تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٩٥

على ما استتر منه ، ويصير الخفي له جليّا ، فيكون سبب بلوغه إلى اليقين والإحاطة الذي سبق منه ؛ فجائز أن يسمّى ذلك يقينا مرة على الحقيقة وظنّا ثانيا على المجاز ، على ما ذكرنا في قوله : (وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) [الحاقة : ١٢] أن الأذن لا تعي شيئا ، بل تسمع ، ولكنه إنما يوصل إلى الوعي بالأذن ، فصارت الأذن سببا للإيصال إلى الوعي ، فأضاف الوعي إليها ؛ فعلى ذلك ظنونهم في الابتداء إذا بلغتهم إلى اليقين والعلم سمّوا يقينهم (١) وعلمهم ظنّا مرة ، ويقينا ثانيا ؛ ألا [ترى](٢) أن الله ـ تعالى ـ قال : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) [البقرة : ٤٦] ، وقال في موضع آخر : (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) [البقرة : ٤] ، فجعلهم مرة ظانين ، ومرة موقنين ، فيما كان [طريقته البحث](٣) وإعمال الفكر ؛ ولهذا لا يجوز أن يوصف الله ـ تعالى ـ بالإيقان في أمر من الأمور ؛ لأن الأشياء له بارزة ظاهرة ؛ إذ هو منشئها وخالقها ؛ فلا يخفى عليه شيء منها فيحتاج إلى البحث عنها والنظر فيها ، والله الموفق (٤).

أو نقول بأن الأمور التي سبيل (٥) دركها الاجتهاد ، لا يخلو شيء منها من اعتراض وساوس وخواطر فيها ، فتلك الوساوس والخواطر تفضي بصاحبها إلى الظنون (٦) فاستجازوا إطلاق الظن فيها ؛ لما لا تخلو عنه ، واستجازوا إطلاق اليقين لما غلب عليها دلالات اليقين (٧) والإحاطة ؛ ألا ترى أن من تهدد بالوعيد الشديد ، أو بالقتل على أن يكفر بالله ـ تعالى ـ أبيح له أن يجري كلمة الكفر على لسانه ، وجعل كالموقن بإحلال العذاب من المكره ، لو امتنع عن الإجابة إلى ما دعاه و [إن](٨) لم يتيقن بأنه يفعل به لا محالة ما أوعد به ؛ لأنه يجوز ألا يمكن من ذلك ، ويجوز ألا يبقى إلى ذلك الوقت ، ثم وسع له فعل ذلك بأكبر الرأي وغلبة الظن ، وحل ذلك محل الإحاطة واليقين ؛ فعلى ذلك هاهنا لما غلب دلالات اليقين والصدق ، جاز إطلاق لفظة اليقين عليه ، فأما الأشياء التي تدرك بالحواس والمشاهدات ، فلا سبيل إلى تسمية مثله ظنّا ؛ لما لا يحتمل اعتراض الشبه فيها ، والله الموفق.

__________________

(١) في ب : نفسهم.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : طريقا للبحث.

(٤) في ب : والله أعلم.

(٥) في ب : سبب.

(٦) في أ : الجنون.

(٧) في أ : النفس.

(٨) سقط في ب.

١٨١

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) أي : في حياة راضية ، [يقال](١) : عاش وحيا بمعنى واحد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (راضِيَةٍ) بمعنى : مرضية معناه ، أن نفسه في حياة ترضى بها ؛ كقوله : (مِنْ ماءٍ دافِقٍ) [الطارق : ٦] أي : مدفوق ، ومثله في الكلام كثير.

ويجوز أن يكون المراد : نفس الجنة قد رضيت بأهلها ، وأظهرت رضاها بهم ، كما وصفت الجحيم بالسخط والتغيظ على أهلها ، فجائز مثله في الجنة رضاء واستبشارا ، أي : على معنى أن الجنة تظهر لهم من أنواع الكرامات والخيرات ما لو كان ذلك من ذي العقل يكون ذلك دليل الرضاء ، كما يضاف الغرور إلى الدنيا ، وهي أنها تظهر من نفسها ما لو كان ذلك ممن يملك التغرير ، يكون ذلك غرورا من نفسها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) قال بعضهم : مرتفعة ، على ما يستحب في الدنيا من الجنان في ربوة من الأرض مرتفعة.

وقال بعضهم : الجنة : اسم لروضة ذات أشجار ؛ فكأنه يصف أشجارها بالارتفاع والطول والمنظر ، وذلك أشهى إلى أربابها ، وهذا كما قال : (قُطُوفُها دانِيَةٌ) من غير ذكر الأشجار ؛ لأن ذكر الجنة اقتضى ذكر الأشجار.

والثالث : يكون معنى العالية ، أي : عظيمة القدر والخطر مرتفعة ، وقد يوصف الشيء الرفيع بالعلو ، والله أعلم.

ثم قوله ـ تعالى ـ : (قُطُوفُها دانِيَةٌ) أي : في القطوف متدانية من أهلها لمن يريد قطفها ، وبعيدة لمن لا يريد قطفها.

وقيل : (دانِيَةٌ) ينالها القاعد كما ينالها القائم.

وقيل (٢) : ثمارها دانية ، أي : لا يرد أيديهم منها بعد ولا شوك.

وقوله ـ عزوجل ـ (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) تأويله أن يقال لهم : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) إنما جعلتم أيامكم الخالية سلفا في أيام الآخرة ، وسلف الرجل لآخر هو أن يعطيه قرضا ؛ ليأخذ مثله وقت الحاجة إليه ، أو يسلم الرجل رأس ماله في الأشياء التي يأمل منها الربح ، فكأنه بما يشري نفسه يجعلها سلفا ورأس مال ، ليأخذ ربح ما باع في الآخرة ، فذلك هو الإسلاف (٣).

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) قاله البراء أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عنه ، كما في الدر المنثور (٦ / ٤١٠) وهو قول قتادة أيضا.

(٣) في ب : للإسلاف.

١٨٢

أو يجعل عمله للآخرة (١) رأس ماله ، وما رزق من الأموال ينفقها في سبيل الله ، ويجعل ذلك رأس ماله.

وذكر عن وكيع أنه قال : بلغنا أن [المراد] الذين أسلفوا الصوم (٢) ؛ أي : أنهم صاموا في الدنيا وتركوا الطعام والشراب ، فأثابهم الله في الآخرة فقال : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً).

قوله تعالى : (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (٢٥) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (٢٦) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (٢٧) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (٢٩) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (٣٢) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ (٣٣) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣٤) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (٣٥) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ)(٣٧)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ) والإيتاء بالشمال أحد أعلام الشقاء ، فتمنى ألا يؤتى بما فيه علم شقائه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ) يقول هذا في الوقت الذي قرأ ورأى فيه خلاف ما كان يظن في الدنيا ويحسب ؛ لأنه كان يحسب أنه في الدنيا أحسن صنعا من الذين آمنوا ، وأقرب منزلة إلى الله ـ تعالى ـ كما قال : (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) [الكهف : ١٠٤] فظهر [له بقراءته](٣) الكتاب أنه لم يكن على ما حسب ؛ بل قد أساء صنيعه ؛ فود عند ذلك ألا يعرف ما حسابه ؛ لئلا تظهر مساوئه.

