تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٩٥

فصارت الكفرة في إنكارهم أمر البعث أعذر من المعتزلة في إنكارهم خلق الأفعال ، ولم يوجب القول بالقدرة على ابتداء الخلق قولا بالقدرة على إنشاء البعث والإعادة بعد الإفناء ؛ فثبت أن ليس في الآيات التي جعلها الله تعالى دلالة إثبات البعث على قولهم.

والوجه الثاني : في تثبيت الوحدانية ، وجعل دليل وحدانيته توحده بخلق الأشياء وتفرده بإنشائها ؛ ألا ترى إلى قوله ـ تعالى ـ : (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ) [الرعد : ١٦] ، وقال : (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ) [المؤمنون : ٩١] ، وعلى قول المعتزلة : هو غير متوحد بخلق الأشياء ، بل أكثر خلق الأشياء كان بالعباد لا بالله تعالى ، وإذا لم يوجد منه التوحد والتفرد بخلق الأشياء ارتفع وجه الاستدلال من هذا الوجه على معرفة الصانع ووحدانيته (١) ، وإذا كان كذلك ، لم تثبت وحدانية الله تعالى ـ على قولهم ـ من الوجه الذي جعله دليل الإثبات.

والوجه الثالث : وهو أن الآيات ذكرت في إثبات حكمة الله تعالى ، وجعل دليل حكمته خلق السموات والأرضين وغيرهما من الأشياء ، ونحن إنما عرفنا خلق السموات والأرضين بما شاهدناهما مجتمعين ، والاجتماع حادث فيهما ، وما لا ينفك عن الحادث فهو حادث ، والحادث لا بد له من محدث ، ولو لا ذلك لم نعرفه ولا يثبت لنا خلقهما ، وعلى قول المعتزلة : الجمع والتفريق لا يدل على الخلق ؛ لأن كل من له القوة يقدر على جمع الأشياء وتفريقها ، والاجتماع والتفريق (٢) فعل الجامع والمفرق ؛ لقولهم بالمتوالدات ، فمن استحكمت قوته أمكنه جميع الأشياء ؛ لقوته (٣) ومن ضعفت قوته جمع على قدر ما ينتهي إليه قوته ، وإذا كان كذلك لم يتبين عند الخلائق على قولهم : إن الله ـ تعالى ـ هو الذي خلق السموات والأرضين ؛ إذ خلقهما لا يعرف إلا من الوجه الذي ذكرنا ؛ وذلك مما [لا] يجوز تحققه إلا بالله تعالى.

وجائز أن يكون الله تعالى أقدر ملكا من ملائكته وقواه على خلق السموات والأرض ، وإذا كان كذلك لم يظهر بما ذكرنا : أن الله تعالى هو الخالق لهما ؛ فبطل أن يكون في خلق السموات والأرضين (٤) وفي خلق سائر الأشياء ـ دلالة حكمته وقدرته ووحدانيته ، وقد جعل الله تعالى خلقهما دلالة لهذه الأوجه التي ذكرناها.

__________________

(١) في أ : ووحدانية الرب.

(٢) في ب : والتفرق.

(٣) في ب : القوية.

(٤) زاد في ب : وفي خلق السماء والأرض.

١٢١

والثاني : أنه جعل إتقان الأشياء وإحكامها علما لحكمته ، وقد يقع الإتقان والإحكام للأشياء لا به ، ثم لم يجعل الله ـ تعالى ـ لشيء مما أتقن وأحكم علما يتميز من بين ما أتقنه غيره وأحكمه ، فصار الإتقان والإحكام غير دال على حكمته ، بل صار دليلا على عجزه وضعفه ، حيث لم يتهيأ له تمييز ما صار به متقنا وما بغيره صار كذلك ؛ ولأن الحكمة هي وضع الشيء في موضعه ويتبين ما له مما ليس له ، ومن قولهم : إن الله تعالى أعطى الكافر قوة الإيمان ، ولم يبق في خزائنه ما جعل سببا يتوصل به إلى الإيمان إلا وقد أعطاه ، مع علمه أنه لا يؤمن به ، وهذا من أعظم الجهل وأبين السفه في الشاهد ؛ لأن المرء إذا قام بسقي أرض وعمارتها بالكراب والبنيان وألقى البذر فيها مع علمه أنها لا تنبت شيئا عد ذلك منه سفها وجهلا ، والسفيه لا يصلح أن يكون إلها حكيما ، وقال ـ تعالى ـ : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [الملك : ٢] ، وعلى قول المعتزلة : قد خلق غيره الحياة والموت جميعا ؛ لأن القتيل ميت (١) بالاتفاق ، ثم لا يجعل أهل الاعتزال لله ـ تعالى ـ في موته صنعا (٢) ، ويزعمون أنه مات قبل أجله ، فإذا قدر غيره على الإماتة ، ويقدر غيره أيضا على الإحياء بالأسباب ؛ لأنه يسقي الأرض والزرع ويكون في سقيه إحياؤها ، فلم يتفرد هو بخلق الموت ولا بالحياة على قولهم ، بل شركه غيره في خلق الأشياء ، فيبطل امتداحه ـ على قولهم ـ نفسه بأنه خالق الأشياء.

والوجه الرابع : أنه احتج بعلمه بأفعال الخلق بخلقه تلك الأفعال ، وذلك قوله : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) [الملك : ١٤] ، وهم قد نفوا الخلق عن الأفعال ، وإذا انتفى لم يقع له بها علم ؛ فصارت الآيات التي فيها إثبات العلم لا تثبت علما على قولهم ، ويكون فيه كذب في الخبر ، تعالى الله عن ذلك.

والوجه الخامس : أنه سمى نفسه : محسنا منعما ، وأثبت إحسانه وإنعامه بآيات احتج بها على خلقه ، وما من نعمة أنعم بها على العباد إلا وقد كانوا لها مستوجبين على الله تعالى ؛ فيصير الله تعالى بإعطائهم ذلك قاضيا ما عليه من الحق بالنعمة ، ومن قضى آخر حقّا كان [عليه](٣) لم يصر به منعما مفضلا ، وإنما صار قاضي حق (٤) ، فصارت الآيات التي فيها إثبات النعم غير مثبتة على قولهم ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوّا كبيرا.

__________________

(١) في أ : لأن القتل ثبت.

(٢) في ب : صنيعا.

(٣) سقط في ب.

(٤) في ب : الحق.

١٢٢

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ).

أي : بكل شيء لطف أو جل أو استتر أو ظهر أو اختلط بغيره أو تميز ، فهو بصير يبلغه إلى أجله الذي ضرب له ، ويأتيه بالرزق الذي قدر له.

أو بصير بأفعال الخلق ما كان وما يكون ؛ لأنه ذكر على أثر ذكر الأفعال ، وهو قوله : (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) [الملك : ١٣ ، ١٤].

