تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٩٥

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) تأويله : أنهم يعرفون أنهم يصلونها بتكذيبهم بها ، وحجبوا عن الله ـ تعالى ـ بتكذيبهم بذلك اليوم ، وإلا لو آمنوا وأقروا أن النار حق والبعث حق ، لم يكونوا يصلونها ؛ فيعرفون حتى يقروا (١) بذلك بقوله : (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) [الملك : ١١].

قوله تعالى : (كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (١٩) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٢٣) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (٢٦) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) (٢٨)

وقوله ـ عزوجل ـ : (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) : ذكر الأبرار هاهنا مقابل الفجار في الأول ، ثم بين الفجار أنهم المكذبون بيوم الدين ، وذلك أول منازل الكفر ، فإذا أريد بالفجار : الكفار ، أريد بالأبرار : الذين آمنوا ؛ فلذلك قيل بأن الأبرار هم المؤمنون.

والبر هو الذي يكثر منه تعاطي فعل البر ، فسمي : بارا ؛ إذا كثر منه [البر](٢) ، والفاجر : هو الذي يكثر منه فعل الفجور ؛ فجائز أن يكون الوعيد في الذين بلغوا في الفجور غايته ، ويكون حكم من دونهم متروكا ذكره ؛ فيوصل إلى معرفة حكمه بالاستدلال ، ويكون الوعد في الذين أكثروا أفعال البر ، ويكون حكم من دونهم معروفا بغيره من الأدلة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) : ذكر شهود المقربين في ذكر كتاب الأبرار ، ولم يذكر شهودهم عند ذكر كتاب الفجار ، فجائز أن يكون شهودهم على التعظيم لعمله ، والدعاء له ، وغير ذلك.

وقيل (٣) : المقربون : هم مقربو أهل كل سماء (٤).

وقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ) : البرّ هو الذي يبذل ما سئل عنه ، ويجيب إلى ما دعي إليه ، فإذا أجاب الله ـ تعالى ـ فيما دعاه إليه من التوحيد ، ووفى بأوامره ، وانتهى عن مناهيه ، فهو من الأبرار.

ثم ما ذكرنا يكون بوجهين :

__________________

(١) في ب : يتفرقوا.

(٢) سقط في ب.

(٣) قاله الضحاك أخرجه ابن جرير عنه (٣٦٦٦٤).

(٤) في ب : السماء.

٤٦١

أحدهما : بالاعتقاد ، وبتحقيقه بالفعل والمعاملة ، فهذا قد وفى بما طلب منه قولا وفعلا ؛ فيكون هذا ممن يقطع فيه القول باستيجاب الوعد المذكور للأبرار.

والثاني : أن يقوم بوفاء ما طلب منه اعتقادا ، ولم يف ما اعتقده (١) بفعله ، فالحكم في مثله الوقف ، ولا يقطع فيه القول باستيجاب الموعود ، بل لله ـ تعالى ـ أن يجازيه بما ضيع من حفظ حدوده بقدر ما وجد من التضييع ثم يلحقه بأهل كرامته ، وله أن يعفو عنه بفضله وسعة رحمته.

والفجور : هو الميل ، والميل يكون بوجهين :

أحدهما : بترك الاعتقاد والفعل جميعا.

و [الثاني :] ميل في المعاملة ، وهو أن يخالف فعله عقده.

فالذي وجد منه الميل على (٢) الوجهين جميعا ، يحل به ما أوعد لا محالة ، وأما الذي خالف فعله عقده فإنه يوقف فيه ، ولا يشهد أنه من جملة من يلحقهم الوعيد لا محالة.

قد ذكرنا أن البر إذا ذكر على الانفراد أريد به ما يراد بالتقوى والبر جميعا ، وكذلك التقوى إذا أفرد اقتضى معنى البر ، وإذا قرنا جميعا أريد بالتقوى جهة ، وبالبر جهة ، وذلك أن التقوى : هي (٣) أن يتقي المهالك ، وذلك يكون بالإجابة إلى ما دعي إليه قولا وفعلا ، والانتهاء عما نهي عنه قولا وفعلا ، وهذا هو معنى البر أيضا ، فإذا ذكرا معا أريد بالتقوى الاجتناب عن المحارم ، وأريد بالبر إتيان المحاسن ، وكذلك الإيمان ، إذا [ذكر] بالانفراد أريد به ما يقتضي الإسلام من المعنى والإيمان جميعا ، وكذلك الإسلام يقتضي معنى الإيمان إذا ذكر بالانفراد ؛ لأن الإسلام هو أن يرى الأشياء كلها سالمة لله تعالى ، لا يجعل لأحد فيها شركا ، والإيمان أن يصدق الله ـ تعالى ـ بأنه رب كل شيء ، وإذا صدقت أنه رب كل شيء فقد جعلت [ما يقتضيه ظاهره من جعل](٤) الأشياء كلها سالمة له ؛ فهذا معنى قوله : إنه يراد بالإيمان إذا ذكر بالانفراد ما يراد بالإسلام ، فإذا ذكرا معا أريد بالإسلام ما يقتضيه ظاهره من جعل الأشياء كلها سالمة [له](٥) ، وأريد بالإيمان ما يقتضيه ظاهره ؛ كقوله : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ..). الآية [الأحزاب : ٣٤].

__________________

(١) في ب : اعتقد.

(٢) في ب : عن.

(٣) في أ : القوي هو.

(٤) سقط في ب.

(٥) سقط في ب.

٤٦٢

وكذلك (١) الحكم في الخوف والرجاء إذا ذكر كل واحد من الحرفين مفردا ، اقتضى كل واحد منهما معنى الآخر ، وإذا ذكرا معا ، أريد بكل واحد منهما ما يقتضيه ظاهره ، ولم يصرف إلى ما يراد بالآخر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَفِي نَعِيمٍ) : جائز أن يكون هذا في الآخرة ، يصفهم أنهم أبدا في نعيم.

وجائز أن يكونوا في نعيم في الدنيا والآخرة معا ؛ فيكونون في الدنيا في نعيم العقول دون نعيم الأبدان ، وذلك أنهم يطيعون العقل فيما يدعوهم إليه ؛ فيتنعمون بعقولهم ، ولكن الذي تدعوهم إليه عقولهم ما تأبى أنفسهم الإجابة له ، ويشتد عليها ذلك ، فهم في نعيم العقول لا في نعيم الأبدان ، ونعيم الآخرة نعيم البدن والعقل جميعا ، فتتنعم أنفسهم وعقولهم ، ولا يحملون ما تأبى أنفسهم احتماله ، قال الله ـ تعالى ـ : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) [النحل : ٤١] ، وقال ـ تعالى ـ : (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً ..). الآية [النحل : ٩٧] ؛ فثبت أنهم في الدنيا وفي الآخرة لفي نعيم.

