تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٩٥

نفسه ؛ بل الدنيا دار عمل ، وللجزاء بالكفر والإيمان دار أخرى ، وهذا كقوله : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) [المنافقون : ١] ، وهم لم يكونوا كاذبين في شهادتهم ومقالتهم (١) ، بل كانوا صادقين أنه رسول [الله](٢) ، وإن الله ـ تعالى ـ يعلم أنه رسوله ، ولكنهم كانوا اعتقدوا تكذيبه في قلوبهم ؛ فكانوا يظهرون خلاف ما أضمروا في أنفسهم ؛ فإلى ما أضمروا انصرف التكذيب ، لا إلى نفس القول ؛ كذا هذا.

ولأن أهل الكفر كانوا أصنافا : فمنهم من كان يرى إذا بسط عليه (٣) النعيم في الدنيا وأكرم فإنما بسط عليه لما استوجبه بفعله ، وإذا ضيق عليه وابتلي بالشدة فإنما ضيق عليه بإساءته وبما كسبت يداه.

ومنهم من كان يظن أنه من الله ـ تعالى ـ بمنزلة ، وأنه مستوجب للإنعام ، وأنه إذا بلي بضيق العيش وأصابته شدة ، أصابه ذلك من عند محمد عليه الصلاة والسلام ؛ فيتشاءمون به ؛ ألا ترى إلى قوله : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) [لنساء : ٧٨] ؛ وعلى هذا كان ظن فرعون [وقومه] ؛ قال الله ـ تعالى ـ : (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) [الأعراف : ١٣١].

فقوله : (فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ) ، أي : أكرمه في نفسه بأن أصح جسمه ، أو جعله رئيس قومه ، (وَنَعَّمَهُ) ، أي : بسط الدنيا عليه : (فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) ؛ فكان ينظر بذلك.

وقوله : (وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ) أي : إذا اختبره ؛ فضيق عليه رزقه ، فيقول : (رَبِّي أَهانَنِ) ؛ فكان يظهر بذلك الجزع والله ـ تعالى ـ اختبره بالنعم (٤) ؛ ليستأدي منه الشكر بما أنعم ، وابتلاه بضيق العيش ؛ ليصبر ، لا ليجزع ؛ فلا شكر [هذه النعم](٥) بل بطر ، ولا صبر على الشدائد ؛ بل جزع ؛ فجائز أن يكون المراد بقوله : (كَلَّا) ، منصرفا إلى هذا ردا لاعتقادهم وصنيعهم ، وهو أنه لم يكرم ولم ينعم ليبطر به ، ولا ضيق عليه رزقه ليجزع ، بل إنما أنعم ليشكر ، وقدر عليه رزقه ليصبر ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) جائز أنهم كانوا لا يكرمونه ويهينونه مع ذلك ؛ لأن إكرام اليتيم ليس بواجب ، أما إهانته فحرام.

__________________

(١) زاد في ب : كاذبين.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : عليهم.

(٤) في أ : بالنعيم.

(٥) في ب : بالنعم.

٥٢١

وجائز ألا يثبت الإهانة منهم مع نفي الإكرام ؛ لأن الإيجاب إذا ذكر في مضادة الإيجاب اقتضى (١) ذلك إثبات المقابلة وإذا ذكر الإيجاب في مضادة النفى ، أمكن أن تثبت فيه المقابلة ، وأمكن ألا تثبت ؛ ألا ترى : أنه إذا قيل : فلان جائر ، كان فيه إثبات المقابلة وهي نفي العدل (٢) ؛ لأن [في] قوله : «جائر» إثبات الجور ؛ فكان في ذكره نفي العدالة ، وفيه إثبات المقابلة ، وإذا قلت : ليس بعدل ، لم يكن فيه تحقيق لإثبات المقابلة وهو الجور ، بل يجوز أن يكون جائرا ، ويجوز ألا يكون ، وقد يراد بالنفي إثبات المقابلة أيضا ؛ قال الله تعالى : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) [البقرة : ١٦] ؛ فكان في (٣) نفى الربح إثبات المقابلة في أنها خسرت.

ثم إكرام اليتيم هاهنا يحتمل أوجها ثلاثة :

أحدها : أن يكرمه في أن يحفظ عليه ماله حتى لا يضيعه ، ويكرمه في نفسه ، وهو أن يتعاهد أحواله عن أن يدخل فيها خلل.

والوجه الثاني : أن يكرمه ؛ فيعلمه آداب الشريعة ، ويرشده إليها.

والوجه الثالث : أن يكرمه ؛ فيبذل له من ماله قدر حاجته إليه ، ويصطنع إليه المعروف ؛ فيكون التعيير (٤) هاهنا في إهانة اليتيم أن يترك الإكرام الذي هو من باب حفظ ماله ؛ فيكون تضييعا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) ، أي : لا يحثون غيرهم على إطعام المساكين.

وجائز أن يحضوا ولا يتولوا بأنفسهم الإطعام.

ويحتمل ألا يتولوا ذلك بأنفسهم ، ويحضوا غيرهم.

ففي هذه الآية ترغيب للمسلمين بإكرام اليتيم وتعاهد ماله ، وتبيين (٥) أن عليهم أن يطعموا بأنفسهم ، وأن يحثوا الأغنياء بإطعام المساكين ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا) فاللم (٦) : الجمع ؛ يقال : لم المال ؛ إذا جمع ؛ فكأنه يقول : يجمعون ما لم يرثوه بأنفسهم ـ وذلك نصيب الأيتام ـ إلى

__________________

(١) في ب : لاقتضى.

(٢) في ب : القول.

(٣) زاد في ب : ذلك.

(٤) في ب : التغيير.

(٥) في ب : يتبين.

(٦) في ب : فاللمم.

٥٢٢

ما يرثون من أنصبائهم ، فيأكلونه جميعا.

وقال بعضهم (١) : (وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا) ؛ ، أي : شديدا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا) قال أبو بكر : أي : تحبونه حبا وفيا وافرا ليس فيه قصور ؛ فيكون فيه إخبار عن غاية حبهم الدنيا وشدة حرصهم عليها.

وجائز أن يكون على التقديم والتأخير ، وهو أنهم يحبون المال الجم حبا ؛ أي : المال الكثير.

وقوله : (كَلَّا) ؛ ردع وتنبيه :

فمنهم من رد هذا الردع إلى قوله : (رَبِّي أَكْرَمَنِ) ، و (رَبِّي أَهانَنِ) ، فكأنه يقول : كلا ليست هذه الدار دار جزاء ؛ فيكون الإهانة والإكرام بحق الجزاء ، وإنما هي دار محنة وابتلاء.

