تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٩٥

وقوله ـ عزوجل ـ (فَاجْتَباهُ رَبُّهُ).

أي : اختاره واصطفاه للرسالة ؛ ألا ترى إلى قوله : (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) [الصافات : ١٤٧].

[وقوله : (فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ).

فهذا وصف كل نبي في الآخرة](١).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ ..). [الآية](٢).

منهم (٣) من يقول : هذا على التحقيق ، وصرف ذلك إلى قوم بأعيانهم قد عرفوا بخبث الأعين وحلول الآفات بمن يعينونه من أهل الشرف والتبجيل ، ثم الله ـ تعالى ـ بفضله عصم رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يتهيأ لهم أن يعينوه ، فكان فيه تقرير رسالته وآية نبوته عند أولئك الكفرة.

فإن قال قائل : إنهم كانوا يعدون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المجانين ، ويقولون : إنه لمجنون ، والمجنون لا يعان ، وإنما يعان أهل الشرف والحجا وذوو الأحلام والنهى ، فما أنكرت (٤) أنه سلم من الآفة حتى يقصد إليه بالعينة.

فجوابه أنهم وإن كانوا يعدونه من جملة المجانين ، فإنهم سمعوا منه ذكرا عجبا وهو القرآن ، ومن أعطي مثل ذلك الذكر والشرف ، فهو مما (٥) يقصد إليه بالحسد ، فكانوا يعينونه لذلك المعنى ، ثم لم يضره كيدهم ، ولا نفذت فيه حيلهم ؛ فأوجب ذلك تنبيههم (٦) أنه رسول من الله تعالى.

ومنهم من حمله على التمثيل ليس على التحقيق ، فيقول : وإن يكاد (٧) الذين كفروا لشدة بغضهم وعداوتهم إياك ، ليزلقونك بأبصارهم ، كما يقال : نظر إلى فلان نظرا كاد أن يقتلني ، فيقوله على التمثيل.

ثم قوله : (لَيُزْلِقُونَكَ) أي : يسقطونك ويصرعونك.

وقوله : (لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) وهو القرآن.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : فمنهم.

(٤) في أ : فأنكرت.

(٥) في ب : ما.

(٦) في أ : بينهم.

(٧) في ب : كاد.

١٦١

وقوله : (وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ).

قد وصفنا أنهم لأي معنى كانوا ينسبونه إلى الجنون ، وذكرنا ما يرد عليهم مقالتهم ، وينفي عنهم الريب والإشكال.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ).

فجائز أن يكون الذكر هو القرآن ، وجائز أن يكون أريد به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ قد تقدم ذكرهما جميعا ؛ إذ كل واحد منهما ذكر ، يذكر ما للخلق ، وما على الخلق ، وما ينتهي إليه عواقبهم ، ويذكر ما يؤتى وما يتقى ، والله أعلم [بالصواب](١).

* * *

__________________

(١) سقط في ب.

١٦٢

سورة الحاقة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (٣) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (٤) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (٥) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (٦) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (٧) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (٨) وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (٩) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (١٠) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (١١) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ)(١٢)

قوله ـ عزوجل ـ : (الْحَاقَّةُ. مَا الْحَاقَّةُ).

قد ذكرنا أن يوم القيامة سمي بأسماء النوازل التي تكون من البلايا والشدائد ؛ ليقع بها التخويف والتهويل ، وليس في تبيين وقته ولا في ذكر عينه ترهيب ولا ترغيب ، فذكر ذلك اليوم بالأسباب التي هي أسباب الزجر والردع ؛ فقوله : (الْحَاقَّةُ) أي : حقت لكل عامل عمله ، وتحق لكل ذي حق حقه ، فإن كان من أهل النار استوجبها ، وإن كان من أهل الجنة دخلها.

وقال بعضهم : الحاقة هي النار التي لا ترتفع أبدا ، وهو ما ينزل بالخلق من الجزاء وأنواع ما وعدوا به يوم القيامة.

وقيل : هي الواجبة مثل قوله : (وَحاقَ بِهِمْ) [الزمر : ٤٨] أي : وجب ، ونزل بهم.

والأصل أن القيامة سميت بالأحوال التي يبتلى (١) الخلق بها فيها ؛ من نحو : القارعة ، والواقعة ، والتناد ، والطامة ، والصاخة ، ونحو ذلك مما جاء في القرآن ، أخذت أسماؤها من أحوال ما يبتلى (٢) الخلق بها ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (مَا الْحَاقَّةُ).

فهو على تعظيم أمر ذلك اليوم أيضا ، كما يقال : فلان ما فلان ؛ إذا وصف بالغاية في القوة والسخاوة ، ونحوه.

وقوله : (وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ) ، أي فهو على تعظيم أمر ذلك اليوم ، أيضا أو (وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ) ، أي : لم تكن تدري ما ذلك اليوم؟ فأدراك (٣) الله تعالى ؛ لأنه لم يكن خبر القيامة

__________________

(١) في ب : يبلى.

(٢) في ب : يبلى.

(٣) في ب : فأدراكم.

١٦٣

علمك ولا علم قومك ، لكن الله تعالى أطلعك عليه ؛ لأن قومه كانوا منكري البعث ولم يكن عندهم من خبره شيء ، وذلك أن الله تعالى لما ذكرهم من دلائل البعث إلى جهة تدركها العقول ، والحكمة من إحالة التسوية بين [الفاجر والبر](١) والمطيع والعاصي ، وأنه لا يجوز خروج كون هذا العالم عبثا باطلا ، والدلائل الأخرى (٢) التي لا يأتي عليها الإحصاء ، فلما لم يقنعهم ذلك ، ولم يتفكروا في خلق السموات والأرض ، ولا اعتبروا بالآيات ، احتج عليهم بما لقي سلفهم من مكذبي البعث ومنكري الرسل ، حيث استأصلهم ، فلم يبق لهم سلف ، ولا خلف عنهم خلف ؛ ليكون ذلك أبلغ في الإنذار وذلك قوله : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ) ، ذكرهم بما حل بثمود وعاد وما أصابهم بتكذيبهم الرسل ، يقول : سيصيبكم بتكذيبكم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يخبركم من الأنباء عن الله تعالى كما يصيبهم ما أصاب ثمود وعادا بتكذيبهم رسلهم ؛ لينتهوا عن تكذيبه.

