تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٥

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٥

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٥١٩

١

٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (١٤٢) وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (١٤٣) قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ)(١٤٤)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ).

ذكر هاهنا ثلاثين ليلة ثم ذكر التمام بالعشر ، وذكر في السورة التي [فيها](١) ذكر البقرة أربعين ليلة بقوله : (وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) ، وهو واحد كان الميعاد له أربعين ليلة ، لكن (٢) يحتمل ذكر ثلاثين مرة وعشرا وجهين :

أحدهما : أن ثلاثين ليلة كان لأمر وعشرا كان لأمر آخر ، فذكرت (٣) متفرقة لما كان الأمرين مختلفين.

والثاني : أنه كان في وقتين ، كان هذا في وقت والآخر في وقت ، والقصّة واحدة ، والميعاد واحد ، فذكر التمام بعشر ؛ كقوله : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) [البقرة : ١٩٦] ، وإن كانت في وقتين ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً).

قيل (٤) : [تم](٥) الميعاد الذي وعد له أربعين ليلة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي).

فإن قيل : ما معنى قول موسى لأخيه هارون : (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي) ، وهو كان مبعوثا معه ، رسولان إلى فرعون مشتركان في تبليغ الرسالة [إلى فرعون](٦) بقوله : (وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) [طه : ٣٢] ، وقوله : (إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الشعراء : ١٦] ، وقوله : (فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : لكنه.

(٣) في ب : فذكر.

(٤) أخرجه ابن جرير (٦ / ٤٨) (١٥٠٧٩) عن ابن جريج ، وذكره أبو حيان في البحر المحيط (٤ / ٣٧٩) وابن عادل في اللباب (٩ / ٢٩٨).

(٥) سقط في أ.

(٦) سقط في أ.

٣

رَسُولا رَبِّكَ) [طه : ٤٧] ، وقوله : (وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي) [القصص : ٣٤] فإذا كان هو رسولا كموسى في تبليغ الرسالة ، كيف احتاج إلى أن يقول موسى : اخلفني في قومي وهما ـ شرعا ـ سواء في الرسالة؟

قيل : يحتمل هذا وجهين :

[يحتمل](١) أن يكونا كما ذكر رسولين ، لكن من ولى اثنين أمرا لم يكن لواحد منهما أن ينفرد به إلا بأمر الآخر ، فعلى هذا كأنه قال له : اخلفني في الحكم بينهم ، وأصلح ذات بينهم ، ولا تتبع من دعاك إلى سبيل المفسدين.

أو يحتمل أن يكون موسى كان هو الرسول أولا وكان إليه الحكم ، وهارون كان دخيلا في أمره ردءا له على ما قال : (فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي) [القصص : ٣٤] ولأن موسى كان هو المأمور بها أولا والمبعوث إليهم دونه.

ألا ترى أنه كان هو المناجي ربه دون هارون ، وكان هو المعطي الألواح دون هارون ؛ كقوله : (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) [الأعراف : ١٤٥] ، وهو الذي قال : (إِنِّي آنَسْتُ ناراً) [طه : ١٠] ، وهو الذي نودي بالبركة دون هارون ، وغير ذلك من الآيات ، فإذا كان كذلك استخلفه موسى في قومه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا). أي : لميعادنا الذي وعدناه.

(وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ).

لا يجوز لنا أن نصف كيفية الكلام وماهيته (٢) ، سوى أنه أنشأ كلاما وصوتا أسمعه موسى كيف شاء بما شاء بكلام مخلوق وصوت مخلوق.

(قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي ...) الآية [البقرة : ٥٥].

قال قائلون : إن موسى لم يسأل ربّه الرؤية لنفسه ، ولكن سأل لقومه لسؤال القوم له ؛ كقوله : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) [البقرة : ٥٥] ، لكن هذا بعيد ؛ لأنه لو كان سؤاله إياه لسؤال قومه ، لكان لا يقول : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) ، ولكن يقول : أرهم ينظرون إليك ، فدل أنه لم يكن لذلك.

وقال قائلون : لم يكن سؤال ربه رؤية الرب ، ولكن سأل ربه رؤية الآيات والأعلام والأدلة التي بها يرى ، وذلك جائز سؤال الرؤية : سؤال رؤية الآيات والأعلام ، وذلك أيضا بعيد ؛ لأنه قد أعطاه من الآيات والأعلام ما لم يكن له الحاجة إلى غيرها من الآيات ؛ من

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في أ : مائيته.

٤

نحو : العصا التي كان يضرب بها الحجر فتفجر منه اثنتي (١) عشرة عينا ، وما كان من فرق البحر وإهلاك العدو ، واليد البيضاء ، وغير ذلك من الآيات ، فإذا بطل ذلك ، دل أنه سأل حقيقة الرؤية ، والقول بها لازم عندنا في الآخرة ، وحق من غير إدراك ولا تفسير ، والدليل على ذلك قوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) [الأنعام : ١٠٣] ، ولو كان لا يرى لم يكن لنفي الإدراك حكمة ؛ إذ لا يدرك غيره بغير الرؤية ، فمع نفي الإدراك وغيره من الخلق لا يدرك إلا بالرؤية لا معنى له ، والله الموفق (٢).

__________________

(١) في أ : اثني.

(٢) اتفقت كلمة الأشاعرة على جواز رؤيته تعالى عقلا في الدنيا والآخرة ، بمعنى أنه تعالى يجوز أن ينكشف لعباده المؤمنين من غير ارتسام صورة ولا اتصال شعاع ولا حصول في جهة ومقابلة ، واستدلوا على ذلك بأدلة نقلية وأدلة عقلية ، فلنذكر الأدلة النقلية ؛ لأنها الأصل في هذا الباب ، وهي أكثر من أن تحصى ، والمعتمد منها عند أهل السنة قوله تعالى حكاية عن سيدنا موسى ـ عليه‌السلام ـ في ميقات المناجاة : (قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) [الأعراف : ١٤٣].

تنطق الآية الكريمة بمسألة تتعلق بالذات الأقدس ، وهي مسألة الرؤية ، ولم يحدد النطق الكريم الحكم فيها بل ترك لذوي العقول البحث.

فكان القول بجوازها ووقوعها ، وكان القول باستحالتها وعدم وقوعها ، ولم يكن لصاحب كل قول من الآية الكريمة ما يعتمد عليه صريحا ، بل كل مستند له هو الركون إلى اللغة تارة ، واللجوء إلى الدليل العقلي أخرى. غير أن أهل السنة نظروا إلى ظروف الآية وما سيقت لأجله ، فكانت عضدا قويّا ركنوا إليه.

فالآية الكريمة تقول : لقد دعي موسى ـ عليه‌السلام ـ لمناجاتنا ورفعناه إلى هذا المستوى ، واتصل بالأفق الأعلى ، وانتهى من الإنسانية إلى الذروة العليا ، وشهد من أمر الله ما لم يصل غيره إلى تعقله بأقوى الأدلة والبراهين ، وأنزله هذه المنزلة ، ووقف في ساحة جلاله وحظائر قدسه ومساقط أنوار جماله ، وذاق حلاوة خطابه.

أليس يطلب إلى ربه أن يمتعه بالنظر إلى ذاته الأقدس ؛ ليجمع بين حلاوة الكلام وجمال الرؤية ، ويؤيد أن الحامل لموسى ـ عليه‌السلام ـ على طلب الرؤية عوامل الشوق : ما روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : «جاء موسى عليه‌السلام ومعه السبعون رجلا ، وصعد موسى الجبل وبقي السبعون في أسفل الجبل ، فكلم الله موسى وكتب له في الألواح كتابا وقربه نجيا ، فلما سمع موسى صرير القلم عظم شوقه فقال : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ)[الأعراف : ١٤٣] نعم ، طلبها بعامل الشوق ، ولم يكن موسى قد جرى في هذه القضية على غير المألوف ، حيث جعل النظر سببا على الرؤية ، والحال : أن النظر تقليب الحدقة نحو الشيء التماسا لرؤيته ؛ فهي متأخرة عنها ؛ إذ الغرض : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) مكني من رؤيتك فأنظر إليك وأراك ، ففي الكلام ذكر الملزوم وإرادة اللازم. نعم ، أقدم موسى على طلب النظر إلى الذات الأقدس وانتظر ما يكون من أمر الله ، وقد وقع عليه عامود من الغمام وتغشى الجبل جلال الرب ، وسمع النطق الكريم : (لَنْ تَرانِي).

عند هذه الآية الكريمة تقف المعتزلة رافعة الرأس ، ولو أنهم لاحظوا ما كان من حب موسى واصطفاء الله له لم ينصرف ذهنهم إلى المنع من مطالعة الذات الأقدس ، بل المتبادر في الذهن : لن تقوى على رؤيتي وأنت على ما أنت عليه ؛ لتوقفها على استعداد في الرائي ، ولم ـ

٥

__________________

ـ يوجد في موسى ـ عليه‌السلام ـ وقت الطلب. يشهد لهذا ما أخرجه الترمذي في نوادر الأصول عن ابن عباس : تلا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ هذه الآية فقال : قال الله تعالى : (يا موسى ، إنه لا يرانى حي إلا مات ولا رطب إلا تفرق ، وإنما يراني أهل الجنة الذين لا تموت أعينهم ولا تبلى أجسامهم).