ثم في قوله : (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) ترهيب وترغيب وإلزام المراقبة والتيقظ والتبصر (١) ؛ وكذلك في قوله : أنه (عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) [هود : ٥٧] و (بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [البقرة : ٢٩] ؛ لأن من علم أن عليه حافظا ورقيبا يعلم بكل شيء يتعاطاه فهو لا يتعاطى إلا المحمود من الفعال والمرضي منها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ).

فهذا صلة قوله : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ) ، وقوله : (أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً) ، ثم قال : (أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ) إذا خسف بكم الأرض وأرسل عليكم حاصبا من السماء.

وجائز أن يكون على التقديم والتأخير ؛ فيكون معناه : أمن هذا الذي هو جند لكم من دون الرحمن ينصركم من عذاب الله إن حل بكم.

أو يكون قوله : (أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ) يدفع عنكم العذاب من دون الله إذا حل بكم.

وجائز أن يكون أريد بالجند : آلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله تعالى ، فكانوا يعبدونها لتنصرهم ويعزوا بها ؛ قال الله ـ تعالى ـ : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) [مريم : ٨١] ، وقال : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ) [يس : ٧٤] ، ثم هم قد علموا أنها لا تقوم بنصرهم ولا تدفع الذل عنهم فيعزوا بها ؛ لأنهم كانوا يفزعون إلى الله تعالى عند ما يحل [بهم الشدائد](٢) والذل ، كما قال ـ تعالى ـ : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ) [الزمر : ٨] ، ويتركون الفزع إلى آلهتهم ؛ لعلمهم أنها لا تعزهم ولا تنصرهم ، فذكرهم في حالة الأمن ما قد عرفوا وقوعه في حالة الخوف ؛ لينقلعوا عن عبادة الأصنام ويقبلوا على عبادة رب الأنام ؛ ليدفع عنهم الشدائد والأهوال والآلام إذا حلت بهم من خاص أو عام ، ويقوم بعزهم إذا لحقهم الذل.

__________________

(١) في أ : والتوسط.

(٢) في ب : بهم من الشدائد.

١٢٣

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ).

أي : اغتروا في عبادتهم آلهتهم ؛ لتقوم بنصرهم وعزهم ، مع ما علموا أنها لا تدفع عنهم شدة ولا تحصل لهم عزّا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ).

هم كانوا يرجون رزقهم من السماء والأرض ، فيقول (١) : من [ذا](٢) الذي يرزقكم إن لم يرسل عليكم من السماء مطرا ، ولا زلل لكم الأرض للنبات.

وقد علموا أيضا أن لا رازق لهم غير الله تعالى ؛ لأنهم كانوا يفزعون إليه بالسؤال للرزق عند ما يبلون بالقحط والجدوبة ، فذكرهم في حال السعة ما له عليهم من عظيم النعمة في توسيع الرزق عليهم ؛ ليشكروه ولا يكفروه.

وقوله (٣) ـ عزوجل ـ : (بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ).

فالعاتي : هو المارد الشديد السفه ؛ فكأنه يقول : لجوا وعتوا في قبول الحق ، وتمادوا في طغيانهم ، ولم يتذكروا ولم يراقبوا الله تعالى ، ولم يشكروا له ، بل بعدوا عن قبول ذلك كله ، فقوله : (أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ) ، وقوله : (أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ) يخرج على أوجه ثلاثة :

أحدها : على التخويف والتهويل.

والثاني : على التنبيه والتذكير ، وتسفيه أحلامهم.

والثالث : على البشارة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنصر له [وبإجابة دعوته](٤) على أهل الكفر.

فوجه التنبيه (٥) والتذكير وتسفيه الأحلام ما ذكرنا : أنهم قوم كانوا يعبدون الأصنام لتنصرهم وتعزهم في الدنيا ، وليبتغوا به الرزق من عندها ؛ إذ هم كانوا لا يؤمنون بالبعث ؛ ليطلبوا بعبادتها عين (٦) الآخرة والنصر فيها ، وإنما كانوا يطمعون ذلك منها في الدنيا ، ثم هم في الدنيا كانوا إذا نزلت بهم الشدة والفزع تضرعوا إلى الله تعالى ، كما قال : (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٦٧] ، ولم يكونوا يفزعون إلى أصنامهم ؛ فكيف اتخذوها جندا ينصرهم عند النوائب ، وقد أحاط علمهم أنها لا تنصرهم

__________________

(١) في ب : فيقولون.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : ثم قوله.

(٤) في ب : وبالإجابة لدعوته.

(٥) في أ : ووجه التشبيه.

(٦) في أ : عن.

١٢٤

ولا تغني عنهم من عذاب الله شيئا؟! فيكون فيه تسفيه أحلامهم ، وتنبيه من عذاب الله ؛ ليمنعهم ذلك عن عبادة غير الله تعالى ، ويدعوهم إلى عبادة من يملك دفع الشدائد عنهم إذا حلت بهم.

وأما وجه التخويف ، فهو (١) : أنه يجوز أن يكون قيل لهم هذا عند ما ابتلوا بالشدائد وضيق العيش ، فيقول لهم : استنصروا من آلهتكم واسألوا الرزق من عندها ، هل يملكون لكم رزقا أو يدفعون عنكم ذلا ، وهل يقوون على نصركم؟!

وجائز أن يكون فيه بشارة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنصر له [وبإجابة دعوته](٢) وقد وجد النصر له ؛ لأنه غلب عليهم يوم فتح مكة ، ولم يتهيأ لأهلها أن ينتصروا ، بل غلبوا وقهروا وفاز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالغلبة والقهر ومن كان معه حتى استكانوا ولانوا وتضرعوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك حتى دعا لهم ، وابتلوا أيضا بالقحط والسنين ؛ بدعاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣) حتى رفع الله عنهم القحط.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

ففي هذه الآية تذكير وتنبيه وتخويف وتهويل وتعريف حال هي على خلاف ما هم عليها في الحال.

ثم ذكر الصراط في الذي يمشي [سويّا ، ولم يذكر الصراط في الذي يمشي](٤) مكبّا ، فهو على الإضمار كأنه يقول : أفمن يمشي مكبّا على غير الصراط أهدى ، أمن يمشي سويّا على [صراط مستقيم](٥)؟! فيكون هذا تذكيرا وتنبيها وتسفيها لأحلامهم ؛ لأن الذين آثروا الإيمان وسلكوا طريقه ، فإنما سلكوا بالحجج والبراهين ، والذين آثروا الكفر آثروه من غير حجة ، بل حيرتهم وسفههم هما اللذان دعواهم إلى التزام الكفر [والتدين به](٦) ، ومن آثر [الحيرة والعمى](٧) على الهدى والرشاد فهو سفيه.

وجائز أن يكون قوله : (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى) أي : أهدى طريقا ، أم الذي يمشي سويا على صراط مستقيم ، وحق هذا الكلام أن يقال : بل الذي يمشي على صراط

__________________

(١) في أ : التخفيف هو.

(٢) في ب : وبالإجابة لدعوته.