أو يخبرهم (٣) أن ثمود وعادا كذبوا رسلهم حتى صاروا إلى الهلاك ، وندموا على ما سبق من تكذيبهم ، فستندمون أيضا إن دمتم على تكذيبكم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يأتيكم من الأنباء بعد موتكم ، ثم ذكرهم نبأ عاد وثمود وإن كانوا مكذبين بتلك الأنباء ؛ لئلا يبقى لهم يوم القيامة حجة فيقولوا : (إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) [الأعراف : ١٧٢] ولأنهم لو بحثوا عن علم ذلك ، لكانت هذه الآيات والأنباء تحقق لهم (٤) ذلك ، فقد وقعت هذه الآيات موقع الحجاج ، لو لا إغفالهم وإعراضهم عنها ، فانقطع عذرهم ، ولزمتهم الحجة وإن تركوا الإيمان بها.

ثم قوله ـ عزوجل ـ (الْحَاقَّةُ. مَا الْحَاقَّةُ. وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ. كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ) ، وقوله : (الْقارِعَةُ. مَا الْقارِعَةُ. وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ. يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) [القارعة : ١ ـ ٤] يحتمل أن يكون هذا مخاطبة كل مكذب بالبعث لا مخاطبة الرسول (٥) ؛ كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) [الانفطار : ٦] إنه خطاب لمن يغتر بالدنيا لا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وجائز أن [يكون](٦) يخاطب به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن صرف الخطاب إلى الرسول ـ عليه‌السلام ـ اقتضى معنى غير ما يقتضيه لو أريد بالخطاب المكذبون ، والأصل أن قول

__________________

(١) في ب : البر والفاجر.

(٢) في ب : الآخر.

(٣) في أ : يخبر.

(٤) في ب : علم.

(٥) في ب : للرسول.

(٦) سقط في ب.

١٦٤

القائل : (فلان ما فلان) يوجب اجتذاب الأسماع ويستدعي السامع إلى البحث في الشاهد ؛ لأنه إنما يذكر فلانا بهذا ؛ لأعجوبة فيه ، أو لعظم أمره ، فيبحث عن ذلك ؛ ليوقف (١) على تلك الأعجوبة التي فيه ، فإن كان الخطاب للمكذبين دعاهم ذلك إلى تعرف ما فيه من الأعجوبة والتعظيم ، وفي قوله : (وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ) مبالغة في التعجب وإذا نظروا فيه وفهموه دعاهم ذلك إلى الإيمان به ، فصارت الآية في موضع الإغراء واجتذاب الأسماع.

وإن كان الخطاب في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتأويله : أن المكذبين يؤذونه ويمكرون به فيتأذى بهم ، ويشتد ذلك عليه ، فذكر ما ينزل بهم من العذاب ويحق عليهم ؛ فيكون فيه بعض التسلي عما أصابه [من] الأذى من ناحيتهم ، أو ذكره أن العذاب يحق عليهم فلا يحزن بصنيعهم ، بل يحمله ذلك على الشفقة عليهم والرحمة لهم.

وقيل : إن كان الخطاب في المكذبين ، ففيه تخويف لأهل مكة وتهويل أنهم إن كذبوا رسولهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يخبرهم من أمر البعث ، نزل بهم من العذاب ما نزل بعاد وثمود بتكذيبهم الرسل ، وقد عرف أهل مكة ما نزل بأولئك.

وإن كان الخطاب في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ففي ذكر نبأ عاد وثمود ما يدعوه إلى الصبر على أذاهم ، ويكون له بعض التسلي ؛ لأنه يخبر أنك لست بأول رسول كذب ، بل شركتك الرسل من قبل وابتلوا بالتكذيب ، ثم بين ما نزل بعاد وثمود بالتكذيب بالقارعة ، وهو قوله : (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) ، والطاغية [والعاتية](٢) والرابية يمكن أن يجعل هذا كله صفة للعذاب الذي نزل بهم.

وجائز أن يكون صفة الأحوال التي سبقت منهم وما كانوا عليه ، فإن كان هذا صفة العذاب ، فالطغيان عبارة عن الشدة ، والطاغي : هو العاتي ، الشديد لا يراقب ولا يتقي ، فوصف العذاب الذي أرسله عليهم أنه لم يبق منهم أحدا ، بل استأصلهم وأهلكهم بجملتهم.

وقيل : ذلك العذاب هو الصاعقة.

وقيل (٣) : الصيحة ، وسمي : طاغية : ولم يقل : طاغي ؛ لهذا.

__________________

(١) في أ : لتوقفه.

(٢) سقط في ب.

(٣) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٣٤٧٢٣) و (٣٤٧٢٤) وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٤٠٥).

١٦٥

وقيل : اشتق هذا الاسم للعذاب من أفعال من عذب به ليس أنها طاغية ، لكن أخذ اسمه عن فعل القوم ؛ كقوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى : ٤٠] ، وقال : (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) [البقرة : ١٩٤] ، وإنما ذلك كله جزاء سيئاتهم واعتدائهم.

وقيل (١) : (بِالطَّاغِيَةِ) أي : بطغيانهم وذنوبهم الذي سلف منهم ؛ كقوله تعالى : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها) [الشمس : ١١].

ويحتمل أن يكون هذا صفة لأحوالهم التي كانوا عليها من شدة التمرد والعتوّ ومن طغيانهم التكذيب بالحاقة والقارعة ، ففيه تخويف لأهل مكة أن سيهلكهم الله ـ تعالى ـ إن لم ينتهوا عن التكذيب كما أهلك أولئك.

وقوله ـ عزوجل ـ (وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ).

قال الحسن : الريح الصرصر هي الصيحة (٢) ، وهي التي لها صوت.

وقال بعضهم (٣) : هي [الريح الباردة](٤) الشديدة البرد ؛ كقوله : (رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ ..). الآية [آل عمران : ١١٧] ، والصر : البارد ، والصرصر المكرر منه ، فوصفها لدوامها وتكررها.

وقوله ـ عزوجل ـ (عاتِيَةٍ) فتأويلها على ما ذكرنا في الطاغية.

وذكر الكلبي وغيره : أنها سميت : عاتية ؛ لأنها عتت على الخزان فلم يطيقوها ، وهذا لا يستقيم ؛ لأنه لا يجوز أن يوكل الخزان على حفظها ، ثم لا يمكنون من الحفظ حتى تعتوا عليهم ، إلا أن يقال بأنهم لم يوكلوا بحفظها في ذلك الوقت ، فأما إذا وكلوا بحفظها ، ثم لا يجعل لهم إلى حفظها سبيل ، فهذا مستحيل ، والله الموفق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً).

قوله : (سَخَّرَها) قيل : أرسلها.

وقيل : أدامها عليهم.

وقيل : التسخير : التذليل ، أي : ذللها ؛ فصيّرها بحيث لا تمتنع عن المرور عليهم في الوجه الذي جعلها عليهم ، وأطاعته في الوجه الذي أرسلها ، وإنما أرسل الريح على أبدانهم خاصة ، لم تهلك شيئا من مساكنهم ؛ كقوله (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا

__________________

(١) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير (٣٤٧٢١) وعبد بن حميد وابن المنذر عنه ، كما في الدر المنثور (٦ / ٤٠٥) ، وهو قول ابن زيد.