كذلك يدل على أن التأبيد المستفاد من قوله تعالى : (لَنْ تَرانِي) إنما هو موقوف على عدم تغيير الحال ، يؤيد ذلك ما رواه أبو الشيخ عن ابن عباس ، وفيه يقول : (يا موسى ، إنه لن يراني أحد فيحيا ، قال موسى : رب أن أراك ثم أموت أحب إلى من ألا أراك ثم أحيا). وقد نبه جل شأنه بقوله : (لَنْ تَرانِي) على وجود المانع ، وهو الضعف عن تحملها ، حيث أراه ضعف من هو أقوى منه وتفتته عند ما تجلى عليه الرب وغشيه ذو الجلال والإكرام ، فعاد الجبل متقوض الأركان متداخل الأجزاء سقيم القوام ، وعاد موسى فاقد الحياة ؛ لطلبه الانكشاف وهو باق على حاله.

أفاق موسى واسترد حياته وقال : (سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) أنزهك عن أن أسألك شيئا بغير إذنك ، تبت عن الإقدام وأنا أول المؤمنين بأنه لا يراك أحد في هذه النشأة ، وليس كما يزعم الخصم من أن التوبة دليل العصيان ، فكان موسى يعلم امتناعها وقد طلبها وهي ممتنعة ، بل تاب من طلب الرؤية بغير إذن ، وكيف لا يتوب وهو الرب صاحب الجبروت وهو موسى المصطفى الكليم. وقد قيل قديما : حسنات الأبرار سيئات المقربين؟!

إلى هنا كان حتما أن نبين أن أهل السنة كانوا في غنية عن أدلة الجواز ، لكن دفعهم أن ما سيكون من الأدلة على الوقوع سمعي فحسب قد يأتيها الخصم بمنع إمكان المطلوب ؛ لأجل هذا مهدوا الطريق للوقوع فبرهنوا على الجواز بالأدلة النقلية والعقلية ، وكان سلوكهم بهذا الطريق كافيا في الاستدلال على الوقوع بالدليل النقلي.

ولقد كانوا على حذر من المعتزلة ، فلم يركنوا إلى القول بأن الأصل في الشيء ـ لا سيما فيما ورد فيه الشرع ـ هو الإمكان ؛ لأن هذا إنما يحسن في مقام النظر والاستدلال دون المناظرة والاحتجاج ، كذلك لم يكن منهم في بيان الجواز أن العقل إذا خلّي ونفسه لم يحكم بالامتناع ؛ لأن هذا هو الإمكان الذهني وليس محل النزاع ، فالخصم يقول العقل بعد التخلية لا يحكم بامتناع الرؤية كما تقول أهل السنة ، لكن بعد ملاحظة الدليل من كونه تعالى منزها عن المكان والجهة وليس جسما ، كما أنه غير مكيف بالعوارض التي هي شروط الرؤية يحكم بامتناعها ، والحق أنه يصح أن يكون محل النزاع ؛ لأن العقل إذا كان حاكما بالجواز بعد التخلية عملنا بالظواهر الدالة على الوقوع ما لم يقم دليل على الامتناع ؛ إذ لا يمكن صرف الظواهر ولا التوقف فيها بمجرد احتمال أن يظهر دليل عقلي على الامتناع ، وإلا توقف العمل بالظواهر الواردة في الأحكام الشرعية.

وإذا كفى أن عدم حكم العقل بعد التخلية كاف بالعمل بالظواهر ، وإذا ظهر أنه يصح أن يكون محلّا للنزاع ـ كفى في الاستدلال على الجواز أن يقال : العقل حاكم بجواز الرؤية ، وما حكم العقل به ما لم يقم دليل على بطلانه يجب قبوله ، وإلا لارتفع الإمكان عن العقل ، فإثبات صحة الرؤية بأدلة ذكروها مستغنى عنه ، لكن حيث ذكرت كان علينا أن نبين وجهة النظر في الآية الكريمة بطريق منطقي ، وهي من وجهين :

الأول : وحاصله قياسي استثنائي يقرر هكذا : لو لم تكن رؤيته تعالى جائزة في الدنيا والآخرة ما طلبها موسى ـ عليه‌السلام ـ من ربه ، لكنه طلبها فهي جائزة. ـ

٦

__________________

ـ أما دليل الملازمة ؛ فلأنه لو طلبها مع كونها ممتنعة فلا يخلو إما أن يكون موسى ـ عليه‌السلام ـ عالما بامتناعها أو جاهلا به ، وكلاهما مناف لمقام نبوته ـ عليه‌السلام ـ أما الأول ؛ فلأن طلب المحال مع العلم بأنه محال يكون عبثا ، ولا شك أن العبث مما يتنزه عنه كلام العقلاء ، فضلا عن النبي المصطفى بالتكليم ، أحد أولي العزم.

وأما الثاني ؛ فلأنه يؤدي إلى أن موسى ـ عليه‌السلام ـ جاهل بما يجوز عليه وما يمتنع ، ومن كان هذا شأنه لا يصلح للنبوة ؛ إذ المقصود من البعث هو الدعوة إلى العقائد الحقة والأعمال الصالحة ، فكيف يكون الجاهل بأحكام الألوهية ـ خصوصا بما يجب وما يجوز وما يمتنع ـ مكلفا من (العليم الحكيم) بهداية الخلق ودعوتهم إلى ما يترتب عليه فلاحهم ونجاتهم؟!

قال الشيخ السنوسي في شرح الكبرى : كيف يجهل موسى ـ عليه‌السلام ـ ما أدركت استحالته حثالة المعتزلة؟! فلو لم يعتقد جوازها ما سألها ؛ إذ اعتقاد ما لا يجوز عليه تعالى جائزا كفر ، ومن جوز ذلك على موسى أو على أحد من الأنبياء فهو كافر ؛ إذ الأنبياء معصومون من الخطأ في العقائد الإلهية ، خصوصا الأوليات منها ، وموسى ـ عليه‌السلام ـ من رءوسهم كما أسلفنا ؛ إذ هو أحد أولي العزم من الرسل.

وأما دليل الاستثنائية (لكنه طلبها) ، فقوله تعالى : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) ، فلا مرية لعاقل في دلالة ذلك على أن موسى ـ عليه‌السلام ـ سأل ربه الرؤية.

لكن المعتزلة لما أحالوا رؤيته ـ تعالى ـ صرفوا الآية عن ظاهرها ، وأولوها بما يتفق ومذهبهم ، وها هي اعتراضاتهم مع الرد عليها :

الاعتراض الأول : قالوا : لا نسلم أن موسى ـ عليه‌السلام ـ سأل ربه الرؤية ، وإنما سأله علما ضروريّا ، وليس في الآية ما يدل على سؤالها ، وما يستأنس به من لفظ الرؤية فالمراد منه العلم الضروري لا حقيقة الرؤية ، ولا ضير في ذلك ، وأن العلم الضروري لازم للرؤية ، وإطلاق الملزوم على اللازم شائع كثير ، ولا سيما «أرى» بمعنى : أعلم ، و «رأى» بمعنى : علم ، ويكون المعنى على هذا من قوله : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) : ب اجعلني عالما بك علما ضروريّا. ففي هذا الاعتراض منع للاستثنائية بمنع دليلها ، وهذا منسوب إلى أبي الهذيل العلاف ، وتبعه الجبائي ، وأكثر البصريين.

وأجيب عن هذا الاعتراض :

أولا : لا نسلم أن الرؤية في الآية بمعنى العلم الضروري ، وإلا كان النظر المترتب عليها بمعناها أيضا ، والنظر وإن جاز استعماله بمعنى العلم الضروري لكنه في هذا المقام ممتنع لغة ؛ إذ لم ينقل النظر الموصول ب «إلى» إلا بمعنى الرؤية ، وما قيل من أن الدليل هو استحالتها ، فمردود بما سنبينه من الأدلة الدالة على جوازها ، إن شاء الله.

ثانيا : لو صح حمل الرؤية على العلم الضروري للزم أن يكون موسى النبي المصطفى بالتكليم غير عالم بربه علما ضروريّا ؛ إذ السؤال عن الشيء إنما يكون عند الجهل به ، وكيف يتصور ممن يدعو الخلق إلى عبادة ربهم أن يكون جاهلا به؟! وأيضا فإن خطابه لربه يقتضي أن يكون معلوما له بوجه ما ، فإن أريد بالعلم المدعى لزومه للرؤية : العلم بالهوية الخاصة ، قلنا : إنه يتناقض مع دعواهم ؛ إذ العلم بالهوية الخاصة بمعنى الانكشاف التام لا يكون إلا بالمشاهدة والعيان ، كما هو شأن جميع الجزئيات الحقيقية ، وأي عاقل يقول بلزوم مثل هذا العلم للرؤية ، على أننا لو سلمنا لزومه للرؤية لوجب أن تؤول الرؤية به ، وحينئذ لا يصح قول المعتزلة ، بل يجوز بها عن العلم الضروري ؛ لأنه لازمها. ـ

٧

__________________

ـ ثالثا : لو كانت الرؤية في قوله تعالى : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) بمعنى العلم الضروري ـ كما يقولون ـ فإما أن يكون الجواب بقوله تعالى : (قالَ لَنْ تَرانِي) نفيا للعلم الضروري أو للرؤية ، فإن كان الأول لزم أن يكون المعنى على ذلك : لن تعلم بي علما ضروريّا ، وهو بديهي البطلان. وإن كان الثاني لم يصلح أن يكون نفي الرؤية جوابا عن سؤال العلم الضروري ، وكيف يستقيم هذا جوابا في كلام البشر ، فضلا عن القرآن الكريم الذي بلغ حد الإعجاز؟!

الاعتراض الثاني : وهو منع الاستثنائية ـ أيضا ـ أن موسى عليه‌السلام لم يسأل رؤية ذاته ، بل سأله رؤية أمارة وعلامة من الأمارات الدالة على الساعة ، ومعنى الآية : أرني أمارة وعلامة من علاماتك انظر إلى علاماتك ، على حد قوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)[يوسف : ٨٢] : واسأل أهل القرية ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.

