تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٦

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٦

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٠٦

١
٢

سورة يونس عليه‌السلام

بسم الله الرّحمن الرّحيم

السورة التى فيها ذكر يونس عليه‌السلام

قوله تعالى : (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (١) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ)(٢)

قوله تعالى : (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) : قد ذكرنا الوجه في الحروف المقطعات في صدر الكتاب.

وقوله : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) : قال بعضهم : الحكيم هو الله ، كأنه قال : ذلك الكتاب آيات الله.

وقال بعضهم : الحكيم هو صفة القرآن.

والكتاب يحتمل وجهين :

يحتمل أنه سماه حكيما فعيلا بمعنى أنه محكم ، وجائز تسمية المفعول باسم الفعيل ؛ نحو : قتيل بمعنى مقتول ، وجريح بمعنى مجروح ونحو ذلك ، فيه الحلال والحرام ، والأمر والنهى ، أو محكم متقن مبرأ من الباطل والكذب والاختلاف ، وهو ما وصفه تعالى : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ...) الآية [فصلت : ٤٢].

والثاني : حكيما لما أن من تأمل فيه ونظر وفهم ما أودع فيه وأدرج ، صار حكيما وهو ما وصفه وسماه مجيدا ، أي : من تأمله ونظر فيه صار مجيدا شريفا.

والحكيم هو المصيب في الحقيقة إن كان صفة القرآن أو صفة الله ، فإن كان صفة لله ، فهو حكيم واضع كل شيء موضعه ، وإن كان صفة للقرآن فهو كذلك أيضا واضع كل شيء موضعه.

وقوله : (آياتُ) : يحتمل آيات الكتاب المعروف ، ويحتمل الحجج والبراهين ، أي : حجج الكتاب وبراهينه أو أعلامه ، وقد تقدم ذكر الآيات في غير موضع ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً) يحتمل وجهين :

يحتمل [أي قد عجبوا](١) أن أوحينا إلى رجل منهم.

__________________

(١) في ب : أن تتعجبوا.

٣

ويحتمل : أيعجبون أن أوحينا إلى رجل منهم على الاستئناف ، كانوا يعجبون من ثلاث : من إنزال القرآن على رجل منهم يعجز الخلائق عن إتيان مثله ، ويعجبون من الوحى إلى رجل منهم وإرساله رسولا من بين الكل أو من البشر ؛ كقوله : (أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) [الإسراء : ٩٤] ؛ وكقوله : (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا ...) [ص : ٨] ، وكانوا يعجبون من البعث ؛ كقولهم : (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ...) الآية [ق : ٣].

ثم يحتمل قوله : (إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ) أي : من البشر ، أي : لا تعجبوا أن أوحينا إلى رجل من البشر ؛ فإن الإيحاء إلى من هو من البشر أبلغ في الحجاج وأقطع للعذر ، وأقرب إلى الرأفة والرحمة ؛ لأن البشر يعرفون خروج ما هو خارج عن طوق البشر ووسعهم ، ولا يعرفون ذلك من غير جوهرهم وغير جنسهم ، ويألف كل جنس بجنسه وكل جوهر بجوهره ، ولا يألف غير جوهره ولا غير جنسه ، فإذا كان ما وصفنا كان بعث الرسول من جنس المبعوث إليهم وجوهرهم أبلغ في الحجاج وأقطع للعذر ، وأقرب إلى الرأفة والرحمة.

ويحتمل قوله : (أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ) أي : من الأميين ، أي : لا يعجبون (١) أن أوحينا إلى رجل منهم ، أي : أمي فإن ذلك أبلغ في التعريف والحجاج ؛ لأنه بعث أميّا لم يعرفوه بدراسة الكتب المتقدمة أو تلاوة شيء منها ، ولا عرفوه اختلف إلى أحد منهم في تعليم كتبهم ، ولا عرف أنه كتب شيئا ولا (٢) خط خطا قط ، ثم أخبر عما في كتبهم على موافقة ما فيها ، وكانت كتبهم بغير لسانه ؛ دل أنه إنما عرف ذلك بالله تعالى ؛ فذلك أبلغ في إثبات الرسالة والحجاج ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) : قال بعضهم : الإنذار يكون في كل مكروه مرهوب ، والبشارة في كل محبوب مرغوب.

وقال بعضهم : (أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) يعني : الكفار بالنار.

(وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) ثم اختلفوا في قوله : (قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) : قال بعضهم : إن لهم الجنة عند ربهم.

وقيل : إن لهم الأعمال الصالحة يقدمون عليها (٣).

__________________

(١) في ب : تعجبوا.

(٢) في أ : أو.

(٣) أخرجه ابن جرير (٦ / ٥٢٧ ـ ٥٢٨) (١٧٥٤٥) عن مجاهد ، و (١٧٥٤٦) عن ابن عباس. وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥٣٥) وعزاه لابن جرير عن ابن عباس.

٤

وقيل : قدم صدق : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشفع لهم عند ربهم (١).

[وقيل : إن لهم الجنة عند ربهم](٢).

وقيل : إن لهم [ثواب أعمالهم](٣) الصالحة التي قدموها بين أيديهم (قَدَمَ صِدْقٍ) ، أي : سلف خير أو سلف وعد وعد لهم بذلك وكأن أصله من القدم.

قال أبو عوسجة : يقال في الكلام : لفلان عندي قدم صدق ويد صدق ، أي : نعمة قد أسلفها إلىّ.

وقال القتبي (٤) : قدم صدق : يعني عملا صالحا قدموه.

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : سبق لهم السعادة في الذكر الأول (٥).

من قال : قدم صدق هو الشفاعة ، فالقدم كناية عن الشفاعة والصدق ، أي واقعة.

ومن قال : وعدوا ثواب أعمالهم أي تقدم لهم وعد حق وصدق.

ويحتمل (قَدَمَ صِدْقٍ) أي : ثبتت قدمهم لا تزل ، على ما وصف من ثبوت قدم المؤمنين والقرار فيه ، وتزل قدم الكافرين ؛ كقوله : (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها) [النحل : ٩٤].

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ) : ومن قرأ (٦) لسحر عنى هذا القرآن.