ومنهم من حمله على الابتداء ، فقال : (كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) بمعنى حقا ، يخبر عن ندمه في [تركه الإكرام لليتيم](٢) ، وترك إطعام المسكين والحض عليه : (إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ) أي : دقت وكسرت ، وذلك يوم الحساب والبعث.

وقوله : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) يحتمل أوجها :

أحدها : أن يكون معناه : وجاء ربك بالملك ؛ إذ يجوز أن تستعمل الواو مكان الباء ؛ ألا ترى إلى قوله ـ تعالى ـ : (قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ) [المائدة : ٢٤] ، ومعناه : بربك ، وإذا حمل على هذا ارتفعت الشبهة ، واتضح الأمر ؛ لأنه لو كان قال : وجاء ربك بالملك ، لكان لا ينصرف وهم أحد إلى الانتقال من مكان إلى مكان ، وقال ـ تعالى ـ : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) [البقرة : ٢١٠] ، ومعناه ـ والله أعلم ـ : بظلل من الغمام ؛ لأنه قال في موضع آخر : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ) [الفرقان : ٢٥] ؛ فثبت أن معناه ما ذكرنا وإذا ثبت هذا ارتفع الريب والإشكال.

ومنهم من ذكر أن معنى قوله : (وَجاءَ رَبُّكَ) ، وقوله : (إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ) [البقرة : ٢١٠] ، أي : أمر الله ؛ دليله ما ذكر في سورة النحل قوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) [النحل : ٣٣] ، فذكر مكان قوله : (وَجاءَ رَبُّكَ) : (أَمْرُ رَبِّكَ).

__________________

(١) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير عنه (٣٧١٧٠) وهو قول قتادة والضحاك أيضا.

(٢) في ب : ترك إكرام اليتيم.

٥٢٣

ويحتمل أن يكون قوله : (وَجاءَ رَبُّكَ) ، أي : جاء وعده ووعيده ، فنسب المجيء إلى الله تعالى ، وإن لم يكن ذلك وصفا له ؛ لأنه (١) يجوز أن تنسب آثار الأفعال إلى الله ـ تعالى ـ نسبة حقيقة الفعل وإن لم يوصف به ، كما قال الله ـ تعالى ـ : (فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) [التحريم : ١٢] فأضيف النفخ إليه وإن لم يوصف بأنه نافخ ، وقال : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) [المائدة : ٤٥] ، فأضيفت الكتابة إليه وإن لم يوصف بأنه كاتب ؛ لما أن ما ظهر من آثار فعله ، ويقال : المطر رحمة الله ؛ أي : من آثار رحمته ، لا أن يكون المطر صفة له ، ويقال : الصلاة أمر الله ، والزكاة أمر الله ، أي : بأمر الله نصلي ، وبأمره نزكي ، لا أن يكونا وصفين له.

ووجه آخر : أن يكون معنى قوله ـ تعالى ـ : (وَجاءَ رَبُّكَ) ، أي : جاء الوقت الذي به صار إنشاء هذا العالم حكمة ؛ إذ لو لا البعث للجزاء ، لكان إنشاء هذا العالم ثم الإهلاك خارجا مخرج العبث ؛ لما وصفناه من قبل ؛ لقوله : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون : ١١٥] ؛ فثبت أن خلقه إنما صار حكمة بالبعث ، وقال [الله](٢) تعالى : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر : ١٦] وقد كان الملك له قبل ذلك اليوم ، ولكن ملكه لكل أحد يتبين في ذلك الوقت ، وقال : (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً) [إبراهيم : ٢١] وقد كان كل شيء له بارزا ، ولكن معناه : أنه أتى الوقت الذي له برز الخلائق.

ثم الأصل في كل ما أضيف إلى الله ـ تعالى ـ أن ينظر إلى ما يليق أن يوصل بالمضاف إليه ، فتصله به وتجعله مضمرا فيه ، قال الله ـ تعالى ـ : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) [المجادلة : ٧] ، ولم يفهم إثبات الحضور ، وكان معناه : أن علمه محيط بهم ، وهو مطلع عليهم.

وقال (٣) : (فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) [الحشر : ٢] [و] لم يفهم به الانتقال ؛ بل كان معناه : أنه جاءهم بأسه ، وجاء لأوليائه نصره.

وقال : (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) [النحل : ٢٦] ، ولم يفهم بهذا الإتيان ما فهم من الإتيان الذي يضاف إلى الخلق.

__________________

(١) زاد في أ : لا.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : فقال.

٥٢٤

وقال [الله](١) تعالى : (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ) [محمد : ٧] ، وكان معناه : إن تنصروا دين الله ؛ لا أن الله ـ تعالى ـ يلحقه ضعف يحتاج إلى من يقويه.

وقال [الله](٢) تعالى : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) [آل عمران : ٢٨] ، وكان معناه : أنه يحذركم عذابه ؛ لا أن أريد به تحقيق النفس.

ومثل هذا في القرآن أكثر (٣) من أن يحصى ؛ فثبت أن محل الإضافات ما ذكرنا ؛ فلذلك حمل على الوعد والوعيد ، أو على الوقت الذي به صار خلق العالم حكمة ، أو على ما صلح فيه من الإضمار.

ومما يدل على أنه لا يفهم بالمجيء معنى واحد ، بل يقتضي معاني : أن المجيء إذا أضيف إلى الأعراض ، فهم به غير الذي يفهم به إذا أضيف إلى الأجسام ؛ فإنه إذا أضيف إلى الأعراض أريد به الظهور ؛ قال الله تعالى : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ) [الفتح : ١] ، ومعناه : إذا ظهر نصره ، ولم يرد به الانتقال ، ولو كان مضافا إلى الجسم ، فهم منه الانتقال من موضع إلى موضع.

وقال الله تعالى : (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ) [الإسراء : ٨١] ، ومعناه : ظهر الحق ، واضمحل الباطل ، لا أن يكون الحق في مكان ، فنقل عنه إلى غيره ؛ فثبت أن المجيء إذا أضيف إلى شيء وجب أن يوصل به ما يليق به ؛ لا أن يفهم به كله معنى واحد.

وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال ـ حكاية عن الله تعالى ـ : «من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا ، ومن تقرب إلى ذراعا ، تقربت إليه باعا ، ومن أتاني ساعيا أتيته هرولة» ولم يفهم من هذا التقرب (٤) ما يفهم منه إذا أضيف إلى الخلق ، وكان معناه : من تقرب إلي بالطاعة والعبادة تقربت إليه بالتوفيق والنصر أو بالإحسان والإنعام.

وقال موسى ـ عليه‌السلام ـ : «يا رب أقريب أنت فأناجيك أو بعيد فأناديك؟!» ، ولم يرد به المكان ؛ وإنما أراد بقوله : أراض أنت عني فأناجيك ، أو ساخط على فأناديك في أن أعلن بالبكاء والتضرع؟!

ثم الأصل في المجيء المضاف إلى الله ـ تعالى ـ أن يتوقف فيه ، ولا يقطع الحكم على شيء ؛ لما ذكرنا أن المجيء ليس يراد به وجه واحد ؛ لأنه إذا أضيف إلى الأعراض

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في ب.

(٣) في أ : كثير.

(٤) في ب : التقريب.

٥٢٥

أريد به غير الذي يراد به إذا أضيف إلى الأجسام والأشخاص ، [والله أعلم](١).

والله تعالى لا يوصف بالجسمية حتى يفهم من مجيئه ما يفهم (٢) من مجيء الأجسام ، ولا (٣) يوصف بالعرض ؛ ليراد به ما يراد من مجيء الأعراض ؛ فحقه الوقف في تفسيره مع اعتقاد ما ثبت بالتنزيل من غير تشبيه (٤) ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ).

قيل فيه من أوجه :

أحدها : أنها أظهرت وبرزت لأهلها ، على ما قال في آية أخرى : (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ) [الشعراء : ٩١] ، لا أنها كانت في مكان فنقلت عنه ، وقد يراد بالمجيء الظهور ، قال الله ـ تعالى ـ : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) [التوبة : ١٢٨] ، ومعناه : ظهر لكم ، لا أن كان في مكان آخر فجيء به إليهم.

وقال بعضهم : جيء بأهلها إليها ـ أي : إلى جهنم ـ فيكون حقيقة المجيء من الأهل ، ثم نسب إليها ؛ لأنهم إذا أتوها فقد أتتهم هي ، وهو كقوله : (إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) [مريم : ٦١] ؛ فنسب الإتيان إلى الذي يأتيه الوعد ؛ فيكون الوعد هو الذي يأتي أهله.

وقال بعضهم (٥) : (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) ، أي : يجيء زفرتها وشهيقها وتغيظها على أهلها ، لا أن تغير عن مكانها.

ومنهم من حمله على حقيقة المجيء ؛ فذكر أنه يؤتى بها ولها سبعون ألف زمام ، على كل زمام سبعون ألف ملك ، والله أعلم بذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ) يحتمل أن يتذكر إشفاق الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ ونصحهم (٦) لهم ؛ فيعلم أنه كان فيما توهم بهم من الظنون الفاسدة مبطلا ؛ فيكون تذكره ذلك تصديقا منه للرسل ، عليهم [السلام](٧).

(وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) ، أي : لا ينفعه تصديقه إياهم ، إذ لم يصدقهم في الدنيا.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) زاد في ب : به.

(٣) في ب : فلا.

(٤) في أ : نسبة.

(٥) قاله ابن مسعود أخرجه ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، والترمذي ، وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد ، وابن جرير (٣٧١٩٠) عنه موقوفا ، وروي عنه مرفوعا ، وعن أبي سعيد وعلي بن أبي طالب.

(٦) في ب : ونصيحتهم.

(٧) سقط في ب.

٥٢٦

أو يتذكر في أن يتلهف على ما فرط في جنب الله من التقصير في حقوقه ، والتضييع الذي سبق منه حيث لم يشكر نعمه ، ولم يوجه إليه العبادة ؛ فيكون تلهفه ذلك إيمانا ، ولكن لا ينفعه تلهفه في ذلك الوقت ؛ لأن تلك الدار ليست بدار امتحان ، بل هي دار جزاء ، والذي يحمله على التصديق مشاهدته الجزاء والحساب ، وعند المشاهدة ترتفع (١) المحنة ، ويكون إيمانه ذلك ضروريا لا حقيقة ؛ فلذلك لا ينفعه ، وإنما ينفعه الطاعة وقت ملكه نفسه ، فأما إذا خرج ملك نفسه من يده ، لم يقع له بالإيمان جدوى.

وقال بعضهم : (يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ) ، أي : يتعظ ، (وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) ، أي : أنى له الانتفاع بالموعظة.

ثم في هذا التذكير بيان لطف من الله تعالى بعظته حتى يتذكر ، وإلا فالإنسان يذهب عليه ما قد كتبه في وقت إذا أتى عليه حين ، حتى لو أراد أن يتذكر وقت كتابته لم يقدر عليه ، ثم الله ـ تعالى ـ يذكره في الآخرة جميع ما سبق منه في الدنيا فيتذكر (٢) ذلك ؛ فيقول : (يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) ، أي : يا ليتني قدمت لنفسي حياة تسلم لي ، أو حياة تبقى لي لذتها ، فهذا هو تلهفه وتذكره في ذلك اليوم ، يتلهف على ما فاته من الخيرات ، ويندم على ارتكابه المعاصي وكفرانه نعم الله تعالى.

ومعنى قولنا : حياة تسلم لي ؛ فأتلذذ بها : هو أن الكافر ، وإن كانت له حياة في الظاهر ، فإنما حياته للتعذيب ، فتلك له في الحقيقة ليست بحياة ، بل هي إهلاك ؛ ألا ترى أن الإنسان إذا أخذ في النزع فهو في ذلك الوقت حي بعد ، لكن حياته للإهلاك ، فليست هي في الحقيقة حياة لكنها إهلاك فعلى ذلك حياة المخلد في النار.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ. وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ) :

قرئت هذه الآية على نصب الذال والثاء (٣) ، وعلى الخفض فيهما :

فمن قرأهما على الخفض فهو يحتمل وجهين :

أحدهما : أن العذاب في الدنيا وإن اشتد من الملوك على الإنسان ، فهو لا يبلغ عذاب الله تعالى لأعدائه في الآخرة وإن خف.

أو (لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ) ، أي : لا ينبغي لأحد في الدنيا أن يعذب أحدا بعذاب الله ـ

__________________

(١) في ب : لا تقع.

(٢) في ب : فيذكر.