وهذا تأويل لا يسيغه عقل سليم ؛ فهو أولا مخالف للظاهر بلا ضرورة.

ثانيا : الجواب (لَنْ تَرانِي) إن كان محمولا على نفي ما وقع السؤال عنه من رؤية الأمارة والعلامة ، فلقد أراه أعظم الآيات والعلامات وهي تدكّك الجبل ، وإن كان محمولا على نفي رؤية ذاته لم يكن الجواب مطابقا للسؤال ، وهذا لا يتفق وبلاغة القرآن.

ثالثا : الرؤية المعلقة على الاستقرار إن كانت محمولة على الآية والعلامة فباطل ؛ لأن الآية والعلامة في تدكك الجبل لا في استقراره ، وإن كانت محمولة على الرؤية فلا تكون مرتبطة بالسؤال.

رابعا : لو كان السؤال على رؤية آية تدل على قيام الساعة لأعطاه تلك الآية ، كما أعطاه غيرها ؛ إذ لا مانع لمنعه من ذلك ، كيف وقد أعطاه من الآيات ما لا غاية بعدها كالعصا واليد والطوفان وإخلال الجبل وغير ذلك ، وبالجملة فهذا التأويل لا وجه له.

الاعتراض الثالث : وهو منع للملازمة : لو لم تكن الرؤية جائزة ما طلبها.

قالوا : إن موسى ـ عليه‌السلام ـ سأل ربه رؤية ذاته ، وليس في ذلك ما يدل على إمكانها ؛ لأنه لم يسأل لنفسه لعلمه بامتناعها ، بل سألها لقومه عند ما قالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً)[البقرة : ٥٥] فسألها ربه وهو عالم بأنه سيمنع منها ، وإنما نسبه لنفسه ليمنع هو منها ؛ فيعلم قومه امتناعها بالنسبة إليهم بالطريق الأولى ، وفي هذا مبالغة بقطع دابر اقتراحهم ، كما أن أخذ الصاعقة لهم عقب سؤالها دليل ظاهر على استحالتها.

وأجيب على هذا الاعتراض بعدة أجوبة :

أولا : أن الآية صريحة في أنه طلبها لنفسه لا لقومه ، وإلا لقال : أرهم ينظروا إليك ، ولقال الله تعالى : لن يروني ، فالعدول عن ذلك خلاف الظاهر ، ولا دليل يدل عليه.

ثانيا : لو كان الغرض من السؤال إظهار امتناعها لهم ـ كما يقول المعتزلة ـ لكان الأليق في الجواب أن يكون بما يدل على الامتناع ، وليس كذلك ؛ فإن (لَنْ تَرانِي) إنما يدل على نفي الوقوع للمخاطب لا على نفي الإمكان.

ثالثا : لو كان الغرض من سؤال موسى ـ عليه‌السلام ـ الرؤية : زجر القوم وردعهم عن طلب ما لا يليق بجلال الله تعالى ، لكان موسى ـ عليه‌السلام ـ عابثا في طلبه هذا ؛ لأنهم زجروا عن طلبها حين قالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) بأخذ الصاعقة لهم ، فتبينوا امتناعها ؛ فيكون قول موسى ـ عليه‌السلام ـ : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) سؤالا لنفسه لا لقومه ، على أن هذا السؤال ليس بمفيد لهم ؛ لأن هؤلاء إن كانوا مؤمنين كفاهم قول موسى : إنها ممتنعة ، بل كان الواجب عليه أن يزجرهم ويردعهم عن طلب ما لا يليق بجلال الباري ـ تعالى ـ كما هو شأنه ؛ فقد قال لهم : (إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) حينما قالوا : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) وإن كانوا كافرين معاندين منكرين لم يكفهم قول موسى ـ عليه‌السلام ـ إنه تعالى أخبر بامتناعها ، بل هذا قول ـ

٨

__________________

ـ افتريته على الله ـ تعالى ـ وكيف يقبلون مجرد إخباره مع إنكارهم الأخبار المؤيدة بالمعجزات الباهرة؟! والتعليل بأنه يجوز أن يسمعوا كلام الله بآذانهم ، ويكون هناك قرائن دالة على أنه ليس من جنس كلام البشر كعدم الترتيب والاستماع من جهة واحدة ؛ فينتهوا عن طلب الرؤية ـ تعليل سقيم ؛ لأنهم سمعوا التكليم بالأمر والنهي حينما دخلوا مع موسى ـ عليه‌السلام ـ الغمام ، وخروا سجدا ، وأيقنوا أنه من عند الله ـ تعالى ـ فما بالهم قد رجعوا بعد هذا وقالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً)؟! فدل كل هذا على أنه إنما سألها لنفسه ؛ فتكون جائزة.

الاعتراض الرابع :

وهو بمنع الملازمة مع منع دليلها ، وحاصله : أنهم قالوا : لا نسلم لزوم العبث في سؤالها عند العلم بالامتناع ؛ لجواز أن يكون ذلك لفائدة هي زيادة الطمأنينة ، وذلك أن موسى ـ عليه‌السلام ـ سأل ربه رؤية ذاته لنفسه وهو عالم بامتناعها علما عقليّا ؛ لتأكد الدليل العقلي بالسمعي فيزداد علمه ويقوى يقينه بتعاضد الأدلة ، وغير خاف أن تكرار الأدلة لو كانت من جنس واحد تفيد زيادة الاطمئنان ، فكيف إذا كانت من جنسين سمعي وعقلي؟!

وقد أجيب عن هذا الاعتراض بأنه لو كان المراد كما تقول المعتزلة من طلب موسى ـ عليه‌السلام ـ الدليل السمعي الدال على امتناعها واستحالتها لزيادة العلم لخوطب بما يدل على الامتناع لا على نفي الواقع الدال على الإمكان والقول بأن هذا مثل ما وقع للخليل ـ عليه‌السلام ـ مردود ؛ لأنه قياس مع الفارق ؛ لأن الخليل ـ عليه‌السلام ـ إنما طلب أن يرى إحياء الموتى ليطمئن قلبه ، وليس في هذا ما يوهم بجهله بما لا يليق في حقه تعالى ، على أنه قيل : إن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ لم يكن عالما من قبل الطلب حتى يكون تأكيدا ، وذلك أنه أوحي إليه من ربه : إني اصطفيتك إنسانا خليلا ، وعلامته : أني أحيي الموتى بدعائه ، فظن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ أنه ذلك الإنسان ، فطلب الإحياء ليطمئن قلبه. وما قيل في الجواب : إن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ كان يخاطب جبريل ـ عليه‌السلام ـ عند نزوله بالوحي ليعلم أنه من عند الله ، فضعيف ؛ لأن الخطاب صريح في أنه كان يخاطب الرب ـ سبحانه وتعالى ـ وجبريل ليس برب ؛ فإن الرب وإن أطلق على غير الله تعالى بمعنى المربّي كقوله : (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ)[الفجر : ٢٨] لكن إضافته إلى نفسه مما لا يليق بشأن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ وكيف يكون الخطاب لجبريل وهو يطلب إحياء ، الموتى وهذا ليس بمقدور لجبريل ـ عليه‌السلام ـ فيكون منه عبثا؟!

الاعتراض الخامس :

هو موجه على دليل الملازمة أيضا ، أعني منافاة النبوة ، وحاصله تسليم أنه غير عالم بامتناعها ، ومنع أن هذا مناف للنبوة ، وإنما الذي ينافيها هو الجهل بالوحدانية وما أمر بتبليغه من الأوامر والنواهي ؛ لجواز أن يكون امتناعها وجوازها من الأمور التي مرجعها طريق السمع ، على أنه يجوز ألا تكون الرؤية من شريعة موسى ـ عليه‌السلام ـ وحينئذ لا يضر الجهل بامتناعها والسؤال عنها ـ والحالة هذه ـ صغيرة لا يمتنع مثلها على الأنبياء.

أجيب :

أولا : أن هذا يقتضي أن موسى ـ عليه‌السلام ـ دون آحاد المعتزلة ، بل ودون من حصّل طرفا من علم الكلام.

ثانيا : أن المعتزلة يدعون العلم الضروري بأن كل ما كان مرئيّا فإنه يجب أن يكون مقابلا ، أو في حكم المقابل ، وحينئذ لا يخلو الحال إما أن يكون موسى ـ عليه‌السلام ـ حصل له هذا العلم أو لم ـ

٩

__________________

ـ يحصل ، فإن كان الأول كان موسى ـ عليه‌السلام ـ مجوزا كونه تعالى حاصلا في جهة وحيز وهو محال ، وإن كان الثاني لم يكن عالما بجميع العلوم الضرورية وهو نقص في حقه ـ عليه‌السلام ـ فثبت أن القول بأن موسى غير عالم بامتناعها باطل فاسد ؛ لما يترتب عليه من التأخير ، وقولهم : إن السؤال عن الرؤية مع العلم بامتناعها صغيرة لا يمتنع مثلها على الأنبياء ، قول فاسد لا يسيغه طبع سليم ، كيف وأنهم ما حكموا باستحالتها إلا لأنها تقتضي التجسم؟! وعلى ذلك لا يكون طلبها صغيرة والحالة هذه ، بل كبيرة يجب تنزيه الأنبياء عنها ، ولو سلم أنها صغيرة فالأنبياء معصومون من الصغائر بعد النبوة كما هو التحقيق.