ومن قرأ لسحر بالألف عنى به النبي.

ثم السحر هو الذي يتراءى في الظاهر أنه حق وهو في الحقيقة باطل لا شيء ، ثم هو يأخذ الأبصار ويأخذ العقول.

فأما الذي يأخذ الأبصار فهو ما يتراءى الشيء على غير ما هو في الحقيقة ، والذي

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٦ / ٥٢٨) (١٧٥٥٥ و ١٧٥٥٦) عن قتادة والحسن البصري ، و (١٧٥٥٧) عن ابن زيد. وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥٣٦) وعزاه لأبي الشيخ عن بكار بن مالك ، ولأبي الشيخ عن الحسن ، ولابن مردويه عن علي بن أبي طالب وأبي سعيد الخدري ، ولابن جرير عن زيد بن أسلم.

(٢) سقط في ب.

(٣) في أ : الأعمال.

(٤) ينظر : تفسير غريب القرآن لابن قتيبة (١٩٤).

(٥) أخرجه ابن جرير (٦ / ٥٢٨) (١٧٥٥٤) ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥٣٥) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن ابن عباس.

(٦) قرأ نافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : (لسحر) والباقون : (لَساحِرٌ) ، ف (هذا) يجوز أن يكون إشارة للقرآن ، وأن يكون إشارة للرسول على القراءة الأولى ، ولكن لا بد من تأويل على قولنا : هو إشارة للرسول ، أى : ذو سحر ، أو جعلوه إياه مبالغة ، وعلى القراءة الثانية فالإشارة للرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ فقط. ينظر : السبعة ص (٣٢٢) ، والحجة للقراء السبعة (٤ / ٢٥١) ، حجة القراءات ص (٣٢٧) ، إعراب القراءات (١ / ٢٦٠) ، إتحاف الفضلاء (٢ / ١٠٣) ، اللباب (١٠ / ٢٥٧).

٥

يأخذ العقول هو أن يذهب بعقله فيصير مجنونا.

وقال فرعون لموسى : (إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً) [الإسراء : ١٠١] أي : مجنونا ، لكن هؤلاء لم يريدوا بقولهم : (لَسِحْرٌ مُبِينٌ) : السحر الذي يأخذ العقول ، ولكن أرادوا السحر الذي يأخذ الأبصار ؛ يقولون : إنه وإن كان أخذ الأبصار في الظاهر فهو لا شيء في الحقيقة ، ولكن في قولهم : (إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ) دليل أنهم عجزوا عن رده ، وعرفوا أنه حق ، ولكن هم أرادوا التمويه على الناس ؛ كقول فرعون لسحرته حين آمنوا برب موسى : (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) [طه : ٧١] أراد أن يموه على الناس ؛ والله أعلم.

قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٤) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ)(٦)

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) [الأعراف : ٥٤] : إن القوم كانوا يعبدون الأصنام والأوثان ، ويتخذون الأحبار والرهبان أربابا من دون الله ؛ يقول : إن ربكم الله الذي يستحق العبادة والألوهية هو الذي خلقكم وخلق السموات والأرض لا الذي تعبدونه (١).

__________________

(١) لما حكى عن الكفار تعجبهم من الوحي والبعثة والرسالة ، أزال ذلك التعجب بأنه لا يبعد أن يبعث خالق الخلق إليهم رسولا يبشرهم على الأعمال الصالحة بالثواب ، وعلى الأعمال الباطلة بالعقاب ، وهذا الجواب إنما يتم بإثبات أمرين آخرين :

أحدهما : إثبات أن لهذا العالم إلها قادرا قاهرا ، نافذ الحكم بالأمر والنهى والتكليف.

والثاني : إثبات الحشر والنشر والبعث والقيامة ؛ حتى يحصل الثواب والعقاب اللذان أخبر الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ عن حصولهما ، فلذلك ذكر ما يدل على تحقيق هذين الأمرين.

فأما إثبات الإله ، فيقول تعالى : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ)[الأعراف : ٥٤] وأما إثبات المعاد ، فبقوله تعالى : (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا)[يونس : ٤] فهذا ترتيب في غاية الحسن.

فإن قيل : كلمة «الذى» وضعت للإشارة إلى شيء معروف عند السامع ، كما إذا قيل لك : من زيد؟ فتقول : الذي أبوه منطلق ، فهذا التعريف إنما يحسن لو كان «أبوه منطلق» أمره معلوما عند السامع ، فهاهنا لما قال : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) يوجب أن يكون ذلك أمرا معلوما عند السامع ، والعرب ما كانوا عالمين بذلك ، فكيف يحسن هذا التعريف؟ ـ

٦

وقوله : (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى) : قد تقدم ذكره في صدر الكتاب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) : وهو ـ أيضا ـ على الأول : إن الذي يستحق صرف العبادة إليه وتوجيه الشكر إليه هو الذي يدبر الأمر في مصالح الخلق في جر المنافع إليهم ودفع المضار عنهم ، لا الذين لا يملكون المنافع إلى أنفسهم أو دفع المضار عنهم ، فضلا [عن] أن يملكوا أجرها إلى من يعبدهم أو دفع المضار عنهم.

وقال بعض أهل التأويل : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أي يقضيه (١) ، والتدبير والقضاء واحد.

وقال بعضهم : (يُدَبِّرُ) : يقدر ، وهو ما ذكرنا التدبير والتقدير سواء.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) : الشفيع هو ذو المنزلة والقدر عند الذي يشفع إليه ، لا أحد في الشاهد يشفع لآخر إلى آخر إلا بعد أن يكون الشفيع عند الذي يشفع إليه ذا منزلة وقدر ، فإذا كان كذلك فمع ذلك أيضا لا يشفع إلا من بعد ما أذن له بالشفاعة لمن جاء بالتوحيد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) يقول : ذلكم الذي يستحق العبادة هو ربكم ، الذي خلقكم وخلق السموات والأرض ودبر أموركم ، فاعبدوه ولا تعبدوا الذي لا يملك شيئا من ذلك.

