تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٩٥

عنها ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه ، وولده من كسبه» (١).

وسئل ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : أيأخذ الرجل من مال ولده؟ فتلا (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً ..). الآية [الشورى : ٤٩] ، فهو مما وهب الله لنا ؛ فهم (٢) وأموالهم لنا ، والله أعلم.

ويحتمل ما أغنى عنه ما جمع من المال ، وما كسب من العمل والإنفاق الذي أنفق على الطمع الذي فعل ، أي : لم يغنه شيئا.

أو [لم يغنه] ما كسب عن صد الناس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والدخول في دينه والاتباع له ، وسوء المقال الذي قال فيه.

وفي حرف ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : تبت يدا أبي لهب وقد تب ما أغنى عنه ماله وما اكتسب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ) :

أي : ذات التهاب.

وفيه دلالة إثبات رسالته ؛ حيث أخبر أنه سيصلى نارا ، ولا يصلى النار إلا بعد ما يختم بالكفر ، ثم كان كما أخبر ؛ دل أنه علم ذلك بالله تعالى.

وفي هذه السورة دلالتان أخريان يدلان على نبوته :

إحداهما : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما قرأ هذه السورة عليهم بمكة حين لم يكن له ناصر في الدين ، وكانت المنعة والقوة للكفرة ، وكانوا جميعا أولياء أبي لهب وأنصارا له عن آخرهم (٣) ، ولا يحتمل أن يكون محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ هذه السورة عليه ، وفيها سب له وتعيير إلى يوم القيامة ، مع قلة أوليائه وكثرة أعدائه ؛ إذ فيه خوف هلاكه ـ إلا برب العالمين.

ومعنى آخر : أنه ـ عليه‌السلام ـ كان موصوفا بحسن العشرة وإجمال الصحبة مع الأجانب ؛ فما ظنك بالعشيرة والأقارب مع ما أنه كان متنزها عن الفحش فى (٤) جميع أوقاته ؛ فما جاز له هذا إلا بالأمر من الله تعالى ؛ فدل ذلك على نبوته ورسالته.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) :

قال بعضهم (٥) : أي : كانت حمالة النميمة والحديث بين الناس ، فأوعدها الله ـ

__________________

(١) أخرجه النسائي (٧ / ٣٤١) ، والبيهقي (٢١٣٧) ، وأحمد (٦ / ٣١).

(٢) في ب : فيهم.

(٣) في أ : إخراجهم.

(٤) في ب : من.

(٥) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير (٣٨٢٧٥ ، ٣٨٢٧٨) ، وابن أبي الدنيا في ذم الغيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٧٠٢) وهو قول عكرمة ، وقتادة ، وسفيان.

٦٤١

تعالى ـ لذلك في الآخرة ما ذكر : (فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) وهي السلسلة ، ومنه يقال : فلان يحطب ؛ إذا أغرى.

وقال بعضهم (١) : كانت حمالة الحطب حقيقة ، كانت تحمل الحطب الذي فيه الشوك ، وتطرحه في طريق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين ؛ فأوعدها الله ـ تعالى ـ بما ذكر من حبل من مسد في الآخرة.

ومنهم من قال : إنها كانت كذلك في الدنيا ، كانت تحمل الحطب إلى منزلها ، وكان في جيدها حبل من ليف ؛ فعيرها بذلك ؛ لأنها كانت تعير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالفقر والحاجة.

وذكر أنها كانت تمسك في عنقها حبلا من ليف سرا من زوجها ، وذلك مما لا يتحلى به النساء (٢) ، وليس هو من أسباب الزينة ؛ فأخبر الله ـ تعالى ـ عن سفهها وجهلها ؛ ليكون ذلك سبا وتعييرا مجازاة لما كانت تقوله في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ ولذلك قالت لأبي بكر [الصديق](٣) ـ رضي الله عنه ـ : «أما رضي محمد أن يهجو عمه حتى هجاني؟!» أو قالت : «حتى هجاني رب محمد؟!» صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٤) ، والله أعلم.

* * *

__________________

(١) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٣٨٢٦٩) ، والبيهقي في الدلائل ، وابن عساكر عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٧٠٢) وهو قول الضحاك ، وابن زيد وغيرهما.

(٢) في ب : الناس.

(٣) سقط في ب.

(٤) أخرجه ابن جرير (٣٨٢٨٢) عن يزيد بن زيد.

٦٤٢

سورة الإخلاص

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (١) اللهُ الصَّمَدُ (٢) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ)(٤)

قوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) :

ذكر أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن نسب الله تعالى.

وقيل : عن صفته.

وقيل عن الله تعالى : ما هو؟.

فنزلت هذه السورة معلمة بجميع من يسأل عنه [و] جوابه ؛ ولذلك أثبت (قُلْ) ؛ ليكون مخاطبة كل مسئول عن ذلك أن قل ، لا على تخصيص الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذا الأمر ؛ إذ ليس في حق الائتمار بالأمر إعادة حرف الأمر في الائتمار ؛ فتبين بذلك أنه ليس على تخصيص الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتعليم ، بل هو أحق من سبق له الغناء عن تعليم الإجابة لهذا عند حضرة هذا السؤال ، كما سبقت منه الدعوة إلى الله ـ تعالى ـ بحقيقة ما يقتضي ما جرى به السؤال ، وكما أثبت كذلك (١) ؛ ليقرأه أبدا ، وحق المخصوص بالأمر أن يأتمر ، ولا يجعل ذلك متلوا كذلك في الوقت الذي يحتمل المأمور الأمر به ، والوقت الذي لا يحتمل ؛ فثبت أن ذلك على ما بينا ، ودل (٢) قوله : (قُلْ) : أنه على أمر سبق عنه السؤال ؛ فيكون في ذلك إجابة لما سبق عنه السؤال ، وكذلك جميع ما في القرآن (قُلْ) ففيه أحد أمرين :

إما إجابة عن أمر سبق عنه السؤال ؛ فينزل بحق تعريف كل مسئول عن مثله.

أو يكون الله ـ تعالى ـ إذ علم أنه ـ عليه‌السلام ـ أو من يتبعه يسأل عما يقتضي ذلك الجواب ؛ فأنزل ما به يبقى في أهل التوحيد ؛ منا منه وفضلا.

ثم لم يجب تحقيق الحرف الذي وقع عنه السؤال إلا لمن شهد وسمع ، وقد يتوجه ذلك [الحرف الذي وقع عنه](٣) إلى ما ذكروا من الأسباب وغيرها ، وفيما نزل يصلح جواب ذلك كله ويليق به ، وإن كنا لا نشهد على حقيقة ما كان أنه ذا ، دون ذا ونجيب بذلك لو سئلنا عما ذكرنا ، وعن كل حرف يصح في العقل والحكمة الجواب بمثل ما اقتضته هذه السورة.