(٣) زاد في ب : عليهم بالسعة.

(٤) سقط في أ.

(٥) في ب : الصراط المستقيم.

(٦) في أ : والتدبر بهم.

(٧) في أ : الحياة والعمل.

١٢٥

مستقيم هو الأهدى من الذي يختار الطريق المعوج الزائغ عن الرشاد ، فيكون في الوجه الأول معنى التخويف والتذكير والتنبيه جميعا ، وفي الوجه الثاني تذكير وتنبيه.

وقولنا بأن فيه تعريف حال خلاف الحال التي هم عليها : أن كل واحد من الفريقين ـ أعني به : أهل الإسلام وأهل الكفر ـ يزعم أنهم على الهدى ، والفريق الآخر على الضلال ، وإذا اتفقت الدعاوي على تضليل أحد الفريقين ، ثم لا بد أن يكون جزاء الضال (١) غير جزاء المهتدي ، وجزاء الولي غير جزاء العدو.

ثم الدنيا تمر على الفريقين على جهة واحدة ؛ فلا بد من تثبيت دار أخرى ، والقول بها للجزاء ، فيكون فيما ذكروا إيجاب القول بالبعث والإقرار به ، فهذا الذي ذكرنا هو يعرفهما خلاف الحالة التي هم عليها ؛ ولأن الذي يمشي مكبا على غير الطريق هو الأعمى الذي لا يبصر ، [و] المقعد الذي لا يقوى على المشي ، والذي يمشي سويا على صراط مستقيم هو الذي ليست به زمانة ولا به عمى يمنعه عن الصراط ؛ فيكون قوله : (يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ) هو الأعمى ، والذي يمشي سويا على صراط مستقيم هو السميع البصير ؛ فيكون معناه ما قال في سورة هود : (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً) [هود : ٢٤].

قوله تعالى : (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٢٣) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٦) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (٢٧) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٨) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ)(٣٠)

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ).

فهذه الآية صلة قوله : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) [الملك : ٢] ، وصلة قوله : (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) [الملك : ٣] ، وقوله : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً) [الملك : ١٥] ، ثم في ذكر الإنشاء وجعل السمع والأبصار والأفئدة تذكير قوته وسلطانه وعلمه وحكمته وآلائه وتعاليه عن الأشباه والأمثال :

فوجه [تذكيره القوة](٢) والسلطان والعلم والحكمة ما يوصف بعد هذا ، ويذكر في

__________________

(١) في أ ، ب : الضلال.

(٢) في أ : تذكير الوجه.

١٢٦

سورة المرسلات وفي سورة (وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ) وسنذكر طرفا من ذلك هاهنا بعون الله تعالى وتوفيقه ، فنقول بأن الله تعالى أنشأنا في أظلم مكان وأضيق موضع ، بحيث لا ينتهي إليه تدبير البشر وعلومهم وحكمتهم وقواهم ؛ لأن علم الخلق لا يجد نفاذا في الظلمات ، وكذلك حكمته ، ثم إن الله تعالى أنشأه في تلك الظلمات كيف شاء ، وأجرى سلطانه وتدبيره على ذلك الشيء ؛ ليعلم به أن علمه بالخفيات من الأمور كعلمه بما ظهر منها ، ويعرف الخلائق أنه لا يخفى عليه شيء ، فيدعوهم ذلك إلى المراقبة في كل ما يسرون وما يعلنون ، ويوجب ما ذكرنا نفي تقدير قوته وعلمه وسلطانه بقوى البشر وعلومهم وسلطانهم ؛ فيكون فيه إيضاح (١) عن الشبه التي اعترت منكري البعث [في أمر البعث](٢) ، ويحملهم على الإيمان [به](٣) إذا أمعنوا النظر فيه ، وليعلموا أن من بلغت حكمته ما ذكرنا لا يجوز أن يخلقهم سدى لا يخاطبهم ولا ينهاهم بل يتركهم هملا.

وأما وجه تعاليه عن الأشباه والأشكال : هو أنه أنشأ الخلق في أظلم مكان وأضيقه كان فيه إبانة أنه لا يوصف بالكون (٤) في ذلك المكان الذي ظهر فيه آثار فعله ؛ لأنه في وقت ما خلق عمرا في بطن أمه ، فقد خلق زيدا في ذلك الوقت (٥) في بطن أمه ، وخلق خلائق في بطون الأنعام والسباع وبطون بنات آدم ، وأنشأ النبات في الأرضين في ذلك الوقت ، ولو كان يوصف بالكون في مكان الفعل ، لكان إذا أخذ في خلق هذا لا يخلق في ذلك الوقت في أقطار الأرض أمثاله من الخلائق ؛ فدل أن الفعل ليس يتحصل منه بشهوده المكان الذي ظهر فيه فعله ، وإنما يكون بما [ظهر لنا بمقتضى](٦) قوله : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [النحل : ٤٠].

وأما سائر الفعلة فهم لا يتمكنون من الفعل إلا بشهودهم مكان الفعل ؛ فهذا الذي ذكرناه ينفى عنه شبه الخلق ، ويوجب تعاليه عن الأشكال ، وفيه تذكير نعمه ومننه على خلقه ؛ ألا ترى أنه قال على أثر هذا : (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ)؟!

ولو لم يكن منعما مفضلا ، لم يكن يستأدي منهم الشكر.

ووجه النعمة : هو أنه قدره في تلك الظلمات وصانه عن الآفات ، وعن كل أنواع

__________________

(١) في أ : انفتاح.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في ب.

(٤) في أ : ما يكون.

(٥) في أ : البطن.

(٦) في أ : ذكر من.

١٢٧

الأذى ، وغذاه في ذلك الموضع بما شاء من الأغذية ، وستره عن (١) أبصار الناظرين ، وغيبه عن أعينهم ؛ لأنه في تلك الحال بالمحل الذي يستعاف ويستقذر منه ، ولا يمكن أن يدفع عنه المعنى الذي وقعت به الاستعافة والاستقذار بالتطهير ، وأنشأ له السمع والبصر والفؤاد ؛ ليصل بها إلى أنواع العلوم والمصالح ؛ فلزمهم أن يقوموا بشكر ذلك.

وفيما ذكرنا نقض قول المعتزلة ؛ لأنهم يزعمون أن الله تعالى لو خلقهم (٢) على غير الوجه الذي ظهر ، لكان جائرا ؛ لأن من مذهبهم : أنه لا يفعل بهم إلا ما هو أصلح لهم ، وإذا كان خلقهم هو الأصلح ، ومن شرطه فعل الأصلح ، فإذن هو صار قاضي حق ، وليس لقاضي الحق على المقضي موضع منة ، ولا منه بمكانة ولا نعمة يلزمه شكرها له.