(أَفَلا تَذَكَّرُونَ) : أنه هو المستحق للعبادة ، وهو المستوجب للشكر ، لا الذين تعبدون أنتم. أو أن يقول : أفلا تذكرون أن الذي خلقكم وخلق السموات والأرض هو ربكم ، وهو مدبر أمور الخلائق في مصالحهم ما يرجع إلى مصالحهم في دنياهم ودينهم ، لا الذي يعبدون من دون الله ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) : إليه مرجع الخلائق كلهم في جميع

__________________

ـ فالجواب : أن هذا كان مشهورا عند اليهود والنصارى ؛ لأنه مذكور عندهم في التوراة والإنجيل ، والعرب كانوا يخالطونهم ، فالظاهر أنهم كانوا سمعوه منهم ؛ فلهذا حسن هذا التعريف.

فإن قيل : ما الفائدة في بيان الأيام التي خلق الله فيها السموات والأرض ، مع أنه ـ تعالى ـ قادر على خلق جميع العالم في أقل من لمح البصر؟

فالجواب على قول أهل السنة : أنه تعالى يحسن منه كل ما أراد ، ولا يعلل شيء من أفعاله بشيء من الحكمة والمصالح ، وأما على قول المعتزلة ـ وهو أن أفعاله تعالى مشتملة على المصالح والحكمة ـ فقال القاضي : لا يبعد أن يكون خلق الله السموات والأرض في هذه المدة المخصوصة ، أدخل في الاعتبار في حق بعض المكلفين ، ثم قال : فإن قيل : فمن المعتبر؟ ثم أجاب فقال : أما المعتبر فهو أنه لا بد من مكلف أو غير مكلف خلقه الله تعالى قبل خلقه السموات والأرض ، وإلا لكان خلقهما عبثا. ينظر اللباب (١٠ / ٢٥٧ ، ٢٥٨).

(١) أخرجه ابن جرير (٦ / ٥٣٠) (١٧٥٥٨ ـ ١٧٥٦٢) عن مجاهد ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥٣٦) وزاد نسبته لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن مجاهد.

٧

الأوقات ، لكنه خص ذلك اليوم بالمرجع إليه لما أن الخلائق كلهم يعلمون يومئذ أنهم راجعون إليه ؛ وكذلك قوله : (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً) [إبراهيم : ٢١] هم بارزون له في الدنيا والآخرة ، لكنهم يومئذ يعرفون ويقرون بالبروز له.

وكذلك : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) [الحج : ٥٦] الملك لله في الدنيا والآخرة وفي الأوقات جميعا ، لكنه خص ذلك اليوم لما لا ينازع في الملك في ذلك اليوم ، [ويقرون بالملك له في ذلك اليوم](١) وفي الدنيا من قد نازع في ملكه.

هذا ـ والله أعلم ـ وجه التخصيص لذلك اليوم بالملك ، وإن كان الملك في الدارين جميعا فعلى ذلك المرجع ، أو سمى البعث رجوعا إليه ؛ لما المقصود من إنشائه البعث ، فسماه بذلك لما ذكرنا ؛ لأنه لو لم يكن المقصود من إنشائه إياهم سوى الإنشاء والإفناء ، كان خلقه إياهم عبثا وباطلا ؛ كقوله : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون : ١١٥].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَعْدَ اللهِ حَقًّا).

يحتمل (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) : البعث الذي ذكر أنه يبدأ الخلق ثم يعيده. ويحتمل (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) من الثواب والعقاب في الآخرة ؛ الثواب للمحسن منهم والعقاب للمسيئ.

وقوله : (إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) أي : عرفتم أنه هو الذي يراكم والخلق جميعا ، فكذلك هو يعيدكم بعد إفنائكم ؛ إذ بدء الشيء على غير مثال أشد عندكم من إعادته على مثال ؛ كقوله : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧] ، أي : إعادة الشيء أهون عندكم من بدئه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ).

قيل (٢) : بالعدل ، لكن ما يجزيهم ، إنما يجزيهم إفضالا وإحسانا لا استيجابا واستحقاقا.

ثم يحتمل قوله : (بِالْقِسْطِ) وجوها :

أحدها : أنه يجزي المحسنين جزاء الإحسان ، والمسيء جزاء الإساءة ، ويفصل بين [العدو والولي](٣) في الآخرة في الجزاء ، ويجعل للولي علامة وأثرا يعرف بهما من العدو ؛ إذ لم يفصل في الدنيا بين الأولياء والأعداء في الرزق وما يساق إليهم من النعيم ،

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير عنه (١٧٥٦٧).

(٣) في أ : الولي والعدو.

٨

ولا يجعل علامة يعرف بها الولي من العدو وجعل في الآخرة ذلك حتى يعرف هذا من هذا ، فهذا العدل الذي ذكرنا يشبه (١) أن يكون هو ذلك.

ويحتمل (بِالْقِسْطِ) الوزن ، أي : يجزيهم بالوزن على تعديل النوع بالنوع لا على القدر ، أي : يجزي بالحسنة قدرا لا يزيد على ذلك ، ولكن يجزي للخير خيرا وللحسنة حسنة وللسيئة سيئة.

ويحتمل قوله : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [الروم : ٤٥] بالعدل ، أي : يجزي الذين عملوا بالعدل لم يجوروا فيه ولا جاوزوا الحد الذي حد لهم ، ولكن عملوا بالعدل فيه ، ويشبه أن يكون على تقديم العدل ليجزي الذين آمنوا بالعدل ، أي : لا يعذبهم في النار إذا آمنوا ، ثم الذين عملوا الصالحات يوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله ، والله أعلم بالصواب ذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ) أي : يجزيهم في الآخرة بما أقسطوا في الدنيا وعدلوا ، فيكون القسط على هذا التأويل نعتا لهم.

وإن كان ما ذكر من القسط راجعا إلى الله ووصفا له فهو يخرج على وجوه :

أحدها : يجزي فريقا من المؤمنين بالعدل ، يجزي لإحسانهم جزاء الإحسان ، [ولإساءتهم جزاء الإساءة ؛ فيكون جزاء بالعدل ، ويجزي فريقا آخر منهم بالفضل والإحسان : يجزي بحسناتهم جزاء الحسنة،](٢) ويكفر عن سيئاتهم ؛ وهو كقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) الآية [الأحقاف : ١٦] ، وقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ...) الآية [النساء : ٤٨ ، ١١٦].