(٢) في أ : القبة.

(٣) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٣٤٧٢٥) وهو قول قتادة ومجاهد.

(٤) في ب : النار.

١٦٦

يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) [الأحقاف : ٢٥] ، والريح إذا عملت على الأبدان ؛ فهي (١) على البنيان أكثر ، لكن الله تعالى لم يأمرها بذلك ، والله أعلم.

ثم قوله : (سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) فيه تبيين أن الأيام لم تكن على عدد الليالي ، ولو كانا على عدد واحد ، لكان في ذكر أحد العددين ذكر العدد الآخر ؛ لأن تسمية الليالي تسمية للأيام ، وتسمية الأيام تسمية الليالي ؛ ألا ترى إلى قوله (٢) في قصة زكريا : (آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً) [آل عمران : ٤١] ، وقال في موضع آخر : (ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا) [مريم : ١٠] ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (حُسُوماً) ، قيل (٣) : متتابعة دائمة.

وقيل : قطعا ، [قطعا](٤) من الحسم ، يقال (٥) : حسمت الريح كل شيء مرت به حسما ، أي : قطعته.

وقيل : مشئومات حيث انقطعت بركتها عنهم.

وقوله تعالى : (فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى).

أي : أنك لو أدركتهم وشهدتهم وعاينتهم ، لرأيتهم صرعى.

(كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ).

وقال بعضهم : أي : ترى الأعضاء المتفرقة ، كل قطعة منها كأنها عجز نخلة ؛ إذ كانوا هم أعظم في أنفسهم من أعجاز النخل ، فيصرف تأويله إلى الأعضاء المتباينة.

ثم ذكر النخل هاهنا بالتأنيث ، فقال : (أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) ، ووصف في سورة (اقْتَرَبَتِ) بصفة التذكير فقال : (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) [القمر : ٢٠] ؛ لأن النخل يذكر ويؤنث ؛ كذا قاله الزجاج.

وقيل : النخل يذكر على كل حال ، لكن قوله : (خاوِيَةٍ) صفة الأعجاز لا صفة النخل ، والأعجاز جماعة ، والجماعة مؤنثة ، والنخل واحد فيذكر ، وليس كذلك ؛ لأن الخاوية صفة النخل ، ألا ترى عند الوصل يذكر بالخفض لا بالرفع.

ولأن النخل اسم جمع ، يقال : نخلة ونخل ؛ كما يقال : شجرة وشجر ، وثمرة وثمر ، ونحو ذلك.

__________________

(١) في أ : فهو.

(٢) في أ : أنه قال.

(٣) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٣٤٧٣٢) وعبد بن حميد عنه ، كما في الدر المنثور (٦ / ٤٠٦) وهو قول ابن مسعود ومجاهد وعكرمة وغيرهم.

(٤) سقط في ب.

(٥) زاد في ب : قطعت.

١٦٧

وقوله ـ عزوجل ـ (خاوِيَةٍ).

قال بعضهم : أي : بالية.

وقيل : الخاوية ، أي : ساقطة ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) [البقرة : ٢٥٩] ، أي : ساقطة على قوائمها.

وقيل : أي : خالية ، فوصفها بالخلاء لأنها أقلعت من أصلها حتى خلا ذلك المكان عنها ، وأعجاز النخل : أصوله.

وقوله ـ عزوجل ـ (فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ).

فيه أنه لم يبق لهم نسل يذكرون بهم ، بل أهلكوا بأجمعهم ، وانقطع نسلهم ، وانقطع عنهم الذكر إلا بالسوء ، وإلا كان يرى لهم باقية ، ففيه أنهم استؤصلوا وعم العذاب الكبير والصغير ، يخوف أهل مكة بما يخبرهم عما فعل بأولئك ، وفيه إخبار أنهم عذبوا بعذاب لا رحمة فيه ، وهكذا سنة الله ـ تعالى ـ في مكذبي الرسل من قبل ، وجعل تعذيب هذه الأمة أن يجاهدوا ويقاتلوا ، فتعذيب هذه الأمة تعذيب فيه رحمة ؛ لأن الصغار منهم لا يقاتلون ، والنساء لا يقاتلن ، بل يسبين رجاء أن يسلمن ؛ فعلى هذا يخرج قوله : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ١٠٧] ، والله أعلم.

ويشبه أن يكون هذا جواب قولهم : إن محمدا صرور ، أي : ليس له ولد يبقي نسله وذكره ، فأخبر ـ تعالى ـ أن كثرة الأولاد لا تغني من الله شيئا ؛ إذ قد كانت لهم أهال وأولاد فأهلكوا عن آخرهم ، وانقطع التناسل منهم ؛ ليعلموا [أنه يبقى ذكر](١) لمن أطاع الله ـ تعالى ـ ورسوله ، كان ثمّ أولاد ، أو لم يكن ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ).

قرئ بكسر القاف وفتح الباء ، وقرئ بنصب القاف وجزم الباء.

فتأويل القراءة الأولى : أي : جاء فرعون ومن معه من جنده وأتباعه ، أو من قبله : من كان من أهل القرى التي بغرب المصر ، وقد روي [في الشاذ](٢) في بعض الحروف : وجاء فرعون ومن دونه.

وجائز أن يكونوا من أتباع فرعون.

وجائز ألا يكونوا.

وتأويل القراءة الثانية : أي : جاء فرعون ومن كان متقدما عليه من الأمم الماضية.

__________________

(١) في ب : أن الذكر الباقي.

(٢) في ب : بالشاذ.

١٦٨

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالْمُؤْتَفِكاتُ).

قيل (١) : قريات لوط ، ائتفكت على أهلها ، أي : انقلبت عليهم ؛ بما عصت رسلها.

وقيل : المؤتفك : الذي يأتفك من الصدق إلى الكذب ، ومن الحق إلى الباطل ، ومن العدل إلى الجور ، فمن قرأه : ومن قبله بخفض القاف ، كان قوله : (وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ. فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ) واقعا كله على العصيان لموسى ـ عليه‌السلام ـ والمراد من المؤتفكات : كل من ائتفك من الحق إلى الباطل ، دون أهل قريات لوط ؛ لأنهم كانوا قبل زمان موسى بكثير.

ومن قرأه : ومن قبله بنصب القاف ، كان قوله : (فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ) واقعا على رسول [كل فريق](٢) ، كأنه قال : عصى كل أمة رسولها ، وعلى هذا يجوز أن يكون المراد من المؤتفكات قوم لوط ، عليه‌السلام.