ثم قوله عزوجل : (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) :

أي : جعل لكم السمع ؛ لتسمعوا ما غاب عنكم ونأى ، فتعرفوه بالسمع ، وأنشأ لكم الأبصار ؛ لتبصروا بها ما حضر من الأشياء ، وتعرفوا بها ما ينفعكم وما يضركم ، وما خبث منها وما طاب ، وأنشأ لكم أفئدة تدركون بها حقائق الأشياء ، ومبادى الأمور ومآلها ، وما حل منها وما حرم.

ثم خص هذه الأشياء الثلاثة بالذكر ؛ لما بها يتوصل إلى العلوم ومعرفة الأشياء ؛ قال الله ـ تعالى ـ : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [النحل : ٧٨] ، ومعناه : أنه أنشأ لكم هذه الأشياء ؛ لتهتدوا بها ، وتصلوا بها إلى أنواع العلوم ؛ فثبت أن هذه الأشياء هي التي يتوصل بها إلى العلم والحكمة ، وإلى ما به المصلحة والمنفعة ؛ ولذلك قال : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) [الإسراء : ٣٦] ، فلو لم يقع بها الوصول إلى علم الأشياء ، لكان لا يخص بالسؤال عنها.

وقوله ـ عزوجل ـ (هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) جمع في هذه الآية بين خبرين :

أحدهما : مما قد نوزع فيه ، وهو قوله : (وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) فإن بعض الكفرة ينكرون الحشر والبعث.

والثاني : مما لم يقع فيه التنازع ، وهو قوله : (هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ).

ثم إن الله ـ تعالى ـ جعل ابتداء الخلق دلالة القدرة على الإعادة بقوله : (قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) [يس : ٧٨ ، ٧٩] ، وقال : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧].

__________________

(١) في أ ، ب : على.

(٢) في أ : جعلهم.

١٢٨

وإذا جعل الابتداء دليل الإعادة ، لزمهم أن يستدلوا به ، فهو وإن ذكره على [وجه الجمع لا على](١) وجه الاحتجاج ، ففيه موضع الاحتجاج عليهم.

وقوله عزوجل : (فِي الْأَرْضِ) فيه إخبار أنه خلقهم في الأرض ؛ ليشاهد بعضهم خلق بعض في الابتداء ؛ فيعلموا أنهم لم يكونوا على الحالة التي هم عليها للحال ، بل كانوا نطفا وعلقا وأطفالا إلى أن انتهوا إلى الحالة التي هم عليها ، فإذا تقرر عندهم أمر الابتداء ، أوجب لهم ذلك علما بالقدرة على الإعادة.

أو يكون قوله : (فِي الْأَرْضِ) أي : أنشأكم ، وجعل لكم مساكن في الأرض ، وبسطها لكم لتنتفعوا بها ، وجعلها لكم كفاتا ؛ فيكون فيه تذكيره النعمة والقدرة والسلطان.

وقوله عزوجل : (ذَرَأَكُمْ) أي : كثركم من أصل واحد ، كما قال ـ تعالى ـ : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) [النساء : ١].

ومعلوم بأن الخلق على كثرتهم ، لم يكونوا في نفس واحدة ، ومن قدر على خلق الأنفس من نفس واحدة ، لقادر على إعادة ما قد سبق كونه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ، فقولهم هذا خرج مخرج الاستهزاء ، أو الاستخفاف برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمر الله ـ سبحانه وتعالى ـ نبيه ـ عليه‌السلام ـ أن يجيبهم بالجواب الذي يليق من الحكماء ، ولم يأذن له أن يجازيهم باستخفافهم إياه استخفافا مثله ؛ فقال : (قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) يبين لهم أنه لا ينذرهم إلا بالذي أمره به ، ولا يبلغ إليهم إلا ما قد أنزل إليه ، وأمر بتبليغه ، وفي هذه الآية دلالة نبوته ، وآية رسالته ؛ لأنه لو لم يكن رسولا ـ كما زعموا ـ وكان مختلقا من تلقاء نفسه ، لكان يمكنه أن يحيل ذلك إلى وقت لا يظهر غلطه فيه ، ولا كذبه لديهم ، وهو أن يحيله إلى وقت لا يعيش إلى مثل ذلك الوقت ، فإذا لم يفعل ، بل قال : (إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) دلهم ذلك على رسالته ، وأنه إذا كان رسولا ، لم يكن له أن يزيد في الرسالة ، ولا أن يتكلف من عنده فيها زيادة ؛ كما ذكر في قوله : (عَبَسَ وَتَوَلَّى) [عبس : ١] أن فيه ما يقرر رسالته عندهم من الوجه الذي يذكر في تلك السورة ، إن شاء الله تعالى.

وقوله عزوجل : (وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) ، أي : لا أزيد في الإنذار على القدر الذي أمرت به.

وقوله ـ تعالى ـ : (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، جائز أن يكون قوله تعالى : (رَأَوْهُ) ، أي : رأوا الذي وعدوا ، وقوله : (زُلْفَةً) ، أي : قريبة.

ثم أنت «الزلفة» ؛ لما أريد بها الأحوال التي تكون في ذلك اليوم من الأهوال

__________________

(١) سقط في أ.

١٢٩

والشدائد ، ويكون قوله : (رَأَوْهُ) كناية عن ذلك اليوم ، فذكر ؛ لأن اليوم مذكر ، وجعل «زلفة» بلفظ التأنيث ؛ لأنها كناية عن الأهوال التي تكون في ذلك اليوم.

وجائز أن يكون قوله : (زُلْفَةً) ، أي : رأوا تلك الأهوال والشدائد قريبة عن الأوقات التي وعدوا فيها ، فعلموا أنها كانت قريبة منهم وإن كانوا يستبعدونها في هذا اليوم ، وهو كقوله : (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) [النازعات : ٤٦] ، وقال : (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) [البقرة : ١٦٥].

وكذلك إذا رأوا شدائد ذلك اليوم وأهواله ، علموا أن الوقت الذي كان يوعدهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان قريبا منهم.

وقوله : (سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا).

فسيئت ، من ساءت ، أي : ساءت وجوههم ، أو قبحت وجوههم بتغير ألوانها.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ).

قال أبو بكر الأصم : معناه : تمنعون وتدفعون كقوله تعالى : (فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) [قريش : ٢] ، وقوله : (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) [الطور : ١٣] ، أي : دفعا.

وليس الأمر كما ذكره ؛ لأنه لو كان من الدفع والمنع ، لكان حقه أن يشدد العين ، لا الدال كما شددت في قوله : (يَدُعُّ الْيَتِيمَ) ، فإذا شددت الدال دون العين ، ثبت أن اشتقاقه ليس من «الدع» ، ولكنه من «الادعاء» ؛ إذ الدال هي المشددة ؛ فتأويله ـ والله أعلم ـ : (هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ) ، أي : هذا الوقت الذي كنتم تكذبون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتدعون عليه أنه كاذب في الإخبار.

وجائز أن يكون قوله : (تَدَّعُونَ) ، أي : تدعون ، وقد يستعمل الادعاء مكان الدعوة ؛ كما يقال : ذكر واذّكر ، وخبر واختبر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ).