والثاني : يجزيهم بالفضل ؛ إذ العدل هو وضع الشيء موضعه ، أي : يضع الفضل في أهله لا يضعه في غير أهله ، ووضع الفضل في أهل الإيمان عدل ، إذ هم أهل له ـ والله أعلم ـ وهو كقوله : (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) [هود : ٣].

والثالث : العدل الذي هو مقابل الإحسان وهو الفضل لا العدل الذي هو ضد الجور ؛ كقوله : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ) الآية [النساء : ١٢٩] ، لا يحتمل أن يقول : لن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء في العدل الذي هو ضد الجور [لأن] في مثل هذا يستطيعون أن يعدلوا بينهم ؛ فعلى ذلك قوله : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [الروم : ٤٥] بالعدل الذي هو مقابل الإحسان وهو الفضل ؛ إذ للفضل درجات ، وأصله

__________________

(١) في أ : ليشبه.

(٢) ما بين المعقوفين سقط في أ.

٩

أن جزاء الآخرة كله إفضال وإحسان وإنعام لا استحقاق واستيجاب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ).

قيل (١) : الحميم : [هو](٢) الشراب الذي انتهى حره غايته.

وقوله ـ عزوجل ـ : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً) ذكر في الشمس الضياء وفي القمر النور فهو ـ والله أعلم ـ لأن الليل مظلم يظهر نور القمر فيه ويغلب على ظلمة الليل ويقهرها ، وأما النهار فهو مبصر على ما ذكر ـ عزوجل ـ : (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) [يونس : ٦٧] جعل فيه النور ، فلو جعل الشمس في النور خاصة ، لكان لا يظهر نور الشمس ولا غلب نورها على نور النهار (٣) ، ويغلبه ويقهره ليظهر المنافع التي [جعل فيها ولو كان نورا مثله لم يظهر نور هذا من هذا ولم يوصل إلى المنافع التى](٤) جعلت فيها للخلق ، وهو ما ذكر أنه مد الظل ، وأخبر أنه لو شاء لجعله ساكنا ولو كان ساكنا ممتدّا على ما جعل بقوله : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ) [الفرقان : ٤٥] لكان لا يعرف الظل ، ثم أخبر أنه جعل الشمس دليلا عليه ليعرف بها الظل ، فتنسخ الشمس ذلك [الظل] الممدود شيئا بعد شيء ، فصارت الشمس بها يعرف الظل وبها يظهر فضل ذلك الضياء الذي في الشمس كان به يعرف نورها من نور النهار وبه يوصل إلى منافع الشمس ، ولو كان نورا لكان لا يعرف ولا يظهر ؛ إذ لا يغلب أحدهما صاحبه ـ والله أعلم ـ ولا يعرف آية الشمس من آية النهار ، ثم جعل آية الشمس غالبة على جميع الآيات حتى لا تبصر النجوم بالنهار أصلا والقمر وإن كان نوره يرى بجلاء (٥) ، فإن نور الشمس قد يغلبه ويقهره حتى لا يظهر أبدا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ).

يشبه أن يكون التقدير الذي ذكر لهما جميعا ويعرف الحساب وعدد السنين لهما جميعا ، وكذلك ذكر في حرف حفصة : وقدرهما منازل ، وجائز أن يكون جعل الشمس بالذي يعرف بها أوقات الصلوات والأزمنة من الشتاء والصيف لا يعرف ذلك بالقمر ، وجعل في القمر معرفة الشهور والسنين ، وفي الشمس معرفة أوقات الصلوات

__________________

(١) انظر تفسير ابن جرير (٦ / ٥٣١) والبغوي (٢ / ٣٤٤).

(٢) سقط في أ.

(٣) زاد في أ : فكانت تذهب المنافع التي جعل فيها للخلق ، وجعل عزوجل بلطفه فيها ليظهر نورها على نور النهار.

(٤) ما بين المعقوفين سقط في أ.

(٥) في أ : بحال.

١٠

والأزمنة ، لا يعرف بها الشهور والسنون إلا بعد جهد ؛ وبالقمر لا تعرف أوقات الصلوات والأزمنة ، جعل الله تعالى في الشمس منفعتين : منفعة التقلب ومعرفة الأزمنة ، ومعرفة (١) نضج الأشياء وينعها ، وفي القمر منفعتين أيضا : أحدهما : معرفة حساب الأيام والشهور والسنين ، ومعرفة (٢) نضج الإنزال والأشياء.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) ليس أن يعرف هذا بهما ولا يعرف غيره ، بل يعرف ما ذكر وأشياء كثيرة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِ).

قال أبو بكر الأصم والكيساني : (ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِ) ، أي : ما خلق الله ذلك إلا وقد جعل فيه دلالة معرفته. وقال قائلون : (ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِ) ، أي : ما خلق الله ذلك إلا وقد جعل فيه [دلالة معرفة](٣) الشهادة له على الخلق ، وهي شهادة الوحدانية والألوهية.

وقال بعضهم : ما خلق الله ذلك إلا بالأمر الكائن لا محالة وهو البعث.

ويحتمل قوله : (ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِ) أي : بالحكمة ، لم يخلق ذلك عبثا باطلا ؛ وهو كقوله : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً) [ص : ٢٧] ولكن بحكمة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ).

قيل : نبين أو نصرفها لقوم ينتفعون بعلمهم ، إنما ذكر الآيات فيما ذكر لقوم يعقلون ولقوم يتفكرون ولقوم يفقهون الآيات التي ينتفعون بها ويعقلون الشيء ، إنما يكون للشيء الذي ينتفع به لا للذي لا ينتفع به.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ).

إن في اختلاف الليل والنهار آية البعث ودلالة تدبير صانعهما ، أما دلالة البعث فهي أن كل واحد منهما إذا جاء ذهب الآخر وفني حتى لا يبقى له الأثر ، ثم يتجددان ويحدثان على ذلك أمرهما ، ويتلف كل واحد منهما صاحبه حتى لا يبقى له الأثر ، فمن قدر على ما ذكرنا قدر على بعثهم وإنشائهم بعد الموت بعد ما صاروا ترابا ، وأما دلالة التدبير فهو جريانهما [وسيرهما](٤) على سنن واحد وتقدير واحد من غير تغيير يقع فيهما أو تفاوت أو

__________________

(١) في أ : ومنفعة.