وقوله ـ تعالى ـ : (عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) قد ذكرنا أن كل ما تتوق إليها الأنفس وتشتهى في الدنيا فعلى مثله جرت البشارة لأهل الجنة في الدنيا.

وذكر أن أهل اليمن كان إذا شرف قدر أحدهم وعلت رتبته في الدنيا ، اتخذ لنفسه أريكة نسبت (٢) إليه ؛ فيقال : هذه أريكة فلان ، فجرت البشارة لأهلها بالأرائك ؛ لما يرغب إلى مثلها في الدنيا ، لا أن أرائكها شبيهة بالأرائك التي [تتخذ](٣) في الدنيا ؛ لأن أرائك الجنة مطهرة من الآفات التي هي آثار الفناء ، لكنها ذكرت بهذا الاسم ؛ لما لا وجه للوصول إلى تعريفها بغير اسمها المعتاد فيما بين الخلق.

والأريكة : هي السرير في الحجال.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَنْظُرُونَ) يحتمل وجهين (٤) :

أحدهما : أن يقع النظر في الحجل ، وذلك عند تلاقي الإخوان واجتماعهم على الشراب.

والنظر الثاني يكون إلى مملكته ؛ فيكون ذلك خارجا من الحجال ؛ على ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم [أنه قال](٥) : «إن الرجل من أهل الجنة ليرى جميع ما له بنظرة واحدة ، وأقل ما

__________________

(١) زاد في ب : هذا.

(٢) في ب : نسب.

(٣) سقط في ب.

(٤) في أ : أن يكون.

(٥) سقط في ب.

٤٦٣

يعطى الرجل مثل سعة الدنيا وعرضها» فذلك النظر يجاوز عما في الحجال ؛ فيقع خارجا منها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) ، أي : تعرف لو نظرت في وجوههم نضرة النعيم ، فجائز أن تكون النضرة منصرفة إلى نفس الخلقة ، وهو أنهم أنشئوا على خلقة لا تتغير ، ولا تفنى ، بل بهجة نضرة.

أو تكون نضارتهم بما أنعموا من النعيم.

ثم خصت الوجوه ؛ لأن النظر من بعض إلى بعض يكون إلى الوجوه ، لا إلى غيرها من الأعضاء ؛ فخصت الوجوه بالذكر لهذا ، لا أن تكون النضرة لها خاصة ؛ بل النضرة تشتمل سائر البدن.

والثاني : أن السرور إذا اشتد في القلب أثر في الوجوه ، وكذلك الحزن يؤثر في الوجه إذا اعترى في القلب ؛ فيكون في ذكره (١) نضرة الوجه إخبار عن غاية ما هم عليه من السرور.

وقوله : (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ) قال بعضهم (٢) : الرحيق : هو الخمر الذي لا غش فيه ، وهو أن يكون مطهرا من الآفات.

وقال بعضهم : هو شيء أعده الله ـ تعالى ـ لأوليائه ، لم يطلعهم على ما يتهيأ في الدنيا على ما قال : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) [السجدة : ١٧] ، فهو شراب تقر به أعينهم مما أخفي لهم إلى الوقت الذي يشربونه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (مَخْتُومٍ. خِتامُهُ مِسْكٌ) جائز أن يكون راجعا إلى حال الإناء الذي فيه الرحيق ، وهو أنه مختوم لم تتناوله الأيدي ، وكذلك ترى المرء في الدنيا يختم نفيس شرابه الذي في الإناء بالفدام في الدنيا ، فيخبر أن ذلك الشراب في الإناء على الوجه الذي كانوا يؤثرونه في الدنيا ، وأخبر أن ختامه بأنفس شيء عرفوه في الدنيا ، وهو المسك ، ليس كالختام في الدنيا ؛ لأنهم يختمون أوانيهم في الدنيا بالشيء الرذل ، وبما لا قدر (٣) له عندهم.

وجائز أن يكون منصرفا إلى الشاربين : أنهم لا يشربون أبدا ، بل يكون له ختم ولكن لا تنقطع لذة الشراب عنهم ؛ بل أبدا يجدون من ذلك ريح المسك.

__________________

(١) في ب : ذكر.

(٢) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير عنه (٣٦٦٦٨ ، ٣٦٦٦٩) وهو قول مجاهد ، وقتادة ، وابن زيد.

(٣) في أ : قدرة.

٤٦٤

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) جائز أن يكون أراد به الشراب الذي وصفه في قوله : (رَحِيقٍ مَخْتُومٍ ..). الآية.

والتنافس حرف يستعمل في الخيرات ؛ كأنه يقول : فليرغبوا في الشراب الذي هذا وصفه ، الذي [لا](١) غول فيه ولا هم ينزفون ، لا في الشراب الذي يذهب بالعقول ، ويضعف الأبدان ، ويتلف الأموال.

أو فليتنافسوا في النعيم الذي وصف هاهنا ، لا في النعيم الذي ينقطع ولا يدوم ؛ فكأنه (٢) يقول : فليرغبوا فيما يعقب لهم النعيم الدائم والشراب الذي لا تنقطع لذته.

وقيل : (خِتامُهُ مِسْكٌ) : ما بقي في الكأس من البقية يكون ذلك مسكا.

والتنافس إنما يكون في المسارعة في الخيرات ، وترك الاتباع للشهوات ، والانتهاء عن المعاصي ، وهو كقوله : (لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) [الصافات : ٦١] ، أي : فليكن عملهم بما يثمر لهم ما ذكر من النعيم ، لا في الذي ينقطع ، وتكون عقباه النار.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ) ، قيل : التسنيم : شيء أعده الله ـ تعالى ـ لأوليائه ، لم يطلعهم عليه في الدنيا ، وهو من قرة الأعين التي لا تعلمها الأنفس ، فوصف مرة المزاج بالمسك ، ومرة بالكافور بقوله : (كانَ مِزاجُها كافُوراً) [الإنسان : ٥] ، ومرة أخبر أنه ممزوج بالتسنيم ، ولم يبين ما التسنيم ، والسنام : اسم ما ارتفع من الشيء ؛ فيجوز أن يكون سمي : تسنيما ؛ لأنه ينحدر إليهم من الأعلى ، وأخبر أنه ممزوج بما إلى مثله ترغب الأنفس في الدنيا وتشتاق إليه ؛ ألا ترى أن الشراب في الدنيا إذا كان ممزوجا فهو في القلوب أوقع ، وتكون الأنفس إليه أرغب منه إذا كان غير ممزوج ، فرغبوا بمثله في الآخرة.

وذكر بعض أهل التفسير أن المقربين يسقون من ذلك الشراب صرفا ، ويمزج لغيرهم.

وقال الحسن : المزاج يكون للمقربين وغيرهم ، وجعل الممزوج منه أشرف ، على ما ذكرنا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ).