إلى هنا تم الكلام عن الوجهة الأولى بالاستدلال بالآية الكريمة ، ودفع ما ورد عليها من الاعتراضات ، ولنتكلم بعد هذا عن الوجه الثاني من أوجه الاستدلال بالآية الكريمة لأهل السنة ، فنقول : إن الآية الكريمة تصرح بتعليق رؤية الذات الأقدس على استقرار الجبل ، وهو أمر ممكن في نفسه ؛ فكذلك ما علق عليه يكون ممكنا ، بيان الدليل أن يقال : الرؤية علقت على ممكن ، وكل ما علق على ممكن فهو ممكن ؛ فالرؤية ممكنة ، أما دليل الصغرى فقوله تعالى : (فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) ، فهذا الجواب صريح في أن الله ـ تعالى ـ علق الرؤية على استقرار الجبل ، واستقرار الجبل من حيث هو أمر ممكن في نفسه ، وعلى ذلك تكون الرؤية قد علقت على أمر ممكن.

وأما دليل الكبرى ـ وهي : وكل ما علق على الممكن فهو ممكن ـ فالتعليق ؛ إذ معناه الإخبار بوقوع المعلق على تقدير وقوع المعلق عليه ، وهذا يقتضي أن يكون المعلق ممكنا ، إذ المحال لا يقع على شيء من التقادير أصلا ؛ فتكون الرؤية ممكنة ، وإلا لزم الخلف في خبر الله تعالى ، وأيضا لو صح أن يكون المعلق على الممكن مستحيلا لأمكن صدق الملزوم بدون صدق اللازم ، وليس بصحيح ، وإلا انعدمت قضية التلازم.

وقد ناقشت المعتزلة هذا الوجه كما ناقشت الأول فنظرت كلتا مقدمتيه ، وذكرت على الصغرى القائلة : الرؤية علقت على ممكن ـ أننا لو عددنا الفروض التي يكون عليها المعلق عليه وهو استقرار الجبل لوجدنا أنها مستحيلة ؛ فيكون المعلق مستحيلا ، وبيان ذلك : أن استقرار الجبل إما حال السكون أو مطلقا غير مقيد ، وإما حال الحركة ، وبطلان الأول ظاهر ؛ لما يلزم عليه من وجود الرؤية لوجود الاستقرار الذي هو شرط بمقتضى التعليق.

كذلك الثاني ؛ فإن استقرار الجبل من حيث هو واقع في الدنيا فيلزم وقوع الرؤية المعلقة عليه فيها.

ولم يبق إلا الاستقرار حال الحركة وهو ممتنع ، وقد علقت الرؤية عليه ؛ فتكون ممتنعة ، يساعد على أن الرؤية علقت على الاستقرار حال التحرك : أن لفظة (إن) المذكورة في الآية إن دخلت على الماضي صار بمعنى المستقبل ، وعلى هذا يكون معنى قوله تعالى : (فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ) أي : لو صار مستقرّا في المستقبل فسوف تراني ، ولم يحصل الاستقرار في الزمان المستقبل ، وإلا لوجب حصول الرؤية ؛ لوجوب حصول المشروط عند حصول الشرط الذي تتم به علية العلة ، ولم يتحقق حصول الرؤية بالاتفاق ؛ فلم يستقر الجبل فيكون متحركا بالضرورة ، فالجبل حال ما علق الله الرؤية باستقراره كان متحركا ، واستقرار الجبل من حيث هو متحرك محال ؛ فالتعليق عليه لا يدل على إمكان الرؤية.

وقد أجابت أهل السنة باختيار الشق الثاني من الترديد ، وهو أن المعلق عليه استقرار الجبل من حيث هو ، ولا يلزم وقوع الرؤية كما زعمتم ؛ لأن الاستقرار وإن لم يقيد بالحركة أو السكون لكن ـ

١٠

__________________

ـ لوحظ أن يكون في المستقبل وعقيب النظر ، بدليل الفاء و «إن». وهو غير واقع ؛ فلا يلزم وقوع الرؤية.

وقد وجه اختيار الشق الثاني أيضا : بأن اعتبار حال الجبل من حيث هو مغاير لاعتبار حاله من حيث هو متحرك أو ساكن ، فهو مأخوذ لا بشرط شيء وهو يدل على الإمكان ؛ ألا ترى أن الشيء لو أخذته بشرط كونه موجودا كان واجب الوجود ، ولو أخذته بشرط كونه معدوما كان واجب العدم ، ولو أخذته من حيث هو مع قطع النظر عن كونه موجودا أو معدوما كان ممكن الوجود؟! فكذا هنا قد جعل الشرط هو استقرار الجبل كما يفيده منطوق الآية ، وهذا القدر ممكن الوجود.

وإذا تقرر ما ذكر تكون الرؤية جائزة الحصول بحكم التعليق على الممكن.

وأيضا لأهل السنة أن تختار الشق الثالث ، وهو الاستقرار حال الحركة بعد بيان المراد من الاستقرار حال الحركة ، فهو محال ؛ إذ حاصله الجمع بينهما ، ولا نسلم أنه معلق عليه ؛ إذ فيه زيادة بالإضمار ، وإن أرادوا الاستقرار حال الحركة ـ أي : بدل الحركة ـ فهو ممكن ، محصول الحركة بدل السكون أمر ممكن ؛ ولهذا ذكر الله اندكاكه فقال : (جَعَلَهُ دَكًّا) ، ولا يقال : جعله كذا ، إلا فيما يمكن أن يكون إلا كذا ؛ فثبت أنها علقت على ممكن.

نظير ذلك قيام زيد حال قعوده ، وبالعكس ؛ فإنه ممكن بأنه يقع أحدهما بدل الآخر ، لا بأن يجتمعا ، فإنه مسلم الاستحالة ، ولا يقال : إن مراد المعتزلة من الاستقرار حال الحركة الغرض منه الاستحالة بالغير لا لذاته.

بيان ذلك : أن الاستقرار بعد النظر بدليل الفاء وحين تعلقت إرادة الله تعالى بعدم استقراره عقيب النظر استحال استقراره ، وقد دفعه السالكوتي فقال : إن استقرار الجبل حين تعلقت إرادة الله تعالى بعدم استقراره أيضا ممكن بأن يقع بدله الاستقرار ، إنما المحال استقراره مع تعلق إرادة الله تعالى بعدم الاستقرار.

كذلك نظرت المعتزلة كبرى الدليل القائلة : والمعلق على الممكن ممكن ، وقالت : إن المعلق على الممكن يجوز أن يكون ممتنعا ، واستشهدت لهذا بأنه يصح أن يقال : إن انعدم المعلول انعدمت العلة ، مع أن العلة قد تكون ممتنعة العدم بالذات ، مع إمكان عدم المعلول في نفسه كما في ذات الواجب بالنسبة إلى الصفات عند بعض المتكلمين ؛ فإن انعدام الصفات علة لانعدام الذات ، وهو ممتنع كما لا يخفى ؛ فثبت أن الممكن قد يستلزم المحال.

وأما قولهم : إن الممكن لا يستلزم المحال ، فالمراد منه : أنه لا يستلزمه من حيث كونه ممكنا ، وإن استلزمه من حيث كونه ممتنعا بالغير يظهر أنه لا مانع من تعليق الرؤية الممتنعة على استقرار الجبل الممكن.

وأجابت أهل السنة ببيان المراد من كبرى الدليل (والمعلق على الممكن ممكن) ـ : إن الممكن المعلق عليه الممكن الصّرف الخالي عن الامتناع مطلقا ، سواء أكان بالذات أم بالغير ، واستقرار الجبل من قبيل الممكن الصرف ، بخلاف إمكان عدم المعلول المعلق عليه مع امتناع عدم علته ، فالتعليق بينهما بحسب الامتناع بالغير ؛ فإن استلزام عدم الصفات عدم الواجب ؛ من حيث إن وجوده واجب وعدمه ممتنع بوجود الواجب ؛ لذا كان التعليق هنا غير مفيد إمكان المعلق ؛ لأنه تعليق على ممتنع ، أما في موضوعنا فلما كان المعلق عليه ممكنا صرفا لا يشوبه امتناع بوجه من الوجوه ، أفاد إمكان المعلق ، وإلا فلا فائدة في التعليق ؛ إذ عند وقوع المعلق عليه الذي هو ممكن في نفسه : إما أن يقع المعلق والحالة هذه كان ممكنا ، وإن لم يقع فلا داعي للتعليق وإيراد شرط ومشروط ، فالمعلق منتف في حالتي وجود الشرط وعدمه ، ولئن قيل : إن فائدة ـ

١١

وأيضا قول موسى : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ...) الآية ولو كان لا يجوز الرؤية لكان منه جهل بربه ، ومن يجهله لا يحتمل أن يكون موضعا لرسالته ، أمينا على وحيه.

وبعد فإنه لم ينهه ولا آيسه ، وبدون ذلك قد نهى نوحا وعاتب آدم وغيره من الرسل ، وذلك لو (١) كان لا يجوز لبلغ الكفر ثم قال : فإن استقر مكانه فسوف تراني.

فإن قيل : لعله سأل آية ليعلم بها (٢)؟

قيل : لا يحتمل ذا ؛ لوجوه :

أحدها : أنه قال : (لَنْ تَرانِي) ، وقد أراه الآية.

وأيضا أن طلب الآيات يخرج مخرج التعنت ؛ إذ قد أراه الآيات على ما ذكرنا ، وذلك

__________________

ـ التعليق ربط العدم بالعدم مع السكوت عند ربط الوجود بالوجود ، كان الرد هينا وهو خلاف المتبادر من اللغة ؛ لأنك إذا قلت : إن ضربتني ضربتك ، كان المراد منه الربط في جانبي الوجود والعدم معا ، لا في جانب العدم فقط.