(٢) في أ : ومنفعة.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في أ.

١١

نقصان يقع فيهما أو زيادة وإن كان أحدهما يدخل في الآخر ، دل على ما ذكرنا أنهما يجريان ويختلفان على شيء واحد وجريان واحد ؛ أن فيهما تدبيرا غير ذاتي وعلما أزليّا وأنه واحد ؛ إذ لو كان التدبير فيهما لعدد لكانا مختلفين ولا يجريان على قدر واحد من غير تفاوت فيهما أو نقصان أو زيادة ، دل أنه واحد ، وبالله التوفيق.

وفي ذلك دلالة وحدانية منشئهما وخالقهما ؛ لأنه أنشأهما وبينهما من البعد ما بينهما من البعد ، وجعل منافع أحدهما متصلة بمنافع الآخر على بعد ما بينهما ، دل أن منشئهما واحد ؛ إذ لو كان فعل عدد منع كل منهم فعله عن الوصول بالآخر على ما هو فعل ملوك الأرض.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ). مخالفة الله ويتقون جميع الشرور والمساوي.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (٧) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٨)

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا).

قال قائلون : (لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) من الرجاء ، أي : لا يرجون ما وعد للخلق من الثواب ، ولا يرغبون فيما يرجى ويطمع من الرغائب.

وقال بعضهم (١) : (لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) أي : لا يخافون لقاءنا ، فما من خوف إلا وفيه رجاء ، [وما من رجاء إلا وفيه خوف](٢) ؛ لأن الخوف الذي لا رجاء فيه هو يأس (٣) ، والرجاء الذي لا خوف فيه أمن ، لكن الغالب في الحسنات والخيرات الرجاء وفيه خوف ، والغالب في السيئات والشرور الخوف وفيه أدنى الرجاء ، وهو ما ذكرنا في الشكر والصبر أنهما واحد ؛ لأن الصبر هو كف النفس عن الشهوات واللذات (٤) ، والشكر هو استعمالها في الخيرات ، فإذا كفها عن الشهوات استعملها في الخيرات ؛ لذلك قلنا : إنهما في الحقيقة واحد ؛ ولأن الشكر هو القبول وكذلك الصبر أيضا ، غير أن الشكر في قبول النعم والصبر في قبول البلايا والمصائب ـ والله أعلم ـ يصير كأنه قال : إن الذين لا يؤمنون بالآخرة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها).

__________________

(١) انظر تفسير ابن جرير (٦ / ٥٣٣) ، والبغوي (٢ / ٣٤٤).

(٢) سقط في أ.

(٣) في أ : إياس.

(٤) في أ : واللهوات.

١٢

أي : اختاروا المقام فيما عملوا لها كأنهم يقيمون فيها أبدا

(وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) من ردهم الآيات وكفرهم بها.

وقوله : (وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها) يحتمل وجهين : أحدهما : سروا بها وآثروا ثواب محاسن الدنيا على ثواب الآخرة. والثاني : رضاهم بالدنيا والطمأنينة فيها منعهم عن التفكير والنظر في أمر الآخرة.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٠)

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ).

يحتمل وجوها : يحتمل : يهديهم ربهم بإيمانهم في الدنيا طريق الجنة في الآخرة ، وهو يعني ما ذكر في القصة أن المؤمن إذا أخرج من القبر يصور له عمله في صورة حسنة.

والثاني : يهديهم [ربهم](١) بإيمانهم ، [أي : يهديهم ربهم بإيمانهم](٢) فيصيرون مهتدين بهدايته إياهم ويشبه يهديهم ربهم بإيمانهم أي يدعوهم إلى الخيرات في الدنيا بإيمانهم ، والله أعلم.

فهذا على المعتزلة ؛ لأنهم يمتنعون عن تسمية صاحب الكبيرة مؤمنا ومعه إيمان ، فيلزمهم أن يمتنعوا عما وعد له وإن كان معه إيمان ، فإذا ذكر له الوعد مع هذا ألزمهم (٣) أن يسموه مؤمنا لما معه من الإيمان.

وقوله ـ عزوجل ـ : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ). يقول أهل التأويل : من تحت أهل الجنة ، وقد ذكرنا هذا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَ). قال قائلون : قوله : (دَعْواهُمْ) دعوى الإيمان ؛ أي : يدعون في الآخرة من الإيمان والتوحيد لله والتنزيه له كما ادعوا في الدنيا وحدانية الله ونزهوه.

وقوله : (سُبْحانَكَ اللهُمَ).

هو حرف تنزيه وتبرئة الرب عن الأشباه وجميع الآفات التي وصفته المشبهة الملحدة بها ، فهذا يدل أن ما خرج مخرج الدعوى فإنه لا يختلف باختلاف الدور.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

(٣) في أ : لزمهم.

١٣

وقال عامة أهل التأويل (١) : هو من الدعاء لا من الدعوى ، يقولون : إنهم إذا اشتهوا طعاما أو شرابا وتمنوا شيئا فيدعونه بقوله : (سُبْحانَكَ اللهُمَ) فيؤتون ما تمنوا واشتهوا ؛ لما ذكر أنه لا تنقطع اللذات في الجنة ، ولو كان ما يقولون لكان فيه انقطاع اللذات والشهوات ، إلا أن يقال : إنهم يلهمون شهوات وأماني فيشتهون ، وقال الله ـ عزوجل ـ : (وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ) [فصلت : ٣١] (وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ. وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) [الواقعة : ٢٠ ، ٢١] ولا نعلم ما أراد به.

وقوله ـ عزوجل ـ : (سُبْحانَكَ اللهُمَ) يخرج على وجوه :

أحدها : يخبر أنه ليس على أهل الجنة من العبادات شيء سوى التوحيد وهو كلمة التوحيد.

والثاني : يقولون ذلك لعظيم ما رأوا من النعيم وعجيب ما عاينوا.

والثالث : شكرا لما أعطاهم من ألوان النعيم والأطعمة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ).