(٣) رواها مالك بن الحويرث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخرجه سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن مردويه ، وابن جرير ، والبغوي ، والحاكم وصححه ، وأبو نعيم عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٨٨).

٥٢٧

تعالى ـ وهو النار ، كما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا يعذب أحد بعذاب الله تعالى» (١) وإن كان على النصب ، فهو يحتمل وجهين أيضا :

أحدهما : أن يكون التأويل منصرفا إلى صنف من الكفرة ، وهم الذين بلغوا في الكفر أعلى (٢) مراتبه ؛ فلا يعذب من دونهم بعذابهم.

والثاني : ألا يعذب أحد مكان أحد كما يفعله ملوك الدنيا في أنهم يعذبون الوالد مكان الولد ، ويعذبون من يتصل بالذين استوجبوا العذاب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) :

فالمطمئنة : هي الساكنة التي لا ترتاب ، ولا تضطرب ؛ فتكون طمأنينتها بوعد الله ووعيده ، وأمره ونهيه ، وتوحيده.

ثم يجوز أن يكون هذا في أمر الدنيا ؛ فيكون قوله ـ عزوجل ـ : (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) ، أي : ارجعي إلى ما أمرك ربك (راضِيَةً) بوعد الله ووعيده ؛ فتكون راضية بالذي وعد لها في الآخرة جزاء لكدحها وسعيها في الدنيا ، (مَرْضِيَّةً) عند الله تعالى.

(فَادْخُلِي فِي عِبادِي) ، أي : مع عبادي الصالحين.

(وَادْخُلِي جَنَّتِي) ، أي : ادخلي فيما يستوجب به الجنة.

وجائز أن يكون هذا في الآخرة ، وهو : أن يقال للنفس التي اطمأنت في الدنيا بوعد الله ووعيده ، وعملت بطاعته : (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً. فَادْخُلِي فِي عِبادِي. وَادْخُلِي جَنَّتِي).

وقيل : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) بالدنيا (ارْجِعِي) إلى طلب الآخرة ، وما أعد الله تعالى لأوليائه فيها.

وقيل : (الْمُطْمَئِنَّةُ) على عباده ، (ارْجِعِي) إلى طاعة الله تعالى ؛ فإنك إذا فعلت ذلك ، رضي الله تعالى عنك ، ورضيت بعطاء الله تعالى وثوابه إياك في الآخرة ، والله أعلم [بالصواب ، وإليه المرجع والمآب](٣).

* * *

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس موقوفا كما في الدر المنثور (٦ / ٥٨٨).

(٢) في ب : على.

(٣) سقط في ب.

٥٢٨

سورة «لا أقسم بهذا البلد»

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (٢) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (٤) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (٦) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (٧) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (٩) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ)(١٠)

قوله ـ عزوجل ـ : (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) :

اختلف في قوله : (لا) :

قال بعضهم : (لا) هاهنا في موضع الدفع والرد لمنازعة كانت بين قوم ؛ فدفع الله ـ تعالى ـ المنازعة من بينهم بقوله : (لا) ، وكانت تلك المنازعة معروفة فيما بينهم ؛ فترك ذكرها لذلك ، كما ذكر الجواب في بعض السور ولم يذكر السؤال ؛ لما كان السؤال عندهم معروفا ؛ فترك ذكره ، وهو كقوله : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) [الزلزلة : ١] ، وغير ذلك.

ومنهم من يقول بأن حرف (لا) مرة يستعمل في حق الصلة والتأكيد ، ومرة في موضع النفى ، [و] يظهر مراده بما يعقبه من الكلام : فإن كان الذي يعقبه إثباتا ، فهو بحق التأكيد ، وإن كان الذي يعقبه من الكلام نفيا فهو في موضع النفي.

ثم الذي عقبه من الكلام إثبات ، وليس بنفي ؛ فدل أنه في موضع التأكيد ؛ فكأنه قال : لأقسم بهذا البلد ، ثم كان حقه أن يقول : «لأقسمن بهذا البلد» بإثبات النون ، كما يقال : «لأفعلن» ، في اليمين ، لكن نون التأكيد قد تذكر في موضع القسم ، وقد لا تذكر ، قال الله تعالى : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) [النحل : ١٢٤] ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (بِهذَا الْبَلَدِ) قالوا (١) : أريد بهذا البلد : مكة ، فأقسم بها بما عظم شأنها بما سبق ذكرنا له ، ولخاصة هي معظمة في أعين أهلها ، ثم كان من عادة الكفرة القسم بكل ما يعظمونه ؛ فعاملهم الله ـ تعالى ـ من الوجه الذي جرت به العادة فيما بينهم ؛ ليؤكد ما قصد إليه بالقسم ؛ [فيزيل عنه](٢) الشبه التي اعترضت لهم.

وقوله : (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) :

قال بعضهم : (وَأَنْتَ حِلٌ) : نازلها من الحلول.

__________________

(١) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٣٧٢٢٤) ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٩١) وهو قول مجاهد ، وعطاء ، وغيرهما.

(٢) في ب : ويزيل عنهم.

٥٢٩

وقال بعضهم (١) : وأنت حلال بهذا البلد ، والحل والحلال لغتان.

فإن كان على هذا فالحل غير منصرف إلى نفسه ؛ وإنما انصرف إلى ما أحل له ؛ لأنه لا يجوز أن يكون هو بنفسه حلالا أو حراما ؛ فالحل والحرمة إذا أضيفا إلى من له الحل والحرمة فإنما يراد بالحل والحرمة الشيء الذي أحل له ، والشيء الذي حرم عليه ، لا أن يكون الوصف راجعا إلى المضاف إليه ، فإذا قيل : هذا محرم ، أريد به أن الأشياء محرمة عليه ، وإذا قيل : هذا حلال ليس بمحرم أريد به أن الأشياء له حلال ، وإذا أضيفا إلى من لا يخاطب بالحل والحرمة ، أريد بهما عين ذلك الشيء كقوله : هذا لحم حلال أو صيد حلال ، وهذا لحم حرام ؛ فيريد أن ذلك اللحم حلال ، وذلك الصيد حرام أو حلال.

ثم اختلفوا في الذي أحل له :

فمنهم من صرفه إلى القتال ، فقال بأنه أحل له القتال فيها ، وذلك يوم فتح مكة.

ومنهم من قال بأنه أحل له الدخول فيها إذا جاء من الآفاق بغير إحرام ، ولا يحل ذلك لغيره.