ومن معتمد أهل السنة في الجواز أيضا ، قوله تعالى : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً)[الكهف : ١١٠] وقوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)[البقرة : ٢٢٣] وقوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ)[الرعد : ٢] وقوله تعالى : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ)[يونس : ٤٥] وقوله تعالى : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ)[البقرة : ٤٦] فترى أهل السنة أن اللقاء في هذه الآيات بمعنى الرؤية.

وبيان ذلك : أن اللقاء مشترك بين الوصول المكاني والوصول بالرؤية ، فيقال في الضرير : لقى الأمير ، إذا أذن له ، ويقال للبصير : لقيه ، بمعنى : رآه ، وما لقيه ، أي : ما وصل إليه ، والوصول المكاني محال على الله ـ تعالى ـ فيكون الوصول بمعنى الرؤية ، وهو المطلوب.

قالت المعتزلة : ما ذكرتموه يتنافى وقول الله تعالى : (فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ)[التوبة : ٧٧] ، وبديهي أن المنافق لا يرى ربه ، وقوله تعالى : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً)[الفرقان : ٦٨] ، وقوله تعالى في معرض التهديد : (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ)[البقرة : ٢٢٣] وهذا التهديد يتناول المؤمن والكافر ، والكافر لا يرى ربه.

كذلك يتنافى وقوله ـ عليه الصلاة والسّلام ـ : «من حلف على يمين ليقتطع به مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان» ، ولا يعقل أن المراد : يرى ربه ؛ لأن ذلك وصف أهل النار.

وأجابت أهل السنة : بأن اللقاء لغة : عبارة عن وصول أحد الجسمين إلى الآخر بحيث يمسه بسطحه ، يقال لقي هذا ذاك ، إذا ماسه واتصل به ، ولما كانت الملاقاة بين الجسمين المدركين سببا لحصول الإدراك ، وحيث امتنع إجراء اللفظ على المماسة ـ وجب حمله على الإدراك المسبب عن اللقاء الذي هو سبب له ، وإطلاق السبب على المسبب من أقوى وجوه المجاز.

وما ادعيتموه من الآيات والحديث لم يحمل على الإدراك ، وإنما يحمل على إضمار لفظ الحساب أو الجزاء للضرورة ، بخلاف ما ذكرناه ؛ فلا ضرورة لصرفه عن ظاهره ولا لإضمار هذه الزيادة ؛ فلا جرم وجب تعليق اللقاء بالله سبحانه وتعالى. ينظر الرؤية لعبد الفضيل طلبة ص (١٣ ـ ٣٢) خ.

(١) في ب : ولو.

(٢) في ب : لعلي سألت آية يعلم.

١٢

صنيع الكفرة أنهم لا يزالون يطلبون الآيات ، وإن كانت الكفاية قد [ثبتت](١) لهم فمثله ذلك أيضا.

وأيضا إنه قال : (فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي ...) [و](٢) الآية التي يستقر معها الجبل [هي](٣) دون التي لا يستقر معها ؛ ثبت أنه لم يرد بذلك الآية.

وأيضا محاجة إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ قومه في النجوم وما ذكر بالأفول والغيبة ، ولم يحاجهم بألّا يحب (٤) ربّا يرى ، ولكن حاجهم بألا أحب ربّا يأفل ؛ إذ هو دليل عدم الدوام ، ولا قوة إلا بالله.

وأيضا قوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة : ٢٢ ـ ٢٣] ، ثم لا يحتمل ذلك الانتظار ؛ لوجوه :

أحدها : أن الآخرة ليست بوقت للانتظار ، إنما هي الدنيا ، وهي دار الوقوع والجود إلا في وقت الفزع ، وقيل : أن يعاينوا في أنفسهم ما له حق الوقوع.

والثاني : قوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) [القيامة : ٢٢] : وذلك وقوع الثواب.

والثالث : قوله : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة : ٢٣] : وإلى (٥) حرف يستعمل في النظر إلى الشيء لا في الانتظار.

والرابع : أن القول به يخرج مخرج البشارة لعظيم ما نالوه من النعم ، والانتظار ليس منه ، مع ما كان الصرف عن حقيقة المفهوم (٦) قضاء على الله ، فيلزم القول بالنظر إلى الله ، كما قال على نفي جميع معاني الشبه عن الله سبحانه على ما أضيف إليه من

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في أ.

(٤) في ب : نحب.

(٥) ينظر الكلام على حرف «إلى» في «مصابيح المغاني في حروف المعاني» ص (١٠٢) ، المقرب لابن عصفور (١ / ١٩٩) ، رصف المباني (١٦٧) ، الجنى الداني (٣٧٣) ، الإنصاف (١ / ٢٦٦).

(٦) يطلق المفهوم ، ويقصد به معنى دل عليه اللفظ لا في محل النطق ، أو هو : دلالة اللفظ على معنى في غير محل النطق ؛ بأن يكون ذلك المعنى حكما لغير المذكور في الكلام ، وحالا من أحواله ، سواء كان ذلك الحكم موافقا لحكم المذكور أو مخالفا له.

وقسموه إلى قسمين : مفهوم موافقة ، ومفهوم مخالفة ؛ لأن المسكوت عنه إن كان موافقا في الحكم للمذكور ، فالدلالة عليه حينئذ هي مفهوم الموافقة ، وإن كان مخالفا له فيه ، فالدلالة عليه هي مفهوم المخالفة.

ينظر : شرح العضد (٢ / ١٧١) ، والبرهان (١ / ٤٤٩) ، والعمدة (١ / ١٥٤) ، والإحكام للآمدي (٣ / ٦٢) ، وشرح الكوكب (٣ / ٤٨٠).

١٣

الكلام (١) والفعل (٢) والقدرة (٣) والإرادة أن يجب الوصف به على نفي جميع معاني الشبه ،

__________________

(١) كلام الله ـ عزوجل ـ صفة أزلية قديمة قائمة بذاته ـ عزوجل ـ منافية للسكوت والآفة ـ كما في الخرس ـ ليست من جنس الأصوات والحروف ، بل بها آمر ناه ، ويدل عليها بالعبارات أو الكتابة أو الإشارة ، فتلك الصفة واحدة في ذاتها ، وإن اختلفت العبارات الدالة عليها ، كما إذا ذكر الله ـ عزوجل ـ بألسنة مختلفة ، فالصفة هي الأمر القائم بالغير ، وهو جنس في التعريف أو كالجنس ، وذلك بناء على النزاع في المفهومات الاصطلاحية هل هي حدود أو رسوم.

الأول : مبني على أنها وإن كانت أمرا اصطلاحيّا طارئا على المعنى اللغوي للكلام ، حيث إن الكلام في اللغة القول ـ يقال : أتى بكلام طيب ، أي : قول ـ إلا أنه ليس وراء ما اصطلح عليه المصطلح أمر آخر. فذلك الذي ذكر في تعريف تلك الصفة هو ذاتياتها بحسب الاصطلاح.

الثاني : مبني على أن لها قبل المعنى الاصطلاحي معنى وضع الواضع اللفظ ليدل عليه ، فذلك المعنى ثان بعد أول ، فهو عارض ، والتعريف بالعوارض رسم.

أما بعض المحققين فقد جزم بأنها رسوم ؛ لأن الاطلاع على ذاتيات تلك الصفات غير ممكن. والحد ما تركب من الذاتيات : الجنس والفصل ، وحيث إن الذاتيات لم يطلع عليها فلا تكون إلا رسوما ؛ لأنها بخواص هذه الصفات فحسب ؛ وذلك لأن الخواص مأخوذة في تعريف الصفات ، حيث أخذ في تعريف صفة الكلام أنها تتعلق دلالة ، وفي تعريف صفة القدرة أنها تتعلق تعلق تأثير.

وعلى ذلك ف «صفة» يشمل الصفة القديمة والحادثة ، قديمة : فصل أو كالفصل مخرج لغير الصفة القديمة وهو الصفة الحادثة.

أما الأقوال في القديم والأزلي فهي ثلاثة :

الأول : القديم : هو الذي لا ابتداء لوجوده. والأزلي : ما لا أول له ، عدميّا كان أو وجوديّا. فكل قديم أزلي ولا عكس.

الثاني : القديم : هو القائم بنفسه الذي لا أول لوجوده. والأزلي : ما لا أول له عدميّا كان أو وجوديّا ، قائما بنفسه أو غيره.

الثالث : القديم والأزلي : ما لا أول له ، عدميّا كان أو وجوديّا قائما بنفسه أو لا.

فعلى الأول : الصفات السلبية لا توصف بالقدم وتوصف بالأزلية ، وذلك بخلاف ذات الله ـ عزوجل ـ والصفات الثبوتية ؛ فإنها توصف بالقدم والأزلية.

وعلى الثاني : الصفات مطلقا لا توصف بالقدم وتوصف بالأزلية ، وذلك بخلاف ذاته ـ عزوجل ـ فإنها توصف بكل منهما.

وعلى الثالث : كل من الذات والصفات مطلقا يوصف بالقدم والأزلية.

فالقديم في التعريف صحيح على الرأي الأول والثالث ، وذلك بخلافه على الثاني.

قائمة بذاته ، للقيام معنيان :

قيام : بمعنى التبعية في التحيز كما في العرض بالنسبة لجوهره ، وليس قيام صفة الله ـ عزوجل ـ بذاته على هذا النحو ؛ حيث لا تحيز للذات حتى تتبعها الصفة فيه.

وقيام بمعنى آخر هو اختصاص الناعت بالمنعوت ، وهو المراد بقيام الصفة بذاته ، عزوجل.