ويحتمل أنه يتمنى أنه ترك ميتا ولم يحي حتى كان لا يرى الحساب ولا يعرفه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ) أي : يا ليت الميتة الأولى (كانَتِ الْقاضِيَةَ) ، أي : يا ليت الميتة الأولى كانت دائمة علي.

وقال بعض أهل التأويل : يا ليت النفخة الآخرة كانت تقضي بالموت والهلاك ، لم تكن محيية باعثة ، والله أعلم.

وقال قتادة : تمنّوا الموت ، ولم يكن شيء في الدنيا أكره إليهم منه (٤) ، ثم الموت عليهم مقضي ، وليس بقاض ، فحقه أن يقول : يا ليتها [كانت مقضية](٥) ؛ ولكن هذه

__________________

(١) في ب : في الآخرة.

(٢) أخرجه ابن المنذر وابن عدي في الكامل ، والبيهقي في الشعب عن عبد الله بن رفيع ، كما في الدر المنثور (٦ / ٤١١).

(٣) في ب : لهم بقراءتهم.

(٤) أخرجه ابن جرير (٣٤٨١٠) وعبد بن حميد ، كما في الدر المنثور (٦ / ٤١١).

(٥) في ب : كانت القاضية ، أي : مقضية.

١٨٣

اللفظة [يذكرها الناس في كل مكروه](١) من الأمور ؛ ألا ترى أن الناس يدعون الله ـ تعالى ـ بأن يصرف عنهم قضاء السوء ، وليس بقضاء الله ؛ بل هو مقضيه ؛ فخرج القول على ما تعارفوا ، وهذا كما يقال : (الصلاة أمر الله) ، وليست هي بأمره ، ولكن تأويله : أنها بأمره ما تقام ، فسمي أيضا قضاء الله ، وهو في الحقيقة مقضيه ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ) فالأصل أن الكفرة كانوا يفتخرون بكثرة أموالهم ، فيقولون : (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) [سبأ : ٣٥] فيزعمون أن الله ـ تعالى ـ بما آتاهم من الأموال يدفعون عن أنفسهم العذاب بأموالهم إن حل بهم ، فيتبين لهم في ذلك الوقت أنها لا تغني عنهم شيئا ، فيقول كل واحد منهم : (ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ).

وقوله ـ تعالى ـ : (هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ) ذكر عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال : كل سلطان في القرآن فهو حجة ، فالأصل : أن الكافر كان يحتج في الدنيا لنفسه بحجج باطلة ، فمرة يقول : (ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) [الشورى : ١٥٤] ، ويقول مرة : (ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [الأحقاف : ١٧] ، ومرة يقول : هذا سحر ، ومرة يقول : هو مجنون ، وغير ذلك ، فيعبر بقوله : (هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ) أي : هلكت تلك الحجج التي [كنا](٢) نتشبث بها ، واضمحلت ، وظننا أنها حجج.

ومنهم من يقول : السلطان : هو القدر والشرف ؛ أي : ذهب ذلك كله.

وقيل : أي : هلك عني (٣) تكبّري وسلطاني على الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ في الدنيا وترك الاكتراث إليهم.

وجائز أن يكون أراد به : أن السلطان الذي كان لي على نفسي في الدنيا قد انقطع ؛ لأنه كان يملك استعمالها في مرضات الله ـ تعالى ـ فيقول : قد انقطع ذلك السلطان ؛ لأني لا أملك استعمالها فيما أستوجب به مرضاة الله ؛ لأنه يسلم فلا يقبل منه إسلامه (٤).

ثم يجوز أن تكون الهاءات في هذه الخطابات (٥) على معنى الإشارات (٦) إلى الأنفس ، أو على تأكيد الأمر والمبالغة : كالنسابة (٧) ، أو كأنهم ينادون أنفسهم بذلك ، وقد تدخل الهاء في النداء ؛ كقوله يا ربّاه ، ويا سيّداه.

__________________

(١) في ب : تذكر ويراد بها المكروه.

(٢) سقط في ب.

(٣) زاد في ب : سلطانيه ، أي :

(٤) في ب : للإسلام.

(٥) في أ : الخطيئات.

(٦) في ب : الإشارة.

(٧) في أ : كالمتشابه.

١٨٤

وجائز أن يكون الوقف وإجمام الكلام ، وأهل النحو يسمّونه : هاء الاستراحة.

وقوله ـ عزوجل ـ (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ) ، وقال في موضع آخر (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ) [الدخان : ٤٧] وهو السوق على العنف ، وقال في موضع آخر : (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً) [مريم : ٨٦] ، فكأنهم ـ والله أعلم ـ يغلون ، وبدأ بالأمر بالإغلال ؛ لأن الناس في الدنيا يجتهدون كل الجهد في منع العذاب بأيديهم ، فأخبر أن أيديهم تغل في الآخرة ؛ فلا يتهيأ لهم دفع ما يحل بهم من العذاب ؛ فيكون ذلك أشد في العذاب عليهم ، ويكون حالهم كما قال الله ـ تعالى ـ : (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [الزمر : ٢٤] فتغل يداه ؛ كي يتقي النار بوجهه ، ثم يدخلون (١) في السلاسل فيجرون ويسحبون ويساقون على وجوههم على اختلاف أحوال القيامة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) أي : أدخلوه ، يقال : لحم (٢) مصلي : أي مشوي ؛ فجائز أن يؤمر بأن يشوى في الجحيم.

وقوله : (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ) فذكر أولا : أنهم يغلون ، ثم يصلون الجحيم ، ثم يسلسلون إذ ذاك ، وحق مثله أن يسلسل ، ثم يمد إلى الجهنم ، ولكنّه يشبه أن يكونوا أولا يحشرون ، ثم يساقون إلى نار جهنم بقوله : (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً) [الزمر : ٧١] وإذا وردوها هموا أن يفروا منها ، فيسلسلون إذ ذاك ، ويسحبون في النار حينئذ ؛ فلا يتهيأ لهم الهرب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ) ففيه بيان السبب الذي لأجله استوجبوا هذا العقاب ، وهو أنهم كانوا لا يؤمنون بالله العظيم.

ثم قوله : (لا يُؤْمِنُ بِاللهِ) جائز أن يكون لا يؤمن [بوحدانية الله](٣) ، أو لا يؤمن بإرسال الرسل ، أو كان لا يؤمن بالبعث ، وإلا فهم يؤمنون بالله ، ولكن من لم [يكن مؤمنا](٤) بالرسل والبعث فهو غير مؤمن في الحقيقة ؛ لأن الإله الحق هو الذي أرسل الرسل ، ويقدر على البعث ، والكافر لا يثبت له قدرة البعث ، ولا يراه أرسل الرسل ، فصار لا يؤمن بالله العظيم في الحقيقة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) ، إخبار أنه كان لا يؤمن بالبعث ؛ لأن الناس ليسوا يطلبون من [المساكين الجزاء](٥) لما يطعمونهم ، وإنما يطعمونهم لوجه الله

__________________

(١) في ب : يدخل.