ففي هذه الآية دلالة أن في حكمة الله مشيئة المغفرة والعقاب لمن ارتكب غير الكفر من الزلات ، وإيجاب العقاب على من اعتقد الكفر والتزمه ، وأن ليس في الحكمة عفو مثله من العقوبة ؛ لأنه قال : (أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا) فأثبت فيه خيار الإهلاك ومشيئة الرحمة والمغفرة ، ومعلوم بأنه يهلك ومن معه أو يرحم عند ما يبتلى بالزلات ؛ وكذلك قال : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨] ؛ فجعل لنفسه مشيئة المغفرة لمن توقّى الكفر ، وحكم بإيجاب العقاب على من أشرك به.

١٣٠

والذي يدل على أن الحكمة توجب ما ذكرنا : أن الكفر لنفسه قبيح لا يحتمل الإطلاق ولا رفع الحرمة ؛ لما فيه من السفه ؛ لأن من رضي بشتم نفسه فهو سفيه ، فعلى ذلك عقوبته لا تحتمل في الحكمة رفعها والعفو عنها.

أو لما كان الكفر لا يحتمل الإباحة ورفع العقوبة ، والإفضال بالمغفرة يخرج (١) مخرج الإباحة لذلك ـ لم يجز القول فيه بالمغفرة والعفو ، وسائر المآثم جائز رفع الحرمة عنها.

ولأن الكافر اختار عداوة الله تعالى وكفران نعمه ، والذي اعتقد الإسلام اختار ولايته ، والحكمة توجب التفرقة بين العدو والولي ، وفي العفو عنه وإكرامه والإحسان إليه تسوية بين الولي والعدو ، و [في](٢) ذلك تضييع الحكمة ؛ ولأن الكافر عند نفسه أنه على الحق والصواب وغيره على الباطل والضلال ، وأنه غير مستوجب للعذاب ؛ يدل على ذلك حكايته عن أهل الكفر : (وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) [سبأ : ٣٥] ، فالله تعالى إذا أنعم عليه بالعفو وتطول عليه بالإحسان ، لم يقع ذلك عنده موقع التجاوز والغفران ، بل يقع عنده أنه إنما أحسن إليه ؛ لاستحقاقه (٣) الإحسان ، وعفا عنه لما سبق منه ما يستوجب به العقاب ، وإذا كان كذلك أدى ذلك إلى تضييع الإحسان وتضييع العفو وإبطال النعمة ؛ فثبت أن الحكمة لا توجب العفو عن الكافر ؛ إذ يحصل بذلك العفو في غير موضعه ، وأما أهل الإسلام الذين سبقت منهم الأجرام فقد علموا أن الذي سبق منهم زلات ومآثم ، وأن العذاب قد لزمهم ، وأنهم مستوجبون للعقاب ، فإذا عفا عنهم ، علموا أنهم إنما نالوا العفو بفضل الله تعالى فيقع الإحسان موقعه.

ولأن من أحسن إلى عدوه في الشاهد ، ولم يقصد بإحسانه إليه قصد استدراجه والمكر به ، فهو إنما يحسن إليه لما يخاف ناحيته ، ويخرج فعله هذا (٤) مخرج التذلل له ، فلو لم يؤاخذ الله الكافر بما تعاطى من الكفر ، بل أحسن إليه من غير تبعة عليه ، خرج عفوه وإحسانه إليه مخرج الخوف وإظهار التذلل ، والله تعالى يجل عن هذين الوصفين (٥) ؛ فثبت أن الحكمة توجب القول بالتخليد وتمنع القول بالعفو ، والله أعلم.

و [في](٦) قوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا) دلالة أن لله تعالى أن

__________________

(١) في ب : ويخرج.

(٢) سقط في ب.

(٣) في أ : لاستجابة.

(٤) في ب : ذلك.

(٥) في أ : الوجهين.

(٦) سقط في ب.

١٣١

يعذب على الصغائر ؛ لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع من سبقه من الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ قد عصموا عن ارتكاب الكبائر ؛ فلا يجوز أن يرتكبوا الكبائر فيهلكوا لأجلها ؛ فثبت أنهم لو أهلكوا لأهلكوا بالصغائر ، فلو (١) لم يكن لله ـ تعالى ـ أن يعذب أهل الصغائر ، لصار هو بإهلاكه إياه بمن معه جائرا ظالما ، وجل الله تعالى عن الوصف بالجور ، وقال ـ تعالى ـ : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) [الفتح : ٢] ، ولو لم يكن لله ـ تعالى ـ أن يعذب على (٢) الصغائر أحدا ، لم يكن له على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم موضع الامتنان بما غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.

ثم الحق أن يقال : إن جميع الخوارج والمعتزلة لا يجوز أن يغفر الله تعالى لهم ؛ لارتكابهم (٣) الكبائر ، وإنما هذا الرجاء الذي ذكرنا لغيرهم من منتحلي الإسلام ؛ لأنهم يقولون : لا يجوز أن يغفر الله تعالى لأهل الكبائر ، ولا أن يتطول عليهم بالعفو ، بل حق أمثالهم أن يخلدوا في النار أبد الآبدين ، وإذا كان هذا هو الحكم فيهم ، فالله تعالى إن غفر لهم ومن عليهم بالعفو ، وقع عندهم أنه إنما عفا عنهم ؛ لأن الذين ارتكبوا من المآثم لم تكن كبائر بل كانت صغائر ؛ إذ لا يجوز المغفرة عن الكبائر ؛ فيحصل العفو في غير موضعه والإحسان في غير موقعه ، وأما غيرهم من منتحلي الإسلام فهم يرجون عفوه وسعة رحمته في كل آثامهم (٤) ، فإذا تفضل عليهم بالمغفرة وقع العفو عندهم موقعه ؛ فلا يكون فيه تضييع الإحسان ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوّا كبيرا.

ثم [قوله عزوجل](٥) : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ).

أي : قل إن أهلكني الله ومن معي بما سبق من الأجرام والزلات ، أو رحمنا بما سبق منا من الإيمان به والانقياد لأمره والخضوع لطاعته ، (فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ) أي : أي شيء يجير الكافرين من عذابه ، ولم يسبق منهم إلى ربهم حسنة يرحمون لأجلها ، ولا طاعة يستوجبون الغفران بها؟! أو فمن يجيرهم من عذاب الله تعالى إن حل بهم؟! فكأنه قيل له : [قل لهم](٦) : هذا لأنهم كانوا يعبدون الأصنام ؛ رجاء أن تنصرهم من العذاب [الأليم](٧) ، فيقول : لا تجيرهم تلك الأصنام من العذاب الأليم ، والله أعلم.

__________________

(١) في أ : فلم.

(٢) في أ : عن.

(٣) في ب : بارتكابهم.

(٤) في أ : أيامهم.

(٥) سقط في ب.