ليس بحرف ولا صوت ؛ لأنه معنى نفسي ، وتلك أعراض مشروط حدوث بعضها بانقضاء البعض ؛ إذ امتناع التكلم بالحرف الثاني بدون انقضاء الحرف الأول بدهي ، خلافا لمذهب الحنابلة والحشوية والكرامية القائلين بأن كلامه منتظم من كلمات قائمة بذاته ، عزوجل : قديم عند الحنابلة حادث عند الكرامية.

منافية للسكوت والآفة : السكوت : عدم التكلم مع القدرة عليه ، والآفة : عدم مطاوعة الآلة ، إما ـ

١٤

__________________

ـ بحسب الفطرة كما في الخرس ، أو من جهة ضعفها كما في الطفولية ، ولقائل أن يقول : هذا إنما يصدق على الكلام اللفظي دون النفسي ، حيث السكوت والخرس إنما ينافيان التلفظ.

ويجاب بأن المراد بالسكوت والآفة الباطنيان ، بألا يريد في نفسه الكلام ، أو لا يقدر عليه ، ويتلخص في أنه كما أن الكلام لفظي ونفسي ، كذلك ضده وهو السكوت  . والخرس : لفظي وباطني ، والمراد الثاني منهما حيث أريد بالكلام الكلام النفسي ، فالله منزه عن الاتصاف بالخرس والآفة.

هو بها آمر ناه : فهو صفة واحدة تتكثر بحسب التعلقات. فالكلام باعتبار تعلقه بشيء : خبر ، وبآخر : أمر أو نهي ، وبهذا يخرج العلم والقدرة. وهكذا سائر الصفات الوجودية غير الكلام ؛ لأنه لا أمر ولا نهي بواحدة منها.

أما غير الأشاعرة فيقولون : الكلام هو اللفظ المنتظم من الحروف والأصوات ، وينفون الصفة النفسية.

وهم في ذلك قد انقسموا إلى فريقين :

الفريق الأول : كلامه ألفاظ قائمة بذاته وهي قديمة ، وهم بعض الحنابلة ، أو حادثة ، وهم الكرامية.

والفريق الثاني يقول : كلام الله ألفاظ قائمة بالغير ، وهم المعتزلة.

فالحنابلة يعرفونه : بأنه المؤلف من الكلمات القديمة القائمة بذاته تعالى ، والكرامية يعرفونه : بأنه هو المؤلف من الكلمات الحادثة القائمة بذاته تعالى.

وحيث إن المعتزلة لم يعرفوه بالصفة النفسية فليس عندهم سوى الألفاظ وهي حادثة ؛ لأنها مرتبة ، ويستحيل قيام الحادث بالقديم فهم يقولون : إن كلامه ـ عزوجل ـ ألفاظ قائمة بغيره.

فهم يتجوزون بمتكلم عن موجد وخالق للكلام ، وعليه فالمعتزلة لا يثبتون كلاما لله إلا نفسيّا ، كما أثبته الأشاعرة ولا لفظيّا قديما ؛ لأن الألفاظ مرتبة والترتيب حادث. ولا لفظيّا حادثا كما قالت الكرامية ، بل يثبتون كلاما لا على أنه متصف به ، بل على أنه مخلوق قائم بغيره.

فالكلام عند المعتزلة هو المؤلف من الكلمات المسموعة الحادثة القائمة بغير الذات ، وهم بذلك خالفوا جميع الفرق.

أما أدلة الأشاعرة : على قدم كلام الله ـ عزوجل ـ وكونه نفسيّا ، فمن وجوه :

الأول من جهة اللغة : من قام به الكلام : من أن الكلام عندهم صفة نفسية قديمة قائمة بذاته تعالى ، فالمتكلم في اللغة من قام به الكلام ، لا من أوجده في غيره ـ كما قالت المعتزلة ـ لامتناع إثبات المشتق للشيء من غير قيام مأخذ الاشتقاق به ؛ إذ من أوجد الحركة في جسم آخر لا يسمى متحركا لغة ، فلا يسمى الله متكلما بخلق الكلام في غيره كما قالت المعتزلة من أن المتكلم من أوجد الكلام في غيره.

أما باقي الفرق : من حنابلة وحشوية وأشاعرة وكرامية ، فلا يتنافى مدعاهم مع مدلول متكلم في اللغة على رأي العضد ؛ لأنهم جميعا يقولون : المتكلم من قام به الكلام ؛ فلهذا نحتاج في إثبات مدعى الأشاعرة الخاص ـ وهو الصفة النفسية ـ إلى إبطال قدم اللفظ وقيامه بذاته عزوجل ، وهو ظاهر البطلان ؛ لأن جعل المرتب الذي تقدم بعض أجزائه وتأخر البعض قديما مفض إلى التناقض ؛ لاستدعاء الترتيب أولية وحدوثا ، واستدعاء الوصف بالقدم عدم أوليته.

وأما بطلان قيام الحادث بذات الله ـ عزوجل ـ فظاهر أيضا ؛ فلم يبق لكونه متكلما ، مع ملاحظة اللغة ، وبطلان قيام لفظ قديم أو حادث بذاته ـ عزوجل ـ سوى أن له صفة نفسية ، وهو مدعي الأشاعرة. ـ

١٥

__________________

ـ فإن قيل من جهة المعتزلة : لو كان المتكلم من قام به الكلام لما صح إطلاقه حقيقة على المتكلم بالكلام الحسي ؛ لأنه لا بقاء له ، ولا اجتماع لأجزائه حتى يقوم بشيء.

قلنا : صحة الإطلاق مبنية على أن المعتبر في اسم الفاعل وجود المعنى لا بقاؤه ، لا سيما في الأعراض السيالة ، كالمتحرك والمتكلم.

وإن قيل من جهة الحنابلة ومن تابعهم : إن المنتظم من الحروف قد لا يكون مرتب الأجزاء بل دفعيّا كالقائم بنفس الحافظ ، كالحاصل على الورقة من طابع فيه نقش.

قلنا : الكلام في المنتظم من الحروف المسموعة لا في الصورة المرسومة أو المنقوشة بأشكال الكتابة ؛ لأنها ليست كلاما على الحقيقة. والترتيب المستدعي للحدوث لازم للمنتظم من الحروف المسموعة.

الثاني من ناحية العقل : لو لم يتصف الله ـ عزوجل ـ بالكلام لاتصف بضده وهو محال ؛ فبطل ما أدى إليه وهو عدم الاتصاف ، وإذا بطل هذا ثبت نقيضه وهو الاتصاف.

أما الملازمة : فدليلها أن القابل للشيء إنما يتصف به أو بضده ، والله قابل ؛ لأنه حيّ وأما بطلان التالي ؛ فلأن ضد هذه الصفة نقص وكل نقص عليه محال ؛ لأنه يستلزم احتياجه ـ عزوجل ـ إلى من يكلمه ، بأن يدفع هذا النقص عنه ، وهو بين البطلان. وأيضا : لو اتصف بالنقص لكان بعض المخلوقين أكمل منه ؛ لسلامة كثير منهم عن تلك النقائص.

وقد اعترض على هذا الدليل من ناحيتين :

على الملازمة : بأن اتصاف الذات بصفة أو ضدها متوقف على تصور تلك الذات بالكنه ، وحقيقة ذات الله ـ عزوجل ـ ليست معلومة لنا بالكنه حتى نعلم ما تقبله مما لا تقبله.

وعلى بطلان التالي بإبطال دليله ، وهو أنا لا نسلم أن الضد نقص ؛ لأنكم بنيتموه على الكمال والنقص في الشاهد. ولا يلزم من كون الصفة نقصا في حق الشاهد ، أن يكون كذلك في حق الغائب ؛ لأنه قياس مع الفارق ؛ لأن الزوجة والولد كمال في حق الشاهد ، نقص في حق الغائب.

الثالث : كلام المتكلم إما أن يكون اسما للمنتظم من الحروف والأصوات الدالة بالوضع ، وإما أن يكون اسما للمعنى القائم بالنفس ، فإن كان الأول فلا يخلو إما أن يكون لكلام الله ـ عزوجل ـ معنى في نفسه أم لا ، فإن لم يكن له معنى فلا يكون آمرا ولا ناهيا ؛ لأن من قال لغيره : افعل كذا ، ولا تفعل كذا ، ولم يكن لعبارته معنى في نفسه ـ لا يكون آمرا ولا ناهيا ، بل يكون عابثا. وإن كان له معنى في نفسه فذلك هو الذي يراد ثبوته ، ويعبر عنه بكلام النفس ، وإن كان الثاني وهو أن الكلام اسم للمعنى القائم بالنفس فذلك هو المطلوب ، غير أنه لا يخرج عن كونه قديما أو حادثا ، لا جائز أن يكون حادثا ، وإلا كان الله ـ عزوجل ـ محلّا للحوادث ، وهو محال ؛ للأدلة التي أقيمت على ذلك فلم يبق إلا أن يكون قديما.

وهذا الدليل وإن أثبت معنى نفسيّا وأبطل كون الكلام ألفاظا قائمة بذاته ـ عزوجل ـ فلم يثبت به أن هذا المعنى النفسي غير العلم والإرادة ، فللمعتزلة أن يعترضوا عليه من هذه الجهة.

الكلام على أدلة المعتزلة.