ثم قوله : (بِالْخاطِئَةِ) ، أي : بالخطايا والشرك.

وذكر أبو معاذ عن مجاهد في تفسير الخاطئة الشرك والكفر ، وأنكر ذلك ، واحتج بأن الله ـ تعالى ـ لم يذكر من قوم لوط ـ عليه‌السلام ـ كفرا وشركا في كتابه ، إنما ذكر [ركونهم للفاحشة](٣) وبها أهلكوا ؛ إذ لم ينزعوا ولم يتوبوا.

قال : ولو كانوا مشركين ، لم يقل لهم لوط : (قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) [هود : ٧٨] ، أراد بذلك الإنكاح (٤) والكافر لا يصح منه نكاح المسلمة.

وليس كما زعم ، بل كانوا أهل شرك وكفر بالله تعالى ؛ ألا ترى إلى قوله فيما حكى عن قوم لوط من قولهم (٥) : (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ) [الشعراء : ١٦٧] ، فإخراج الرسل من أماكنها من صنيع أهل الكفر.

وقال في موضع آخر : (أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ) [النمل : ٥٦] فطابت أنفسهم بإخراج لوط ـ عليه‌السلام ـ من قراهم ، ومن فعل ذلك ، لم يشك في كفره.

وقال في قصة لوط أيضا : (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [الذاريات : ٣٥ ، ٣٦] ، فثبت أنهم كانوا كفارا.

__________________

(١) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير (٣٤٧٤٧) وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٤٠٦).

(٢) في ب : ربهم.

(٣) في ب : ركوبهم الفاحشة.

(٤) في ب : بالإنكاح.

(٥) في أ : قوله.

١٦٩

ثم لقائل أن يقول في قوله : (وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ. فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ) أخبر أنه جاء فرعون إلى موسى وعصاه كيف ذكر مجيء فرعون إلى موسى ، ولم يوجد منه المجيء إلى الرسول ، بل الرسول هو الذي جاء فعصاه فرعون ، لا أن فرعون أتاه ، فاستقبله بالعصيان؟

قيل : إن كل من أتى آخر وجاءه ، فقد أتاه الآخر ، ومن قرب إلى الآخر ، فقد قرب الآخر إليه ؛ لأن المجيء فعل مشترك ؛ لأنه اسم الالتقاء ، وإنما يقع الالتقاء بهما جميعا ليس بأحدهما ؛ فلذلك استقام [إضافة](١) المجيء إلى فرعون ، وعلى هذا تأويل قوله تعالى : (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الشعراء : ٩٠] ، أي : قربت للمتقين ، وأهلها هم الذي يقربون إليها في الحقيقة ، ولكنهم إذا قربوا إليها ، فقد قربت هي إليهم ، فأضيف إليها التقريب لهذا ؛ فعلى هذه العبارة يمكن أن يتأول قوله : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) [الفجر : ٢٢] ، وقوله ـ عزوجل ـ : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) [البقرة : ٢١٠] ، أي : أتاه الخلق ، لا أن يكون هو الذي يأتيهم ؛ لأنه قال : (وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ) [النور : ٦٤] ، وقال : (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) [آل عمران : ٢٨] ، (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) [البقرة : ٢١٠] ، فأخبر أن الخلق هم الذين يأتونه ، ويرجعون إليه ، ولكن نسب المجيء والإتيان إلى الله تعالى ؛ لأنهم إذا أتوه [فكأنه قد](٢) أتاهم من الوجه الذي ذكرنا دون أن يكون فيه إثبات الانتقال في الله تعالى.

والثاني : أن اسم المجيء وإن أطلق واستعمل [في المجيء](٣) إلى مكان من مكان ، فقد يستعمل أيضا في الموضع الذي ليس فيه حركة ولا انتقال ؛ قال الله تعالى : (وَقُلْ جاءَ الْحَقُ) [الإسراء : ٨١] ، ومعناه : ظهر الحق ، ليس أن الحق كان في موضع فانتقل عنه إلى غيره ؛ فأمكن أن يكون قوله : (وَجاءَ فِرْعَوْنُ) أي : كذب بما أنزل على موسى ، عليه‌السلام.

وجائز أن يكون قوله : (وَجاءَ فِرْعَوْنُ) أي : جاء بالخاطئة ؛ فيكون المجيء مصروفا إلى الخطايا ، وهذا التأويل أملك بظاهر الآية ؛ لأنه قال : (وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ) ، أي : جاءوا بالخطايا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً).

أي : عالية ؛ حيث علت أبدانهم.

وجائز أن يكون المراد منه : أن عقوبتهم ربت على الأخذ أي : [زادت على الأخذ](٤) ؛

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : فقد.

(٣) في ب : اسم المجيء.

(٤) في ب : زادت على وأدت على الأخذ.

١٧٠

لأنها أخذت أبدانهم وأهلكتها ، ثم ردت أرواحهم إلى جهنم فتعرض عليها غدوّا وعشيّا ، فذلك هو الزيادة على الأخذ ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ).

قال بعضهم (١) : أي : طغى على الخزان ؛ لأن (٢) الخزّان يطلقون (٣) القطر بالكيل والوزن والقدر المعلوم ، ثم ذكر في موضع آخر : (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ) [القمر : ١١] أي : منصب ؛ فيكون تأويله : أن الله ـ تعالى ـ لم يمكنهم من حفظ القطر في ذلك الوقت ؛ فطغى عليهم لهذا المعنى ، وإلا لو لزموا حفظه في ذلك الوقت ، لكان الماء لا يطغى عليهم ، على ما ذكرنا : أنه لا يجوز أن يؤمروا بحفظه ولا يملكون حفظه.

وجائز أن يكون قوله : (طَغَى) ، أي : طغى على الذين أهلكوا من مكذبي نوح ـ عليه‌السلام ـ وقد وصفنا تأويل الطاغي ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ).

قد ذكر أنه حملنا ، ولم نكن نحن يومئذ فنحمل ، والخطاب للذين كانوا في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنما كان لأن بنجاة أولئك المحمولين نجاة ذريتهم ، وبهلاك أولئك فناء ذريتهم ؛ فكأنه قد حملهم بحمل أولئك ؛ لما حصلت (٤) لهم النجاة بحملهم (٥).