(٦) في ب : يحل به.

(٧) سقط في ب.

١٣٢

وقوله ـ تعالى ـ : (قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ).

فجائز أن يكون معناه : أن الذي خلق الموت والحياة وخلق سبع سماوات طباقا ، وجعل الأرض ذلولا ، ويعلم السر والجهر ـ هو الرحمن ؛ فيكون فيه إنباء أن خالق السموات والأرض وخالق الموت والحياة وخالق أفعال العباد وأفعال الطير ـ هو الرحمن جل جلاله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (آمَنَّا بِهِ) أي : آمنا أنه خالق ما ذكرنا ، وأنه المتعالي ـ عن الأشباه والأمثال والبريء من كل العيوب.

وجائز أن يكون هو اسما من أسماء الله تعالى على ما نذكره (١) في سورة الإخلاص ؛ فيكون هو والرحمن اسمين من أسمائه.

وقوله : (وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا).

فجائز أن يكون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خوفه المشركون بأنواع من المخاوف ، فقيل له : قل : عليه توكلنا ، أي : اعتمدنا عليه ؛ هو الذي يدفع عنا شركم وينصرنا عليكم.

وقوله : (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ).

فجائز أن [يكونوا نسبوه أيضا](٢) إلى الضلال وادعوا أنهم على الهدى ولم ينظروا في آيات الله تعالى ليتيقنوا بها من المهتدي منهم ومن الضلال؟ فقال : (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) إذا جاءكم بأس الله ، وذلك عند الموت أو في الآخرة.

وقوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً).

فهذا صلة قوله : (أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ) [الملك : ٢١] ، فيقول أيضا : من الذي يأتيكم بماء معين إذا أصبح ماؤكم غورا.

والمعين : هو الماء الذي تقع عليه العين [فيراه البصر](٣) ، والله أعلم.

* * *

__________________

(١) في أ : ذكر.

(٢) في ب : يكون أيضا نسبوه.

(٣) في ب : ويراه البصر.

١٣٣

[سورة ن والقلم وهي مكية](١)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (١) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (٤)

[قوله ـ عزوجل ـ : (ن)](٢) ، اختلف في تأويل نون :

فمنهم من يقول (٣) : هو الحوت ؛ كقوله : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً) [الأنبياء : ٨٧] فنسبه إلى النون وهو الحوت ؛ ألا ترى إلى قوله : (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ) [الصافات : ١٤٢].

ومنهم من يقول : «النون» هو الدواة ، فتأويل (٤) هذا على جهة الموافقة ؛ لأنه ذكر القلم وما يسطر به ، فلم يبق [هاهنا سوى](٥) الدواة ؛ فحمله على الدواة ؛ لأجل الموافقة ، لا أن يكون فيه معنى يدل على إرادة الدواة منه ، والله أعلم.

ومنهم من يقول : هي فارسية معربة «أنون كن» ، أي : اصنع ما شئت ، يقال (٦) هذا عند الإياس : أن المرء إذا أيس عن آخر قال له : اصنع ما شئت إذن. ومنهم من يقول : هو من الحروف المقطعة ، ويشبه أن يكون كذلك ؛ لأنه ذكر القلم وما يسطر على أثره ، وإنما يكتب بالقلم ويسطر الحروف المعجمة ، فأخبر ـ تعالى ـ عظيم صنيعه (٧) ولطفه بإنشائه هذه الحروف وخلقه القلم وما يسطر عليه ؛ حيث يوصل بها إلى معرفة (٨) الحكمة وكل ما يكون به المصلحة من الدين والدنيا ، بل جعل قوام الدين والدنيا بها.

ومنهم من يجعل (٩) كل حرف من الحروف المعجمة اسما من أسماء الله تعالى ، أو افتتاح اسم من أسمائه ، وكذلك يروى عن بعض الصحابة (١٠) ـ رضي الله عنهم ـ أنه قال

__________________

(١) في ب : ذكر أن سورة (ن والقلم) مكية.

(٢) سقط في ب.

(٣) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير (٣٤٥٣٣) وعبد بن حميد وابن المنذر عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٣٨٨) وهو قول ابن جريج أيضا.

(٤) في ب : فتأويله.

(٥) في ب : إلا.

(٦) في ب : فقال :

(٧) في أ : صنعه.

(٨) في ب : تعرف.

(٩) في أ : يجعلوا.

(١٠) منهم ابن عباس ، انظر : الدر المنثور (٦ / ٣٨٨).

١٣٤

ذلك.

فإن كان النون اسما من أسماء الله تعالى ، فالقسم به قسم بالله تعالى ، وإن كان على غيره من الوجوه التي ذكرناها ، فالقسم جار بما به قوام سائر الخلق ومصالحهم ، وقد ذكرنا أن القسم لتأكيد ما يقصد من الأمر ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ).

فموضع القسم هذا أقسم بما ذكر (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) : [ما أنت بما أنعم الله عليك بمجنون ؛ وهذا](١) يحتمل أوجها :

أحدها : أي : نعمة ربك (٢) حفظتك عن الجنون ؛ فنفى عنه الجنون بقوله : ما أنت بما أنعم الله عليك بمجنون ، وهذا كما يقال : ما أنت بحمد الله بمجنون ، يراد به نفي الجنون.

والثاني : أنك لست ممن خدعته النعمة واغتر بها حتى شغلته عن العمل بما له وعليه ، والمجنون في النعمة هو الذي غرته النعم وألهته عن التزود للمعاد.

أو ما أنت بغافل عن نعمة [السيد ، وهو الرب ـ جل جلاله ـ](٣) بل تذكرها وتشكر الله تعالى عليها ، والمجنون من غفل عن النعمة وأعرض عن شكرها.

ثم الكفرة كانوا ينسبونه إلى الجنون : إما لما كان يغشى ؛ لثقل الوحي ، فكانوا ينسبونه لهذا ، وإما لما رأوا أنه خاطر بنفسه وروحه حيث خالف أهل الأرض ، وفيها الجبابرة والفراعنة ، وانتصب لمعاداتهم ، ومن قام بخلاف من لا طاقة له معه وانتصب لمعاداته ، فذلك منه في الشاهد جنون ، فأجاب الله تعالى للفريقين جميعا : أما للأول بقوله : (قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) [سبأ : ٤٦].

أي : كيف تنسبونه إلى الجنون وعند الإفاقة من تلك الغشية يأتيهم بحكمة وموعظة يعجز (٤) حكماء الجن والإنس عن إتيان مثله ، وليس ذلك من علم المجانين ، ولا مما يمكن تحصيله في حال الجنون ؛ لأن المجنون إذا أفاق من غشيته ، تكلم (٥) بكلام لا يعبأ بمثله ، ولا يكترث له.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) زاد في ب : أي.

(٣) بدل ما بين المعقوفين في أ : ربك.

(٤) زاد في ب : عنها.

(٥) في ب : يتكلم.