وقبل أن نشرع فيها نمهد لذلك فنقول :

إن ما تقوله المعتزلة في كلام الله ـ عزوجل ـ وهو خلق الأصوات والحروف الدالة على المعاني المقصودة ، وكونها حادثة قائمة بغير ذاته ـ عزوجل ـ نقول به نحن ، ولا خلاف بيننا وبينهم في ذلك كما مر ، وما نقوله نحن ونثبته من كلام النفس المغاير لسائر الصفات هم ينكرون ثبوته ، ولو سلموا لم ينفوا قدمه الذي ندعيه في كلامه ـ عزوجل ـ فصار محل النزاع بيننا وبينهم إثبات المعنى النفسي ونفيه. وإذن فالأدلة الدالة على حدوث الألفاظ إنما تفيدهم ـ

١٦

__________________

ـ بالنسبة للحنابلة القائلين بقدم الألفاظ. وأما بالنسبة إلينا فيكون نصبا للدليل في غير محل الخلاف.

وأما ما دل على حدوث القرآن مطلقا بلا تقييد باللفظي أو النفسي فحيث يمكن حمله على حدوث الألفاظ ، لا يكون لهم فيه حجة علينا ، ولا يعطيهم فائدة وجدوى بالقياس إلينا ، إلا أن يدللوا على عدم المعنى الزائد على العلم والإرادة ، وحينئذ يفيدهم هذا ؛ لأنه على هذا التقدير ينحصر القرآن في هذه الألفاظ والعبارات ، ولا سبيل لهم إلى هذا البرهان ؛ فلا تكون لهم حجة أيضا في تلك الأدلة المطلقة. لكنا نذكر أدلتهم ، ثم نجيب عنها ، فنقول :

لقد ذهبت هذه الطائفة إلى نفي الكلام النفسي القديم واستدلت بأدلة معقولة ومنقولة ، أما أدلتهم المعقولة فدليلان :

الدليل الأول : لو كان كلامه ـ عزوجل ـ نفسيّا قديما للزم وجود أمر بلا مأمور ونهي بدون منهي ، وهكذا بقية الأنواع ، والتالي باطل فبطل المقدم.

دليل الملازمة : هو أن للكلام النفسي أنواعا : أمرا ، ونهيا ، وخبرا ، وغير ذلك ، وهي قديمة ؛ إذ الأنواع كالجنس في القدم والحدوث. والقطعي بأنه لا مأمور ولا منهي في الأزل ، وأما بطلان التالي فواضح ؛ لما يلزم عليه من السفه وهو محال على الله.

والجواب عن هذا الدليل : هو أنكم بينتموه على أن للكلام القديم في الأزل أنواعا وهو غير مجمع عليه من الأشاعرة ، فقد خالف ابن سعيد في ذلك وقال : إنه في الأزل واحد ، وإنما يصير متصفا بالأنواع المذكورة فيما لا يزال.

فإن قيل : عدم تنوعه في الأزل إلى الخمسة يستدعي وجود الجنس بدون واحد من أنواعه ، وذلك محال ؛ لأنه لا وجود للجنس إلا في واحد منها.

قلنا : ذلك مسلم في أنواع حقيقته لا تكون باعتبار التعلق ، أما الأنواع التي تكون بحسب التعلق فغير مسلم ، وما معنا من هذا القبيل ؛ فهي أنواع اعتبارية تحصل بحسب تعلقه بالأشياء ؛ فجاز أن يوجد جنسها بدونها أو معها.

وعليه فالكلام الأزلي ليس جنسا حقيقيّا ، بل هو أمر واحد تعرض له الإضافات ، وله أسماء بحسب كل إضافة نوعية. فإذا تعلق بالفعل على وجه يثاب عليه الفاعل ويعاقب عليه التارك يسمى أمرا. وهكذا الأربعة الباقية ؛ فليست له أنواع وليس هو جنسا على الحقيقة.

وهناك جواب آخر عن الدليل : وهو أن ما ذكر من استدعاء الأمر والنهي مخاطبا وإن سلم في الأمر والنهي اللفظيين إلا أنه غير مسلم في الأمر والنهي النفسيين ؛ إذ يكفي فيهما مخاطب ولو تنزيلا.

وأيضا يجاب عن هذا الدليل بجواب ثالث وهو : إنما يلزم السفه لو خوطب المعلوم وأمر في عدمه ، أما على تقدير وجوده بأن يكون الطلب ممن سيوجد كما في طلب الرجل تعلم ولده الذي لم يوجد ، وكما في خطاب النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ إلى كل مكلف يولد إلى يوم القيامة فلا سفه.

فحاصل هذا الدليل : أنه مبني عند الخصم على التنوع ، ومن الأشاعرة من لا يسلمه كابن سعيد. وعلى فرض التسليم فاستدعاء المأمور في اللفظي دون النفسي.

وعلى تسليم استدعاء النفسي مخاطبا فإن أريد وجود المخاطب بالفعل في الأزل فذلك الاستدعاء غير مسلم. وإن أريد وجود المخاطب وجودا عقليّا على معنى أنه يتعلق بالمعدوم في حال العدم خطاب يفهمه ويقوم بالامتثال به ، بعد وجوده مستجمعا لشروط التكليف ـ فالاستدعاء مسلم ، والعبث ممنوع.

الدليل الثاني : لو كان كلامه ـ عزوجل ـ قديما لاستوت نسبته إلى جميع المتعلقات ، ولكن ـ

١٧

__________________

ـ استواء نسبته إلى جميع المتعلقات باطل ؛ فبطل ما أدى إليه.

بيان الملازمة : أن الكلام كالعلم في أن تعلقه بمتعلقاته يكون لذاته ، وكما أن علمه يتعلق بجميع ما يصح تعلقه به ؛ فكذلك كلامه يتعلق بكل ما يصح تعلقه به ؛ حيث إن الأشاعرة القائلين بالكلام النفسي نفوا أن يكون للفعل في ذاته حسن أو قبح ، بل حسنه وقبحه من الشرع ، فلو أمر بما نهى عنه أو نهى عما أمر به لانقلب الحسن قبيحا والقبيح حسنا ، وعلى ما ذكر يلزم تعلق أمره ونهيه بالأفعال كلها.

وأما بطلان التالي فواضح ؛ لما يلزم عليه من كون الفعل مأمورا به منهيّا عنه ، وهو محال ؛ لأن الأمر يستدعي تحصيل الفعل ليثاب عليه ، والنهي يقتضي ترك الفعل ليثاب على الترك.

فنتيجة الأمر : الإثابة على الفعل ، ونتيجة النهي : عدم الإثابة على الفعل ، بل العقاب عليه ، وبين الإثابة واللاإثابة تناقض ، وبين الإثابة والعقاب تنافر أيضا ؛ لأنه جمع بين الشيء والأخص من نقيضه ، وكلاهما محال.

والجواب عن هذا الدليل : أن الشيء القديم الصالح للأمور المتعددة قد يتعلق ببعض من تلك الأمور دون بعض كالقدرة ؛ فإنها تتعلق ببعض ما تعلقت به الإرادة دون ما لم تتعلق به.

فإن قيل : مخصص القدرة هو الإرادة ، فلا بد للكلام أيضا من مخصص ، ويعود الكلام إليه ؛ فيلزم التسلسل.

قلنا : تعلق الكلام ببعض دون بعض آخر كتعلق الإرادة لذاتها ببعض ما يصح تعلقها به دون بعض ؛ فلا تسلسل.

أما الأدلة النقلية فمن وجوه :

الوجه الأول : القرآن ذكر وهو محدث ؛ لقوله عزوجل : (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ)[الأنبياء : ٥٠] وقوله عزوجل : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ)[الزخرف : ٤٤] مع قوله عزوجل : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ)[الأنبياء : ٢] فإنهما يدلان على أن الذكر محدث وهو القرآن ؛ فيكون محدثا ، ويكون معنى الإتيان : ما يأتيهم من طائفة من القرآن نازلة تذكرهم أكمل تذكير وتبين لهم أتم تبيين.

وقوله عزوجل : (مِنْ رَبِّهِمْ) لابتداء الغاية متعلقة ب «يأتيهم» أو بمحذوف هو صفة ل «ذكر» ، وأيّا ما كان ففيه دلالة على فضله وشرفه.

وهو عربي ؛ لقوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا)[الزخرف : ٣] والعربي هو اللفظ ؛ لاشتراك اللغات في المعنى. ومنزل على النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ بشهادة النص والإجماع ، ولا خفاء في امتناع نزول المعنى القديم القائم بذات الله تعالى ، بخلاف اللفظ ؛ فإنه وإن كان عرضا لا يزول عن محله لكن قد ينزل بنزول الجسم الحاصل له ، وقد روي أن الله ـ عزوجل ـ أنزل القرآن دفعة واحدة إلى سماء الدنيا فحفظته الحفظة ، ثم نزل منها بلسان جبريل ـ عليه‌السلام ـ إلى المصطفى ـ عليه الصلاة والسلام ـ شيئا فشيئا بحسب المصالح.

فإن قيل : المكتوب في المصحف هو الصور والأشكال ، لا اللفظ ولا المعنى.

قلنا : بل اللفظ ؛ لأن الكتابة تصوير للفظ بحروف هجائية. نعم ، المثبت في المصحف هو الصور والأشكال.

فإن قيل : القديم دائم فيكون مقارنا للتحدي ضرورة ؛ فلا يكون ذلك من خواص الحوادث.

قلنا : معناه أن يدعو العرب إلى المعارضة والإتيان بالمثل ، وذلك لا يتصور في الصفة القديمة.

الوجه الثاني : قوله عزوجل : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)[النحل : ٤٠] إذ معناه : إذا أردنا شيئا قلنا له : كن فيكون. فقوله : «كن» وهو قسم من أقسام الكلام ، متأخر عن الإرادة الواقعة في الاستقبال ؛ لكونه جزءا له ؛ فيكون حاصلا قبل وجود الشيء ، بقرينة الفاء ـ

١٨

__________________

ـ الدالة على الترتيب بلا مهلة ، وكلاهما يوجب الحدوث ، وبخاصة إذا كان ذلك الشيء حادثا واقفا في الاستقبال.