المقربون هم الذين يسارعون في الخيرات في الدنيا ، فتركوا منى الأنفس ، واتقوا المهالك والزلات ، فهم المقربون ، وأضاف التقريب إلى الغير ؛ لأنهم بغيرهم ما وفقوا لاكتساب الخيرات ، وعصموا عن ارتكاب المهالك والزلات ، لا بأنفسهم ؛ فنالوا فضل

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : حكاية.

٤٦٥

التقريب بما أجهدوا أنفسهم في الدنيا ؛ للأمور التي ذكرنا.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (٣٠) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (٣١) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (٣٢) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (٣٣) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٣٥) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ)(٣٦)

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ) : وجه (١) ذكر صنيع (٢) الكفرة بالمؤمنين في القرآن ، وجعله آية تتلى وإن كان المؤمنون بذلك عارفين ـ يخرج على [ثلاثة أوجه](٣) :

أحدها : [أن] فيه تبيين موقع الحجج في قلوب المؤمنين وعملها بهم ؛ وذلك أن المؤمنين لما سخت أنفسهم باحتمال الأذى والمكروه من الكافرين ، انتصبوا لمعاداة آبائهم وأجدادهم وأهاليهم ، ورفضوا شهواتهم ، وتركوا أموالهم ، واختاروا اتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودينه ، ومعلوم أنهم لم يحملوا أنفسهم كل هذه المؤن ؛ طمعا ورغبة في الدنيا ؛ لما لم يكن عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يرغب في مثله من نعيم الدنيا ؛ فثبت أن الحجج هي التي حملتهم ودعتهم إلى متابعته (٤) لا غير ؛ فيكون فيما ذكرنا تثبيت رسالته ، وإن لم يكن في الآية إشارة إلى الحجج التي اضطرتهم إلى تصديقه والانقياد له ؛ فيكون في ذكره تقرير لمن تأخر عنهم من المؤمنين لرسالته ، عليه‌السلام.

والثاني : أن أولئك المؤمنين صبروا على ما نالهم من المكاره ، واستقبلهم من أنواع الأذى في قيامهم بأمر الله تعالى ؛ ليكون في ذكره تذكير لمن تأخر من المؤمنين : أن عليهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأنه لا عذر لهم في الامتناع عن القيام بما ذكرنا وإن نالهم من ذلك أذى ومكروه ؛ بل الواجب عليهم الصبر على ما يصيبهم ، والقيام بما يحق عليهم.

أو ذكر ما لقي الأوائل من السلف من المعاداة (٥) والشدائد من الكفرة بإظهارهم دين الإسلام ، ثم نلنا نحن هذه الرتبة ، وأكرمنا بالهدى بلا مشقة وعناء ؛ لنشكر لله تعالى بذلك

__________________

(١) في ب : فوجب.

(٢) في ب : صنع.

(٣) في ب : أوجه ثلاثة.

(٤) في ب : مبايعته.

(٥) في ب : المعافاة.

٤٦٦

ونحمده عليه ؛ لعظمة ثنائه (١) لدينا ، وجزيل مننه علينا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ) فضحكهم يكون لأحد وجهين :

إما على التعجب منهم أن كيف اختاروا متابعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وحملوا أنفسهم في الشدائد ، ورضوا بزوال النعيم عنهم من غير منفعة لهم في ذلك ، وهم قوم كانوا لا يؤمنون بالبعث ؛ فكانوا يكذبون بما وعد المؤمنون من النعيم في الآخرة ؛ وكان يحملهم ذلك على التعجب ؛ فيضحكون متعجبين منهم.

أو كانوا يضحكون على استهزائهم بالمؤمنين ، يقولون : إن هؤلاء آمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصدقوه فيما يخبرهم من نعيم الآخرة ، ولا يعرفون أنه كذلك ، وكانوا يجهلون المؤمنين على ما جهلوا بأنفسهم ، وظنوا أن لا بعث ولا جنة ولا نار.

قال أبو بكر : المجرم : هو الوثاب في المعاصي.

وذكر أبو بكر أن في ذكر صنيع الكفار بالمؤمنين دلالة رسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك أنهم كانوا يضحكون من (٢) المؤمنين ، ويتغامزون (٣) ، وينسبونهم إلى الضلال سرا من المسلمين ، فأطلع الله ـ تعالى ـ نبيه ـ عليه‌السلام ـ على ما أسروا من الأفعال ؛ ليجعل لهم من أفعالهم حجة عليهم لنبوته ورسالته ، عليه‌السلام.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ) قال بعضهم (٤) : لاهين ، أو معجبين بحال المؤمنين ، أو مسرورين ، كما قال ـ تعالى ـ : (إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً) [الانشقاق : ١٣].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ) : يجوز أن يكونوا نسبوهم (٥) إلى الضلال ؛ لتركهم دين آبائهم ، ورأوا ما اختاروه من تحمل الشدائد ، ورضوا بضيق من العيش ضلالا منهم.

وقوله : (وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ) أي : لم يرسلوا بحفظ أعمال المسلمين ؛ فيكون في ذكر هذا تسفيه أحلامهم ، وهو أنهم تركوا النظر في أحوال أنفسهم ، وجعلوا يعدون على المسلمين عيوبهم كأنهم أرسلوا عليهم حفاظا ، وما أرسلوا.

أو يكون هذا إخبارا عن الكفار أنهم يقولون : ما أرسل على أحد حافظ يحفظ عليه

__________________

(١) في ب : ثلاثة.

(٢) في ب : عن.

(٣) في ب : ويتغامزونهم.

(٤) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير عنه (٣٦٧٠٨).

(٥) في ب : ينسبونهم.

٤٦٧

أعماله ؛ فيكون هذا على الإنكار منهم بالكرام الكاتبين.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) يكون (١) ضحكهم على المجازاة للكفرة بما كانوا يضحكون منهم في الدنيا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) منهم من وقف على قوله : (عَلَى الْأَرائِكِ).

ومنهم من رأى موضع الوقف على قوله : (يَنْظُرُونَ).

فإذا وقفت على قوله : (عَلَى الْأَرائِكِ) ، كان معناه : أنهم ينظرون : هل جوزي الكفار ما أوعدهم الرسل في الدنيا أو لا بعد؟

وإذا وقفت على قوله : (يَنْظُرُونَ) ، كان قوله ـ تعالى ـ : (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ) ، أي : قد جوزي الكفار ما كانوا يفعلون ، فهم ينظرون كيف يعاقبون.

ثم القول : أن كيف احتملت أنفسهم النظر إلى الكفار بما هم فيه من التعذيب ، والمرء إذا رأى أحدا في شدة العذاب ، لم يحتمل طبعه ذلك ، ونغص عليه العيش ؛ فجائز أن يكون الله ـ تعالى ـ أنشأهم على خلقة لا تقبل المكاره ولا تجدها ؛ بل تنال اللذات كلها والمسار.