قال أهل التأويل (٢) : إن الملائكة يأتون (٣) بما اشتهوا ويسلمون عليهم ويردون السلام على الملائكة ؛ فذلك قوله : (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) ، فإذا طعموا وفرغوا قالوا عند ذلك : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، وهو قول ابن عباس وغيره من أهل التأويل ، ويشبه أن يكون قوله : (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) والسلام (٤) الذي لا عيب فيه ولا مطعن ، أي كلام بعضهم لبعض منزه منقى من جميع العيوب والمطاعن ؛ كقوله : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً) [الواقعة : ٢٥] الآية ، وقوله : (إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) [الواقعة : ٢٦] ونحوه.

وقوله : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

قال أهل التأويل (٥) : يقولون على أثر فراغهم من الطعام والشراب ذلك.

وقال الحسن : إن الله رضي عن عباده بالشكر لما أنعم عليهم في الدنيا والآخرة ب (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، ويشبه أن يكون قوله : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ) أي دعواهم في الآخرة : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، كما كان دعواهم في الدنيا (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

__________________

(١) انظر تفسير ابن جرير (٦ / ٥٣٥) والبغوي (٢ / ٣٤٥).

(٢) قاله ابن جريج ، أخرجه ابن جرير (١٧٥٧٨) وابن المنذر وأبو الشيخ عنه كما في الدر المنثور (٣ / ٥٣٩).

(٣) زاد في أ : من ألوان النعيم.

(٤) في أ : والكلام.

(٥) هذا القول هو تمام قول ابن جريج السابق.

١٤

قوله تعالى : (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٢)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ).

كأن الآية على الإخبار كأنه قال : ولو يعجل الله للناس الشر إذا استعجلوه كما يعجل لهم الخير إذا استعجلوه ـ لقضي إليهم أجلهم ؛ لأنه ليس يذكر في ظاهر الآية استعجالهم الشر إنما يذكر تعجيله ، ولكن فيه ما ذكر من الإضمار إضمار الاستعجال ، ومنه ما ذكر في غير آية من القرآن استعجالهم العذاب ؛ كقوله : (أَتى أَمْرُ اللهِ) الآية [النحل : ١] ، وقولهم : (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً) الآية [الأنفال : ٣٢] ونحو ذلك ، كانوا يستعجلون العذاب استعجال تضرع ، فيقول : لو عجل لهم العذاب إذا استعجلوه كما يعجل لهم الخير إذا استعجلوه ـ لقضي أجلهم ، يقول : لهلكوا أو فنوا ، هذا التأويل في أهل الكفر خاصة عند استعجالهم العذاب استعجال تضرع وسؤال ، ويشبه أن يكون هذا في جملة الخلق على غير تصريح سؤال ، ولكن عند ارتكابهم الشر بقوله : لو يعجل الله للناس الشر باكتسابهم الشر وبارتكابهم إياه [وقت اكتسابهم ، كما يعجل لهم الخير](١) وقت اكتسابهم الخير ـ لقضي إليهم أجلهم ، أي : لو عجل لهم جزاء شرهم وقت اكتسابهم الشر ، كما يعجل لهم جزاء خيرهم ، لكان ما ذكر ما يستوجبون بارتكابهم الشر وقت فعلهم إياه لقضي إليهم أجلهم ، لكنه لم يعجل لهم ذلك وأخره إلى المدة التي جعل لآجالهم.

ويمكن وجه آخر : وهو ما يدعو بعضهم على بعض باللعن والخزي ، يقول الرجل عند شدة الغضب : اللهم العن فلانا ، اللهم أخزه ، ونحو ذلك من الدعوات ، يقول : لو عجل لهم هذا كما يعجل لهم عند دعاء بعضهم لبعض بالرحمة والسعة ـ لقضي إليهم أجلهم ؛ لهلكوا وفنوا ، ويكون ذلك انقضاء أجلهم ، ويكون ذلك على وجوه ثلاثة.

أحدها : استعجال سؤال وتضرع ، الذي ذكرنا.

والثاني : بأفعالهم وارتكابهم الشر وقت ارتكابهم.

والثالث : الأسباب التي بها يرتكبون ويفعلون.

وقوله : (لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) يحتمل : لقضي [أجلهم قبل المدة التي جعل لهم.

__________________

(١) سقط في أ.

١٥

والثاني : لقضي أجلهم ؛ أي : يجعل أجلهم ذلك ، ففيه دلالة ألّا يهلك أحد قبل أجله و](١) لا يقدم ولا يؤخر ، فهو ما ذكر : (لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ) [سبأ : ٣٠].

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ).

هو ما ذكرنا أن من حكمه ألا يعاقب. أحدا من الكفرة في [الدنيا بصنيعه](٢) الذي صنع ، وقد يعجل لهم جزاء خيراتهم في الدنيا ؛ كما ساق إليهم من أنواع النعم ، ولكن من حكمه أن يؤخر عقوبتهم إلى يوم القيامة ؛ فذلك تأويله ، والله أعلم.

(فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) أي : نتركهم يترددون في أعمالهم ، [وجرمهم إلى](٣) الوقت الذي وعد لهم العذاب ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً) : قال بعض أهل التأويل : إن جميع ما ذكر في القرآن الإنسان فالمراد منه الكافر (٤) ؛ من ذلك قوله : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ) [الانشقاق : ٦] ، وقوله : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) [الانفطار : ٦] ، وقوله : (وَالْعَصْرِ. إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) [العصر : ١ ـ ٢] ونحوه ، لكن هذا لا نعلم أنه أراد به الكافر ، فلئن كان ما ذكروا فإن أهل الإيمان يدخلون في هذا (٥) الخطاب ، إذا كان منهم ما يكون من الكفرة ؛ لأن من أهل الإيمان من يقبل على الدعاء والتضرع إلى الله عند مس الحاجة والشدة ، فإذا انجلى ذلك وانكشف عنه ترك ذلك الدعاء الذي كان دعا ، وذلك التضرع الذي كان يتضرع إليه ، فدخل في ذلك (٦).

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط في أ.

(٢) في أ : الكفر بصنعه.

(٣) في أ : وأخبر أنهم إلى.

(٤) ذكره ابن عادل في اللباب (١٠ / ٢٧٨).