__________________

(١) في ب : لذلك.

(٢) في ب : وذلك.

(٣) سقط في ب.

٦٤٣

[و](١) قوله ـ عزوجل ـ : (هُوَ) :

اختلف في تأويله :

من الناس من قال : هو إضافة إلى الذي عنه كان ـ أو يكون ـ السؤال المقتضي ما جرى به البيان من الجواب ، أي : الذي يسألون عنه : (اللهُ أَحَدٌ. اللهُ الصَّمَدُ) إلى آخر السورة.

ومنهم من قال : هو اسم الله الأكبر ، يروى ذلك عن بعض أولاد [على بن أبي طالب ـ رضي الله عنهم ـ](٢) أنه كان يقول في دعائه : «يا هو ، يا من لا هو إلا هو ، يا من به كانت هوية كل هو» ، وذلك يخرج على وجهين :

أحدهما : أنه هو لذاته هوية (٣) كل من سواه ؛ لما هو يكون محتملا للتلاشي والوجود ، إلا هو سبحانه لم يزل ولا يزال هو (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] على ما اقتضى بيان وحدانيته في هذه السورة ؛ وعلى ذلك قيل : هو الأحد بذاته ، المنشئ أحدية كل الآحاد ، المتعالى عن كل معاني أحدية من سواه.

والثاني : أن يكون إضافة إلى اسمه الذي لا يحتمله اللسان ، وهو الذي لم يطلع عليه الخلائق ، وهو الذي يراد في الدعاء : «باسمك الذي من سألك به أعطيته ، ومن دعاك به أجبته» فيكون السؤال به بما يكنى عنه من الوجه الذي ذكرت ، لا أن يسعه اللسان أو (٤) يحتمل الطوق التفوه به تعالى.

والتأويل الأول هو أقرب إلى الأفهام ، وأحق أن يكون على ذكر من يقتضي عنه السؤال ، ثم التفسير على ما جرى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (اللهُ) :

اختلف في المعنى الذي جرى هذا في حق أهل هذا اللسان أنه مما اشتق من أمر عرفوه أو لا عن أمر عرفوه؟ إذ في كل لسان لما أريد به عند الذكر لسان العرب اسم يدعى به ويسمى ، وإن اختلف وزن كل من ذلك على اختلاف الألسن ؛ ليعلم أن الأحرف والتقطيع في التكلم إنما هو ليفهم المقصود ، لا على توهم حقيقة الاسم بتلك الحروف والتقطيع ، وذلك كما يعبر عن تكوينه الخلائق ب «كن» ، لا على تحقيق كاف أو نون في التكوين ؛ فعلى ذلك جميع ما يسمى الله ـ تعالى ـ لا على تحقيق الحروف التي تجري (٥) بها

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : علي رضي الله عنه.

(٣) في ب : وهوية.

(٤) في أ : و.

(٥) في أ : الحرف الذي يجري.

٦٤٤

التسمية ممن لا يحتمل طوقه إلا بها ؛ لكن على ما يقرب إلى الأفهام المراد في التفوه به.

وقال قوم : (اللهُ) هو المعبود في لسان العرب لا على الاستحقاق ، لكن على وضع ذلك كذلك ؛ دليله تسميتهم كل من عبدوه وكل شيء عبدوه : إلها ، وإن كان جميع ما سوى إله الحق ممن عبد لا يحتمل شيئا من تلك المعاني التي زعم من ادعى الاشتقاق عنها من الاحتجاب ، أو الالتجاء إليه ، ونحو ذلك ؛ فثبت أنه اسم موضوع للمعبود.

وعلى ذلك قوله ـ تعالى ـ : (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) [الفرقان : ٤٣] ، أي : معبوده ما يهواه ، لا أن للهوى شيئا من ذلك ؛ [فيكون المعبود الحق هو الله ـ تعالى ـ لما له في كل شيء أثر عبودة ذلك](١) الشيء ودلالة الربوبية له عليه سبحانه فهو المعبود بذاته ، بمعنى المستحق بذاته العبادة من جميع خلقه والاستسلام له والخضوع بما ذكرت من الموضوع في كل آية ذلك ، ولا قوة إلا بالله ، وهذا تحقيق ما ذهبنا إليه أنه خالق بذاته ؛ رحمان رحيم بذاته ، موصوف به في الأزل ، وإن كان الذي وصل إليه أثر رحمته وفيه ظهور دلالة تدبيره حدث بعد أن لم يكن على ما كانت العبادة والاستحقاق كان ممن حدث وفيمن كان بعد أن لم يكن ، وهو إله لم يزل ولا يزال.

وعلى ذلك قوله ـ عزوجل ـ : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) [الفاتحة : ٤] و (رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) [الأنعام : ١٦٤] ، وإن كان من الأشياء ما سيكون ، لا أنها كانت كائنة ، وكذلك يوم الدين ؛ فعلى ذلك أمر «خالق» ، ونحو ذلك ؛ ومن هذا الوجه أنكر قوم أن يكون الإله اسم معبود في الحقيقة ، أو اسما مشتقا عن لسان ؛ إذ هو لم يزل إلها ، ومن به العبادة أو عنه الاشتقاق حادث.

والأصل عندنا : ما ذكرنا : أنه بجميع ما وصف به وصف بذاته ؛ إذ لا يحتمل التغير والاستحالة ، ولا نيل مدح بغير ممدح ، وإنما يمدح به لذاته : لأنه استحق من كلّ ذلك لوقت كون ذلك ، وعلى ذلك القول ب «العالم» و «القادر» : أنه كذلك ، وإن كان الذي علمه ممن (٢) سواه وكل مقدور عليه حادث بعد أن لم يكن ، ولا قوة إلا بالله.

وقال الضحاك : الله اسمه الأكبر ؛ لأنه يبتدأ به في كل موضع.

ثم اختلف في معنى الاشتقاق :

فمنهم من يقول : أصله : إله ، من أله الرجل إلى آخر ، أي : التجأ إليه واستجاره ؛ فآلهه ، بمعنى : أجاره وآمنه ؛ فسمي : إلها على وزن الفعال ؛ كما يسمى : إماما ؛ لما يؤتم

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : من.

٦٤٥

[به](١) ، وفخم بإدخال الألف واللام ، ثم لين وحذف الهمزة كما هو لغة قريش ، ثم أدغم أحد اللامين في الآخر ، فشدد ؛ فصار الله.

وعلى ذلك تأويل الصمد : أن يصمد إليه من الحوائج ، ويستغاث به ويلتجأ إليه.

وقيل : إن اشتقاقه من وله يله ولها ؛ إذا فزع إليه ، فسمي به ؛ لأن المفزع إليه ، وهو قريب من الأول.