أو ارتفع عنهم المكروه ؛ لبلوغ العداوة بينهم وبين أهل النار غايتها ، وكذلك (٢) يرى المرء في الشاهد إذا عادى إنسانا واشتدت العداوة فيما بينهما ، ثم رآه يعذب بألوان العذاب ، لم يثقل عليه ذلك ؛ بل أحب أن يزاد منه.

ثم جائز أن يرفع إليهم أهل النار إذا اشتاقوا النظر إليهم ، فيرونهم.

أو يجعل في بصرهم (٣) من القوة ما ينتهي إلى ذلك المكان.

ثم ذكر بعضهم أن هذه السورة مكية.

ومنهم من ذكر أنها نزلت بين مكة والمدينة ، وهي مكية.

ومنهم من ذكر أن أولها مدنية وآخرها مكية ، والله أعلم.

* * *

__________________

(١) في ب : ويكونه.

(٢) في ب : ولذلك.

(٣) في ب : نظرهم.

٤٦٨

[سورة الانشقاق](١)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (١) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٢) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (٤) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٥) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (٦) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (٩) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (١٠) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (١١) وَيَصْلى سَعِيراً (١٢) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (١٣) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (١٤) بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً)(١٥)

قوله ـ عزوجل ـ : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) هو جواب سؤال تقدم ؛ لما ذكرنا أن حرف (إذا) حرف جواب ، وليس بحرف ابتداء ؛ فكأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن ملاقاة الأعمال متى وقتها؟ فقال ـ تعالى ـ : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ. وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) فذلك وقت ملاقاة الأعمال.

وقيل : ذكر في الخبر أن أخوين أحدهما مسلم ، والآخر كافر ، قال للمسلم : أترانا بعد الموت مبعوثين؟ فقال له : بلى ، والذي خلقك والجبلة الأولين ؛ فنزلت هذه السورة تبين لهم وقت بعثهم : أنه عند انشقاق السماء ومد (٢) الأرض ونحوه.

ثم ذكر الجواب في ابتداء السورة ؛ ليكون المرء أذكر لها ؛ لأنه [يكون](٣) أوعى لها وإذا ذكر في وسط السورة ، لم يتحفظ إلا بالتلاوة ؛ ولهذا المعنى ـ والله أعلم ـ جعلت «الم» ، و «المر» و «كهيعص» و «طه» رءوس السور ؛ لأن الكفرة كانت من عادتهم الإعراض عن القرآن وترك الاستماع إليه ليفهموه ، فابتدئت السور بما ذكرت من الرموز والإشارات ؛ ليحملهم ذلك على التفكر (٤) فيه والنظر ؛ إذ لم يكن سبق منهم العلم بمعرفة ما يراد من قوله : «الم» (٥) و «الر» ثم ذكر انشقاق السماء ومد الأرض وإلقائها لما جعل فيها ؛ ليعرفوا شدة ذلك اليوم ؛ فيخافوه ، ويستعدوا له.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) ، قيل (٦) : سمعت لربها ، وأطاعت

__________________

(١) في ب : سورة : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ).

(٢) في ب : من.

(٣) سقط في ب.

(٤) في ب : الفكر.

(٥) في ب : المر.

(٦) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٣٦٧١٦) ، وابن أبي حاتم ، وابن المنذر من طرق عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٤٧).

٤٦٩

[وأجابت](١) إلى ما دعيت إليه.

ثم المراد من الإذن مختلف ؛ فحقه أن يصرف كل شيء إلى ما هو الأولى به ؛ ألا ترى أنك إذا قلت : «أذن الرجل لعبده في التجارة» ، فلست تريد بقولك : «أذن» ، ما تريد به إذا أذنت لغيرك أن يتناول من طعامك ، بل تريد بالإذن (٢) للعبد الأمر بأن يتجر ، حتى لو لم يفعل ، تلومه على ذلك ، وتريد بالآخر (٣) إباحة التناول ؛ قال الله ـ تعالى ـ : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) [آل عمران : ١٤٥] ، وقال في موضع آخر : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) [يونس : ١٠٠] ، فكان المراد من الإذنين مختلفا ؛ فثبت أن حقه أن نحمله إلى ما إليه أوجه ، وهو إلى الطاعة والإجابة هاهنا أوجه ؛ لذلك حملوه عليه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَحُقَّتْ) ، أي : حق لها أن تسمع وتطيع.

وجائز أن تكون الإجابة منصرفة إلى أهلها ، ثم نسب إليها ذلك وإن كان المراد منه الأهل ؛ كقوله تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها) [الطلاق : ٨] ، ولا يوجد (٤) من القرية عتو ، وإنما يوجد (٥) من أهلها ، فإن كان كذلك ، ففيه أنه لا يتخلف أحد من الإجابة إلى ما دعاه إليه الرب ـ تعالى ـ خلافا على ما كانوا عليه من الدنيا ، فإن كثيرا من أهل الدنيا ، أعرضوا عن طاعته ، واشتغلوا بمعصيته.

ثم الإجابة والطاعة والطوع والكره ، ومثل هذه الأوصاف إذا أضيفت إلى من هو من أهل الاختيار ، فهي على الطوع (٦) المعروف والإجابة المعروفة ، وإذا أضيفت إلى من ليس هو من أهل الاختيار فهو على تغيير (٧) الهيئة ؛ على ما عليه الخلقة ، نحو الأرض توصف بالحياة ؛ إذا أنبتت ، وتوصف بالموت ؛ إذا يبس ما عليها ، وصارت متهشمة ؛ فيراد بها : أنها صارت بهيئة لو وجدت تلك الهيئة في الروحانيين لصار أحدهما علما لحياته ، والآخر علما لوفاته ، وقال ـ تعالى ـ : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) [البقرة : ٢٩] ، وقوله ـ تعالى ـ : (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ)

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : بالأول.

(٣) في ب : بالآخرة.

(٤) في ب : يؤخذ.

(٥) في ب : يؤخذ.

(٦) في ب : التطوع.

(٧) في أ : تعيين.

٤٧٠

[فصلت : ١١] ، وهما لا يوصفان بطوع ولا إكراه ، ولكن خلقتا على هيئة لو وجدت تلك الهيئة فيمن وصف بالطوع والإكراه ، كان ذلك منه طوعا.