أو أضاف إليهم ؛ لأنه قدر كونهم من آبائهم ؛ فكانوا حملوا تقديرا ، وهو كقوله : (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ) [الأعراف : ٢٦] ، ومعناه : أنزلنا عليكم ما قدرنا كون اللباس منه ، وهو المطر ، فإذا أنزل المطر الذي قدر كون اللباس منه ، فكأنه أنزل اللباس ، وقال ـ عزوجل ـ : (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) [الحج : ٥] ، ونحن لم نخلق من التراب ، ولكن لما قدر خلقنا من التراب الذي أصلنا منه فكأنا خلقنا منه ؛ فعلى ذلك وإن لم نكن محمولين في السفينة ، فقد حمل أصلنا ؛ لنكون [نحن من](٦) ذلك الأصل ، فكأنا قد حملنا فيها (٧) ؛ إذ

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه أبو الشيخ في العظمة والدارقطني في الأفراد ، وابن مردويه وابن عساكر عنه مرفوعا بنحوه.

وأخرجه الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير (٣٤٧٢٧) عنه موقوفا بنحوه ، كما في الدر المنثور (٦ / ٤٠٥) ، وهو قول علي بن أبي طالب وسعيد بن جبير وغيرهما.

(٢) في ب : ولأن.

(٣) في أ : يرسلون.

(٤) في ب : حصل.

(٥) في أ : كلهم.

(٦) سقط في ب.

(٧) في ب : منها.

١٧١

كنا في إرادة الله ـ تعالى ـ من الكائنين ، والله أعلم.

أو ذكر ذلك منّة منه على الأبناء بصنيعه بالآباء ؛ ليعلم أن على الأبناء شكر ما أحسن إلى آبائهم وأجدادهم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ (لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها) فوجه التذكرة فيه : أن أهل مكة أبوا إجابة الرسول ، وقالوا : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) [الزخرف : ٢٣] فذكرهم أنهم ، أولاد من حملوا مع نوح ـ عليه‌السلام ـ في السفينة ، وهم إنما استوجبوا النجاة ، وشرفوا في الدارين جميعا باتباعهم الرسل ، فما لكم لا تتبعونهم في تصديق الرسل دون أن تتبعوا المكذبين للرسل ، أو يذكرهم كذبهم في قولهم : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) [الزخرف : ٢٢] ، بل قد وجدتم آباءكم على خلاف ما أنتم عليه ، وقد تعلمون أن آباءكم هم الذين اتبعوا نوحا فنجوا ، وهم المؤمنون دون الكفرة.

ووجه آخر : أنه ذكرهم أحوال المكذبين ، وإلى ما ذا آل أمرهم من الغرق والهلاك ؛ فيكون فيه تخويف من كذب من أهل مكة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فصارت تلك الجارية وهي السفينة موعظة وتذكرة تذكرهم عواقب المصدقين بالرسل والمكذبين لهم (١).

أو ذكرهم عظيم نعمه على آبائهم الذين حملوا في السفينة ؛ ليستأدي منهم شكر ذلك.

وقال بعضهم (٢) : كم من سفينة قد هلكت منذ ذلك الوقت وهي قائمة في موضع كذا عبرة وتذكرة.

ثم التذكرة تخرج على وجهين :

أحدهما : أن يراد بها الآية والعبرة ؛ أي : جعلنا لكم ذلك ؛ لتعتبروا ، وتكون آية لكم على وحدانية الله ـ تعالى ـ وقدرته ؛ كقوله : (فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ) [العنكبوت : ١٥].

والثاني : أي : جعلنا تلك الأنباء تذكرة لكم ؛ أي : جعلناها قرآنا تقرءونها وتذكرونها إلى آخر الأبد ؛ فتشكرون الله ـ تعالى ـ على ما صنع إليكم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ (وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) يقال : وعى الشيء : إذا حفظه ، وأوعاه : إذا حفظه بإناء أو غيره ؛ أي : تحفظها أذن واعية ؛ بمعنى : حافظة ؛ فأضاف الوعي والحفظ إلى الأذن ، والأذن لا تعي ؛ بل تسمع ، ثم يعيه القلب ، ولكن نسب الوعي [إلى](٣)

__________________

(١) في ب : بهم.

(٢) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٣٤٧٦٤) وعبد بن حميد وابن المنذر عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٤٠٧).

(٣) سقط في ب.

١٧٢

الأذن ؛ لأنه يوصل إلى الوعي من جهة الأذن ؛ إذ بالسمع يوعى ، والسمع من عمل الأذن ، ثم يقع المسموع فيما فيه يوعى ، وهو القلب ؛ فنسب الوعي إلى السمع ؛ لما يتطرق به إلى الوعي ، كما ذكرنا من إضافة اللباس إلى ما منه قدر اللباس ، وهو المطر ، وأضيف خلقنا إلى التراب ؛ لأن أصل ما منه قدر خلقنا هو التراب.

وجائز أن يكون الله ـ تعالى ـ يجعل للقلوب آذانا بها تعي ، وأبصارا بها تبصر ؛ فيضيف الوعي إلى آذان القلوب ، ليس إلى آذان الرءوس ، والله أعلم.

وقيل : (أُذُنٌ واعِيَةٌ) أي : عقلت عن الله تعالى ، وانتفعت بما سمعت من كتابه ، وهي أذن المؤمن ، فأما أذن الكافر ؛ فإنها تسمع وتقذف ولا تعي ؛ لما لم يحصل لهم الانتفاع به ؛ ألا ترى أنه وصف آذانهم بالصمم ؛ لما لم ينتفعوا بالمسموع ، وكذلك قال : (فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ) [آل عمران : ١٨٧] جعل تركهم الانتفاع به نبذا ؛ فعلى ذلك جعل الانتفاع به وعيا ، وكذلك المتعارف في الخلق أنهم إذا أرادوا الانتفاع بعلم أو شيء ، اجتهدوا في وعيهما وحفظهما.

قوله تعالى : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (١٣) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (١٤) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١٥) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (١٦) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (١٧) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ)(١٨)

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) فكأنهم سألوا : متى تكون الواقعة والحاقة والقارعة؟ فأخبر عن ذلك بقوله : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ* وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً* فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ* وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) ، فجوابهم في قوله : (فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) [ثم](١) قد بيّنا أن الأسئلة كلها خرجت [على بيان الوقت ، والله ـ تعالى ـ لم يبين لهم وقت كونه ، وإنما أجاب](٢) عن الأحوال التي تكون في ذلك الوقت ؛ لما لا فائدة لهم في تبيين وقته ، ولا حاجة إلى معرفته ، وإنما الفائدة في تبيين أحواله ؛ لما يقع بها الترغيب والترهيب ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) فجائز أن يكون على حقيقة النفخ.

واحتمل أن يكون على قدر نفخة واحدة ؛ فتكون فائدته ذكر سهولة أمر البعث على الله ـ تعالى ـ لأن قدر النفخة مما يسهل على المرء في الشاهد ، ولا يتعذر.