ولكن حق ذلك في الاسم أن يكون ولاه ، فأبدل الواو ألفا ، كما يقال في وكاف :

إكاف ، وكذلك أهل الحجاز يجعلون الواو ألفا ، قال الشاعر :

فأقبلت ألهى ثكلى على عجل

وقيل : سمي به ؛ لأنه أله كل شيء ، أي : ذلّله وعبده ؛ فتأله له ، أي : عبده ، قال قائلهم :

وأله إلهك واحدا متفردا

ساد الملوك بعزه وتمجدا

وقال آخرون : سمي به ؛ لاستتاره ، ومنه يقال : لهت ؛ فلا (٢) ترى ، وقال الشاعر :

لاه ربي عن الخلائق طرا

خالق الخلق (٣) لا يرى ويرانا

وقيل : سمي به ؛ لتحير القلوب عن التفكر في عظمته ؛ كقوله : ألاهني الشيء حتى ألهت ، ومنه مفازة ملهة ، يعني : العقل يحار عند النظر إلى عظمته ، ومنه أله يأله ؛ [فهو إله](٤).

وقال الشاعر :

وبهما تيه تأله العين وسطها

مخففة الأعلام بيد ضر ما تتملق

قال ـ رضي الله عنه ـ : والأصل عندنا : الإغضاء عن هذا ؛ لما أن الحاجة إلى تعرف الاشتقاق والوضع ؛ لتعرف محل الأمر ، وموقع الحكم ، ومن جميع ما اشتقوا به الاسم يحتمل تسمية الغير بكل ذلك ، وتحقيق الإضافة إلى ذلك وتسميته : إلها ، أو إضافة ما به عرف الحقيقة ـ لا يحتمل غيره سبحانه وتعالى ، ولا يجوز التسمية به ؛ فثبت الغناء في معرفته عن جميع الوجوه التي أريد الاستخراج [منها] ؛ إذ هي طرق توصلهم إلى العلم بالمقصود والوقوف على المراد ، وقد عرف دون الذي ذكروا ، والله أعلم.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : ولا.

(٣) في أ : الخلائق.

(٤) سقط في ب.

٦٤٦

والأصل عندنا في ذلك : أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ بلطفه يمنع الخلق عن تسمية أحد : إلها ، إلا من جهة أحوال تعترض ؛ فسموا به على معنى جعل الاسم الذي جرت التسمية به حقيقة له ؛ فسموا ؛ ظنا منهم أن بذلك التوسل والتقرب ، لا أن يروا لشيء من ذلك حقيقة ذلك ، بل قالوا : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] ، وقالوا : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] ، وقالوا : (وَاللهُ أَمَرَنا بِها) [الأعراف : ٢٨] ؛ ليعلم أنهم عرفوا لله ـ تعالى ـ بما دعوا لأنفسهم في ذلك معاني تردهم إلى الله سبحانه وتعالى ، فذكروا مجازا من (١) أحد لسانين ، والله أعلم.

أما لسان الرسل في ذكر الله ففي أمور تقربهم إلى الله تعالى ، لقوله : (فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) [النساء : ٥٩] ، وقال : (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ) [محمد : ٧] ، وقال : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) [الفتح : ١٠] ، وصف مبايعة العبد ونصره أو نصر دينه نصرا لله ومبايعته ، بما يقرب ذلك إليه ؛ فعلى ذلك تسميتهم ما عبدوها ، لا أنهم رأوها آلهة في الحقيقة.

أو عن ألسن الفلاسفة أن ليس لله اسم ذاتي ؛ وإنما سمي هو بذكر كل ذي شرف ومنزلة عنده ؛ فعلى ذلك إذ محل من يعبدون عندهم ما ذكرنا من القول عنهم ؛ فسموا به ، لا أن حققوا كما ذكروا حقيقة ذلك الاسم إلى من عرفوه أنه إله ، ردوا أمرهم في ذلك ، وذلك من لطف الله ـ تعالى ـ فيما سخرهم عليه ؛ كتسمية الخالق والرحمن : أنهم لا يسمون أحدا بهما ، وإن كثرت أفعاله ، وعظمت رحمته في الخلق ؛ ليعلم أنها أسماء الله ـ تعالى ـ منع الخلق عن التسمي بها باللطف من حيث لا يعرف سببه.

ثم قوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) أي : الأمر هو الله أحد ؛ كما تقول : إنه زيد قائم ، أي : الأمر زيد قائم ، جواب من يسألك : ما الأمر والشأن (٢) في أن قمت هاهنا؟ فتقول : الأمر زيد قائم ، أي : قمت لأجله ، إلى هذا يذهب الزجاج ؛ كأنه يذهب إلى أنه لما قال : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) ، فقيل له : ما الأمر والشأن (٣)؟ فقال : الأمر الله أحد ؛ أي : ليعرفوا أنه كذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَحَدٌ) يتوجه إلى واحد ، ثم «واحد» اسم ينفي المثل في الإضافة ، كما يقال : هو واحد الزمان ، وواحد الخلق ؛ على نفي التشبيه له عما أضيف

__________________

(١) في ب : في.

(٢) في ب : البيان.

(٣) في ب : البيان.

٦٤٧

إليه ، ويكون واحدا من حيث العدد بما عن مثله يبتدأ الحساب ، ولا يبتدأ من أحد ؛ فيصير أحدا من ذا الوجه ، وإن كان الله ـ تعالى ـ بأي حرف (١) ذكر ، ففيه ذلك ، وهو الواحد الذي يستحيل أن تكون وحدانيته من وجه يحتمل ثانيا ، أو من وجه تعديل ، هو الواحد الإله الحق (٢) المتعالي عن معنى الأعداد والأنداد ، وهو على ما ذكر الحكيم في الآحاد أنها أربع :

واحد هو كلّ لا يحتمل التضعيف ؛ لإحالة كون وراء الكل.

وواحد هو الأقل ، وهو الذي لا يحتمل التضعيف والتجزؤ ؛ لأنه أقل الأشياء ، [فإذا تنصف يكون](٣) ذلك النصف أقل منه.

وواحد هو وسط ، وهو الذي يحتمل التنصيف والتضعيف جميعا.

والرابع : هو الذي قام به الآحاد هو ، ولا هو أخفى من هو ، هو الذي انخرس عنه اللسان ، وانقطع دونه (٤) البيان ، وانحسرت عنه الأوهام ، وحارت فيه الأفهام ، فذلك الله رب العالمين.