وقال إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ : (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) [إبراهيم : ٣٦] ، وهي في الحقيقة لا تضل ، ولكنها أنشئت على هيئة لو كانت تملك الإضلال ، لعد ذلك منها إضلالا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ) قيل (١) : بسطت ، وسويت بكسر الشعاب والأودية بالجبال ، أو بما شاء ؛ فصارت : (قاعاً صَفْصَفاً. لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) [طه : ١٠٦ ، ١٠٧].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ) ، [أي](٢) : ألقت ما وضع فيها من الموتى والكنوز ؛ فتخلت عنها ؛ فنسب التخلي إليها ، وإن كان من فيها هو الذي خلا عنها ، وكانت هي الحابسة ؛ لأنه إذا خلا عنها خلت هي عنه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ) الكادح : هو الساعي ، وهو الذي اعتاد ذلك ، وهذا في كل الإنسان ، تراه أبدا ساعيا إما في عمل الخير أو عمل الشر ، أو فيما ينفعه أو فيما يضره ، حتى لو هم بترك السعي لم يقدر ؛ لأن تركه السعي نوع من السعي.

وروي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال حين تلا هذه الآية : «أنا ذلك الإنسان» فهذا ليس [أنه](٣) هو المخصوص بالخطاب ؛ لأنه بين الإنسان ، فقال : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) ، (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ) ، ولا يجوز أن يكون هو المراد بهذا كله ، فكل أحد على الإشارة إليه مراد بقوله ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) ، فلذلك قال [النبي](٤) ـ عليه‌السلام ـ : «أنا ذلك الإنسان».

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِلى رَبِّكَ كَدْحاً) جائز أن يكون معناه : أن اجعل كدحك إلى ربك في أن تسعى في طاعته وطلب مرضاته ؛ فإنك ملاقيه لا محالة ؛ أي : تلاقي جزاء عملك : إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.

وجائز أن تكون الملاقاة كناية عن البعث ؛ إذ البعث قد يكنى عنه بلقاء الرب ، قال الله ـ تعالى ـ : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ) [الكهف : ١١٠] وسمي ذلك اليوم : يوم المصير

__________________

(١) قاله ابن جرير (١٢ / ٥٠٥).

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في ب.

(٤) سقط في ب.

٤٧١

إلى الله ـ تعالى ـ ويوم البروز بقوله ـ تعالى ـ : (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً) [إبراهيم : ٢١].

ووجه التسمية بهذه الأسامي ما ذكرنا : أن المقصود من خلق العالم العاقبة ؛ فسمي : بروزا ؛ لما للبروز أنشئ ، وسمى : مصيرا إلى الله تعالى ؛ لمصيرهم إلى ما له خلقوا ، وإن كان الخلق كلهم بارزين له قبل ذلك ، ولم يكونوا عنه غائبين ؛ فيصيرون إليه خصوصا لذلك اليوم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ. فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) ، فسماه : [حسابا](١) يسيرا ؛ لوجوه (٢) :

أحدها : أن المؤمن اعتقد تصديق الرب في كل ما دعاه إليه ، وإذا كان على التصديق سهل عليه تذكر ما قد عمله بتفكر الجملة.

ووجه آخر : أنه إذا نظر في كتابه رأى حسناته مقبولة وسيئاته مغفورة له ، فسمي ذلك اليوم : يسيرا له ؛ لما أثبت فيه من الخيرات ، ومحي عنه من السيئات ، كما سميت الخيرات : يسرى (٣) ، وسمي ما يجري عليها : يسرى (٤) أيضا ، فكذلك من (٥) أوتي كتابه بيمينه يجري عليه الخير ؛ فسمي : حسابا يسيرا.

وجائز أن يكون المسلم يحاسب في أن يذكر ما أنعم الله عليه في الدنيا ، ولا يحاسب حساب توبيخ وتهويل ؛ بأن يقال له : لم فعلت كذا؟ والكافر يسأل سؤال توبيخ ، فيقال له : لم فعلت كذا؟! على [الإنكار منه لما فعل](٦) ، وفي ذلك تعسير عليه.

وروي عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من نوقش الحساب فهو معذب» ، وفي بعضها : «من حوسب عذب» قالت (٧) : قلت : يا رسول الله ، ألم يقل الله تعالى : (فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً. وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً)؟ قال : «يا عائش ، ذاك العرض ، ولكن من نوقش الحساب هلك».

قال الفقيه ـ رحمه‌الله ـ : في ظاهر قوله ـ عليه‌السلام ـ : «من نوقش الحساب عذب» دفع لما قالته عائشة ـ رضي الله عنها ـ لأن الفهم من قوله ـ عليه‌السلام ـ : «من نوقش الحساب» غير الفهم من قوله ـ تعالى ـ : (فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) ؛ فليس في ظاهر قوله

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : لأوجه.

(٣) في ب : بشرى.

(٤) في ب : بشرى.

(٥) في ب : الذي.

(٦) في أ : الإنجاز بما فعل.

(٧) في ب : قال.

٤٧٢

جواب لها ؛ فكان الظاهر من الكلام الأول على ما فهمته عائشة رضي الله عنه.

ولكن وجه الجواب فيه : أن قوله ـ عليه‌السلام ـ : «من حوسب عذب» ، وقوله ـ عزوجل ـ : (فَسَوْفَ يُحاسَبُ) ليس على كل حساب ، وإنما هو على الحساب الذي لا يناقش فيه ، فأما الذي هو عرض فليس مما يعذب عليه ؛ فيكون فيه إبانة أنه لا يفهم بالخطاب العام عموم المراد كما فهمته عائشة ـ رضي الله عنها ـ بل يجوز أن يكون الخطاب عاما ، والمراد منه خاصا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً) ، وقال في شأن الذي أوتي كتابه وراء ظهره (وَيَصْلى سَعِيراً. إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً) ؛ فهذا لأن المسلم إنما تأهل على قصد تحصيل النفع لنفسه في العاقبة ، وتكون معينة له على أمور الآخرة ؛ فحصل له ذلك النفع بإحرازه السرور الدائم بذلك (١) ، والكافر تأهل للمنافع الحاضرة وسر بها سرورا ، وأنساه السرور أمر العاقبة ؛ فحق عليه العذاب ؛ لتركه السعي للآخرة ، لا لسروره بأهله ، وهو كقوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ..). الآية [الإسراء : ١٨] ، والكل منا يريد العاجلة ولا بد له منها ، لكن الذي يصلى جهنم هو الذي ابتغى العاجلة ابتغاء أنساه ذلك عن الآخرة ، فكذلك المسرور بأهله إنما حلت به النقمة ؛ لما منعه السرور عن النظر للعاقبة ، لا لنفس السرور ؛ إذ كل متأهل لا يخلو عن السرور بأهله ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ) ، فالإيتاء من وراء الظهر يحتمل وجهين :

أحدهما : أن استقذر منه ؛ لخبث منظره ؛ فأوتي من وراء ظهره ؛ مجازاة له بما سبق من صنعه ، وصنعه أنه نبذ كتاب الله وراء ظهره ، وترك أوامره ونواهيه كذلك وراء ظهره ؛ فجوزي ـ أيضا ـ بدفع كتابه وراء ظهره ، ودفع إلى المؤمن كتابه بيمينه ؛ لما في كتابه من المحاسن والبركات ، واليمين أنشئت (٢) ؛ لتستعمل في البركات وأنواع الخير ، وسميت ـ أيضا ـ باسم مشتق من اليمن والبركة ، والشمال جعلت لتستعمل في الأقذار والأنجاس ، فدفع كتابه من خبث عمله إليه بشماله أيضا أو من وراء ظهره.