وجائز أن يكون ذكر النفخ ؛ لما أن الروح تدخل في أجسادهم ، وتنتشر فيها ، وذلك

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في أ.

١٧٣

عمل النفخ ؛ لأن الريح إذا نفخت في وعاء سرت فيه وانتشرت ، فكنى عن دخول الروح في الجسد بالنفخ ؛ إذ ذلك عمله ، وكنى بالنفخ عن خروج الروح من الأجساد لهذا ، وعلى هذا تأويل قوله : (فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) [التحريم : ١٢] ليس على حقيقة النفخ ؛ ولكن عمل الروح فيها عمل النفخ ، فقيل ذلك ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فِي الصُّورِ) قيل : الصور : هو القرن ينفخ فيه النفخة الأولى ؛ فيصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ، ثم ينفخ [فيه](١) مرة فإذا هم قيام ينظرون.

ومنهم من يقول : أي : نفخ الروح في صور الخلق ؛ لكن جمع الصورة : الصور ، بنصب الواو ؛ فلا يحتمل أن يكون المراد منه : جمع الصورة ، لكنه يجوز أن يكون الله ـ تعالى ـ جعل نفخ الصور سببا لإفنائهم وإحيائهم ، لا أنه يعجزه شيء عن الإفناء والإحياء ما لم ينفخ في الصور ، لكنه جعله سببا لنوع الحكمة (٢) والمصلحة أو لمحنة ذلك الملك والابتلاء ؛ على ما عرف من أنواع المحن في الملائكة من إنزال المطر (٣) ، وتسيير السحاب ، وجعلهم الموكلين على أعمال بني آدم ، وغير ذلك.

وقوله : (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) كسرتا كسرة واحدة.

وقيل : هدمتا هدمة واحدة.

وقال بعضهم (٤) : زلزلتا زلزلة واحدة ؛ فكأنه يقول ـ والله أعلم ـ : تتزلزل الأرض ، فتقذف ما في بطنها من الفضول ، وتخرج ما فيها من الجواهر التي ليست منها بتلك الدكة ، وتخرج أصول الجبال منها ، ثم يجعله الله ـ تعالى ـ كثيبا مهيلا مثل الرمل ، ثم يعمل عليه الريح فيجعله هباء منثورا ، وتراه من لينه كالعهن المنفوش ، ثم يسير مثل السحاب ، فيقع في شعاب الأرض والأودية والأماكن المختلفة ؛ فتصير الأرض كما قال ـ تعالى ـ : (فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً. لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) [طه : ١٠٦ ، ١٠٧] ، وهكذا الريح إذا عملت على شيء وتقع عليه ، تفرقه في النواحي ، وتسوي به الشقوق ، وتبسطه على وجه الأرض.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ) ليس أنها تحمل من مكان إلى مكان ، ولكن تدخل هذه في هذه ، وتضرب هذه على هذه بالدكة ؛ فتصير كأنها حملت لذلك ، وإذا كان

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : الحكم.

(٣) في ب : الأمطار.

(٤) قاله ابن عباس ، أخرجه الطستي عنه ، كما في الدر المنثور (٦ / ٤٠٨).

١٧٤

كذلك ، فقد وقعت الواقعة يومئذ ، وهذا على اختلاف الأوقات ؛ ليكون معنى الآيات (١) التي جاءت في الجبال على السواء ، والله أعلم.

وقيل : في آيات أخر بيان آخر : بيان تقديم فناء الجبال قبل الأرض بقوله : (يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً. فَيَذَرُها) [طه : ١٠٥ ، ١٠٦] ، أي : يذر الأرض (قاعاً صَفْصَفاً) [طه : ١٠٦] وغيرها من الآيات ؛ مما يدل على تقديم فناء الجبال قبلها ، فإما أن يكون معنى تبديل الأرض تغييرها عن الحالة التي هي عليها اليوم من انهدام البنيان ، واستواء الأودية ، وإزالة الجبال ؛ على ما جاء في الأخبار ، فسمي لذلك : تبديلا ؛ كما يقال لمن تغير عن الحالة الحسنة إلى غيرها : تبدلت ، يراد : [أي : تغيرت عن حالتك](٢) ؛ فعلى ذلك معنى الآية ؛ أي : تكسر الجبال ، وتتغير حالة الأرض في دفعة واحدة.

أو يكون في الآية إخبار عن شدة الفزع في ذلك اليوم أن [يدكه دكة](٣) واحدة ؛ تفني الجبال والأرض ، وإن كان إفناء الجبال قبل إفناء الأرض ، ليس أنهما يفنيان جميعا بدفعة واحدة ، لكن بالدكة الواحدة تهلك الجبال والأرض ؛ فيكون المراد بيان شدة اليوم وهوله ؛ لا بيان ترتيب فناء البعض (٤) على البعض ، والله أعلم.

وقوله ـ تعالى ـ : (فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) وهو الحساب والجزاء ؛ كقوله : (وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ) [الذاريات : ٦] وأدخلت الهاء في أسماء القيامة تعظيما لشأنها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) قال بعضهم : تفرقت ، وهكذا الشيء إذا انشق تفرق وتباين ، وبه يظهر الشق.

ويحتمل أن يكون الشق كناية عن اللين ؛ أي : تلين بعد صعوبتها ، دليله :

قوله ـ عزوجل ـ : (فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) أي : ضعيفة بعد ما كانت تنسب إلى الصلابة ، ويدل على ذلك قوله : (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) [الأنبياء : ١٠٤] وإنما يطوى الشيء في الشاهد بعد ما يلين في نفسه.

وجائز أن تنشق السماء لنزول أهلها ، فلا يبقى فيها إلا الملائكة الذين على أطرافها ، ثم تنضم [فتبين](٥) للطي ، والله أعلم.

__________________

(١) في ب : الأوقات.

(٢) في ب : تغيرت حالتك.

(٣) في ب : بدكة.

(٤) في أ : الأرض.

(٥) سقط في ب.

١٧٥

وجائز أن يكون ذكر [انفطارها وانشقاقها وانفتاحها ؛ تهويلا للخلق من الوجه الذي ذكرنا فيما قبل.

وجائز أن تكون للسماوات أبواب ، فتفتح أبوابها ؛ فيكون](١) انشقاقها وانفطارها فتح أبوابها.

وجائز أن يكون الشق ليس فتح الأبواب ؛ لأنه ذكر هذا في موضع التهويل ، وليس في فتح أبوابها كثير تهويل.

وقوله : (فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) أي : ضعيفة مسترخية.

وقيل (٢) : الوهي : الخرق ، وهو يحتمل ؛ لأنها إذا انشقت انخرقت.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها) الأرجاء (٣) : النواحي والأطراف ، وهي أطراف السموات ونواحيها ، وواحد الأرجاء : رجا ، مقصور.