(٢) في ب : حمل.

(٣) في ب : بوحدانيته.

(٤) في ب : يؤمن.

(٥) في ب : الناس.

١٨٥

تعالى ، ورجاء الثواب في الآخرة ، والكافر غير مؤمن بالجزاء ؛ ليحمله ذلك على الإطعام ، وليس هو بكسب يرغب فيه من مكاسب الدنيا ؛ فكأنه يقول : إن الذي أفضى به إلى النار تركه الإيمان بالله ـ تعالى ـ أو بالبعث.

ويجوز أن يكون قوله : (وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) إثبات السخرية من الذي ترك الحض على أهله بالإطعام ؛ كقوله : (أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) [يس : ٤٧] يقول : كيف أطعمه ومن بيده خزائن السموات والأرض لا يطعمه؟! فلو كان أهلا للإطعام لكان الأولى من يطعمه هو الله تعالى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ) أي : قريب يرجو منه ، وهو كقوله : (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) [المؤمنون : ١٠١] فليس له قريب يرجوه ، أو ينفعه ذلك الحميم ، وقد كان له في الدنيا حميم ينتفع به ويرجو منه.

وقوله : (وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) ، وقال في موضع آخر : (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) [الغاشية : ٦] ، وقال في موضع آخر : (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ. لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ. فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) [الواقعة : ٥١ ـ ٥٣] والزقوم غير الضريع ؛ فهذا ـ والله أعلم ـ يدل أن في جهنم دركات ، فأهل دركة منها لا يجدون غير الغسلين ، وأهل دركة منها [يجدون غير ذلك ، وأهل دركة منها](١) طعامهم الزقوم ، ليس لهم غيره ، وإلا لو لم يحمل الأمر على هذا ، أوجب ما ذكرناه [اختلافا ، فيخرج أن يكون من عند الله بقوله : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٨٢]](٢).

ثم يجوز أن يكون قدر لأهل كل دركة ما توجبه الحكمة أن يكون ذلك طعامهم ؛ فعلى ما كانوا يفتخرون في هذه الدنيا بالأطعمة على من دونهم ، ويهينون من لم يكن عنده ذلك الطعام ، جعل الله ـ تعالى ـ لهم من ذلك الوجه طعاما في الجحيم يهانون به.

وقال الحسن : إن القرآن كله كسورة واحدة ، والسورة كأنها آية واحدة ، فكأنه جمع بين هذه الأشياء كلها في آية واحدة فقال : (وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) ، (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) [الغاشية : ٦] ، و (مِنْ زَقُّومٍ) [الواقعة : ٥٢] ، وإذا حمل على ما ذكر ارتفع توهم التناقض ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) فجائز أن يكون هذا اسما لشيء من الأشياء التي يعذب بها أهل النار ، لم يطلع الله ـ تعالى ـ الخلق على علم (٣) ذلك ومعرفته في الدنيا ،

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في ب : اختلافا كثيرا.

(٣) في ب : مثل.

١٨٦

وقد ذكر أسامي في الآخرة ليس للخلق بمعرفتها عهد ؛ ألا ترى أن الزقوم ليس باسم لشيء يستقبح ويستفظع في الدنيا ، ثم جعله الله ـ تعالى ـ اسما للشيء المستبشع الكريه في الآخرة ، وقال (عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً) [الإنسان : ١٨] ، والسلسبيل غير معروف فيما بين أهل اللسان.

وقال بعضهم (١) : الغسلين : ما يسيل من جلود أهل النار إذا عذبوا ، وذلك هو الصديد والقيح.

وجائز أن يكون إذا اشتد حرهم استغاثوا إلى الله ـ تعالى ـ وطلبوا منه ما يرجون أن يرفع عنهم الحر ، فيصب عليهم ما يزيد في عذابهم ؛ فيسمى ما يزول عنهم : غسلينا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ) ، فهم الذين قال : (إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ. وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ).

ثم قوله ـ عزوجل ـ : (فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً) لا يجوز أن تكون السلسلة تفضل عن أبدانهم فتأخذ فضل مكان من جهنم ؛ لأنه ـ تعالى ـ وعد أن يملأ جهنم من الجنة والناس أجمعين ، ولو كانت تلك السلسلة آخذة فضل مكان ، لكان لا يقع الامتلاء بالجنة والناس أجمعين فقط ، فيؤدي إلى خلف الوعد ، والله ـ عزوجل ـ لا يخلف الميعاد ، ولكن إن كانت تلك السلسلة أطول من أبدانهم فهي تدار على أهلها ؛ ليقع لهم بها فضل تضييق وغم ، فأمّا أن تفضل عن أبدانهم فلا يحتمل.

وذكر عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ؛ فإنه أهون ـ أو قال : أيسر ـ عليكم ، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا ، وتجهزوا للعرض الأكبر يوم القيامة ؛ (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) [الحاقة : ١٨]» (٢).

وعن الحسن أنه قال : «إن المؤمن قوام نفسه ، يحاسب نفسه لله ـ تعالى ـ وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا ، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة ؛ لأن المؤمن يفجؤه الشيء فيقول : والله إني لأستهينك وإنك لمن حاجتي ، ولكن والله ما لي من صلة إليك ، هيهات حيل بيني وبينك ، ويفرط منه الشيء ؛ فيرجع إلى نفسه ، فيقول : ما أردت هذا ، ما لي ولهذا ، والله ما أعذر ، والله لا أعود لهذا إن شاء الله ـ تعالى ـ إن المؤمنين قوم أوثقهم (٣) العذاب ،

__________________

(١) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٣٤٨٢٥ ، ٣٤٨٢٦) ، من طريقين عنه ، وله طرق أخرى ذكرها السيوطي في الدر المنثور (٦ / ٤١٢).

(٢) أخرجه ابن المبارك ، كما في الدر المنثور (٦ / ٤١٠).

(٣) في ب : أوبقهم.

١٨٧

وحال بينهم وبين هلكتهم ، إن المؤمن أسير في الدنيا يسعى في فكاك نفسه ، لا يأمن شيئا حتى يلقى الله يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه وبصره ولسانه وجوارحه كلها.

فمحاسبة النفس : أن ينظر في كل فعل يريد أن يقدم عليه إلى عاقبته ، فإن كان رشدا أمضاه وأنفذه ، وإن كان غيّا انتهى عنه ، كما قال [النبي](١) ـ عليه‌السلام ـ : «إذا أردت أمرا فدبّر عاقبته ، فإن كان رشدا فأمضه ، وإن كان غيّا فانته عنه».

وقال في خبر آخر : «إن المؤمن وقّاف وزان» ، ووزنه : ما ذكر في الخبر الأول من النظر في العواقب ، فإذا نظر في العاقبة ، ورأى الرشد في إنفاذه ، فقد وزنه ، وإذا رأى خلاف الرشد ، انتهى عنه ، ولم يقدم عليه ، فذلك وقفه ، فهذا الذي ذكرنا محاسبة (٢) المرء نفسه فيما يروم من الأمور.