ولأن أهل الإيمان قبلوا أمر الله ـ تعالى ـ ونواهيه واستقبلوها بالتعظيم والتبجيل ، ومن أراد تعظيم الآخر في الشاهد وتبجيله ، أخذه بيمينه ، فجوزوا في الآخرة بالتعظيم لهم

__________________

(١) في ب : لذلك.

(٢) في ب : أنسب.

٤٧٣

بأن أوتوا كتبهم بأيمانهم ، وأما الكافر فإنه استخف بأمر الله ـ تعالى ـ وطاعته ، فجوزي في الآخرة بأن أوتي كتابه بشماله التي تستعمل في الأقذار ؛ إهانة له وتحقيرا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً) : الثبور والويل حرفان يتكلم بهما عند الوقوع في المهالك ؛ فيكون في ذكر [الثبور ذكر](١) وقوعه في المهلكة التي يحق له دعاء الثبور والويل على نفسه ، دعا به أو لم يدع ؛ على سبيل الكناية عن الوقوع في الهلاك ، وهو كقوله ـ تعالى ـ : (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً) [التوبة : ٨٢] ، فالضحك كناية عن السرور ، والبكاء كناية عن الحزن ؛ فمعناه : أنه يستقبله ما يحزن له طويلا ، كان هناك بكاء أو لم يكن.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ. بَلى) فيه دلالة أنه إنما حل به ما ذكر من العذاب ؛ لأنه كان للبعث ظانا ، ولم يكن به متيقنا ؛ وكذلك الله ـ سبحانه وتعالى ـ حيث قسم الوعد والوعيد بين الفريقين ذكر في آخره ما يبين أن الذي أوعد بالعذاب هو المكذب ، وذكر الوعيد هاهنا وبين أن الذي يحل به هذا الوعيد هو الذي كان ظانا بالميعاد ولم يكن متحققا ، وقال الله ـ عزوجل ـ : (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ ..). [السجدة : ٢٠] إلى قوله : (ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) [السجدة : ٢٠] فبين أن الوعيد في المكذبين ، وقال ـ تعالى ـ : (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ ..). إلى قوله : (فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) [المؤمنون : ١٠٤ ، ١٠٥] ؛ ليعلم أن الوعيد الدائم في المكذبين خاصة ؛ فيكون فيه دفع قول المعتزلة : إن أهل الكبائر يخلدون في النار.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً) ، أي : كان بصيرا بما سبق من أعماله الخبيثة ؛ فيحاسبه على علم منه بما كسبت يداه ، ويعذبه على علم منه باكتساب ما استوجب من العذاب ، خلافا لأمر ملوك الدنيا : أنهم يحاسبون على تذكير الغير لهم ما عليه من الحساب ، ويعذبون على تعريف الغير لهم ما استوجب به التعذيب ، لا على علم منهم (٢) بذلك.

أو يكون معناه : أنه كان به بصيرا في الأزل : أنه ما ذا يعمل إذا أنشأه؟ وإلى ما ذا ينقلب أمره : إلى النار أو إلى الجنة؟ فخلقه على علم منه أنه يعادي أولياءه ، ويعمل بمعاصيه.

ولقائل أن يقول بأن المرء في الشاهد لا يشرع في الأمر الذي يعلم أنه في العاقبة يضره ولا ينفعه ، ولو شرع فيه ، وأتمه كان مذموما عند الناس ، ولم يكن محمودا ، فأي حكمة

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : فيهم.

٤٧٤

في إنشاء عدوه وهو عالم أنه يسعى في معاداته؟!.

فجوابه ـ والله أعلم ـ : أن الذي يشرع في الأمر الذي علم أن إتمامه يضره ولا ينفعه ، إنما لحقته المذمة ؛ لما سعى في إضرار نفسه ، فأما الذي أعرض عن إطاعة الله ـ تعالى ـ وكفر به فإنما اكتسب الضرر على نفسه خاصة بأن أوقعها في المهالك ، ولم يضر غيره ؛ لذلك لم تلحقه المذمة في خلقه وإنشائه ، وفي هذا دلالة أن الله ـ تعالى ـ حيث خلق الخلق لم يخلقهم لمنفعة له ولا لمضرة تلحقه من جهتهم ؛ بل منافعهم ومضارهم راجعة إلى أنفسهم ، والله أعلم.

قوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (١٦) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (١٧) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (١٩) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (٢١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (٢٢) وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (٢٣) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢٤) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ)(٢٥)

وقوله ـ تعالى ـ : (فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ) منهم من حمل قوله : (فَلا) على دفع منازعة وقعت فيما بين القوم ؛ على ما نذكر في سورة (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) [إن شاء الله](١) ، وإنما القسم قوله ـ عزوجل ـ : (أُقْسِمُ).

ومنهم من جعل «لا» بحق الصلة.

فإن كان على الوجه الأول ، لم يجز حذف «لا» من الكلام ؛ بل حقه أن يقرأ (فَلا أُقْسِمُ).

وإن كان بحق الصلة استقام حذفه ، كما قرأ بعض القراء : (فَلا. أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ)(٢).

ثم الشفق هو أثر النهار ، فجائز أن يكون القسم واقعا على النهار كله ، وإن كان ذكر طرفا منه.

والثاني : أن الشفق يجتمع فيه أثر النهار ـ وهو النور الذي فيه ـ وأثر الشمس ـ وهو الحمرة التي تكون فيه ـ فيكون القسم واقعا على النهار بما فيه ، كما كان واقعا على الليل بما فيه ؛ لقوله : (وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ) ؛ فيكون فيه حجة لقول أبي حنيفة [ـ رضي الله عنه ـ](٣) : إن وقت العشاء لا يدخل حتى يغيب البياض ؛ لأن وقتها يدخل بغيبوبة الشفق ، والشفق وجدناه مشتملا على البياض والحمرة ، فما لم يتم الغيبوبة لم يهجم وقتها ؛ ألا

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) كذا في أ. ولعلها : فلا أقسم ، أو : أقسم.

(٣) في ب : رحمه‌الله.

٤٧٥

ترى أن الصلاة التي تلي الغروب لا يدخل وقتها حتى يتم غروب الشمس ، فعلى ذلك الصلاة التي تلي غروب الشفق لا يدخل (١) وقتها حتى يتم الغيبوبة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ) قال بعضهم (٢) : (وَسَقَ) ، أي : وما ساق وحمل معه من الظلمة والنجم والدابة ، وغير ذلك.