١٣٥

وأجاب لمن كان نسبه إلى الجنون ؛ لما خاطر بروحه ونفسه بقوله (١) : (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) [سبأ : ٤٦] ، فأخبر أن الذي حمله على المخاطرة بروحه وجسده هو أنه مأمور بالتبليغ والنذارة (٢) ، فهو يقوم بما أمر ، وإن أدى ذلك إلى إتلاف النفس ، ثم ـ بحمد الله تعالى ـ لم يتهيأ للفراعنة أن يقتلوه ولا تمكنوا من المكر به ، بل أظفره الله تعالى عليهم حتى قتلهم ورد كيدهم في نحورهم ؛ فصار الوجه الذي استدلوا به على جنونه آية رسالته ودلالة نبوته ، والله الهادي.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ).

قال الحسن : أي : لا يمن عليك المنة التي تؤذيك ، ولكن يمن عليك منة رحمة وكرامة ، والمن المؤذي كما ذكر ـ عزوجل ـ : (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) [البقرة : ٢٦٤] ، فليس لأحد عليك منة تؤذيك.

وقال بعضهم (٣) : (غَيْرَ مَمْنُونٍ) أي : غير مقطوع ، أي : إن أجرك غير مقدر بالأعمال حتى يجري بقدر الأعمال ، فإذا انقطعت الأعمال انقطع الأجر وانقرض ، بل يتتابع عليك ويدر ، يقال في الكلام : مننت الحبل ، أي (٤) : قطعته.

وقال بعضهم (٥) : (غَيْرَ مَمْنُونٍ) أي : غير محسوب ، أي : لا نحسب عليك النعم ؛ فتفنى بفناء الحساب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ).

خلقه العظيم : هو القرآن ، ومعناه ما أدبه القرآن ؛ وذلك كقوله : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) [الأعراف : ١٩٩] ؛ وكقوله : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) [المؤمنون : ٩٦] ؛ وكقوله : (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الحجر : ٨٨] ، فأخذه بالعفو وأمره بالعرف ، وإعراضه عن الجاهلين ، ودفعه السيئة بالتي هي أحسن ، وخفضه الجناح للمؤمنين ـ من أعظم الخلق. وتخلق بهذا كله بما أدبه القرآن ، والله أعلم.

وقال بعضهم (٦) : الخلق العظيم : هو الإسلام ، والإسلام هو الاستسلام والانقياد لأمر الله تعالى ، وقد استسلم لذلك ، وسلم الناس من لسانه ويده ، ومن كل أنواع الأذى ، وذلك من أعظم الخلق.

__________________

(١) في ب : وقال.

(٢) في ب : والإنذار.

(٣) انظر تفسير ابن جرير (١٢ / ١٧٩)

(٤) في ب : إذا.

(٥) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير عنه (٣٤٥٥٥).

(٦) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير عنه (٣٤٥٥٧).

١٣٦

والأصل أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلف معاملة أعداء الله تعالى (١) ومعاملة أولياء الله وأنصاره ، وكلف أن يرفض الدنيا ويتزهد فيها ، وكلف معاملة الصغير والكبير والعالم والجاهل والجن والإنس ، وكلف معاملة نسائه ، ومن كلف المعاملة مع هؤلاء ، لم يقم بها إلا بخلق عظيم ، ورزقه الله تعالى خلقا عظيما حتى احتمل المعاملة ، وقام معهم بحسن العشرة ، وحتى عوتب على عظيم خلقه بقوله : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) [التوبة : ٤٣] ، وبقوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ) [التحريم : ١] ، وقال : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ) [الكهف : ٦] وقال : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) [فاطر : ٨] ، فالذي حمله على هذه المشقة والكلفة العظيمة حسن خلقه وفضل شفقته ورحمته ، فعظم خلقه أن خلقه جاوز قوى نفسه حتى ضعفت نفسه عن احتماله وكادت تهلك فيه ، وغيره من الخلائق تقصر أخلاقهم عن قوى أنفسهم ، وأنفسهم : تحتمل أضعاف ما هم عليه من الخلق وتضيق أخلاقهم عن ذلك ، فهذا الذي ذكرنا هو النهاية (٢) في العظم ، وبالله التوفيق.

قوله تعالى : (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٧) فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (٨) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٩) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (١٠) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (١١) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (١٣) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (١٤) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٥) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ)(١٦)

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ* بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ).

قال جعفر بن حرب : (الْمَفْتُونُ) في هذا الموضع هو المفتون بضلالته ، المعجب بخطئه المشغوف بجهله (٣).

وقال الحسن : (الْمَفْتُونُ) هو الذي معه الشيطان.

وقيل : (الْمَفْتُونُ) من به الفتنة كما يقال : فلان لا معقول له ، أي : ليس له عقل.

وقيل : (الْمَفْتُونُ) : المعذب ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) [الذاريات : ١٣] أي : يعذبون ؛ فكأنه يقول : ستعلمون أيكم المعذب؟ وأيكم الضال؟ إن حمل على ما ذكر الحسن ، وأيكم المغتر إن كان معناه على ما ذكروا أن المفتون من الفتنة.

__________________

(١) زاد في ب : ومعاملة أعدائه.

(٢) في أ : والنهاية.

(٣) في أ : المعجب بخطابه ، والمفتون بجهله.

١٣٧

وجائز أن يكون نسبوه إلى الاغترار فيما (١) كان يدعي من الرسالة ، ويزعمون أنه مغتر بها ، ويغر بها غيره كما قال المنافقون : (ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) [الأحزاب : ١٢] ، فحق (٢) هذا عندنا ألا يتكلف تفسيره ؛ لأنه قال : (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ. بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) ، فذكر هذا جوابا عما وقعت فيه الخصومة ، فكانوا يزعمون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو المفتون ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يذكر أنهم هم المفتونون ، فخرج هذا جوابا عن تلك الخصومة : أنهم وأنت ستبصرون ، وقد وقعت الخصومات من أوجه :

فمرة كانوا يدعون أنه ساحر ، ومرة [كانوا](٣) يدعون أنه مجنون ، ومرة بأنه ضال ، ومرة أنه مفتر وغيرها من الوجوه ، فإذا ثبت أن الآية نزلت في حق الجواب فما لم يعلم بأن الخصومة فيم (٤) كانت ، لم يعلم إلى ما ذا يصرف الجواب ، والله أعلم.

ويشبه أن تكون الخصومة الواقعة في الضلال والهدى ، فكانوا يدعون أنهم على الهدى ، وأنهم بالله أحق وإليه أقرب من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعي أنهم على (٥) الضلال ، وأنه على دين الحق والهدى ، يدل على ذلك ذكر الضلال والهدى بعد ذكر المفتون ، وهو قوله : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ).