ومحاسبة نفسه في الأفعال التي ارتكبها وأمضاها أن ينظر : فإن كان ارتكب محرما ، تاب عنه ، واستغفر لله ـ تعالى ـ لعله بفضله يمن عليه بالمغفرة ، وإن كان ذلك فعلا مرضيا حمد الله ـ تعالى ـ وسأله التوفيق بمثله ؛ فهذه هي [محاسبة العبد لنفسه فيما ارتكب](٣) من الأفعال.

قوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (٣٨) وَما لا تُبْصِرُونَ (٣٩) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٤٢) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٣) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (٤٧) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (٤٩) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ)(٥٢)

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ. وَما لا تُبْصِرُونَ) : قد وصفنا أن تأويل قوله : (فَلا أُقْسِمُ) أي : فلا أقسم بما تبصرون من خلق السموات والأرضين وأنفسكم ، وما لا تبصرون في أنفسكم من الأسماع ، والأبصار ، والقلوب ، والعقول.

أو ما تبصرون من الخلائق ممن حضركم ، وما لا تبصرون من الخلائق ممن غاب عنكم ، فيكون القسم بما نبصر وما لا نبصر قسم بالخلائق أجمع ؛ لأن جملة الخلائق على هذين الوجهين ، فصنف منهم يرى ، وصنف لا يرى ، وقد ذكرنا أن القسم من الله ـ عزوجل ـ لتأكيد ما يقصد إليه مما يعرف بالتدبّر والتأمل.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : محاسنة.

(٣) في ب : محاسبة النفس فيما ارتكب العبد.

١٨٨

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) أي : الذي تسمعونه منه تسمعون من رسول كريم ، ثم ذكر ـ هاهنا ـ أنه قول رسول كريم ، وقال في موضع آخر : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) [التوبة : ٦] فذكر ـ هاهنا ـ : كلام الله ، وذكر في الآية [الأولى](١) : أنه قول رسول كريم ، فأما ما أضيف إلى الرسول فهو من حيث بلوغنا إليه من جهة الرسول ، لا بأمر غيره وصلنا إليه ، وأضيف إلى الله ـ تعالى ـ لأن مجيئه وبدأه من عنده ، وأضيف إلى الرسول ؛ لأن ظهوره في حقنا كان به ، وهذا كما أضيف ما وعاه القلب إلى الأذن بقوله : (وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) [الحاقة : ١٢] ؛ لأنه إنما يوصل إلى الوعي بالأذن ؛ فعلى ذلك أضيف القول إلى الرسول من حيث كان سماع الخلق من جهة الرسول ، عليه‌السلام.

ثم الأصل أن [الكلام والقول](٢) لا يسمعان ، وإنما المسموع منهما الصوت الذي يعرف الكلام والقول به ، ويدل عليه ، لا أن يكون كلامه في الحقيقة صوته ، فينسب أيضا هذا القرآن إلى كلام الله ـ تعالى ـ لما يدل على كلامه ، لا أن يكون المسموع ـ في الحقيقة ـ هو كلامه [وجائز أن يكون تأويل قوله : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) ، أي : إن الذي سمعتموه](٣) من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتاكم به لقول تلقاه من عند الله الرسول الكريم ، فيذكرهم هذا ليؤمنهم من تخليط يقع فيه من الشياطين وغيرهم من الأعداء.

ثم جائز أن يكون الرسول الكريم هو جبريل ـ عليه‌السلام ـ كما قال ـ تعالى ـ في سورة : (إذا الشمس كورت) : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) [التكوير : ١٩ ، ٢٠].

ويحتمل أن يكون الرسول الكريم هو محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والأشبه أن يكون هو المراد ؛ لأنهم كانوا ينكرون رسالته ، ولم يكونوا يقولون في جبريل ـ عليه‌السلام ـ شيئا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ. وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) أي : إن هذا القرآن لقول رسول كريم ، ليس بقول شاعر ، ولا بقول كاهن.

ثم قوله : (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ) يحتمل أن يكون تأويله : فبقليل ما تؤمنون ، وبقليل ما تذكرون مما جاءكم به الرسول ، فالقليل الذي آمنوا به وتذكروا فيه هو الذي كان راجعا إلى منافعهم ، فأما الذي كان عليهم فهم لم يؤمنوا به ولا تذكروا فيه ، وإذا كان تأويله ما ذكرنا ، فانتصاب القليل ؛ لانتزاع حرف الخافض ، وفي الحقيقة انتصابه

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : القول والكلام.

(٣) سقط في أ.

١٨٩

[لكونه](١) مصدرا ، وهو المفعول المطلق.

وجائز أن يكون أضاف القليل إلى قول : الكاهن والساحر ، وتأويله : أن الأمور لو كانت (٢) على ما تزعمون بأنه قول كاهن و [قول](٣) ساحر ، فما بالكم لا تصدقون بالقليل منه ، وقد تعلمون أن الساحر وإن كان الغالب عليه الكذب فيما يأتي ، فقد يصدق في القليل منه ، وكذلك الكاهن ، فما لكم لا تصدقون بالقليل منه ، وأنتم تعلمون أنه صادق ، فإن كان على هذا فهو في موضع إيجاب الحق عليهم أن يصدقوه.

وإن كان على التأويل الأول ، ففيه إضمار أنهم لا يؤمنون إلا بالقليل منه ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، فالتنزيل في الحقيقة لا يحتمل أن يسمع ؛ لأنه إخبار عن فعله ، وإنما الذي يسمع منه هو المنزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم أضاف إلى نفسه التنزيل ؛ ليعلم أن هذه الأخبار ، وهي قوله : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) وقوله ـ عزوجل ـ : (تَنْزِيلٌ) خرجت (٤) على المجاز ، ليس على التحقيق ؛ لأن التنزيل هو إنزاله ، فسمي : تنزيلا ؛ لأنه هو الذي كلفه الإنزال ، لا أن يكون هو الذي تولى الإنزال ، وإن كان هو خالقه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ) ، فهذا عطف على ما تقدم من قوله : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ) ، وعليه وقوع القسم ، وهو موضعه ؛ فكأنه يقول : إن الذي تلقاه من عند رسول كريم ، وما هو بقول تلقاه من كاهن أو ساحر ، ولا بقول تقوله علينا ، ولو تقول ، لأخذنا منه باليمين.

ويحتمل وجها آخر ، وهو أن الذي يسمعون منه رسول كريم ، وليس بشاعر ، ولا كاهن ، ولا متقول ؛ لأنهم كانوا مرة ينسبونه إلى الكهانة ، ومرة إلى السحر ، ومرة أنه تقوله على الله ، ولو تقول (لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) يبين أن عذاب الله بأخص عباده أسرع وقوعا إذا هم خالفوا ، وزلوا ـ منه بأعدائه ؛ ألا ترى إلى قوله ـ تعالى ـ : (لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) فبين أنّه لو وجد منه شيء مما قالوا فيه ، لأخذه على المكان ؛ ألا ترى إلى آدم ـ عليه‌السلام ـ وما حل به عند ما ابتلي بالزلة والخلاف ، وكذلك يونس ـ عليه‌السلام ـ وما عوتب على أثر الزلة ؛ وهذا لأن عذاب الأولياء يخرج مخرج التنبيه ، والتذكير ، والاستدعاء إلى ما كانوا عليه من الطاعة ، والانقياد قبل ارتكابهم الزلة ، ولا كذلك عذاب الأعداء ، فأخر عذابهم إلى اليوم الذي يدوم عليهم فيه العذاب.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : كان.