والوسق : الحمل ، يقال : وسق بعير ، أي : حمل بعير.

وقال بعضهم (٣) : وسق ، أي : جمع وساق كل شيء إلى مأواه من الطير والسباع ، فذكر النهار والليل ؛ لما فيهما من المنافع.

وقوله : (وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ) فالاتساق : الاجتماع ، ومعناه : استوى ، وكمل ؛ إذ ذلك اجتماعه ، وذلك في ليالي البيض.

وقال أبو بكر الأصم : معناه : أنه جمع وسوي بعد أن كان كالعرجون القديم فيذكرهم قوته ؛ ليعلموا أنه قادر على بعثهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) قرئ بنصب الباء ورفعها ، وكلا القراءتين في المعنى واحد ، وإن كان في الظاهر إحداهما للجمع والأخرى للوحدان ، وإحدى القراءتين بحرف الجمع ليذكر بالرفع ، فإن قوله : (لَتَرْكَبُنَ) منصرف إلى كل إنسان في نفسه خاصة لا على الاقتصار على شخص واحد ؛ لما ليس في قوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ) [الانشقاق : ٦] إشارة إلى شخص بعينه ، ولكن المراد منه الجملة ؛ فثبت أن الخطاب منصرف إلى الجملة.

ثم قوله : (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) قيل (٤) : حالا بعد حال.

ثم جائز أن يصرف إلى دار الآخرة ، فكأنه قال : لتركبن حال الآخرة بعد حال الدنيا ؛ فيكون فيه تصريح القول على إيجاب البعث.

ويحتمل أن يكون ذلك في الدنيا ، فينتقل إلى حال المضغة بعد كونه مضغة ، وإلى حال العلقة ، وإلى حال الطفولة ، إلى أن يبلغ أشده ، فلا يزال يركب حالة بعد حالة ؛ فيكون في تنقله من حال إلى حال إبانة أنه لم يرد من إنشائه أن تتغير عليه الأحوال فقط ، بل أريد به العاقبة التي بها صار إنشاء الخلق حكمة لا عبثا ؛ فيكون قوله : (لَتَرْكَبُنَ) منصرفا إلى كل

__________________

(١) في ب : يتم.

(٢) قاله عكرمة بنحوه أخرجه ابن جرير (٣٦٧٧١ ، ٣٦٧٧٢).

(٣) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٣٦٧٥٦ ، ٣٦٧٥٧) ، وأبو عبيد في فضائله ، وابن أبي شيبة وابن المنذر عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٤٩) وهو قول الحسن ، ومجاهد ، وقتادة وغيرهم.

(٤) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٣٦٧٩٠ ، ٣٦٧٩٤) ، وأبو عبيد في القراءات ، وسعيد بن منصور ، وابن منيع ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن مردويه عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٤٩).

٤٧٦

إنسان في نفسه خاصة ، لا على الاقتصار على شخص واحد ؛ لما ذكرنا.

ومنهم من قال : إنما أراد بهذا الخطاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ ذكر عن ابن مسعود وابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ لكن قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : لتركبن يا محمد (١).

وقال ابن عباس : لتركبن السماء حالا بعد حال (٢).

فإن كان التأويل على ما ذكره ابن مسعود ، ففيه بشارة له بإسلام قومه ، وإجابتهم له ؛ فيقول : إنهم سيطيعونك ويصيرون لك أنصارا بعد صدهم الناس عن الإيمان وجفوتهم إياك.

ومن قال : لتركبن سماء بعد سماء ، فيقول : ذلك ليلة أسري به.

والتأويل الأول أقرب ؛ لأن موقع القسم في قوله : (لَتَرْكَبُنَ) ، والإسراء لم يكن يعرفه قومه حتى يكون في ذكره دفع الاشتباه عن أولئك القوم ، فأما ظهور الإسلام وعلو النبي على أعدائه فمما يشاهده الناس ؛ فيتحقق في الآخرة ما أخبر النبي ـ عليه‌السلام ـ عن الغيب (٣) ؛ فيكون تأكيدا لرسالته ؛ فلذلك قلنا : إن الحمل على المعنى الأول أحق ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) الأصل أن كل من اعتقد مذهبا فإنما يعتقده لحجة تقررت عنده ، أو شبهة اعترضت له ، ظنها حجة ، فأما أن يعتقده حراما ، فليس يفعله ، فقال الله تعالى في هؤلاء : (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ، أي : أي حجة لهم تمنعهم عن الإيمان بالله ـ تعالى ـ وبرسوله ، وتدعوهم إلى الشرك والتدين (٤) به.

ثم قد ذكرنا أن ما خرج مخرج الاستفهام من الله ـ تعالى ـ فحقه أن ينظر ما يقتضي ذلك الكلام من الجواب أن لو كان من مستفهم ؛ فيحمل الأمر عليه ، وحق جواب هذا الكلام أن نقول : لا شيء يمنعه عن ذلك ؛ فقوله : (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ، أي : لا حجة لهم فيما اختاروا من الشرك ، وإنما يتدينون به تشهيا وتمنيا ؛ فيكون هذا على النفي في أن لا حجة لهم.

أو كأنه يخاطب رسوله ـ عليه‌السلام ـ فيقول : سلهم لما ذا لا يؤمنون؟ وإذا سألهم لم يجدوا لأنفسهم حجة في الإعراض (٥) عن الإيمان ؛ فيرجع الأمر إلى ابتغاء الحجة أيضا.

ثم المعتزلة احتجت علينا بهذه الآية في تثبيتهم القدرة قبل الفعل ، وزعمت أنه لو لم

__________________

(١) أخرجه عبد بن حميد ، وابن المنذر ، والحاكم في الكنى ، وابن مندة في غرائب شعبة ، وابن مردويه ، والطبراني عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٥٠).

(٢) تقدم.

(٣) في ب : البعث.

(٤) في أ : والتزيين.

(٥) في ب : الاعتراض.

٤٧٧

يكن أعطي قوة الإيمان ، لم يكن يعاتب على تركه ؛ لأنه لا عذر للعبد أعظم من أن يقول إذا قيل له : لم لا تؤمن؟ (١) فيقول : لأني لم أقدر عليه.

ولأن قوله ـ تعالى ـ : (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) حرف تعجيب ، ولو كانت القوة ممنوعة قبل الفعل ، لكان له أن يقول : إنما لم أؤمن ؛ لأني منعت عنه ؛ فيرتفع عنه التعجيب ؛ فدل أنه أعطي القوة ؛ فلم يبق له في التخلف عن الإيمان عذر.

والجواب عن الفصل الأول : أن الكافر إنما لحقته كلفة الإيمان ؛ لأنه هو الذي ضيع القوة باختياره فعل الكفر ، وإنما ترتفع الكلفة إذا منعت عنه الطاقة ، فأما إذا كان هو الذي ضيعها ، فالكلفة عليه قائمة.