والأصل في ذلك : أنه لا سبيل إلى العبارة عنه بغير هذا اللسان ، ولا وجه للتقريب إلى الأفهام بهذا اللسان إلا بما جرى به الاعتياد ، وظهرت به المعارف ؛ فلما ذكرنا من الضرورة جعل التوحيد في الحقيقة بالأدلة والبراهين في ضمن التسمية في عبارة اللسان ، وحقه مما أخبرت من ضرورات الأحوال في إرادة التقريب إلى الأفهام إلى عبارات اللسان المؤسس على الاعتياد في إظهار المعارف ؛ فعلى ذلك القول ب «واحد» ، وب «أحد» ، لا على أحدية غيره من جهة التوسط ، أو من جهة القلة ، أو من جهة الكثرة ، مع ما كل من هو في معنى واحد ، فهو واحد الآحاد المجتمعة ، إلا الواحد الذي يقال جزء لا يتجزأ ، وهو من غير في الجملة متجزئ عن توهم ذلك الجزء غير متجزئ في الوهم ، أو هو الأقل منه ، وهو جزء في الحقيقة ، والله يتعالى (٥) عن الوصف بالكل والبعض ، والقليل والكثير ، والواحد مما له حق الأبعاض ، أو الكل ، أو رتبة القليل والكثير ، جل ثناؤه ؛ بل هو الذي [خلق](٦) جميع ما وصفت ، وجعل لكل من ذلك مقابلا بما ذكر ؛ ليصير كل من

__________________

(١) في أ : حرفين.

(٢) في أ : الخالق.

(٣) في أ : وإذا يتصف بكون.

(٤) في ب : عنه.

(٥) في ب : متعالي.

(٦) سقط في ب.

٦٤٨

ذلك زوجا ؛ فتكون الوحدانية الحق له ، ولا قوة إلا بالله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (اللهُ الصَّمَدُ).

فذكر أنه أحد ، وذكر أنه الصمد في تحقيق ما وصف من الأحدية ، وهو ـ والله أعلم ـ أن أحوج جميع من سواه ؛ حتى تحقق قصد جميع من سواه بالحاجات إليه بالكون في الخلقة وفي الصلاح بعد الكون ، وفي الذي به الدوام بعد الوجود ، والوجود بعد العدم ما احتمل الوجود دونه ، ولا البقاء إلا به ، أحاطت الحاجات بكلّ ؛ ليكون له الغناء عن الكل في الوجود والبقاء ؛ ليتحقق أنه الموجود بذاته والباقي بذاته ، والمتعالي عن معنى وجود غيره سبحانه ، وهو على ما ذكرنا من عجز الألسن عن البيان عنه بالعبارة إلا على التقريب إلى الأفهام بالمجعول من آثار هويته في جميع الأنام.

ثم قيل في (الصَّمَدُ) بوجوه يرجع جميع ذلك إلى ما بينا.

أحدها (١) : السيد الذي قد انتهى سؤدده ، ومعنى ذلك في المفهوم من السؤدد في صرف الحوائج (٢) إليه ، ورجاء كل المحاوج (٣) به.

والثاني (٤) : في أن لا جوف له ، وذلك في وصف الوحدانية والتعالي عن معنى أحدية غيره من اجتماع أجزاء ممكن فيها الفرج والثقب التي هي كالأجواف.

أو على ما فسر قوم بالذي هو في ظاهر العبارة مخرج (٥) الكتاب ، وهو الذي ذكر على أثره ، وهو قوله ـ تعالى ـ : (لَمْ يَلِدْ) ؛ لأن كل ذي الكون ذو جوف عنه يتولد الأولاد ، ويكون في ذلك إحالة قول من نسب إليه الولد ؛ فيقول : كيف يكون له ولد ، وقد تعلمون أنه ليس بذي جوف؟ كما قال : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ) [الأنعام : ١٠١] في قوم نزهوه عن الصاحبة ، وهم لم يشهدوا الولادة إلا بها ، كما لم يشهدوا الولادة إلا عن ذي جوف ؛ فيكون في هذا نقض قول هذا الفريق فيه بالولادة بما نزهوه عن الجوف ، كما في الأول بما برءوه عن الصاحبة.

وقيل : بما لذي الأجواف من الحاجات ؛ فيرجع إلى التأويل الأول : أنه المصمود إليه

__________________

(١) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٣٨٣٢٩) ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة ، والبيهقي في الأسماء والصفات من طرق عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٧١٣) وهو قول أبي وائل أيضا ، وفي ب : أحد.

(٢) في ب : الجوارح.

(٣) في ب : المخارج.

(٤) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير عنه (٣٨٣٠٤) وهو قول مجاهد ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، والشعبي ، والضحاك ، وغيرهم.

(٥) في ب : بمخرج.

٦٤٩

بالحوائج.

وظن قوم : أنه إذا نفى عنه الجوف ثبت أنه مصمت ، وذلك معنى اجتماع أجزاء تتداخل فتتكاثر كذي الجوف هو اجتماع أجزاء تتفق ، فإذا تحقق التنزيه عن أحد الوجهين تحقق التنزيه عن الوجه [الآخر](١) ؛ ففي الوجهين نفي (٢) الوحدانية ، وتحقيق ازدواج الأجساد مع ما قد ينفى عن أشياء أمور لا تحقق لها المقابلة ؛ كما ينفى عن الأعراض : السمع والبصر والعلم ، لا على إثبات مقابلتها بما علموا أن الأعراض لا تحتمل الإعراضات ؛ فعلى ذلك العلم بوحدانية الله ـ تعالى ـ والتنزيه عن احتمال الأزواج يحقق القول الذي ذكرت.

وقد قيل في الصمد : إنه الدائم ، وذلك ـ أيضا ـ يرجع إلى ما ذكرت : أنه لا يحتمل التغير والاستحالة وإصابة أثر الحاجة ، وهو المصمود إليه بالحوائج.

وقد قال قائل في التأويل الأول :

لقد بكر الناعي بخيري بني أسد

بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد

ويقال : صمدت إلى فلان ، أي : قصدت إليه ، وهذا يوضح معنى الصمد : أنه يصمد إليه في الحوائج.

وقيل في ذلك : إن الصمد تأويله : (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ).

قال الشيخ أبو منصور ـ رضي الله عنه ـ : الأصل : أنه ـ تعالى ـ عظم القول بالولاد ما عظم بجعل الشركاء ؛ وذلك أن معنى الولاد : أن يكون بجوهر من له ولد ؛ فيكون بذلك شريكا ، وذلك ينفي التوحيد ؛ فعلى ذلك القول بالولاد ؛ لذلك عظم القول به ، وألزم على من عرفه بالأدلة القول ببراءته عن الولاد ؛ كما ثبت الاشتراك من الوجه الذي بينا ، وقد شهد العالم بكليته بحق الخلقة على أنه ـ تعالى ـ منشئه عن الشركاء والأشباه جميعا ؛ فيبطل القول بالذي ذكرنا ، مع ما كان جميع الخلائق على الإشارة إلى كل منه يحتمل الازدواج ، ومنه يكون التوالد ، والله تعالى متعال عن ذلك.

وبعد : فإن [كلام العالم](٣) على الإشارة إلى آحاد متولد عن غير ، أو يتولد منه غير ، وهما أمران راجعان إلى ما عليه حق هذا العالم ، وعليه موضوعهم ؛ وقد ثبت تعاليه عن

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : ففي.