(٣) سقط في ب.

(٤) في ب : خرج.

١٩٠

وفيه وجه آخر : وهو أن الذي سمعتم منه لو كان سحرا أو شعرا أو كهانة أو تقوله ، لكان لا يمهله الله ـ تعالى ـ بل يؤاخذه على المكان من غير أن حجزوا ، كما قال : (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) ، فإمهاله دل على أن الأمر ليس كما قالوا ، بل هو تنزيل من رب العالمين.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) فأخذ الله ـ تعالى ـ : عذابه وعقوبته ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ) [الأنعام : ٤٢] ، وقوله ـ عزوجل ـ (فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً) [الأعراف : ٩٥].

وقوله : (بِالْيَمِينِ) أي : بالقوة ؛ أي : لا يعجزنا عنه شيء ، ولا يفوتنا عذابه ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) [الزمر : ٥١] ، و [هو](١) كقوله ـ تعالى ـ : (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) [الواقعة : ٦٠] ، أي : لا يعجزنا ما عنده من الشرف والقوة من أن نؤاخذه ، وننزل عليه النقمة.

وجائز أن يكون اليمين صلة القول ، لا على تحقيق اليد ، فذكر اليمين ؛ لأن التأديب في الشاهد والأخذ يقع بها ، وهو كقوله ـ عزوجل ـ : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) [الحج : ١٠] ، فأضاف (٢) التقديم إلى اليد ، لا على تحقيق اليد ؛ إذ يجوز ألا يكون ليديه بما قدم صنع ، لكن لما كان التقديم في الشاهد يقع بالأيدي ، فذكرت اليدان على ذلك ، لا على تحقيق الفعل بهما ، فكذلك يجوز أن تكون اليمين ذكرت ؛ لما بها يقع الأخذ والتأديب في الشاهد ، وإن لم يكن هناك يمين ، والله أعلم.

واليمين : القوة ، وسمّيت اليمين : يمينا ؛ لأن قدرة الرجل تكون فيها ، وسمي ملك الرقاب : ملك يمين ؛ لأن ملك اليمين يكتسب بالقهر والغلبة ، وإنما يصل المرء إلى القهر والغلبة بالقوة ؛ فسمي : ملك يمين لهذا ، لا أن يراد بذكر اليمين تحقيق اليمين ؛ إذ اليد لا تملك شيئا (٣) حتى يضاف إليها ، فكذلك فيما أضيف من اليمين إلى الله ـ تعالى ـ فالمراد منه القوة.

وقوله ـ عزوجل ـ (ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) قيل (٤) : الوتين : عرق في القلب.

وقيل (٥) : حبل في القلب.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : وأضاف.

(٣) في ب : سببا.

(٤) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٣٤٨٣٨ ، ٣٤٨٣٩) ، وابن المنذر عنه ، كما في الدر المنثور (٦ / ٤١٣).

(٥) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٣٤٨٣٩) والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه عنه ، كما في الدر المنثور (٦ / ٤١٣) وهو قول مجاهد وقتادة أيضا.

١٩١

وقيل (١) : هو العرق الذي إذا قطع مات صاحبه ، وهو عرق متصل بالظهر ، فكأنه قال : نعذبه عذابا لا بقاء له مع ذلك العذاب ، وهذا من أعظم آيات الرسالة في أنهم متى زلوا أخذوا على المكان ، ويكون فيه أمان الخلق (٢) عن إحداث التغيير والتبديل من الرسل ؛ لأنهم لو غيّروا لعذبوا.

ثم قوله ـ عزوجل ـ : (مِنْهُ بِالْيَمِينِ) فجائز أن يكون قوله : (مِنْهُ) زيادة في الكلام ، وحقه الإسقاط ، ويكون معناه : لأخذناه باليمين.

وجائز أن يكون معناه : لأخذنا من تقوله وسحره وكهانته باليمين ، فإن كان على هذا فحقه الإثبات ، وليس بصلة زائدة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) ، ففي هذا يأس منه لأولئك الكفرة ؛ لأنهم كانوا يطمعون (٣) من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اتباعهم وموافقتهم على ملتهم ؛ فأخبر أنه لو أجابهم لقطع منه وتينه ، وأخذه أخذا لا يملكون منع ذلك عنه ، ولا دفعه ، ولم يكن أحد ينصره عند ذلك أو يحجزه عنا ، وهو كقوله ـ تعالى ـ (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ..). إلى قوله : (إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً) [الإسراء : ٧٣ ـ ٧٥].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) ، فالمتقون : الموحّدون ، فسمّاهم مرة : متقين ، ومرة : صابرين شاكرين ؛ كقوله ـ عزوجل ـ (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) [إبراهيم : ٥] وهو تذكرة ؛ لأنه يذكرهم الوعد والوعيد ، وما يتقى وما يؤتى ، وغير ذلك (٤) ، فهو تذكرة ، يعني : القرآن.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ) أي : بآياتي ورسلي ، ثم نمهلكم ، فهو صلة قوله : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ) فبيّن أنه مع كذبهم بآياته ورسله يمهلهم ، ولا يعجل عليهم بالعقوبة ، ولو وجد التقول (٥) من الرسول ، لكان يستأصله ، ويقطع وتينه ، فهو على ما ذكرنا : أن عذابه على خواص عباده أسرع وقوعا إذا خالفوا منه بأعدائه.

وجائز أن يكون قوله : (وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ) هم المنافقون ؛ لأنهم كانوا يظهرون الموافقة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بألسنتهم ، ويخالفونه ويكذبونه بقلوبهم ؛ فيكون هذا التأويل

__________________

(١) قاله الضحاك بنحوه ، أخرجه ابن جرير عنه (٣٤٨٤٢).

(٢) في ب : الخالق.

(٣) في أ : يعلمون.

(٤) زاد في ب : فهو تذكرة ؛ لأنه يذكرهم الوعد والوعيد.

(٥) في أ : المنقول.

١٩٢

راجعا إلى أهل النفاق ، والتأويل الأول إلى أهل الكفر الذين أظهروا التكذيب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ) ، أي : العذاب حسرة عليهم يوم القيامة ؛ لأنه شافع مشفع لمن اتبعه وعمل بما فيه ، وما حل ، مصدق لمن نبذه وراء ظهره ولم يعمل به ، فهو حسرة عليهم ؛ لأنه يخاصمهم ، فيخصمهم ويشهد عليهم ، فيصدق في شهادته.