وروي عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم فتح مكة : «إن مكة حرام ، حرمها الله ـ تعالى ـ يوم خلق السموات والأرض والشمس والقمر ، ووضع هذين الجبلين ، لم تحل لأحد قبلي ، ولا تحل لأحد بعدي ، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار ، وهي ساعتي هذه ، هي حرام بحرام الله تعالى إلى يوم القيامة ، لا يختلى خلاها ، ولا يعضد (٢) شوكها ولا ينفر صيدها ، ولا يرفع لقطتها ، إلا من نشدها» ، فقال العباس ـ رضي الله عنه ـ : إلا الإذخر يا رسول الله ؛ فإنه لا غنى لأهل مكة عنه للقبر والبنيان؟ فقال ـ عليه‌السلام ـ : «إلا الإذخر» فبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنها قد أحلت له ساعة من نهار.

والحل يحتمل الوجهين اللذين ذكرناهما.

وذكر أبو بكر الأصم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يؤذيه أهل مكة ؛ فيتأذى بهم ؛ فيخرج من بين أظهرهم ؛ فيحل له الصيد في ذلك الوقت.

ولكن لا يسع صرف التأويل إلى هذا ؛ إذ لا يعرف مثل هذا إلا بالخبر والنقل.

ثم في قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على لسان العباس ـ رضي الله عنه ـ : «إلا الإذخر» دلالة أن

__________________

(١) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٣٧٢٣١) ، وابن مردويه عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٩١) وهو قول مجاهد وقتادة وعطاء وغيرهم.

(٢) في ب : يعقد.

٥٣٠

التحريم لم يكن منصرفا إليه ، ويحتمل أن يكون التحريم شاملا له ، ثم استثناه بما ذكر العباس ـ رضي الله عنه ـ من حاجة أهل مكة إليه ؛ لما لم يكن بين ما ذكر من التحريم والتحليل كثير مدة يجري في مثلها النسخ ، ولكن ترك بيان الحل إلى أن سأله العباس ـ رضي الله عنه ـ ثم بين.

وهو دليل قول أصحابنا ـ رحمهم‌الله ـ : إن تأخير البيان جائز.

ثم قوله ـ عزوجل ـ : (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون القسم منصرفا إلى نفسه ؛ فأقسم به ؛ لما عظم من أمره وشأنه ؛ كأنه قال ـ عزوجل ـ : (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) وبالذى هو حل بهذا البلد.

أو يكون منصرفا إلى مكة ، ويكون قوله : (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) خرج مخرج التعريف بمكة ؛ لكونه فيها ، أي : البلد الذي أنت نازل به ، وحال به ، أو حلال فيه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَوالِدٍ وَما وَلَدَ) :

قال بعضهم (١) : الوالد هو آدم عليه‌السلام (وَما وَلَدَ) : هم أولاده وذريته ، ولكن آدم ـ عليه‌السلام ـ وأولاده ليسوا بمخصوصين بالدخول تحت اسم الولد والوالد ؛ بل ذلك فيهم ، وفي جملة الروحانيين ؛ فيكون القسم بالخلائق أجمع ، ويكون (وَما) على هذا التأويل بمعنى «الذي» (٢).

ومنهم من جعل ال «ما» : «ما» جحد ؛ فقال : (وَما وَلَدَ) أي : الذي لا يلد وهو العاقر ، فأقسم بالبشر جملة (٣) من يلد منهم ومن [لا](٤) يلد ، وأقسم بهم ـ أيضا ـ لما جعلهم مفضلين على كثير من الخلائق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) :

قال بعضهم (٥) : الكبد : الانتصاب ، أخبر [أنه] خلق الإنسان منتصبا ، وخلق كل دابة منكبا.

وقال بعضهم (٦) : الكبد : الشدة والمعاناة.

__________________

(١) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير (٣٧٢٤٨ ، ٣٧٢٤٩) ، والفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٩٣) وهو قول قتادة ، وأبي صالح ، والضحاك ، وغيرهم.

(٢) في ب : والذي.

(٣) في ب : حملوا.

(٤) سقط في ب.

(٥) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٣٧٢٦٩) ، وسعيد بن منصور ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٩٣) ، وهو قول عكرمة ، وإبراهيم ، والضحاك ، وغيرهم.

(٦) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٩٣) وهو قول الحسن ومجاهد وغيرهما.

٥٣١

وقال بعضهم (١) : خلقه منتصبا في بطن أمه ، ثم يقلب وقت الانفصال.

ولقائل أن يقول : أي حكمة في ذكر هذا وفي تأكيده بالقسم ، وكل يعلم أنه خلق كذلك؟

فجوابه أن في ذكر هذا إبانة أنهم لم يخلقوا عبثا باطلا ، بل خلقهم الله تعالى ليمتحنهم ويأمرهم بالعبادة ، كما قال : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦].

فإن كان التأويل منصرفا إلى الشدة والمعاناة فتأويله : أنه خلقهم ليكابدوا المعاش والمعاد جميعا ، وخلقهم للشدة ؛ ليعتبروا ويتذكروا.

وإن كان منصرفا إلى الانتصاب ، ففيه تعريف لعظم نعم الله ـ تعالى ـ عليهم من غير أن كانوا مستوجبين لذلك ؛ ليستأدي منهم الشكر بذلك.

وإن كان التأويل على ما ذكر أنه خلقه منتصبا في بطن أمه ، ثم يقلب وقت الانفصال ، ففيه أن الله ـ تعالى ـ قادر على ما يشاء ، وأنه لا يعجزه شيء ؛ لأنه لا يتهيأ لأحد أن يقلب أحدا ، فيجعل أعلاه أسفله ، إلا أن يجد مثله في المكان سعة ، ثم إن الله ـ تعالى ـ قلبه ، فجعله أعلاه أسفله في ذلك المكان الضيق ، فتبين لهم ألّا يعجزه شيء ؛ فيحملهم ذلك على الإيمان بالبعث والنشور ، والله أعلم.