(٣) في ب : كلّا من العالم.

٦٥٠

جميع معاني غيره ؛ إذ كل غير له بجميع معانيه حدث بعد أن لم يكن أتى عليه تدبير غيره ، وجرى عليه تقدير سلطان غيره ، والله ـ تعالى ـ لو كان يتوهم شيء من ذلك فيه تسقط له الألوهية ، وتحقق له الحاجة إلى غيره ، ويوجب جري سلطان غيره عليه ، وذلك يوجب غيرا خارجا عن هذه المعاني ؛ حتى تسلم الأدلة له على حد الموضوع ، وتصفو له الشهادة على ما قامت وانقطعت بالخلقة ، وبما فيه من الحكمة ، ولا قوة إلا بالله.

وعلى ذلك ختم السورة : أن ليس له أحد كفؤا ؛ لأنه من ذلك توجب المماثلة ، وفي المماثلة اشتراك ، وقد ثبت فساد العالم بتوهم الاشتراك في تدبيره ، وقد لزم التعالي عن المعاني التي للأرواح بها يقوم التدبير ، ويجري سلطان التقدير.

وجائز أن يكون مخرج السورة في تحقيق نعت من قد عرفوه بإحدى خصال ثلاث :

إما بالتلقين لكل عن كل ، إلى أن ينتهي ذلك إلى علام الغيوب ، فسخرهم بذلك وأنشأهم على ذلك ؛ حتى أيقن من جحد ذلك أنه بعد تلقين متوارث ظاهر لا يحتمل مثله الخطأ في حق توارث الأمور بما يبطل المعارف كلها بأسرها ـ أنشئوا وبها (١) تعالموا ، وذلك كأول (٢) علوم الخلق وكالشيء المطبوع الذي لا يستطاع جحده إلا بما (٣) لعل الطباع المخلوقة على جهة الرياضة وأنواع الحيل.

وإما بالتأمل فيها في كل جزء من أجزاء العالم من الأدلة عليه والشهادة له ؛ فبين بالآية للذين عرفوه بأحد الوجوه التي ذكرنا [أن] نعته كذا ؛ ليقطع به توهم المثل له ، أو (٤) العدل في أمر ؛ وليعرفوا أن القول بغير خارج عن الوجوه التي ذكرنا ، وأنه يرجع إلى ضرب من التلقين ، ليس له حق الطباع ولا حق التلقين الذي له صفة الكافية والكلية في التلقين ، ولا في حق شهادة الكل بالخلقة يدرك بالتأمل والتفكر ؛ فيمتنع عن ذلك ، ويرجع إلى حقيقة ما جرى به النعت دون غيره مما [ألفوا فيه](٥) يرجع إلى تلقين من ذكر ، وتلبيس بلا حجة ؛ لذلك لا يضاهي شيئا مما ذكرت ، مع ما في كل ذلك جميع ما في غير ذلك من شهادة الخلقة ، والحاجة فيها إلى غيره من الإيجاد والإبقاء ، وهو الأحد بما لا دليل لغيره ؛ بل في ذلك إحالة الألوهية من كل الوجوه الثلاثة ، وهو الصمد بمعنى المصمود إليه في

__________________

(١) في ب : وبه.

(٢) في ب : كأولة.

(٣) زاد في أ ، ب : به.

(٤) في ب : و.

(٥) في ب : القول به.

٦٥١

الحوائج ، المالك لقضائها ، وهو الذي لم يلد ولم يولد ، وهو المتعالي عن احتمال ولاد فيه ومنه ؛ لما ذكرت من فساد (١) الألوهية (٢) الثابتة له بما ذكر من الوجوه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) ؛ لما في كل أحد سواه جميع الوجوه التي منها يعرف سلطان غيره عليه ، وأنه ذليل لمن ذل له كل شيء على السواء ، ولا قوة إلا بالله ، ومنه الاستهداء ، ولما ذكرت سميت هذه السورة : سورة الإخلاص ؛ لأنها في إخلاص التوحيد لله ، ونفي الأشباه (٣) والشركاء في الألوهية والربوبية ، وأن كل شيء سواه مربوب (٤) ومملوك له ، ولا قوة إلا بالله.

* * *

__________________

(١) في أ : خسار.

(٢) في ب : الإلهية.

(٣) في ب : الاشتباه.

(٤) في ب : مربوبه.

٦٥٢

سورة الفلق ، [وهي مدنية](١)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (١) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (٢) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (٣) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (٤) وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ)(٥)

قوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) :

قال الفقيه ـ رحمه‌الله ـ : الأمر بالتعوذ به يحتمل وجوها ثلاثة :

أحدها : على التعليم ، لا لنازلة كانت في ذلك الوقت ؛ لكن لما علم الله ـ تعالى ـ من عظيم (٢) شر من ذكر بما يظن بالأغلب أن شر ما ذكر يتصل بالذي ذكر في علم الله تعالى ؛ فأمرهم بالتعوذ به ، كما أخبر في أمر الشيطان : أنه عدو لهم ، وأنه يراهم من حيث لا يرونه ؛ ليكونوا أبدا معدين متيقظين فزعين إلى الله ـ تعالى ـ معتصمين ، وهذا أحق في التعليم من الذي ذكر في سورة الناس ؛ لأنه أضر من ذلك العدو ؛ لأن ضرره إنما يتصل به بإتيانه ما دعاه إليه الشيطان ، وما يوسوس في صدره الوسواس ، وذلك فعله يمكنه الامتناع عنه ، وهذا الضرر يقع بفعل غيره من وجه لا يعلم مأتاه ـ أعني : شر النفاثات ونحو ذلك ـ فهو أحق في تعليم العباد فيه ، والأمر بالفزع إلى من بلطفه جعل ذلك الفعل ممن ذكرنا معمولا فيه مؤثرا.

والثاني : ما قيل : نزل جبريل ـ عليه‌السلام ـ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [فقال] : «إن عفريتا من الجن يكيدك ؛ فتعوذ بأعوذ برب الفلق ، وبرب الناس من شره إذا أويت إلى الفراش».

والثالث : قيل : إن واحدا من اليهود سحر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزل هذا.

قال أبو بكر الأصم : ذكروا في [هذه السورة](٣) حديثا فيه ما لا يجوز ؛ فتركته.

قال الفقيه ـ رحمه‌الله ـ : ولكن عندنا فيما قيل : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سحر ـ وجهان في إثبات [رسالته ونبوته](٤).

أحدهما : بما أعلمه بالوحي أنه سحر ، وذلك فعل فعلوه سرا منه ، ولا وقوف لأحد على الغيب إلا بالوحي.

والثاني : بما أبطل عمل السحر بتلاوة القرآن ؛ فيصير لتلاوته في إبطال عمل السحر ما

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : عظم.