والملك أريد به الملائكة ، أخبر أنهم على أطراف السموات ونواحيها ، فيحتمل أنهم وكلوا وامتحنوا بها وبحفظها بعد الشق ؛ لئلا تسقط على أهل الأرض.

وجائز أن يجعل أطرافها وجوانبها لبعض الملائكة ، فتفتح أبواب السماء فتنزل الملائكة الذين كان مسكنهم عندها إلى الأرض ، كما قال ـ تعالى ـ : (وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) [الفرقان : ٢٥] ويبقى الملائكة الذين كان مسكنهم في أرجائها ينتظرون أمر ربهم.

ثم الملك ليس يحتاج إلى مكان يقر فيه وإن جعلت السماء مسكنا لهم ؛ لأن الملائكة ينزلون من السماء إلى الأرض ، ويقرون على الهواء من غير أن يكون [في الهواء مقر](٤).

والثالث : يبين أنها لا تتفرق كل التفرق ، ولكن وسطها ينشق لما ذكرنا ، والباقي بحاله.

ويحتمل : (وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها) على ما يمرّ به في السماء ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) فيحتمل أن يكون الملائكة في النفخة (٥) الأولى يصعقون إلا الثمانية الذين يحملون العرش كما قال : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) [الزمر : ٦٨] ، فيكون هؤلاء الثمانية

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) قاله ابن عباس أخرجه ابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٦ / ٤٠٨).

(٣) في ب : والأرجاء.

(٤) سقط في ب.

(٥) في أ : بالنفحة.

١٧٦

من الذين استثنوا ؛ فلا يصعقون ؛ فهم يحملون العرش ؛ فتكون أمكنتهم على أرجاء السموات ، وهو قوله : (وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها).

وقوله ـ عزوجل ـ (ثَمانِيَةٌ) جائز أن يكون أراد به ثمانية أملاك.

وجائز أن [يكون أراد به](١) ثمانية أصناف من الملائكة ، كما ذكر في التفسير.

وجائز أن يكون هؤلاء الثمانية يهلكون ثم يحيون قبل أن يحيا سائر الخلق ، فيحملون عرش ربنا على أكتافهم ، فإذا بعث الله ـ تعالى ـ الخلائق رأوا العرش على أكتافهم ، والعرش هو سرير الملك.

وجائز أن يكون ذلك من نور ، كما ذكر في الخبر : «أن عين الشمس إذا أرادت أن تطلع فإن جبريل ـ عليه‌السلام ـ يأتي العرش ، فيأخذ كفّا من ضيائه ، ثم يلبس الشمس كما يلبس أحدكم قميصه ، وإذا أراد القمر أن يطلع أخذ جبريل ـ عليه‌السلام ـ كفّا من نور العرش ، فيلبس القمر كما يلبس أحدكم قميصه» ، فجائز أن يكون العرش من الضياء والنور.

ثم أجل الأشياء وأعظمها في أعين الخلق الضياء والنور ، وإليهما ينتهي الرغب ؛ فيكون في ذكر العرش ذكر عظيم عرش الرب وملكه جل جلاله.

ثم إن كل ملك في الشاهد يتخذ لنفسه عرشا ، يتفاوت ذلك على مقدار ملكهم وسلطانهم لا ليجعل ذلك مسكنا لنفسه ، فإذا لم يتوهم من الخلق أنهم يتخذون ذلك لمقاعدهم ومجالسهم فلأن لا يتوهم ذلك من الله أولى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) [أي : تعرضون على أعمالكم فلا تخفى عليكم خافية](٢) ، أي : يظهر لكم في ذلك اليوم ، ويصير بارزا فى ذلك اليوم ، كما قال ـ تعالى ـ : (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) [الطارق : ٩] أي : تظهر لهم سرائرهم حتى يعرفوها ، ولا يخفى عليهم شيء منها.

وجائز أن [يكون قوله](٣) : (لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) أي : على الله ـ تعالى ـ ولكن كل (٤) من ادعى إخفاء شيء من أمره على الله ـ تعالى ـ وظن أن الله ـ تعالى ـ لا يطلع عليه ، فسيعلم في ذلك اليوم أنه لا تخفى عليه خافية ، وهو كقوله ـ تعالى ـ (لِمَنِ الْمُلْكُ

__________________

(١) في أ : يكونوا.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : يقول.

(٤) في ب : على.

١٧٧

الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر : ١٦] ليس فيه أن الملك كان لغيره ، ولكن بعض الناس كانوا يدعون الإشراك في الملك في الدنيا ، فيتركون في ذلك اليوم دعواهم ، ويتيقنون أنه هو المنفرد بالملك ، وعلى ذلك قوله ـ تعالى ـ (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً) [إبراهيم : ٢١] ولم يكونوا بمختفين عنه قبل ذلك ؛ بل كانوا له في [كل](١) وقت بارزين ، ولكن من أنكر ادعاء الإخفاء في الدنيا يدع في ذلك اليوم ، ويقر بالبروز ، والله المستعان.

ثم روي في الخبر «أن العرضات ثلاث : عرضتان فيهما خصومات ومعاذير» ؛ أي : يختصمون ويتنازعون ، فإذا ظهر ذلك جعلوا يعتذرون ، ويسألون ربهم العفو والصفح عن ذنوبهم وخصومهم ، و «العرضة الثالثة عند تطاير الصحف».

ومعنى قوله : (تُعْرَضُونَ) أي : يعرض الخلق بعضهم على بعض حتى لا يخفى على أحد خصمه.

أو تعرض أعمالهم حتى يذكر كل أحد صنيعه ، وكل خصم خصومته ؛ فكأنهم قد نسوا ذلك من كثرة الفزع وشدة الأهوال ، لكن الله ـ تعالى ـ يطلعهم على ذلك حتى يذكروا ذلك ، والله أعلم.

قوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (١٩) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (٢٠) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٢١) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (٢٢) قُطُوفُها دانِيَةٌ (٢٣) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ)(٢٤)

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) ظاهر ما جرى به الخطاب في القرآن يوجب أن يرحم المؤمنون جميعا فلا يعذبون في الآخرة ، ويعذب الكافرون ولا يرحمون ؛ لأنه قسم الخلق يوم القيامة صنفين : فجعل صنفا [منهم أهل](٢) اليمين ، وصنفا أهل الشمال ، ثم وصف كل واحد من الصنفين بأعلام ثلاثة : فذكر مرة أنه يخف ميزانهم بقوله : (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) [المؤمنون : ١٠٣] ، وذكر مرة أن وجوههم تسود ، وذكر مرة أنهم يعطون كتابهم بشمالهم ؛ فهذه الأعلام ذكرها في أحد الصنفين ، وذكر في الصنف الثاني ، ووصفهم بأعلام ثلاثة : ببياض الوجوه ، وبثقل الميزان ، وبإعطاء الكتاب بأيمانهم.