ومعنى قوله : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) عندنا : لقد خلقنا الإنسان لما له يكابد ، فإن كانت مكابدته في طاعة الله تعالى ، وكان مؤثرا لها ـ فقد خلق للجنة ، وإن كانت مكابدته في أمر الشيطان ، فهو للنار خلق ، وعلى هذا يخرج قوله ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) [الأعراف : ١٧٩] ، أي : ذرأ من يعلم أنه يؤثر طاعة الشيطان وعصيان الرحمن لجهنم ، وذرأ من يعلم أنه يعبد الله ويوحده للعبادة بقوله : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦]. والأصل : أن الحكيم أبدا يقصد بفعله العاقبة إلا الذي ليست له معرفة بالعاقبة ، فأما (٢) من عرف العاقبة فابتداء فعله يقع لتلك العاقبة ، فإن كانت عاقبته النار ؛ فابتداء الخلق من الله ـ تعالى ـ يقع لذلك الوجه ، وإن (٣) كانت عاقبته الجنة فهو لذلك الوجه ما خلق ؛ فعلى هذا يخرج تأويل قوله ـ عليه‌السلام ـ : «السعيد من سعد في بطن أمه ، والشقي من شقي في بطن أمه» وهو لا يوصف بالسعادة

__________________

(١) قاله ابن عباس أخرجه ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة من طريقين عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٩٣ ، ٥٩٤).

(٢) في ب : فلما.

(٣) في ب : فإن.

٥٣٢

والشقاوة في ذلك الوقت ؛ ولكن معناه أنه : إذا آثر الشقاوة في حالة الامتحان خلق كذلك ، وإذا آثر السعادة فكذلك أيضا.

وقال نوح ـ عليه‌السلام ـ : (وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) [نوح : ٢٧] ، وهم في وقت ما ولدوا غير موصوفين بواحد من الوصفين ، بل يصيرون كذلك ؛ فيتبين أنهم خلقوا لذلك ؛ فموقع القسم على ما له يكابد ، ليس على المكابدة نفسها ؛ لأن المكابدة من الإنسان ظاهرة لا يحتاج إلى تأكيدها بالقسم.

وقولنا : إن المقصود من ابتداء الفعل العاقبة قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا أردت أمرا فدبر عاقبته ، فإن كانت رشدا فأمضه ، وإن كانت غيا فانته».

وزعمت المعتزلة أن الله ـ تعالى ـ لم يخلق أحدا من البشر إلا ليعبده ، ولو كان الأمر على ما زعموا وظنوا ، لأدى ذلك إلى الجهل بالعواقب ، أو وجب أن يكون الفعل (١) خارجا مخرج الخطأ ؛ لأن كل من صنع أمرا يريد غير الذي يكون جاهلا بالعواقب ، أو عابثا بالفعل ؛ لأن من يبني (٢) لشيء يعلم أنه لا يكون ، عد ذلك منه عبثا ، ولو كان غير الذي يريده ، وهو أن يبني ليسكن [فيه](٣) ، ثم ينقض قبل أن يسكن ، كان الذي حمله على البناء جهله بالعواقب. وجل الله ـ تعالى ـ من أن يلحقه خطأ في التدبير أو جهل بالعواقب ؛ فثبت بما ذكرنا أن الله ـ تعالى ـ شاء لكل فريق ما علم الذي يكون منهم ، وخلقهم لذلك الوجه دون أن يكون خلق الجملة للعبادة ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ. يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً. أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) :

فالآية تحتمل وجهين :

أحدهما : [أن](٤) يكون حسب أن الله ـ تعالى ـ لا يقدر على بعثه ؛ فيكون قوله : (أَحَدٌ) هو الله تعالى.

(يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً) أي : جما : (أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) ، أي : أنفقت منه مقدار ما يخرج عن حد الإحصاء.

وقوله (٥) : (لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) ، أي : لم يعلم أحد مبلغ ما أنفق من ذلك.

__________________

(١) في أ : العقل.

(٢) في أ : أنشأه.

(٣) سقط في ب.

(٤) سقط في ب.

(٥) في ب : قوله.

٥٣٣

أو يكون قوله : (أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) ، أي : لم يعلم أتباعه الذين أنفق عليهم مقدار ما أنفق عليهم ؛ فيكون في قوله ـ تعالى ـ : (أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً) إظهار منه لسخاوته (١) وجوده ، على الافتخار منه بذلك ، وامتنانا منه على أتباعه ، فإن كان على هذا فهو في أمر الدنيا ، وقد علم الله (٢) القدر الذي أنفق عليهم ، وعلم الخلق سخاوته لا بقوله ؛ فليس اشتغاله في إظهار الجود والامتنان إلا نوع من السفه ، وكان الذي يحق عليه الاشتغال بالشكر لله ـ تعالى ـ أو توجيه الحمد إليه ؛ لما علم أن الذي أنعم به من المال الكثير من الله تعالى ، وأن تلك المنقبة ـ وهي السخاوة ـ نالها بالله تعالى ، وهذا كقوله ـ تعالى ـ : (فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) [البقرة : ٢٠٠] ، أي : آباؤكم لم ينالوا ما تذكرون من الشرف والمناقب الحميدة إلا بالله ـ تعالى ـ فاذكروه كذكركم آباءكم ، وهذا النوع من الافتخار راجع إلى الخصائص من القوم لا إلى الجملة ؛ إذ كل أحد يقول مثل (٣) ذلك : إنه أهلك مالا لبدا ، وفعل كذا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ. وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ) :

فإن كان قوله : (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) على نفي القدرة على البعث ، ففي ذكر العينين نفي تلك الشبهة ، وهو أن الله ـ تعالى ـ أنشأ له بصرا يرى بفتحة واحدة ما بين السماء والأرض ، فمن بلغت قدرته هذا لا يعجزه شيء أو يخفى عليه أمر ، فقوله : (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ) ، أي : ألم نخلق له عينين يدرك بهما المحسوسات بالنظر ، وجعلنا لهما جفونا وأشفارا يدفع بهن القذى عن عينيه ، ويغضهما بهن عن النظر إلى ما لا يعنيه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلِساناً) أي : خلقنا له لسانا يحضر به ما غاب واستتر.

وقوله : (وَشَفَتَيْنِ) ففي خلق الشفتين وجهان من الحكمة.

أحدهما : أنه جعلهما طبقا يستران قبح ما في فمه ، ولولاهما لكان الناظر إليه وقت مضغه الطعام أو شيئا من الأشياء ، استقذر ذلك منه.

وجعلهما طبقا للسانه ؛ لئلا يمده ، ويستعمله فيما لا يعنيه.

فذكرهم عظيم نعمه في خلق العينين واللسان والشفتين ؛ ليستأدي منهم الشكر ، وليعلموا أن الذي بلغت قدرته هذا ، ليس بالذي يعجزه شيء.

وقوله : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ).

__________________

(١) في أ : السخاوة.

(٢) في ب : أتباعه.