(٣) في ب : هذا.

(٤) في ب : نبوته ورسالته.

٦٥٣

لعصا موسى ـ عليه‌السلام ـ وأن هذا في كونه آية (١) أعظم مما فعل موسى عليه‌السلام ؛ لأن ذلك يتنوع بتنوع ما له الفعل والعمل من حيث الجوهر والطبع من حيث مرأى العين ؛ فإنه ثعبان يلقف ما صنعوا. فأما إبطال السحر وعمله بتلاوة القرآن لا يكون إلا باللطف من الله تعالى ، والله أعلم.

ثم الأصل في هذا عندنا : أنه قد ثبت الأمر بالتعوذ بقوله : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) ، وقد بينا حق الاشتراك فيما يتضمن هذا الأمر إن كان على نازلة في واحد ، أو على ابتداء التعليم ، فهو أمر فيه رجاء للفرج والمخرج من الأمور الضارة بما يعتصم فيها بالله ـ تعالى ـ بما عنده من اللطائف ؛ فجائز تمكينه من أمور ضارة باللطف من حيث لا يعلم البشر مأتاه ، ولعل الذي يعمل به لا يعلم حقيقة ذلك العمل الذي جعل الله لذلك العمل إلا بما سبق من وقوع ذلك ، وقد يجوز الأمر والنهي بأشياء بعينها (٢) من الأفعال ؛ لمكان (٣) ما يتولد عنها من المنافع والمضار باللطف من حيث لا فعل في حقيقة ذلك للخلق ؛ وإنما ذلك لطف من الله ـ تعالى ـ نحو ما نهى عن أكل أشياء ، وأمر بها ، مما بها (٤) الاعتداء والقتل ، من غير أن نعلم حقيقة وصول ذلك إلى ما يعدو أو يقتل وأي حكمة في ذلك ومعنى له؟.

وكذلك الموضوع من المناكح لطلب الولد وسقي الأشجار [والزروع بما يحدث الله فيها ، وإن كان وجه العمل بالمأمور به ، والمنهي عنه ، وحقيقته بغير الذي له ذلك. وعلى ذلك الأمر بالاستماع](٥) ، والنظر لما يلقى إليه ويراه ، وإن لم يكن حقيقة الإدراك فعله.

وعلى ذلك التقدير جائز أن يكون الله ـ تعالى ـ يجعل النفث بالعزائم ، أو بأنواع السحر ، أو بأنواع الرقى ـ أعمالا في المقصود بها من النفع والضر ، لا يعلم حقيقة الوقوع والمعنى الموضوع فيه له من فيه ذلك الفعل ، وهو به مأمور ، وعنه منهي ؛ بما له من حقيقة الفعل ، وإن لم يكن النافع به في حقيقة فعله.

ثم قوله ـ عزوجل ـ : (الْفَلَقِ) اختلفوا فيه :

قال بعضهم (٦) : الصبح.

__________________

(١) في ب : أنه.

(٢) في أ : وعنها.

(٣) في ب : بمكان.

(٤) في ب : نها.

(٥) سقط في أ.

(٦) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير عنه (٣٨٣٥١) وهو قول سعيد بن جبير ، ومجاهد وقتادة وغيرهم.

٦٥٤

وقيل : كل شيء ينفلق من جميع ما خلق ، نحو الأرحام ؛ ليتعرف ما فيها ، والحب ، والنوى ، والهوام ، وكل شيء.

فمن ذهب إلى تخصيص الصبح ؛ فهو لأنه آخر الليل ، وأول النهار ، وقد جرى تدبير الله ـ تعالى ـ في إنشاء هذين الوقتين على جميع العالم ، بحيث لا يملك أحد الامتناع عن حكمهما فيما جعل لهما ، وهما النهاية في العلم بعلم الله ـ تعالى ـ الغيب ؛ إذ جرى من تدبيره في أمر الأوقات في الليل والنهار على حد واحد كل عام ، بما فيهما من الرحمة للخلق وأنواع المحنة ، ومنّ عليهما بما يأتيان الخلق ويذهبان ؛ فكأنما ذكر جميع الخلق على ما ذكر في تأويل قوله ـ تعالى ـ : (بِرَبِّ النَّاسِ) [الناس : ١] ؛ فيكون فيه لو [قصد بالذكر](١) ما في كل ذلك ، ولا قوة إلا بالله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) ، له وجهان :

أحدهما : من شر خلقه ؛ لما أضاف إلى فعله ؛ كما يقال : «من شر فعل فلان» ، أي : من شر [ما] يفعله.

ويحتمل من شر يكون من خلقه ، لكن الإضافة إليه بما هو خالق كل شيء من فعل خلقه ، ومن خلق ما له الفعل ولا فعل.

والأول كأنه أقرب ؛ لما ذكر في بقية السورة [من] الواقع (٢) بخلقه المكتسب من جهتهم ، وأضيف إليه ؛ لما [بينا ، ولأن](٣) كل شر اكتسبه الخلق فذلك منسوب إلى الله ـ تعالى ـ خلقا ، وهو فعل المكتسب وكسبه ، فمتى كان المراد من قوله ـ تعالى ـ : (مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) هذا النوع ؛ فكأن ذكر ما بعده يكون تكريرا.

وإذا حمل الأول على محض التخليق فيما لا صنع للخلق فيه من الشرور ، كان ذكر ما لهم صنع (٤) فيه ـ وإن كان بخلق الله تعالى ، لا يكون تكريرا ـ فيكون هذا التأويل أحق ، مع ما قد بينا أنه يمنع في فعل غيره بلطف ، [أو إعجاز ، وفي الإعجاز لا يحتمل التعوذ من شر من لا يقدر على فعل يتصل به الشر ، وفي ذلك إثبات التمكين لما يقع به الشر ؛ فيجوز](٥) التعوذ من الذي منه أذية تكون من غيره ، على ما بينا من جواز الأمر والنهي عن

__________________

(١) في ب : قصدنا لذكر.

(٢) في ب : الرافع.

(٣) في ب : يتناولان.

(٤) في ب : صنيع.

(٥) سقط في أ.

٦٥٥

أفعال لمكان ما يقع بها ، وإن لم يكن الواقع في الحقيقة لهم ؛ فعلى ذلك التعوذ من شر خلقه ، وهو التمكين [والله الموفق والمعين](١).

وفي هذا تعلق بعض من يقول [بأن القوة](٢) تسبق الفعل : أنه لو لم يكن له قوة على الشر كيف كان يتعوذ من شر من لا يقوى عليه؟.

والجواب من وجهين :

أحدهما : أن التعوذ يكون بما سيفعل بما يملك هو ما يقع لديه الفعل ، وهو الآلات السليمة والقدر تحدث تباعا على حدوث الأفعال ، وتحدث لما يختار هو ؛ فصارت القدرة في كونها لما يختار ؛ ككون ما يختار من الفعل بالاختيار بحدوث القدرة حالة الفعل ؛ فيتعوذ منه ؛ لعلمه أن الذي به كأنه في يده.