أو يذكرون يوم القيامة معاملتهم بالقرآن ، فيندمون عليه ، ويزيدهم حسرة ؛ لأنهم كانوا إذا تلي عليهم القرآن في الدنيا ازدادوا عند تلاوته ضلالا وكفرا ، وازدادوا به رجسا إلى رجسهم ، كما قال [الله تعالى](١) : (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) [التوبة : ١٢٥] ، وهو ليس بسبب لازدياد الرجس ، ولكنهم كانوا يحدثون زيادة تكذيب وضلال عند التلاوة ؛ فأضيفت الزيادة إلى القرآن ؛ إذ كان القرآن هو الذي يحملهم على زيادة التكذيب ؛ فهذه المعاملة تزيدهم حسرة يوم القيامة ؛ فأضيفت إلى القرآن ؛ إذ كان القرآن هو الذي عنده وقعوا فيه ، كما أضيف الرجس إليه ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) ، والأصل : أن الحق اسم لما يحمد عليه ، فحقه أن ينظر فيما تستعمل هذه اللفظة ، فيصرفها إلى أحمد (٢) الوجوه ، فإذا استعملت في الإخبار أريد بها الصدق ؛ نحو أن يقال : «هذا خبر حق» ؛ أي : صدق ، وإذا استعملت (٣) في الحكم أريد بها : العدل ، وإذا استعملت في الأقوال والأفعال ، أريد بها : الإصابة (٤) ؛ فقوله (٥) : (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) أي : صدق ويقين أنه من رب العالمين ، فهو صلة قوله ـ عزوجل ـ : (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ).

وقوله ـ عزوجل ـ (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) قيل : صلّ.

وقيل : اذكره بالاسم الذي إذا سميت كان تسبيحا ، أي تنزيها عن كل ما قالت فيه الملاحدة ، وما نسبت (٦) إليه مما لا يليق به ، والله الهادي [وعليه التكلان](٧).

* * *

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في أ : أحد.

(٣) في ب : استعمل.

(٤) في أ : الإضافة.

(٥) في ب : قوله.

(٦) في ب : نسب.

(٧) سقط في ب.

١٩٣

سورة المعارج

[بسم الله الرّحمن الرّحيم](١)

قوله تعالى : (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (١) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (٢) مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ (٣) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٤) فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (٥) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (٦) وَنَراهُ قَرِيباً (٧) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (٨) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (٩) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (١٠) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (١٤) كَلاَّ إِنَّها لَظى (١٥) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (١٦) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (١٧) وَجَمَعَ فَأَوْعى) (١٨)

قوله ـ عزوجل ـ : (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ. لِلْكافِرينَ) قرئ بتسكين الألف ، ومعناه : سال واد بعذاب واقع للكافرين ، أي : جرى واد بعذاب واجب.

والقراءة العامّة بالهمزة من السؤال ، وتأويله على سؤال القوم العذاب بقولهم : (إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال : ٣٢] ، وقولهم (٢) : (عَجِّلْ لَنا قِطَّنا) [ص : ١٦].

وقيل (٣) : هو النضر بن الحارث ، سأل ذلك ، فقتل يوم بدر بعد ما أسر ؛ هكذا قال بعض أهل التأويل.

ولكن عندنا [أن](٤) هذا وإن كان (٥) في الظاهر خارجا مخرج السؤال ، لكن لم يكن سؤاله هذا لينزل به العذاب في التحقيق ، وإنما هذا منه على جهة الاستبعاد بالعذاب والاستهزاء برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، [والذي حملهم على الاستبعاد والإنكار هو أنه كان عند أهل مكة : أنه لو كان فيهم نبي ، لكانوا هم أحق بالنبوة من رسول الله ـ عليه‌السلام ـ](٦) لأنهم هم الذي بسطت لهم الدّنيا ، وهم الذين لهم نفاذ الكلام في البلاد ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم تبسط له الدنيا ، ولا كان لكلامه فيما بينهم نفاذ ، فيظنون بهذا أنهم أقرب منزلة عند

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : وقوله.

(٣) قاله ابن عباس أخرجه الفريابي وعبد بن حميد والنسائي وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه وابن مردويه عنه ، كما في الدر المنثور (٦ / ٤١٥).

(٤) سقط في ب.

(٥) زاد في ب : كذا.

(٦) سقط في أ.

١٩٤

الله ـ تعالى ـ من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه لا يستقيم في العقل أن يصل الولي إلى عدوه ، ويحسن إليه ويدع صلة وليه ويجفوه ، فهذا (١) الظن الذي ذكرنا هو الذي حملهم على تكذيب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يخبرهم من حلول العذاب بالتكذيب ، وعلى الاستهزاء به ، فكان سؤال السائل على جهة الاستبعاد والإنكار للعذاب ، لا أن كانوا مقرين به ثمّ استعجلوه.

وذكر أن أبا جهل قال يوم بدر : اللهم انصر أبرنا قسما ، وأوصلنا رحما ، وأقرانا للضيف ؛ فكان يدعو بهذا لما عنده : أنه أشرف حالا وأعلى منزلة عند الله ـ تعالى ـ من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأتباعه ، ومن كان هذا شأنه ، فهو أولى أن ينصر ؛ قال الله ـ تعالى ـ : (وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ)(٢) [الانفال : ٣٢] ، ولو لم يكن عندهم أنهم أقرب منزلة وأحق أن يكونوا أولياء ، وإلا لم يكونوا يجترئون أن يسألوا بهذا ، فهذه الشبهة التي ذكرناها هي التي أورثت لهم ما ذكرناها من الظن ، حتى زعموا أنهم أحق بالرسالة ، وظنهم هذا يتولد من ظن إبليس ، وذلك أن إبليس قال : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) [ص : ٧٦] ؛ فظن أن أمر الفاضل للمفضول بالسجود في الخضوع له خارج عن حد الحكمة ؛ فصار إلى ما صار إليه من الخزي واللعن ، فكذلك هؤلاء لما رأوا من نفاذ كلمتهم وسعتهم في الدنيا ظنوا أنهم أقرب إلى الله ـ تعالى ـ إذ التوسع عندهم دلالة الولاية والقرب.

ثم سفههم هو الذي حملهم على التكبّر على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وترك الخضوع ، وإلا لو أعطوا النصفة من أنفسهم ، لكان يجب أن يكونوا هم أطوع خلق الله ـ تعالى ـ لأن الواجب على من كثرت عليه النعم من آخر أن يكون هو أشكر للنعم ، وأطوع له فيما يدعوه إليه من الذي قلّت نعمه عليه ، فإذا كانوا مقرين أن نعم الله عليهم أكثر ، وإحسانه إليهم أوفر ، أوجب ما ذكروا أن يكونوا هم ألزم لطاعته ، وآخذ لما يأمرهم (٣) به ، وكذلك إبليس اللعين إذا رأى لنفسه فضلا ، وإنما استوجب ذلك بما أنعم الله ـ عزوجل ـ عليه ، كان الحق عليه أن يتسارع إلى طاعته وينقاد لما أمر به ، لا أن يظهر الخلاف من نفسه وترك الائتمار بأمره.

وقوله ـ عزوجل ـ : (بِعَذابٍ واقِعٍ) أي : هو واقع بهم (٤) لا محالة في علم الله تعالى.