والأصل أن القدرة في الصحيح السليم تحدث تباعا على قدر حرصه على العبادة وميله إليها.

ثم العبد متى اشتغل بفعل صار مضيعا لضده من الأفعال ، لا أن كان ممنوعا من (٢) الفعل الذي هو ضد هذا ؛ فلذلك إذا آثر الكفر ، وأتى به ، فقد صار باختياره الكفر مضيعا لقوة الإيمان ، لا أن صار ممنوعا عنها ؛ لذلك لحقته كلفة الإيمان.

وأما ما ذكر من أمر التعجيب فقد وصفنا وجه التعجيب في ذلك ، وهو أنهم لم يلزموا الكفر بحجة دعتهم إلى القول به ، والمرء إذا قلد مذهبا ـ قلده لا عن حجة وبرهان ـ تعجب الخلق باختيارهم الكفر لا عن حجة.

ثم لو كان الأمر على ما ظنت المعتزلة : أن الله ـ تعالى ـ قد أعطاهم جميع أسباب الهداية ، ولم يبق في خزانته شيئا منعه عنهم ، لكان التعجب راجعا إليه ، لا إلى الذين لم يؤمنوا ، فيقول : ما لي لا أصل إلى هدايتهم ، ولم يبق عندي شيء به هدايتهم إلا وقد أعطيتهم ، لا أن يعجب الخلق من (٣) صنعهم ؛ فليس الذي اختاروه في القول سوى وصفهم رب العالمين بالعجز ، والعاجز لا يصلح أن يكون ربّا ، والله الموفق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) منهم من صرف التأويل إلى سجود الصلاة ، والمراد منه عندنا : سجود التلاوة ، وهو سجود الاستسلام والخضوع على الشكر ؛ لما أكرم المرء [به] من الإيمان وهدى الله ؛ لأن سجود الصلاة يكون عند فعل الصلاة ، لا عند ذكر التلاوة.

ثم في الآية دلالة وجوب السجدة على السامع ؛ لأنهم عوتبوا بتركهم السجود عند ما

__________________

(١) في أ : يؤمنون.

(٢) في ب : عن.

(٣) في ب : عن.

٤٧٨

يتلى عليهم ، وقرعوا به ، والتقريع يجري في ترك اللازم ، لا في ترك ما ليس عليه.

ولأن المعنى الذي له وجب السجود على التالي قائم في السامع ؛ إذ التالي إنما لزمه السجود ؛ لما ذكر من آيات الله ـ تعالى ـ وقامت عليه من الحجج ؛ فلزمه أن ينقاد لها ويخضع ، والسامع قد قامت عليه الحجج ؛ فيلزمه أن يخضع لها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ) يحتمل وجهين :

أحدهما : أنهم يكذبون رسوله محمدا عليه الصلاة والسلام ؛ فيحملهم ذلك على التكذيب بالقرآن ؛ لأنهم إذا كذبوا رسالته لم يصدقوه فيما يأتي من الأخبار ، لا أن يكون في الأخبار معنى يحملهم على التكذيب ؛ بل القرآن يحملهم على التصديق والإيمان لو أنعموا النظر فيه ، وبذلوا من أنفسهم الإنصاف.

أو يكون معناه : أن الذين كفروا هم (١) المكذبون ؛ فيكون الكفر منهم تكذيبا ، والتكذيب منهم كفرا.

وقوله : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ) يحتمل أوجها :

أحدها : ما يضمرون من الكيد والمكر برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فالله أعلم بكيدهم ، لا يتهيأ لهم أن ينفذوا كيدهم فيه إلا ما كتب الله عليه ؛ فيكون فيه بشارة له بالنصر والتأييد.

والثاني : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ) في قلوبهم من التصديق ، ويظهرون من التكذيب بألسنتهم ، وإنما يوعون من التكذيب بألسنتهم وقلوبهم معا ، وذلك أن البعض منهم كان قد أيقن برسالته ؛ فكان يصدقه بقلبه ، ويكذبه بلسانه على العناد منه والتمرد.

ومنهم من لم يكن عرف صدقه بقلبه ؛ لما ترك الإنصاف من نفسه بإعراضه عن النظر في حجج الله ـ تعالى ـ فكان يكذبه بقلبه ولسانه جميعا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) البشارة إذا فسرت ، استقام حملها على الحزن والسرور جميعا ، وأما البشارة المطلقة إنما تستعمل في موضع إدخال الفرح والسرور في القلب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) جائز أن يكون هذا منصرفا إلى كل من آمن.

وجائز أن يصرف إلى من آمن من الذين كانوا يوعون ما ذكرنا.

وقوله : (لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) نذكره في سورة «والتّين والزّيتون» ، إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) في ب : وهم.

٤٧٩

سورة البروج ، [وهي مكية](١)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (١) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (٢) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (٣) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (٤) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (٥) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (٦) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (٧) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٨) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٩) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (١٠) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ)(١١)

قوله ـ عزوجل ـ : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) ، فقوله : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) على القسم ، وكذلك ما ذكر عقيبه.

ثم اختلف في موضع القسم في هذه السورة :

فمنهم من ذكر أن القسم لمكان قوله : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ).

ومنهم من يقول : القسم موضعه على قوله : (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) [البروج : ١٢] ، وهو أشبه ؛ لأنه في موضع الاحتجاج على الكفرة.

ولو حمل القسم على قوله : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) ، كان ذلك منصرفا إلى المؤمنين ، والمسلمون قد تيقنوا بصدق ما يأتي به الرسول من الأنباء ، والقسم يذكر على تأكيد ما يقصد إليه ؛ ليزال عنه الريب ، فإذا كان المسلمون غير مرتابين في نبئه استغنوا عن تأكيده بالقسم ؛ فلذلك قلنا : إن صرفه إلى قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) [البروج : ١٢] أليق ؛ فيكون فيه تحذير لمن كذب رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن بطشه لمن كذب رسوله لشديد ، وقد علموا ذلك بما (٢) وصل إليهم من نبأ عاد ، وثمود ، وفرعون ، وغيرهم.

وجائز أن يكون موضع القسم على قوله : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) ، وذلك أن أهل مكة كانوا أهل تعذيب لمن آمن بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فكان (٣) في ذكر ما نزل بالمتقدمين من الفراعنة من العذاب ، وصبر أولئك المعذبين على دينهم ، وضنهم به ، وحسن ثناء الله ـ تعالى ـ عليهم تصبير (٤) لهم ، وتهوين على ما يلقون من العذاب ؛ لينالوا من حسن ثناء الله ـ

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : لما.

(٣) في ب : وكان.

(٤) في ب : تصبر.

٤٨٠