والثاني : أن قد جرت العادة بالعلم بما يقع في المتعارف : كالعلم بما هو واقع في الرغبة والرهبة ؛ ألا ترى أنه يتعوذ من ظلم الجبابرة والظلمة ، على ما بينهم من بعد الأمكنة وطول المدد ؛ لإمكان الوصول بما اعتيد (٣) منهم بلوغ أمثال ذلك ، وإن كانت القدرة على الظلم في حقه للحال معدومة ، لا تبقى في مثل هذه المدة ؛ فعلى ذلك الأمر الأول :

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ) ، اختلف فيه :

قيل : الغاسق : هو الليل المظلم : والغسق الظلمة.

وقيل : سمي الليل : غاسقا ؛ لأن الغاسق : البارد ، قال الله تعالى : (لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً. إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً. جَزاءً وِفاقاً) [النبأ : ٢٤ ـ ٢٦] ، والليل أبرد من النهار ؛ لذلك سمي : غاسقا.

والأصل في هذا : أن الذي ذكر لا يكون منه ضرر يتعوذ منه ، لكنه يرجع إلى من كان في ظلمة الليل ، أو في نور القمر من الذي يأتي منه المضار ، ومعلوم أن من الشرور ما لا يمكن منها إلا في ظلمة الليل ، ومنها في الليالي لا يمكن إلا بنور القمر ؛ فأمر بالتعوذ مما يكون فيها ، لا أن يكون منها ، وهو كقوله ـ تعالى ـ : (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) [يونس : ٦٧] ؛ لما يقع به الإبصار ؛ لا أنه يقع منه ذلك.

وهذا ـ والله أعلم ـ ليس على تخصيص الليل بذلك ؛ لأنه ليس له فعل الضر ، لكن قد يعرض به الإمكان من الشر ؛ لما المعلوم أن من الشرور ما لا يمكن منها إلا في ظلمة

__________________

(١) في أ : والمستعان.

(٢) في أ : بالقوة.

(٣) في أ : اعتقد.

٦٥٦

الليل ، ومنها في الليل لا يمكن إلا بنور القمر ؛ فأمر بالتعوذ منه عما يتحقق فيه ؛ فعلى ذلك يجوز التعوذ من شر النهار ، على تأويل ما يقع به من التمكين من الشر ، ويوجد فيه ، والله أعلم.

وقوله : (إِذا وَقَبَ) اختلفوا في معنى (وَقَبَ) : قيل (١) : إذا جاء ودخل.

وقيل (٢) : ذهب.

وقيل (٣) : معناه : القمر إذا خسف ، أمر بالاستعاذة من ذلك ؛ إذ هو علم من أعلام الساعة ؛ لهذا قال : (إِذا وَقَبَ) ؛ إذ القمر لا يخسف إلا في الليل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ) :

فهذا تعوذ من شرهم بحسب سببه ، لكنه في الحقيقة فعل لهم ، وفي الأول يقع سببه بلا صنع لهم ، فكأنه في الجملة أمر بالتعوذ من كل سبب خيف تولد الشر منه ، فعلا كان ذلك له أو لم يكن ؛ ألا ترى إلى قوله ـ تعالى ـ : (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) [لقمان : ٣٣] ، وقد يكون للشيطان فعل في الحقيقة ، ولا يكون للحياة الدنيا فعل ؛ فوقع النهي عن الاغترار بهما ؛ فعلى ذلك التعوذ من شر الأمرين وإن لم يكن لأحدهما فعل بما يقع فيه.

وجائز أن يكون من هذا الوجه في الملائكة محنة في الدفع والحفظ ؛ لقوله ـ عزوجل ـ : (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) [الرعد : ١١] ، قيل فيه : أي : بأمر (٤) الله يقع حفظه ؛ فجائز أن يكون في هذه الأمور الخفية ، وأنواع المضار من حيث لا يعلم إلا بعد جهد يقع الحفظ بالله ـ تعالى ـ على استعمال الملائكة.

وعلى ذلك يجوز أن يكون أمر سلامة المطاعم والمشارب والمنافع التي للبشر عن إفساد الجن ، يحفظ ما ذكر ؛ ليكون فيها محنة للملائكة ، على ما كان مكان وسواس الشيطان إيقاظ الملائكة ومعونتهم.

ويحتمل أن يكون الله ـ تعالى ـ لم يمكنهم إفساد ما ذكرنا وإن مكنهم الوسواس ؛ إذ باللطف يمنع من حيث لا يعلم.

__________________

(١) قاله محمد بن كعب أخرجه ابن جرير عنه (٣٨٣٦٦ ، ٣٨٣٦٧).

(٢) قاله عطية أخرجه ابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٧١٨).

(٣) أخرجه ابن جرير (٣٨٣٧٧ ، ٣٨٣٧٨) ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ في العظمة ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه كما في الدر المنثور (٦ / ٧١٨).

(٤) في ب : بأوامر.

٦٥٧

وقيل ـ أيضا ـ : من أمر الله : عذابه وأنواع البلايا إلى وقت إرادة الله ـ تعالى ـ الوقوع.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ) يخرج على وجهين :

أحدهما : إذا كان الحاسد دون المحسود ، لا يقوى على الشر ليفعل به ، والشر المتوهم منه يكون من شر عينه ، وعمل الحسد إرادة زوال نعم المحسود وذهاب دولته.

وإنه جائز أن يكون الله ـ عزوجل ـ بلطفه (١) يجعل في بعض الأعيان عملا يتأدى (٢) بالنظر إلى ما يستحسنه من النعم (٣) إلى الزوال ، ويؤثرون ذهاب الدولة عنه ؛ فأمر بالتعوذ لهذا ، وقد بينا لك المتولدات من الأفعال بما جعل الله ـ تعالى ـ فيها من المضار والمنافع ما لا يبلغها علوم الخلق ، بل لو أراد الخلق أن يعرفوا ما في البصر من الحكمة التي تدرك بفتح البصر ما بين السماء والأرض من غير كثير مهلة ، لم يقدروا عليه.

وروى عمران بن حصين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا رقية إلا من عين أو حمة».

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : «العين حق ، فإن كان شيء يسبق القدر لسبقه العين».

وفي خبر آخر : «لا شر في الهام ، والعين حق».

ويدل عليه في قصة إخوة يوسف ـ عليه‌السلام ـ : (وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ) [يوسف : ٦٧].

وقد فسر قوم وجه عمل العين وكيفيته ، لكنه أمر كعمل الشمس في العين نفسها فيما تبصر الشمس وتنظر إليها ، فإنها تضره وتغلبه عن النظر على بعدها من العين بما جعل الله ـ تعالى ـ وذلك من اللطف والحكمة ، وكذلك عمل العين في المعيون.