__________________

(١) في ب : وهذا.

(٢) تقدم.

(٣) في أ : يأمر.

(٤) في ب : لهم.

١٩٥

أو (واقِعٍ) بمعنى : سيقع ، كما يقال : قابل : أي : سيقبل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ) فإن كان قوله : (لِلْكافِرينَ) صلة قوله : (بِعَذابٍ واقِعٍ) ، فحقه أن يقول : على الكافرين ، ولكن اللام من حروف الإضافة والخفض ، وحروف الإضافة مما [يستبدل بعضها ببعض](١) ؛ فجعل اللام بدلا عن «على».

وإن كان قوله : (لِلْكافِرينَ) صلة قوله : (لَيْسَ لَهُ دافِعٌ) فمعناه : أن ليس على الكافرين دافع لعذاب الله ـ عزوجل ـ بل واقع بهم لا محالة ، فأبدلت اللام مكان «عن» ؛ لأنهما جميعا من حروف الخفض.

وقد يدفع العذاب عن المسلمين من وجوه : إما برحمة الله ـ تعالى ـ أو بشفاعة الرسل والأخيار ، وإما بحسنات سبقت منهم ، توجب تكفير سيئاتهم.

فأما الكفار فلا تنالهم رحمته ، ولا شفاعة أحد من الخلائق ، وليست لهم حسنات تكفر سيئاتهم ، فليس لهم ما يدفع عنهم العذاب.

وجائز أن يكون معناه : أن الذين ظنوا أنه ينصرهم عند النوائب وحلول الشدائد ، لا يقوم بنصرهم ، ولا يشفع لهم ؛ لأنهم كانوا يعبدون الأصنام ، ويعبدون الملائكة على رجاء أن يشفعوا لهم ، ويقربوهم (٢) إلى الله تعالى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ) أي : ذلك العذاب لهم من الله ـ تعالى ـ ذي المعارج ؛ أي : [من](٣) له المعارج ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) [البروج : ١٥] أي : الذي له العرش.

واختلفوا في المعارج : قال بعضهم : هي المصاعد ، وهي السموات ، وسمّاهن مصاعد ؛ لأن بعضها أصعد من بعض وأرفع ، ولو قال : ذي المسافل ، كان مستقيما ، واقتضى (٤) ما يقتضي قوله : ذي المعارج ؛ لأن بعضها إذا كان أصعد [من بعض ؛ فالذي](٥) تحتها أهبط وأسفل ، ولكن ذكر المصاعد ؛ لأن هذا أعلى في الوصف.

ثم في ذكر هذا عظيم (٦) نعمه وإحسانه إلى خلقه ؛ حيث خلق السموات والأرض

__________________

(١) في ب : يستدل ببعضها على بعض.

(٢) في ب : ويقربوا.

(٣) سقط في ب.

(٤) زاد في ب : قوله.

(٥) في أ : والذي.

(٦) في أ : عظم.

١٩٦

مسكنا لأهلها ، وبسط الأرض مسكنا لأهلها ، حتى إذا عرفوا هذا عرفوا أن له أن يفضل بعضا على بعض ، وله أن يصطفي من يشاء من الناس للرسالة ويختص بها.

وذكرهم ـ أيضا ـ حكمته وعلمه وقدرته وسلطانه (١) حيث وضع سماء على سماء ، وخلقهن طباقا من غير عمد تحتها تمسكها ، أو علائق من فوقها تربطها ، فتبين أنه يمسكها بحكمته وقدرته وسلطانه ؛ فيكون في ذكر كل وجه مما ذكرنا إزالة الشبهة التي اعترضت لهم في أمر البعث والرسالة وإيضاح بأن من قدر على ما ذكرنا لقادر على الإعادة بعد الإفناء.

وقيل (٢) : المعارج : المعالي ، أي : الذي له العلو والرفعة ، كما قلنا في قوله : الحمد لله ، أي : لا أحد (٣) يستحق الحمد في الحقيقة ، وما حمد أحد إلا وذلك في الحقيقة لله ـ تعالى ـ لأنه به استفاده ، فعلى ذلك قولنا : له العلو والرفعة ، أي : ليس أحد يستفيد العلو والكرامة إلا وحقيقة ذلك لله ـ تعالى ـ لأنه استفاده به.

والثاني : أي : هو الموصوف بالعلو والجلال عما (٤) يقع عليه أوهام الخلق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) يحتمل أن يكون معنى قوله : (تَعْرُجُ) ليس عن (٥) هبوط يصعد ويعرج ، لكن أنشأهم كذلك معروجين ؛ كقوله : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ) [الزمر : ٦] ، أي : أنشأهم كذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالسَّماءَ رَفَعَها) [الرحمن : ٧] ليس أنها (٦) كانت في موضع منحط فرفعها ، لكنه كذلك خلقها مرفوعة ؛ فعلى ذلك قوله ـ عزوجل ـ : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ) ، أي : أنشأهم كذلك ليستعملهم (٧)(فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ).

ووجه آخر ـ وهو الأشبه بالآية ـ : وهو ما قالوا : إن الملائكة تعرج إليه ؛ أي : إلى الموضع الذي منه (٨) أرسلهم إلى أنواع الأمور في يوم لو قدر ذلك العروج بعروج البشر

__________________

(١) زاد في أ : أنه.

(٢) قاله ابن عباس بنحوه ، أخرجه ابن جرير (٣٤٨٥٣) ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٦ / ٤١٦) وعن قتادة مثله.

(٣) زاد في ب : من.

(٤) في ب : كما.

(٥) في ب : عين.

(٦) في ب : أنه.

(٧) في أ : استعملهم.

(٨) في أ : عنه.

١٩٧

وسيرهم ، لكان مقدار خمسين ألف سنة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) ، وقال في موضع آخر : (أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) [السجدة : ٥] ، فيحتمل أن يكون هذا الوقت وقت تقدير عروج الملائكة وصعودهم ، وهو أن البعض ينزل (١) منهم ، ثم يعرج (٢) في يوم واحد ، مقدار ذلك المسير ألف عام ، والبعض منهم ينزل ويعرج في يوم واحد مسيرة خمسين ألف سنة ؛ فيكون في هذا إبانة أن ليس أهل سماء أحق أن يدور عليهم تدبير أهل الأرض من أهل سماء ؛ بل ينزل أهل سماء إلى [أهل](٣) الأرض مرة ؛ لما يراد من تدبير ، وينزل أهل سماء أخرى بتدبير آخر ، ثم [من] أي سماء يرسل ، فهو يصعد إلى تلك السماء [في] يوم واحد ، إن أرسل من السماء السابعة أو السادسة أو الأولى ، فهو يصعد إليها في ذلك اليوم ، فيكون (٤) في هذا تبيين قوة بعض الملائكة على بعض : أن فيهم من يسير مسيرة خمسين ألف سنة في يوم واحد ، وفيهم من يسير مسيرة ألف سنة ، ومن قدر على أن يخلق في خلق من خلائقه من القوة ما يقطع هذه المسافة في يوم واحد ، لا يحتمل أن يعجزه شيء ؛ فيكون في ذكر هذا تحقيق كون ما به هول أمر القيامة والبعث.