(٥) في ب : ذلك.

(٦) وقيل : المراد بالإنسان : الجنس ، وهذه الأحوال بالنسبة إلى المجموع ، أي : منهم من يدعو مستلقيا ، ومنهم من يدعو قائما ، أو يراد به شخص واحد ، جمع بين هذه الأحوال الثلاثة بحسب الأوقات ، فيدعو في وقت على هذه الحال ، وفي وقت على أخرى ، والصحيح أن المراد ب (الإنسان) الجنس ، وقال آخرون : كل موضع في القرآن ورد فيه ذكر الإنسان فالمراد به : الكافر. وهذا باطل ؛ لقوله : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ* فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ)[الانشقاق : ٦ ، ٧] لا شبهة في أن المؤمن داخل ، وكذا قوله (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ)[الإنسان : ١] ، وقوله : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ)[المؤمنون : ١٢] ، وقوله : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ)[ق : ١٩] والحق : أن اللفظ المفرد المحلى بالألف واللام ، إن حصل معهود سابق ، صرف إليه ، وإن لم يحصل معهود سابق ، حمل على الاستغراق ؛ صونا له عن الإجمال والتعطيل. ينظر اللباب (١٠ / ٢٧٨).

١٦

ثم قوله : (دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً) : ليس على إرادة حقيقة الجنب والقعود والقيام ، ولكن على الدعاء في كل حال ، أي : يدعونه في كل حال ؛ لما عرفوا أن الذين كانوا يعبدون من دون الله لا يملكون دفع ما حل بهم من الشدائد والمضار ـ أقبلوا على الله بالتضرع والدعاء إليه في كشف ذلك عنهم (١).

ثم أخبر عن سفههم وشدة تعنتهم وعودهم إلى الحال التي كانوا من قبل فقال : (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ) : يقول ـ والله أعلم ـ : مر كأن لم يدعنا قد نسينا في الرخاء كأن لم يعرفنا [واستمر على ترك الدعاء في الرخاء ، وقوله : (كَذلِكَ) عرفنا ما كانوا يعملون والإسراف هو العدوان](٢) والتعدي عن الحد الذي جعل له وهو وضع الأموال والأنفس في الموضع الذي لا ينتفعون بها في عبادة الأصنام وغيرها ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)(١٤)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا) : فإن قيل : قد أهلك من قد ظلم ومن لم يظلم ، فما يعلم من أهلك من الظلمة أنه إنما أهلكهم لظلمهم ، أو أهلك لصلاح من لم يظلم.

قيل : إنه أهلك الظلمة إهلاك استئصال وعقوبة ، وأهلك من لم يظلم لا إهلاك عقوبة واستئصال ، إنما هو إهلاك بآجالهم التي جعل لهم.

ويحتمل قوله : (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) : إنما أهلك أولئك بسؤالهم الذي سألوا سؤال تعنت رسلهم الآيات ، فإذا جاءوا بتلك الآيات كذبوها ، فأهلكوا عند ذلك ، فأنتم يا أهل مكة إذا سألتم رسولكم الآية ثم

__________________

(١) وفي كيفية النظم وجهان :

الأول : أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أنه لو أنزل العذاب على العبد في الدنيا ، لهلك وقضي عليه ، فبين في هذه الآية ما يدل على ضعفه ، ونهاية عجزه ؛ ليكون ذلك مؤكدا لما ذكره من أنه لو أنزل عليه العذاب لمات.

الثاني : أنه ـ تعالى ـ حكى عنهم : أنهم يستعجلون نزول العذاب ، فبين في هذه الآية أنهم كاذبون في ذلك الاستعجال ؛ لأنه لو نزل بالإنسان أدنى شيء يؤذيه ، فإنه يتضرع في إزالته عنه ؛ فدل على أنه ليس صادقا في هذا الطلب. ينظر اللباب (١٠ / ٢٧٧).

(٢) سقط في أ.

١٧

كذبتموها ، يعذبكم كما عذب أولئك ؛ إذ من حكمه الإهلاك على أثر السؤال ، كأنه ينهى أهل مكة عن سؤال الآيات ، فإن على إثره الإهلاك إذا لم يقبلوها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) يحتمل البينات التي تبين ما يؤتى وما يتقى ، وقد ذكرناها في غير موضع.

(وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) : يخبر رسوله أنهم وإن سألوك الآيات فإذا جئت بها فإنهم لا يؤمنون ، يعني : أهل مكة.

(كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) : كل مجرم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ).

يحتمل قوله : (خَلائِفَ) أي : جعل أنفسكم خلف أنفس أولئك الذين لم يهلكهم ، يخرج هذا مخرج تذكير النعمة والامتنان والرحمة ، يذكرهم أنه لو شاء أهلك الكل ، فلا يكون هؤلاء خلف أولئك ، ولكن بفضله ورحمته أبقاكم.

ويحتمل قوله : (جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ) [أولئك في المحنة والعبادة أي : جعل عليكم من المحنة والعبادة كما كان على آبائكم من المحنة والعبادة.

ويشبه أن يكون قوله جعلناكم خلائف](١) الذين لم يظلموا ، فكيف لا تتبعونهم ؛ لأن الذين ظلموا قد أهلكتهم ، فأنتم خلائف أولئك الذين لم يظلموا ولم يكذبوا الرسل ، فكيف لا تتبعونهم كأنهم ادعوا أن آباءهم كانوا على ما هم عليه ، وأنهم على مذاهب آبائهم ، يقول : جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم ، أي : لست أنا بأول رسول أرسلت إليكم ، بل لم يزل الله [يرسل رسلا](٢) في الأمم ، فكان فيهم لهم أتباع يتبعون رسلهم إلى ما يدعونهم إليه ويجيبونهم ، فاتبعوني أنتم يا أهل مكة فيما دعيتم إليه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) : لم يزل الله تعالى عالما بما كان ويكون منهم من المعصية والطاعة ، ولكن ليعلمهم عصاة ومطيعين ؛ لأن المعصية إنما تكون بعد ما يكون النهي والطاعة إنما تكون بالأمر فيبتليكم فيعلمكم عصاة كما علم أنه يكون منكم معصية ويعلمكم مطيعين كما علم أنه يكون منكم الطاعة ، وقد ذكرنا أمثال هذا فيما تقدم ، والله أعلم.