(٣) في ب : قبل.

٥٣٤

أي : بينا له ما عليه ، وما له ، وما يحمد عليه ، وما يذم ، وما يقبح ويجمل ، والنجد : الطريق ، فبين [للخلق](١) الطريقين جميعا : طريق الخير والشر ، ومكنهم من الفعلين جميعا.

وقال بعضهم (٢) : النجدان : الثديان ، أي : هديناه الثديين في حالة الإرضاع.

ولكن التبيين والهداية لم ينصرف إلى هذا خصوصا ، بل هذا من بعض ما هداه وبينه ، فقد بين له غيره من الأمور ، ولا قيد في اللفظ ؛ فيحمل على الإطلاق والعموم.

قوله تعالى : (فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (١٥) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (١٦) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (١٧) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (١٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ)(٢٠)

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) :

قيل : فيه من وجهين :

أحدهما : فهلا اقتحم العقبة.

والثاني : أنه لم يقتحم.

فإن كان على الأول ، فمعناه : أن الذي قال : أنفقت مالا لبدا ، كيف لا كان إنفاقه في فك الرقبة ، وفي الإنفاق على اليتيم والمسكين الذي بلغ به الجهد إلى أن ألصق (٣) بالتراب؟ ويكون من جملة من آمن بالله ـ تعالى ـ وتواصى بالصبر والمرحمة ؛ ليكون من أصحاب الميمنة ، ويكسب بذلك الحياة الطيبة في الآخرة دون أن تكون العاقبة في الملاهي وشهوات النفس ؛ فلم يحصل لنفسه حمدا ولا أجرا في العقبى ، بل صار من أصحاب المشأمة ، فيكون ما بعد قوله : (أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً) [البلد : ٦] صلة له وتفسيرا.

وإن كان التأويل على النفي ، ففيه تكذيبه فيما زعم أنه أنفق مالا لبدا ، فيقول : لو كان على ما يظن ، لظهر ذلك ، بفك الرقاب والمواساة على اليتيم وعلى المسكين الذي هو ذو متربة ؛ فيكون هذا كله صلة قوله ـ عزوجل ـ : (أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً) أيضا.

ثم قيل في العقبة من وجهين :

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٣٧٣٠٦) ، وعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم من طرق عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٩٥).

(٣) في ب : لصق.

٥٣٥

أحدهما : على تحقيق العقبة ، وهو أن يكون في النار عقبة لا تجاوز ولا تقطع إلا بما ذكر من فك الرقبة والإطعام في يوم ذي مسغبة ، كقوله ـ تعالى ـ : (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) [المدثر : ١٧].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ) على تحقيق العقبة ، معناه : وما يدريك بم تقطع تلك العقبة؟ ثم بين أنها تقطع بما ذكر من فك الرقبة ونحوه.

وجائز أن يكون على التمثيل لا على التحقق ، ووجهه : أنه يشتد عليه تحمل المؤن التي ذكر من فك الرقبة ، وإطعام المساكين ، ومواساة اليتيم ؛ فتكون العقبة كناية عن تحمل المؤن ، لا على العقبة نفسها ، وهو كقوله : (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) [الأنعام : ١٢٥] ، أي : يصير الإيمان عليه في الشدة والثقل كأنه كلف الصعود إلى السماء ، ويشتد على الأول تحمل المؤن ، كما يشتد عليه قطع العقبة والصعود عليها.

والاقتحام : هو رمي النفس في المهالك.

وقيل : الاقتحام : هو تحمل المؤن :

فإن كان على تحمل المؤن ، فوجهه ما ذكرنا : أن كيف لم يتحمل هذه المؤن ؛ ليصير من أهل الميمنة؟

وإن كان على الرمي في المهالك ؛ فكأنه يقول : قد أهلك نفسه بتركه الإنفاق (١) في الوجوه التي ذكر ، والإعراض عن الإيمان بالله تعالى ، بتركه فكاك الرقبة.

وروى أبو بكر الأصم في تفسيره خبرا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن رجلا سأله فقال : يا رسول الله ، دلني على عمل أدخل به الجنة ؛ فأمره بعتق النسمة ، وفك الرقبة ؛ فقال السائل : أليسا (٢) هما واحدا؟ فقال [النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم](٣) : «لا ؛ عتق النسمة : أن تعتقها ، وفك الرقبة : أن تعين على فكاكها» (٤).

ففكاك الرقبة : أن تخلصها من وجوه المهالك ، وذلك يكون بالتخليص عن ذل الرق ، وأن ترى إنسانا يهم بقتل آخر بغير حق ؛ فتدفع عن المظلوم شر الظالم ، وتراه يغرق ؛

__________________

(١) في أ : الإنصاف.

(٢) في ب : أليستا.

(٣) في ب : عليه‌السلام.

(٤) أخرجه أحمد ، وابن حبان ، وابن مردويه ، والبيهقي من حديث البراء كما في الدر المنثور (٦ / ٥٩٧).

٥٣٦

فتخلصه عن ذلك ؛ فيكون في ذلك كله فكاك الرقبة عن المهالك ؛ لتكتسب (١) بها الحياة الطيبة في الآخرة.

واختلف القراء في هذا الحرف :

فمنهم من قرأه (٢) : فك رقبة أو أطعم (٣) في يوم ذي مسغبة على النصب.

ومنهم من قرأه (٤) : فك رقبة* أو أطعم على الرفع.

فإذا قرأته بالنصب ، فمعناه : هلا فك رقبة ، أو أطعم ؛ فيكون راجعا إلى تفسير الاقتحام.

وإذا قرأته بالرفع ، انصرف التأويل إلى تفسير العقبة ؛ فكأنه قال : قطع العقبة يكون بالفك وبما ذكر.

وذكر عن سفيان بن عيينة ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : كل ما في القرآن : (وَما أَدْراكَ) ، فقد أعلمه ودرّاه ، وكل ما فيه (وَما يُدْرِيكَ) [الأحزاب : ٦٣] فهو لم يعلمه ، والله أعلم.

والمسغبة : المجاعة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ذا مَقْرَبَةٍ) :

أي : ذا قرابة منه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ذا مَتْرَبَةٍ) :

أي : ألصق بطنه بالتراب.

وقيل (٥) : الذي ليس له شيء يحجبه عن التراب.

ثم في قوله : (يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ) دلالة وجوب حق اليتيم على القريب إذا كان محتاجا ؛ فيكون فيه حجة لقول أصحابنا : إن اليتيم إذا كان محتاجا ، فرضت نفقته على أقربائه.