ثم فيما فيه سواد الوجوه ذكر فيه : (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) [آل عمران : ١٠٦] ، وكذلك حين ذكر خفة الميزان ذكر في آخره ما يبين أن الذين خفت موازينهم هم الكفرة ؛ لأنه قال : (أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : منهم من.

١٧٨

فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) [المؤمنون : ١٠٥] ، وذكر فيه (١) إعطاء الكتاب بشماله ، وذكر فيه ما يبين أنه من أهل الكفر ؛ لأنه قال : (إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ. وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) [الحاقة : ٣٣ ، ٣٤] ؛ فثبت أن الوعيد المطلق ذكر في أهل الكفر ، وكذلك قال : (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) [آل عمران : ١٣١] ولم يقل : أعدت للخلق ، وقال : (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران : ١٣٣] ؛ فثبت أن أهل النار هم الكفار ، ثم المؤمنون قد تعرض منهم زلات ومآثم في هذه الدنيا ، والكفار يوجد منهم المحاسن فيها ، ولكن أهل الكفر يجزون جزاء حسناتهم في دنياهم ؛ لأنهم لا يؤمنون بالآخرة ، وإذا لم يؤمنوا بها لم يقع سعيهم لها ، وأمكن (٢) أن يكون المؤمن يجعل له العقاب بسيئاته في الدنيا فتخلص له الحسنات في الآخرة فيجزى بها.

وجائز أن تكفر (٣) سيئاته بالحسنات التي توجد منه ؛ لأن المحاسن جعلت (٤) سببا لتكفير المساوى ؛ قال الله ـ تعالى ـ : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) [هود : ١١٤] ، وإذا كفرت سيئاته في الدنيا ، لم يعذب بها في الآخرة.

وجائز أن يكون الله ـ تعالى ـ يعذبهم بقدر ذنوبهم ، ثم يعفو عنهم [بحسناتهم التي](٥) سبقت منهم من الإيمان ، وغير ذلك ، فكل مؤمن ـ في الحقيقة ـ [آخره الجنة](٦) ، ويثقل ميزانه ، ويبيض وجهه ، ويعطى كتابه بيمينه.

ثم يجوز أن يكون الذي يعاقب بذنوبه من أهل الإيمان يعاقب به قبل أن يعطى كتابه بيمينه ، وقبل أن يبيض وجهه ويثقل ميزانه ، وقبل أن يبيض وجهه ، لم يكن مسود الوجه ، ولكن على ما عليه في الدنيا.

ثم متى عفي عنه؟ في (٧) الخبر «أن الناس يعرضون يوم القيامة ثلاث عرضات : فأما عرضتان ففيهما خصومات ومعاذير ، وأما العرضة الثالثة فتطاير الصحف في الأيدي» ، فيجوز أن يكون تعذيبه قبل العرضة الثالثة ، ثم يعطى كتابه في العرضة الثالثة بيمينه ؛ فتظهر له أعلام السعادة إذ ذاك ، [فإذا ثبت](٨) أن الوعيد المطلق إنما جاء في أهل الكفر ، لم

__________________

(١) في أ ، ب : في.

(٢) في ب : ولا أمكن.

(٣) في ب : تكون.

(٤) في ب : جعل.

(٥) في ب : بحسناتهم لأن التي.

(٦) في ب : أجره في الجنة.

(٧) في ب : وفي.

(٨) في ب : فثبت.

١٧٩

يلحق أهل الكبائر من أهل الإيمان بهم في الحكم ؛ بل وجب الوقف في حالهم (١) ؛ كما قال أصحابنا ، والله الموفق.

وقوله ـ عزوجل ـ (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) قال بعضهم (٢) : (هاؤُمُ) أي : تعالوا (٣).

وقال بعضهم : «ها» (٤) بمعنى : هاكم ؛ أي : خذوا ، فأبدلت الهمزة مكان الكاف ، فظاهر الآية أن المعطى له الكتاب ؛ يقول هذا ؛ يدعو الخلق إلى نحوه ، أو يناولهم الكتاب ؛ استبشارا وحبورا ، فيبشرهم بعفو الله ـ تعالى ـ عنه ورحمته عليه.

ولكن أهل التأويل صرفوا التأويل إلى المعطي ، فقالوا بأن المعطي هو الذي يقول هذا ؛ فكأن الذي كتب الكتاب في الدنيا من الملك هو الذي يعطي الكتاب إلى المكتوب عليه ، ويقول : (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) أي : [خذوا اقرءوا](٥) ما كتبت لكم وعليكم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) فإن حملته على حقيقة الظن ، فهو يخرج على ثلاثة أوجه.

أحدها : أي : إني ظننت في الدنيا أني ألاقي (حِسابِيَهْ) ، أي : الحساب الشديد فيما سبق من سيئاتي ، وأؤاخذ بها ، وأجازى عليها ، وظننت الساعة ألا أنجو من ذنوبي ؛ لفزع هذا اليوم ، فوجدت سيئاتي قد غفرت ، وخطاياي كفرت عني ؛ فيكون قوله منه هذا شكرا لله ـ تعالى ـ وإظهارا لمنته.

والثاني : أي : إني تركت في دار الدنيا إذا عرضت لي الحوادث من الزلات والهفوات ، ظننت أني ألاقي الله ـ تعالى ـ بها ، فأمسكت عنها ، وانزجرت عن إتيانها ؛ فيكون إخبارا عن بيان سبب نيل ذلك.

والثالث : أني تفكرت في أمري ؛ فظننت أن مثلي لا يترك سدى هملا ؛ فأدى ظني إلى اليقين ، فآمنت وصدقت الرسل ، فإنما نجوت بأول ظني وفكرتي.

ومنهم من صرف الظن إلى اليقين والعلم ، فقال : معنى قوله : (ظَنَنْتُ) أي : أيقنت ، وعلمت.

والأصل : أن كل يقين حدث في الأمور المستترة والعلوم الخفية فإنما يتولد ذلك على ظن يسبق ، فيحمله ذلك الظن على النظر فيه والبحث عن حاله حتى يفضي به إلى الوقوف

__________________

(١) في ب : أحوالهم.

(٢) قاله ابن زيد ، أخرجه ابن جرير عنه (٣٤٧٩٩).

(٣) زاد في ب : اقرءوا.

(٤) في ب : هو.

(٥) في ب : خذوا اقرءوا كتابيه واقرءوا.

١٨٠