ثم هذه الآيات كأنها نزلت جوابا من الله تعالى عما كان يحق لمثله الجواب [عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم](٦) ولكن الله تعالى لما امتحن رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالعفو والإعراض عن المكافأة في الجواب ، تولى الله تعالى الجواب عنه بقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ) ، [أي : قد تعلمون أن ربكم أعلم](٧)(بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) ، وسنبين لكم ذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) ، وقال في موضع آخر : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) [الإنسان : ٢٤] ، ليس في قوله : (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) أمر من الله تعالى (٨) بأن يطيع المصدقين ؛ لأن من صدقه وآمن به [لا يجوز له](٩) أن يتقدم بين يديه فيأمره أو ينهاه عن

__________________

(١) في ب : فما.

(٢) في ب : وحق.

(٣) سقط في ب.

(٤) في ب : في ما ذا.

(٥) في ب : هم.

(٦) سقط في ب.

(٧) سقط في ب.

(٨) زاد في ب : أمر له.

(٩) في أ : ليجوز.

١٣٨

أمر ، ويدعوه إلى الطاعة ، بل ينظر إلى أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونهيه ؛ فيأتمر بأمره ، ويطيعه فيما يدعوه إليه ، وأما من كذبه ، فقد يدعوه إلى طاعته ؛ فخص (١) ذكر المكذب عند ما نهاه عن طاعته ؛ لأن الدعاء إلى الطاعة لا يوجد من المصدق دون أن يتضمن قوله : (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) أمرا بطاعة المصدق ؛ وهو كقوله ـ تعالى ـ : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) [الإسراء : ٣١] ، فليس فيه أنه إذا لم يخش الإملاق يسعه قتله ، ولكنه خص تلك الحالة ؛ لأن تلك الحالة هي التي كانت تحملهم على القتل ، ولم يكونوا يقدمون على القتل عند الأمن من الإملاق ، وفي هذا دلالة إبطال قول من قال بأن تخصيص الشيء بالذكر يدل على أن الحكم فيما غايره بخلافه ، والله أعلم.

وقوله : (الْمُكَذِّبِينَ) هم المكذبون بآيات الله تعالى أو بوحدانيته أو برسله أو بالبعث.

ثم يجوز أن يكون هذا الأمر منهم في أول الأحوال ؛ فكانوا يطمعون من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الإجابة لهم فيما يدعونه إليه ؛ إذ كانوا يرجون منه الموافقة لهم بما يبذلون له من المال ؛ فيكون النهي راجعا إلى ذلك [الوقت](٢) ، فأما بعد ما ظهرت منه الصلابة في الدين (٣) والتشمير لأمر الله تعالى فلا يحتمل أن يطيعهم أو يخاف منهم ذلك فينهى عنه.

وجائز أن يكون دعاؤهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما ذكر من قوله : (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) والمداهنة هي [الملاطفة والملاينة](٤) في القول.

ثم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يذكر آلهتهم بالسوء ويسفههم بعبادتهم إياها ويسفه أحلامهم ويجهلهم ، وهم لم يكونوا يجدون في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مطعنا ؛ فكانوا ينسبونه إلى الكذب مرة وإلى الجنون ثانيا وإلى السحر ثالثا ، وكانوا يتخذونه هزوا إذا رأوه ، وكانوا يطعنون فيه من هذه الأوجه بإزاء ما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسفههم ويذكر آلهتهم بسوء ، مع علمهم أنه ليس بكذاب ولا ساحر ولا كاهن ؛ ألا ترى إلى قوله ـ تعالى ـ : (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ) [الأنعام : ٣٣] ، فأخبر ـ تعالى ـ أنهم ليسوا يكذبونه لما وقفوا منه على الكذب ، بل قد كانوا عرفوه بالأمانة والصدق ، ولم يكونوا وقفوا منه على كذب قط ، وإنما الذي حملهم على التكذيب واتخاذهم إياه هزوا ذكر آلهتهم بسوء ، وكذلك قال : (وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) [الأنبياء : ٣٦] ، فكانت معاملتهم هذه مجازاة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) في ب : فنخص.

(٢) سقط في ب.

(٣) في أ : اللين.

(٤) في ب : الملاينة والملاطفة.

١٣٩

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ).

يخرج على هذا ـ إن شاء الله تعالى ـ : هو أنك لو تركت ذكر آلهتهم بسوء ، ولم تسفه أحلامهم ؛ لامتنعوا هم أيضا عما هم عليه من نسبتهم إياك إلى الجنون والسحر والكذب وغير ذلك ، ولكنه كان يذكرهم [بما يذكرهم](١) وهو في ذلك محق ، وهم كانوا يذكرونه بما قالوا بالباطل والزور ؛ فيكون قوله : (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) فيما يدعونك إلى المداهنة ، ثم هم لو داهنوا كانوا في مداهنتهم محقين ، فإذا تركوا ذلك فقد تركوا الحق الذي كان عليهم ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو داهنهم ، لم يكن في مداهنتهم محقّا ؛ فلذلك نهي عن المداهنة.

وقال بعض [أهل التفسير](٢) : (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) ، أي : لو ترفض ما أنت عليه من الدين ؛ فيرفضون ما هم عليه من الدين ؛ وهذا لا يستقيم ؛ لأنه إذا رفض ما هو عليه من الدين كفر ، وهم لو تركوا ما هم عليه ، صاروا مسلمين ، [فيبقى بينهم الاختلاف](٣) الذي لأجله دعوا إلى المداهنة وودوها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ).

قيل : إن هذه الآيات نزلت في واحد يشار إليه ، وهو الوليد بن المغيرة المخزومي ، وفيما يشار إلى واحد لا يطلق فيه لفظة «كل» فيقال : (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) ، والحلاف المهين ليس إلا واحدا ، ولكن معناه : ولا تطع هذا ولا كل من يوجد فيه هذه الصفة ، ثم ذكر المرء بقوله : (حَلَّافٍ مَهِينٍ. هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ. مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) يخرج مخرج الهجاء والشتم في الشاهد ؛ لأن ذكر المرء بما هو عليه من ارتكاب الفواحش والمساوى تهجين [له](٤) وشتم ، وجل الله ورسوله [أن يقصدوا إلى شتم إنسان](٥) ، فالآية ليست في تثبيت فواحشه ، وإنما هي في موضع التوبيخ والزجر عن اتباع مثله ، وذلك أنه كان من رؤساء الكفرة ، وممن بسطت عليه الدنيا ؛ فكان القوم يتبعونه وينقادون له فيما يدعوهم إلى الصد عن سبيل الله ، فذكر الله تعالى فيه هذه الأشياء ، وأظهرها للخلق ؛ ليزهدهم عن اتباعه ؛ إذ كل من كانت فيه هذه الأحوال ، لم تسخ نفس عاقل باتباعه ، ولا احتمل طبعه طاعة مثله ؛ فلا يتمكن من صد الناس عن سبيل الله تعالى ،

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : المفسرين.

(٣) في ب : فيبقى الاختلاف بينهم لاختلاف.

(٤) سقط في ب.

(٥) في ب : أن يشتموا إنسانا أو يقصدوا ذلك.

١٤٠