وفي قوله : (أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) دلالة أن المسكين الذي وصفه ، وهو ألا يكون بينه وبين التراب حائل ، فكفايته تلزم الخلق جملة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) :

فتأويله أنه لا ينفعه فك الرقبة ولا الإطعام ؛ حتى يكون مؤمنا مع ذلك ، متواصيا بالصبر

__________________

(١) في ب : لكسب.

(٢) في ب : قرأ.

(٣) في ب : قرأ.

(٤) في أ : إطعام.

(٥) قاله ابن عباس أخرجه الفريابي ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير (٣٧٣٣٤ ، ٣٧٣٣٩ ، ٣٧٣٤٠) ، وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٩٧ ، ٥٩٨).

٥٣٧

والمرحمة ، فإذا كان كذلك ؛ فحينئذ يحصل قاطعا للعقبة.

وجائز أن يكون الصبر أريد به الإيمان ؛ كقوله : (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [هود : ١١] ، أي : آمنوا.

والتواصي بالصبر والمرحمة هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ إذ التواصي مأخوذ من الوصية ، وهذا يوجب أن يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في اعتقاد الإيمان.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) :

أي : أصحاب الميامن ، وهم أهل اليمن.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ) :

أي : أصحاب الشؤم على أنفسهم ؛ حيث عملوا بالمعاصي ، واستوجبوا بها نارا مؤصدة ، وهي المؤصدة المطبقة المبهمة ، وصفة الإطباق ما ذكر في آية أخرى ، وذلك قوله ـ تعالى ـ : (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) [الزمر : ١٦] ، وقال [الله](١) تعالى : (أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها ..). الآية [الكهف : ٢٩] ، والله أعلم.

* * *

__________________

(١) سقط في ب.

٥٣٨

سورة الشمس

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (وَالشَّمْسِ وَضُحاها (١) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (٢) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (٤) وَالسَّماءِ وَما بَناها (٥) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (٦) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (٨) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (٩) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها)(١٠)

قوله ـ عزوجل ـ : (وَالشَّمْسِ وَضُحاها).

قالوا : تأويله (١) : والشمس وضوئها.

وقيل : وحرها.

وقيل : وبهائها.

وهذا في موضع القسم ؛ وذلك لأن الله ـ تعالى ـ جعل في الشمس معاني تدل على لطائف حكمته و [عجائب تدبيره ، وجعلها في النهاية من البركات ، وفي النهاية من الآيات ، فمن](٢) عجيب تدبيره أنه جعل نورها بحيث يهلك نور الظل حتى إذا بدت في مكان أذهبت نور الظل ، ونور السراج ، ونور القمر ، وستر نورها الكواكب عن أن ترى ، وجعلها بحيث يظهر بها هباء الهواء ، فبين أن الهواء ذا هباء ؛ ألا ترى أنك إذا نظرت في المشكاة حين سقوط الشمس فيها تبين لك بها هباء الهواء ، ولو أراد أحد من الخلائق أن يتدارك المعنى الذي به استنار هذا الشمس كل هذا لم يقف عليه.

ثم من بركتها أن بحرارتها مصالح الأغذية ، وبها مصالح النبات ، وبها ييبس (٣) الحب ، وبها تنضج الفواكه.

ومن عجيب تدبيره أنه جعلها بالنائي عن كل شيء له بها صلاح ؛ إذ لو دنت منها ، لكانت تحرق الأشياء كلها.

ومن آياتها أن جعلت بحيث تسير وتقطع كل يوم مسيرة ألف عام ما يتعذر على الذي خلق للسير والمشي قطع تلك المسافة بمدد كثيرة.

وهي أيضا تظهر جود الرب ـ جل جلاله ـ لأن منافعها تعم الخلق كلهم : برهم وفاجرهم ، والولي منهم والعدو.

__________________

(١) قاله ابن عباس أخرجه الحاكم من طريق مجاهد عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٩٩) وهو قول مجاهد أيضا.

(٢) سقط في ب.

(٣) في أ : يكبس.

٥٣٩

فأقسم الله ـ تعالى ـ بها ؛ ليزيل عن الكفرة الشبهة التي تعرض لهم في أمر الدين ؛ إما في التوحيد ، أو في الرسالة ، أو في البعث ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) :

جائز أن يتلوها في كل ما ذكرنا في الشمس من المنافع والمعاني ؛ فيكون ثانيها في العمل ، فإنه يقع به صلاح الأغذية أيضا ، وهو ينير أيضا إلا أنه لا ينتهي منتهاها ولا يبلغ مبلغها ، والله أعلم.

وقال بعضهم (١) : إذا تلاها ، أي : يتلوها في أول ما يهل ؛ فإنه إذا وجبت الشمس في آخر اليوم من الشهر تلا غروبها طلوع الهلال.

وقال بعضهم : إنه يتلوها إذا صار بدرا ، وفي هذا دلالة أن منشئهما واحد ؛ لأن منافعهما تعم الخلق جميعا ، ولو لم يكن مدبرهما واحدا ، لكانت لا تعم ، بل يمنع كل واحد منهما منشأه عن إيصال النفع إلى قوم عدوه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها) :

يحتمل أوجها :

يحتمل أن يكون النهار جلى الدنيا.

ويحتمل أن يكون جلى الأرض (٢).

ويحتمل أن يكون جلى الشمس.

ويحتمل أن تكون تجلى الأبصار بنورها عن ظلمة الليل التي يغشاها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها) :

ينصرف إلى الأوجه التي ذكرنا أيضا ، أي : يغشى الدنيا ، أو الأرض ، أو الشمس ، أو يغشى الأبصار بظلمتها عن الخلائق ، والله أعلم.

ثم لليل والنهار زيادة سلطان ليست للشمس ولا للقمر ؛ لأن من سلطان الليل والنهار أنهما يفنيان الآجال ، ويقطعان الأعمال ، ولا يتهيأ لأحد الامتناع والتحرز (٣) من سلطانهما ، ويتهيأ للخلق دفع أذى الشمس والقمر عن أنفسهم بالحيل والأسباب ؛ فكان في ذكر الليل والنهار زيادة معنى ليس ذلك في ذكر الشمس والقمر.

__________________

(١) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٣٧٣٦٢ ، ٣٧٣٦٣) ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٦٠١).

(٢) في ب : بالأرض.

(٣) في ب : التحذير.

٥٤٠