضيهن دلالة نبوته ورسالته ؛ لأن الناس إنما يقوون على الجماع بما يصيبون من فضل الأطعمة والأغذية ، ثم هم مع أصابتهم فضول الأطعمة والأشياء اللذيذة يفترون عن إيفاء [حقوق الأربع](٤) ، وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم آثر الزهد في الدنيا ، وقلت رغبته في مطاعمها ومشاربها ، وكان مع ذلك يفي بحقوقهن ، فعلم بهذا أنه إنما وصل إلى ما ذكرنا بما قواه الله ـ تعالى ـ عليه وأقدره ، لا بالحيل والأسباب ، ثم أزواج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم امتحنّ بالقيام بوفاء حق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن ينظرن إليه بعين التبجيل والتعظيم ، فكانت المحنة عليهن أشد من المحنة على غيرهن من النساء مع أزواجهن ؛ لأن المرأة قلما تسلم عن رفع أصواتها على صوت زوجها ، إذا لم يكن له امرأة سواها ، فكيف إذا كانت معها أخرى ، ثم هن لو رفعن أصواتهن على صوت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أوجب ذلك إحباط عملهن ؛ على ما قال تعالى : (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ

__________________

(١) في ب : بحكمه.

(٢) في ب : برضائهن.

(٣) في ب : الرضية.

(٤) في أ : حقوقهن.

٧٩

بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) [الحجرات : ٢] ؛ فلا يجوز أن يمتحن بهذه الكلفة الشديدة والمحنة العظيمة إلا بما شرح الله تعالى صدورهن ويفسح قلوبهن ؛ لاحتمال ذلك.

ثم المحنة علينا بعد هذا أشد من المحنتين اللتين ذكرناهما ؛ لأنا امتحنا بمعرفة ما ضمنته هذه الآية والاعتقاد بذلك (١) وهي (٢) قوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) فالذي علينا من المحنة أن نصرف الأمر إلى وجه لا يلحق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم به ثم بنقص ؛ فيسلم من المؤاخذة ؛ فجائز أن يصرف إلى ما ذكرنا من تخفيف الأمر على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتكون الآية في موضع تخفيف الأمر عليه ليس في موضع النهي ، وإن خرجت مخرج النهي في الظاهر.

وجائز أن يكون العتاب ؛ لمكان مارية ، إن كانت [قصة التحريم](٣) من أجلها ؛ لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أذن له بإمساك مارية ، ولم يندب إلى تزويجها لتصل إلى قضاء شهوتها من قبل الأزواج ، فإنما تتوصل إلى قضاء شهوتها برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم هو بتحريمها على نفسه لم يمنع عنها الحق ، إذ الأمة لا حظ لها في القسم ؛ فيلحقه العتاب من هذه الجهة ، ولكن لما كان لها فيه مطمع ، وهو بالتحريم قطع طمعها ، فقيل له : (لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) قضاء تلك الشهوة ، أي : لم تمنع نفسك عن قضاء شهوة أباحها الله تعالى لها ، فيكون في العتاب دعاء له إلى [أن يعمل](٤) بأحد الوجهين :

أحدهما : وهو أن يوصلها إلى ما طمعت منه لا أن يقطع طمعها عنه ، وإن لم يكن لها فيما طمعت حق ، والله أعلم.

والمحنة الثانية علينا : ألا ننسب إلى أزواج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما تكره أنفسنا نسبة مثله إلى الأمهات ؛ لأن لأزواجه علينا حق الأمهات ، فإن أمكنا أن نخرج من أمرهن وجها يسلم عن تنقصهن فعلنا ، وإلا أمسكنا عن ذكره ؛ خشية التنقص ، وترك التبجيل والتعظيم ؛ ألا ترى إلى قول الله تعالى : (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً) [النور : ١٢] ، وهكذا الواجب على كل مؤمن ألا يظن بأزواج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورضي عنهن إلا خيرا ، وألا ينظر إليهن إلا بعين التعظيم ، وقال أيضا : (سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ) [النور : ١٦] ، وإذا كان هذا حقهن علينا فلا يجب أن نذكر زلتهن كانت كيت وكيت ؛ لما يتوهم أن يكون زلتهن دون الذي خطر على بالنا فنكون قد أعظمنا القول

__________________

(١) في ب : لذلك.

(٢) في أ : وهم.

(٣) في أ : القصة.

(٤) في ب : العمل.

٨٠