وجائز أن يكون قوله : (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) راجعا إلى يوم القيامة ، فذكر في موضع أن مقداره ألف سنة ، وذكر هاهنا أن مقداره خمسين ألف سنة ، والأصل أن (٥) ذلك اليوم ليس بذي حد ولا له غاية ينتهى إليها ، فما يخبر من الحد فيه ، فهو يخرج مخرج تعظيم ذلك اليوم ؛ ليقع به التهويل والتقريع ، فبأي شيء يعظم ذكره في القلوب [يذكره](٦) ؛ فمرة ذكره بالخلود ، وهو قوله ـ عزوجل ـ : (ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ) [ق : ٣٤] ، ومرة قال : (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) [النبأ : ٢٣] ، ومرة قال : (خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) ، ومرة قال : (أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) [السجدة : ٥] ، إذ هذه الأشياء مما يعظم [ذكرها](٧) في القلوب ، وكذلك الألف هي عظيمة في القلوب ، فإذا كانت هذه الأشياء يعظم ذكرها في القلوب فذكر الشيء الواحد من الجملة (٨) أو ذكر الأشياء يقتضي معنى واحدا.

__________________

(١) في ب : يتنزل.

(٢) في أ : يعرض.

(٣) سقط في أ.

(٤) في ب : ويكون.

(٥) في ب : في.

(٦) سقط في ب.

(٧) سقط في أ.

(٨) في ب : الحكمة.

١٩٨

ومنهم من يصرف الألف إلى تقدير عروج الخلائق إلى السماء في ذلك اليوم ، ويصرف قوله : (خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) إلى تقدير المقام للحساب قبل أن يدخلوا النار.

وجائز أن يكون تأويله على ما ذكره بعض أهل التفسير ، وهو أن الله تعالى لو جعل حساب الخلق يومئذ إلى الخلق ، فتكلفوا أن يفرغوا من حسابهم ، لن (١) يفرغوا [منه](٢) إلا في مقدار خمسين ألف سنة ، لكن الله تعالى بلطفه يحاسبهم حسابا يفرغون منه (٣) في أدنى وقت حتى يصير أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار في النار ؛ على ما جاء في الأخبار ، وذلك قوله : (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) [النور : ٣٩].

فإن قيل في قوله ـ عزوجل ـ : (أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) [السجدة : ٥] ، أن كيف قدر ذلك بصعودنا ، ونحن لم يمكن [لنا](٤) من الصعود ، ولم ننشأ على ما في طبعنا إنشاء الصعود حتى ننظر : أنه ألف سنة أو أقل أو أكثر.

وجوابه أن يقال : إن تأويله ـ والله أعلم ـ : أنه لو بسط ما بين السماء والأرض ، وصار بحيث يمكن السير عليه ، لم يقطع ذلك المسير إذا احتجنا إلى قطعه إلا بألف سنة مما تعدون.

وجائز أن يكون تأويله : أن لو جعل لنا إلى السماء باب ، وفتح ، وظللنا (٥) نعرج إليها لم نتوصل إليها إلا في ألف عام.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً) ، قيل : الصبر الجميل هو صبر لا جزع فيه ، والصبر الذي لا جزع فيه هو أن يصبر صبرا لا يرى عليه أثر الصبر ، بألا يظهر في وجهه كراهة ، ولا عبوسة ، وهو أن ينظر إلى من آذاه بعين الرضا والشفقة ، ليس بعين السخط والكراهة.

أو الصبر الجميل ألا يكافئهم ، ولا يدع شفقته ورحمته [عليهم](٦) بما يؤذونه ، [وقد كان ـ عليه‌السلام ـ كذلك مشفقا](٧) بهم رحيما ، حتى بلغت شفقته ورحمته وحزنه على كفار قومه مبلغا كادت نفسه تهلك فيها ، كما قال [الله](٨) تعالى : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ

__________________

(١) في ب : لم.

(٢) سقط في ب.

(٣) في أ : عنه.

(٤) سقط في ب.

(٥) في ب : فظللنا.

(٦) سقط في ب.

(٧) في ب : وقد كان لذلك عليه‌السلام مشفقا.

(٨) سقط في ب.

١٩٩

حَسَراتٍ) [فاطر : ٨] ، وقال : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ) [الكهف : ٦] ، فالرسل ـ عليهم‌السلام ـ كانوا إذا أوذوا لم يكونوا يحزنون لمكان (١) أنفسهم بما أوذوا ، بل كانوا يحزنون لمكان (٢) من يؤذيهم خوفا من أن يحل بهم الهلاك والبوار بإيذائهم رسل الله تعالى ، وإشفاقهم على قومهم هو الذي كان يحزنهم ؛ [ليس سوء](٣) صنيعهم ومعاملتهم معهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً) ، أي : بعيدا أن يكون ، فيكون على النفي والإنكار ، وقد يستعمل هذا الحرف في موضع النفي ؛ يقول الرجل في المناظرة لصاحبه : أبعدت في القول ؛ إذا أجاب بشيء لا ثبات له ولا صحة ، فيريد بقوله : «أبعدت» : النفي ؛ أي : ليس كما تقول ، وقال الله تعالى : (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) [فصلت : ٤٤] ، ومعناه على [نفي النداء](٤) ؛ أي : لا ينادون.

أو أن يكون قوله : (بَعِيداً) أي : مستبعدا كونه ، فبعد عن أوهامهم حتى أنكروه.

(وَنَراهُ قَرِيباً) ، أي : قريبا كونه ، إن كان معنى قوله : (بَعِيداً) أي : بعيدا كونه.

أو (وَنَراهُ قَرِيباً) ، أي : كائنا ، وقد قرب وقت وقوع ذلك بهم ، وكل ما هو كائن فهو قريب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ) ، فكأنهم سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الوقت الذي وعدوا أن يقع بهم العذاب متى وقته؟ فنزلت [هذه](٥) الآية (٦) : (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ).

وقيل (٧) : المهل : عكر الزيت ، وهو درديّه ؛ فجائز أن يكون هذا على التحقيق ، وهو أنها تتغير في ذلك اليوم من لون إلى لون ، فتحمر مرة ، وتصفر أخرى ؛ لشدة هول ذلك اليوم ، فتكون كدردي الزيت لينا ولونا متغيرا من حال إلى حال.

وجائز ألا يحل بها التغير ، ولكن شدة ما ينزل بالمرء من الهول والفزع يضعف بصره حتى يرى السماء على خلاف اللون الذي هي عليه ، وهو كما يرى المرء إذا حل به

__________________

(١) في ب : بمكان.

(٢) في أ : بمكان.

(٣) في أ : لسوء.

(٤) في ب : النفي في النداء.

(٥) سقط في ب.

(٦) زاد في ب : وهو قوله.

(٧) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير (٣٤٨٧١) وعبد بن حميد وابن المنذر عنه ، كما في الدر المنثور (٦ / ٤١٨).

٢٠٠