وأما التقدم على الكائن الحادث بمدة يسيرة فظاهر أيضا دلالته على الحدوث.

فإن قيل : وقوع كلمة «كن» عقيب إرادة تكوين الأشياء على ما تعطيه كلمة الجزاء وإن دل على حدوثها ، لكن عموم لفظ «شيئا» من حيث وقوعه في سياق النفي معنى ، أي : ليس قولنا لشيء مما نقصد إيجاده وإحداثه ، كما في قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «وإنما لكل امرئ ما نوى» ـ يقتضي قدمها : إذ لو كانت حادثة لوقعت بكلمة «كن» أخرى مسابقة ويتسلسل.

وإن جعلتم هذا الكلام لا على حقيقته بل مجازا عن سرعة الإيجاز فلا دلالة فيه على حدوث «كن».

قلنا : حقيقته أن ليس قولنا لشيء من الأشياء عند تكوينه إلا هذا القول ، وهو لا يقتضي ثبوت هذا القول لكل شيء.

الوجه الثالث : قوله عزوجل : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ)[البقرة : ٣٠] و «إذ» ظرف زمان ماض ؛ فيكون قوله الواقع في هذا الظرف مختصّا بزمان معين محدث ، أما للمختص بالحال والاستقبال فظاهر ، وأما المختص بالماضي ؛ فلأن الانتقال في الحال أو الاستقبال ينافي القدم ؛ لأن ما ثبت قدمه استحال عدمه.

الوجه الرابع : قوله عزوجل : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ)[هود : ١] فإنه يدل على أن القرآن مركب من الآيات التي هي أجزاء متعاقبة ؛ فيكون حادثا.

وقال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : (أُحْكِمَتْ) أي : لم ينسخ بكتاب كما نسخت الشرائع به ، (ثُمَّ فُصِّلَتْ) : بينت بالأحكام والحلال والحرام ، وكذا قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا)[يوسف : ٢] يدل على أن كلامه ـ عزوجل ـ قد يكون عربيّا تارة وعبريّا أخرى ، وذلك دليل حدوثه ، ودلالة الآية الكريمة على أن كلام الله ـ تعالى ـ قد لا يكون عربيّا ، ظاهرة ؛ فإن الذوق السليم يفهم من التخصيص ذلك.

وأما دلالته على أنه قد يكون عبريّا تارة أخرى فيضم إليه أن التوراة أيضا كلامه بالاتفاق ، على أن المراد قد يكون عبريّا ؛ فإن المقصود هاهنا مجرد الدلالة على التغير.

الوجه الخامس : قوله عزوجل : (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ)[التوبة : ٦] فإنه يدل على أن كلامه مسموع فيكون حادثا ؛ لأن المسموع لا يكون إلا حرفا وصوتا.

الوجه السادس : أن القرآن معجز إجماعا ، ويجب مقارنة المعجز للدعوى حتى يكون تصديقا للمدعي في دعواه ؛ فيكون حادثا مع حدوثها ، وإن لم يكن مقارنا لها حادثا معها ، بل يكون قديما سابقا عليها ـ فلا اختصاص له به وتصديقه.

الوجه السابع : أن القرآن موصوف بكونه «منزلا» و «تنزيلا» ، وذلك يوجب حدوثه ؛ لاستحالة الانتقال بالإنزال والتنزيل على صفاته القديمة القائمة بذاته تعالى ؛ إذ لا خفاء في امتناع نزول المعنى القديم القائم بذاته عزوجل بخلاف اللفظ ؛ فإنه وإن كان عرضا لا يزول عن محله ، لكن قد ينزل الجسم الحامل له ؛ فيوصف اللفظ بذلك بالنزول ولو مجازا.

الوجه الثامن : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دعائه : «يا رب القرآن العظيم ، ويا رب طه ويس» فالقرآن مربوب كلّا وبعضا ، والمربوب محدث اتفاقا.

الوجه التاسع : أنه عزوجل أخبر بلفظ الماضي نحو : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ)[يوسف : ٢](إِنَّا أَرْسَلْنا)[القمر : ١٩] ولا شك أنه لا إرسال ولا إنزال في الأزل ، فلو كان كلامه قديما لكان كذبا ؛ لأنه إخبار بالوقوع في الماضي ، ولا يتصور ما هو ماض بالقياس إلى الأزل. ـ

١٩

__________________

ـ الوجه العاشر : النسخ حق بإجماع الأمة ، ووقع في القرآن ، وهو رفع أو انتهاء ، ولا شيء منهما يتصور في القديم ؛ لأن ما ثبت قدمه استحال عدمه ، وللحنابلة أن يقولها : معنى نسخ القرآن : رفع حكمه لا ذاته ؛ فلا يلزم حدوث ذاته ، وقد جعل الإمام الرازي هذين الدليلين في الأربعين من الأدلة العقلية ، واختار السيد الشريف أنهما من الأدلة النقلية ، والحق ما اختاره.

وقد أجاب الأشاعرة عن جميع هذه الأدلة : بأنها إن دلت على شيء من الحدوث ، فإنما تدل على حدوث اللفظ ، ونحن في تحرير محل الخلاف أوضحنا أنه لا نزاع بين الأشاعرة وغيرهم من الطوائف في حدوث اللفظ ، وإنما النزاع بينهم في الكلام النفسي القديم ؛ فجميع الأدلة التي ذكرت أدلة في غير محل النزاع ، على أن هذه الأدلة وإن أثبتت حدوث الكلام باللفظ فهي ترد دعوى الحنابلة والحشوية. والقصد : حيث ذهبوا إلى قدم اللفظ مع قيامه بذات الله عزوجل.

والأشاعرة يوافقون المعتزلة في إقامة الأدلة المذكورة في وجه هؤلاء.

ومن الوجوه التي استدل بها المعتزلة على أن كلام الله ـ عزوجل ـ ليس بأزلي ، قولهم : لو كان أزليّا للزم الكذب في إخباره ، والكذب في إخباره محال ؛ لأن الإخبار بطريق المضي كثير في كلام الله ـ عزوجل ـ كقوله : (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً)[نوح : ١] وقال : (فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ)[المزمل : ١٦] وصدقه يقتضي سبق وقوع النسبة ، ولا يتصور السبق على الأزلي ؛ فتعين الكذب. ودليل بطلان التالي إجماع العقلاء على أن الكذب نقص ؛ لما فيه من العجز والعبث.

والجواب عن هذا الدليل : أن أخبار الله ـ عزوجل ـ لا تتصف في الأزل ، بالماضي والحال والمستقبل ؛ لعدم الزمان. وإنما تتصف بذلك فيما لا يزال بحسب التعلقات ، فيقال : قام بذات الله عزوجل إخبار عن إرسال نوح مطلقا ، وذلك الإخبار موجود أزلا باق أبدا.

وقبل الإرسال كانت العبارة الدالة عليه : إنا نرسل ، وبعد الإرسال : (إِنَّا أَرْسَلْنا) ، فالتعبير في لفظ الخبر لا في الإخبار القائم بالذات ، كما تقول في علمه عزوجل : إنه قائم بذاته أزلا ، العلم بأن نوحا مرسل. وهذا العلم باق أبدا ، فقبل وجوده عرف أنه سيوجد ويرسل ، وبعد وجوده علم أنه وجد وأرسل ، والتغير في العلوم لا في العلم.

وأقوى دليل استدلت به المعتزلة قولهم : قد اتفق على أن القرآن الكريم اسم لما نقل إلينا بين دفتي المصاحف تواترا ، فهو مكتوب في المصاحف مقروء بالألسن ، مسموع بالآذان ، ولا شك أن هذه أمور تدل على حدوثه.

والجواب عن هذا الدليل : أن القرآن الذي هو كلام الله ـ عزوجل ـ المكتوب في المصاحف بأشكال الكتابة وصور الحروف الدالة عليه ، المحفوظ في القلوب ، المسموع بحروف ملفوظة ـ غير حال في المصاحف والقلوب والألسنة والآذان ، بل هو معنى قديم قائم بذاته ـ عزوجل ـ يلفظ ويسمع بالنظم الدال عليه ، ويحفظ بالنظم المخيل ، ويكتب بنقوش وصور وأشكال.

فالمرسوم بسمة الحوادث : إنما هو اللفظ الدال على المعنى القديم. ويقرب ما ذكرناه ما يقال : النار جوهر محرق ، يذكر باللفظ ويكتب بالقلم ، ولا يلزم من ذلك كون حقيقة النار صوتا وحرفا ؛ وذلك لأن للشيء وجودا في الأعيان ووجودا في الأذهان ـ والمراد به الوجود العلمي ؛ حيث لا يقول المعتزلة بالوجود الذهني ـ ووجودا في العبارة ووجودا في الكتابة. والكتابة تدل على العبارة ، والعبارة تدل على ما في الأذهان ، وما في الأذهان يدل على ما في الأعيان. فحيث يوصف القرآن بما هو من لوازم القديم ، نحو : القرآن غير مخلوق ـ فالمراد حقيقته الموجودة في الخارج ، والمراد بحقيقته الموجودة في الخارج ، أن الملفوظ في هذه الصورة ذاته من غير ملاحظة ما يدل عليه ؛ إذ هو من قبيل وصف الشيء بما هو حاله حقيقة.

وذلك بخلاف ما يوصف بما هو من لوازم الحادث ؛ لأنه لا بد فيه من ملاحظة ما يدل عليه ؛ ـ

٢٠