والثاني : أن يكون بما حسد أن يبعث حسده على الحيل وأنواع ما به العين من السعي في الأمور التي بها الفساد على ضعفه في نفسه ؛ قال الله ـ تعالى ـ في صفة المنافقين : (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ) [المنافقون : ٤] ، فمع ما بين من فشلهم وضعفهم ، أمرهم بالحذر عنهم ، وقال : (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) [النساء : ٧٦] ، ثم أمر بالتعوذ من شره ؛ فكذلك الحاسد ، والله أعلم [بالصواب](٤).

__________________

(١) في ب : باللطف.

(٢) في ب : يتأذى.

(٣) في ب : النعيم.

(٤) سقط في ب.

٦٥٨

سورة الناس ، مدنية

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (١) مَلِكِ النَّاسِ (٢) إِلهِ النَّاسِ (٣) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (٤) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (٥) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ)(٦)

قوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) :

ظاهره أمر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشيء مشار إليه ، وهو التعوذ ، وحق الإجابة في مثله أن [يقول : أعوذ ، لا أن يقول : (قُلْ أَعُوذُ)](١) لكنه ـ والله أعلم ـ يخرج على وجهين :

أحدهما : أن يكون ذلك أنزل بحق أن يصير ذلك أمرا لكل من بلغه ، وتعليما بالذي عليه من الاعتصام بالله ـ تعالى ـ والالتجاء إليه من شر الذي ذكره ؛ ليعيذه ، وتكون الإعاذة بوجهين :

أحدهما : في تذكير (٢) ما عرفه من الحجج في دفع ما يخطر بباله من المكروه.

والثاني : باللطف الذي لا يبلغه علم الخلق ، ولا تدركه عقولهم مما لديه نفع الأمن من الزيغ مما حقه الإفضال ، والذي ذلك حقه ، فلله ـ تعالى ـ أن يكرم به العبد مبتدئا ، وله أن يقدم فيه محنة السؤال والاعتصام به ؛ على الإكرام أيضا ، ويلزم على من عصم به عن الزلة ، أو هدي إلى حسنة : الشكر لله ـ تعالى ـ فيما ابتدأه أو أكرمه به عند السؤال.

والوجه الثاني من وجهي الخطاب : أن يكون الخطاب لغيره ، [وإن كان](٣) راجعا إلى مشار إليه ، فهو مما يشترك في معناه غيره ؛ فأبقى (٤) وأثبت ما به يصير مخاطبا من بلغ ذلك ، وهو قوله ـ تعالى ـ : (قُلْ) حتى يدوم هذا إلى آخر الدهر ، وعلى هذا جميع ما فيه حرف الكلفة والمحنة ـ أعني : صيغة الأمر ـ والله الموفق.

ثم في قوله ـ تعالى ـ : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ...). إلى آخر السورة وجهان من الحكمة ، فيهما نقض قول أهل الاعتزال :

أحدهما : أن المحنة قد ثبتت بالامتناع عن (٥) طاعة الشيطان والمخالفة له : فإما أن كان

__________________

(١) ما بين المعقوفين في أ : يقول : قل أعوذ ، وفي ب : يقول : إن القول : قل أعوذ ، وما أثبتناه هو ما نرى أنه الصواب.

(٢) في ب : تذكر.

(٣) سقط في ب.

(٤) في ب : فأنفي.

(٥) في ب : من.

٦٥٩

الله ـ تعالى ـ أعطاه جميع ما يقع به الامتناع حتى لا يبقى عنده مزيد ، أو لا يعطيه جميع ذلك ، بل بقي عنده شيء منه.

فإن كان قد أعطاه ، فهو بطلب ذلك بالتعوذ والاعتصام بالله ـ تعالى ـ كاتم لما أعطاه ، طالب ما ليس عند الله ـ تعالى ـ فيكون الأمر بالتعوذ محنة وأمرا بما به كتمان ذلك ، وذلك حين استوفاه يكون إنكاره ستر نعم (١) الله ـ تعالى ـ وقد تبرأ عن الأمر بالفحشاء والمنكر ، وبين أن ذلك عمل الشيطان.

ثم في المحنة بهذا محنة بالاستهزاء بالله تعالى ؛ لأنه يطلب منه ما يعلم أنه (٢) لا يملكه ، ولا يجده عند نفسه ، وذلك من علم الهزء عند ذوي العقول ، فمن ظن أن الله ـ تعالى ـ يمتحن عباده ويأمرهم بشيء مما ذكرنا ، فهو جاهل بالله ـ تعالى ـ وبحكمته وإن لم يكن الله تعالى [يمتحن عباده ، ويأمرهم بشيء مما ذكرنا ؛ فهو جاهل](٣) [بما] أعطاه وعنده بعد ذلك.

ثم كان من مذهبهم أنه ليس لله ـ تعالى ـ أن يمتحنهم بفعل إلا بعد إيتاء جميع ما عنده مما به قوامه ووجوده ؛ ففي ذلك اعتراف بلزوم المحنة وتوجه التكليف قبل إيتاء جميع ما عنده مما به الوصول إلى ما أمر به ، وذلك ترك مذهبهم مع ما كان عندهم أنه لو كان عند الله ـ تعالى ـ أمر ومعنى ، لا يقع فعل المختار ؛ لأجل أنه لا يعطيه ذلك ـ لم يكن له أن يمتحنه ، وهو بالامتحان جائر.

وإما أن سألوه بفعل قد أمر به ، وإن لم يكن أعطاه ذلك ، وهم ما وصفوا الله ـ تعالى ـ بمثل ذلك أو بفعل يتلو وقت الأمر ذلك ؛ فيكون إعطاء ذلك وقت الأمر ؛ فكأنه ظن أن ي] أمر ولا يعطي حتى يسأل ، وذلك حرف الجور.

ثم الأصل الذي اطمأن به قلوب الذين يعرفون الله ـ تعالى ـ أنه متى هدى الهداية التي يسأل أو عصم العصمة التي يطلب ، أو وفق لما يرجو من الفعل ، أو أعانه عند ما يخاف أنه كان ذلك لا محالة ، وتحقق بلا شبهة ، ويأمن لديه من الزيغ والضلال ، وعلى ذلك جبلوا (٤) مما لا نجد غير معتزلي إلا وقد اطمأن قلبه به ، حتى يعلم أن هذا منه وقع المجبول عليه بالتقليد ، ولا قوة إلا بالله تعالى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (بِرَبِّ النَّاسِ. مَلِكِ النَّاسِ. إِلهِ النَّاسِ) ، ولم يقل :

__________________

(١) في ب : نعمة.

(٢) في ب : لأنه.

(٣) سقط في أ.

(٤) في ب : حلوا.

٦٦٠