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط في أ.

(٢) في أ : ينزل رسولا.

١٨

قوله تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ)(١٧)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ) : البينات قد ذكرنا في غير موضع ، والبينات هي التي تبين أنها آيات نزلت من عند الله لم يخترعها أحد من الخلق (١).

وقد ذكرنا قوله ـ أيضا ـ : (قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا).

وقوله ـ عزوجل ـ : (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ) : يشبه أن يكون قولهم : (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ) ألا ترى أنه قال : (قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي) ، إنما أجابهم في التبديل ؛ دل أن السؤال كان سؤال تبديل ، ولكن كانوا يسألون سؤال استهزاء وتكذيب.

ثم اختلف أهل التأويل في التبديل الذي سألوا.

قال بعضهم : سألوا أن يبدل ويجعل مكان آية العذاب آية الرحمة أو (٢) يبدل أحكامه (٣).

ويحتمل قوله : (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا) أي : بدل أحكامه واترك رسمه.

ويحتمل ما ذكرنا أنهم سألوا أن يتلو مكان آية العذاب آية الرحمة ، ومكان ما فيه سب آلهتهم مدحها ونحو ذلك ، والله أعلم.

__________________

(١) روي عن ابن عباس : أن خمسة من الكفار كانوا يستهزءون بالرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ وبالقرآن : الوليد بن المغيرة المخزومي ، والعاص بن وائل السهمي ، والأسود بن عبد المطلب ، والأسود بن عبد يغوث ، والحارث بن حنظلة ، فقتل الله ـ تعالى ـ كل واحد منهم بطريق ، كما قال : (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) [الحجر : ٩٥].

وقال مقاتل : هم خمسة : عبد الله بن أمية المخزومي ، والوليد بن المغيرة ، ومكرز بن حفص ، وعمرو بن عبد الله بن أبي قيس العامري ، والعاص بن عامر بن هشام ، قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن كنت تريد أن نؤمن بك ، فأت بقرآن ليس فيه ترك عبادة اللات ، والعزى ، ومناة ، وليس فيه عيبها ، وإن لم ينزله الله ، فقل أنت من عند نفسك ، أو بدّله فاجعل مكان آية عذاب آية رحمة ، ومكان حرام حلالا ، وحلال حراما.

ذكره البغوي في تفسيره (٢ / ٣٤٧) ، وينظر : اللباب (١٠ / ٢٨١ ، ٢٨٢).

(٢) في أ : لو.

(٣) ذكره بمعناه ابن جرير (٦ / ٥٤٠) ، وكذا البغوي في تفسيره (٢ / ٣٤٧).

١٩

ونحن لا نعلم ما أراد بالتبديل تبديل الأحكام أو تبديل الرسم والنظم ، إنما نعلم ذلك بالسماع (١).

ثم أخبر أنه لا يقول ولا يتبع إلا ما يوحى إليه ويؤمر به بقوله : (قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ).

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) إن تركت تبليغ ما أمرت بالتبليغ إليكم ، وهكذا كل من عرف ربه خافه إن عصاه وخالف أمره ونهيه ، ومن لم يعرف ربه لم يخفه إن عصاه وخالف.

وقوله : (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ) : سؤالهم سؤال تعنت واستهزاء ؛ لأنه لا منفعة لهم لو أتى بغيره وبدله سوى ما في هذا ولو جاز لهم هذا السؤال جاز ذلك في كل ما أتى به واحدا بعد واحد ، فذلك مما لا ينقطع أبدا ولا غاية ولا نهاية فهو سؤال تعنت واستهزاء.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ) : هو صلة ما تقدم من قوله حيث قالوا : (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ) قد ذكرنا أن هذا يحتمل وجهين :

__________________

(١) فإن قيل : إذا بدل هذا القرآن فقد أتى بغير هذا القرآن ، وإذا كان كذلك ، كان كل واحد من هذين الأمرين هو نفس الآخر ، ومما يدل على أن كل واحد منهما عين الآخر : أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ اقتصر على الجواب بنفي أحدهما ، فقال : (ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ) ؛ فيكون الترديد فيه والتخيير باطلا.

فالجواب : أن أحد الأمرين غير الآخر ، فالإتيان بكتاب آخر ، لا على ترتيب هذا القرآن ولا على نظمه ، يكون إتيانا بقرآن آخر ، وأما إذا أتى بهذا القرآن ، إلا أنه وضع مكان ذم بعض الأشياء مدحها ، ومكان آية رحمة آية عذاب ، كان هذا تبديلا ، أو نقول : الإتيان بقرآن غير هذا ، هو أن يأتيهم بكتاب آخر سوى هذا الكتاب ، والتبديل : هو أن يغير هذا الكتاب ، مع بقاء هذا الكتاب.

وقوله : إنه اكتفى في الجواب بنفي أحد القسمين ، قلنا : إن الجواب المذكور على أحد القسمين ، هو عين الجواب عن القسم الثاني ، فاكتفى بذكر أحدهما عن الآخر ؛ لأنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ بين أنه لا يجوز أن يبدله من تلقاء نفسه ؛ لأنه وارد من الله ـ تعالى ـ ولا يقدر على مثله ، كما لا يقدر على مثله سائر العرب ؛ لأن ذلك كان متقررا عندهم لما تحداهم بالإتيان بمثله.

واعلم أن التماسهم لهذا يحتمل أن يكون سخرية واستهزاء ، ويحتمل أن يكون ذلك على سبيل الجد ، ويكون غرضهم : أنه إن فعل ذلك ، علموا كذبه في قوله : إن هذا القرآن منزل عليه من عند الله ، ويحتمل أن يكون التماسهم كتابا آخر ؛ لأن هذا القرآن مشتمل على ذم آلهتهم ، والطعن في طرائقهم ، فطلبوا كتابا آخر ليس فيه ذلك ، أو يكونوا قد جوزوا كون القرآن من عند الله ، لكنهم التمسوا منه نسخ هذا القرآن ، وتبديله بقرآن آخر.

ينظر اللباب (١٠ / ٢٨٢).

٢٠