تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٩٥

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالسَّماءِ وَما بَناها) :

قال الزجاج : «ما» بمعنى : «الذي» ، وقد تستعمل في مثله ، كقول العرب : «سبحان ما سبحت له السموات والأرض» ، أي : سبحان الذي سبحت له.

وقال بعضهم (١) : «ما» هاهنا بمعنى «من» ؛ كأنه يقول : والسماء ومن (٢) بناها.

وقال بعضهم (٣) : «ما» هاهنا تجعل الفعل الماضي بمعنى المصدر ، تقول : أعجبني ما صنعت ، أي : أعجبني صنعك ؛ فيكون معناه : والسماء وبنائها.

فإن كان التأويل على الوجهين الأولين ، رجع القسم إلى الله تعالى ، والسماء ، وإلى ما تقدم من الشمس والقمر والنهار والليل.

وإن كان على التأويل الآخر ، رجع القسم إلى ما خلق وهو السماء ، فإن بناء السماء عينها.

وقال أبو بكر الأصم : إن هذه الماءات في قوله : (وَالسَّماءِ وَما بَناها. وَالْأَرْضِ وَما طَحاها. وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها) ، تخرج على التعجب ، على شرط التقديم ، وإن كانت مؤخرة في اللفظ ؛ كأنه يقول [الله](٤) تعالى : وما السماء؟ ثم أجاب : بناها بأن رفع سمكها وسواها ورفعها بغير عمد ترونها ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالْأَرْضِ وَما طَحاها) ، أي : بسطها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها) :

قالوا : تسويتها في أن خلقها باليدين والرجلين والعينين ونحوها ، فإن كان على هذا فالتسوية ترجع إلى الأغلب لا إلى الجملة ؛ إذ ليس لكل نفس هذه الجوارح جملة ؛ فيكون معناه : أنه سوى أكثر النفوس بما ذكر من اليدين والرجلين ، وذلك جائز في الكلام ، وهو كقوله ـ تعالى ـ : (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) [الأنعام : ٩٦] ، (وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) [النبأ : ١١] ، ومعناه : أنه جعله (٥) سكنا ومقرا لأكثر الخلائق لا للجملة ، وجعل النهار لأكثر الخلائق معاشا لا للجملة ، والله أعلم.

وقيل : سوى جوارحها وأطرافها ما لو لم يكن له جارحة من تلك (٦) الجوارح يوصف

__________________

(١) قاله ابن جرير (١٢ / ٦٠١).

(٢) في أ : ما.

(٣) قاله ابن جرير (١٢ / ٦٠١).

(٤) سقط في ب.

(٥) في ب : جعلها.

(٦) في ب : ذلك.

٥٤١

بالنقصان ، وهذا أعم من الأول.

ويحتمل : (سَوَّاها) على ما عليه مصلحتها ، وتملك التقلب والتعيش ، ليس على ما عليه سائر الحيوان.

ويحتمل وجها آخر (١) ، وهو أن يكون قوله : (سَوَّاها) ، أي : جعلها بحيث احتمال الكلفة والمحنة ، كقوله ـ تعالى ـ : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى) [القصص : ١٤] ، وتميز بين القبيح والحسن ، وتعرف عواقب الأمور من الخير والشر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) :

هذا يحتمل أوجها :

أحدها : أي : بين لها فجورها وتقواها وعلمها ، فمن زعم أن المعارف ضرورية خلقة ، يحتج بهذه الآية ، فيقول : أخبر ـ تعالى ـ أنه علمها فجورها وتقواها ، وأنه وضع في نفسه ما يعرف به قبح كل قبيح ، وحسن [كل حسن](٢).

والأصل فيه عندنا : أنه يعرف حسن الأشياء وقبحها جملة ببداية العقول ، ولكن العقول لا تعرف حسن كل شيء على الإشارة إليه ، ولا قبح كل قبيح على الإشارة إليه ؛ وإنما (٣) تعرف ذلك إما بخبر يرد على ألسن الرسل عليهم‌السلام ، أو باستعمال الفكر ؛ ألا ترى أنك تجد النفس من طبعها أنها تألف الملاذ والمنافع ، وتنفر عن المكاره والآلام ، ولكنها لا تعرف معرفة كل منتفع على الإشارة إليه ولا ضرارة أعين الأشياء ؛ وإنما تعرف ذلك بالذوق.

وكذلك العين تدرك الألوان ، لكنها لا تعرف حسنه وقبحه ؛ بل العقل هو الذي يفصل بينهما ، فعلى ذلك قد جعل في طبع العقل قبح القبائح جملة وحسن الحسن ، ولكن لا يفصل بينهما على الإشارة إلى كل في نفسه إلا بما ذكرنا ؛ فيكون قوله : (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) ، أي : جعل في نفسها ما يبين القبيح من الحسن ، والخبيث من الطيب ، ويبين قبح الفجور وحسن التقوى ، ويلزمه المحنة والكلفة بذلك ، ثم يصل إلى معرفة ذلك إما بالرسل ، وإما باستعمال الفكر.

ويحتمل وجها آخر ، وهو أن يلهمها تقواها إذا وفى بما لله تعالى عليه من الاستقامة على الطريقة والمجاهدة ؛ ألا ترى إلى قوله ـ تعالى ـ : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا

__________________

(١) في ب : أوجها أخر.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : قائما.

٥٤٢

لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) [العنكبوت : ٦٩] ، فوعد الهداية بالجهاد ، وقال ـ تعالى ـ : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) [البقرة : ١٨٦] ، ثم كانت الإجابة مضمنة شريطة ، وهي أن يستجيب له الداعي فيما دعاه إليه ؛ ألا ترى إلى قوله ـ تعالى ـ : (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة : ١٨٦] ، وقال ـ تعالى ـ : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) [البقرة : ٤٠] ، وقال : (إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ ..). الآية [المائدة : ١٢] ؛ فثبت أن الذي يلهم التقوى هو الذي يقوم بوفاء ما عليه ، فإذا قام به ألهمه التقوى ، وبين له سبيل الفجور.

وقال أبو بكر الأصم في قوله : (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) ، أي : ألزمها فجورها وتقواها ؛ فتكون تقواها لها ، وفجورها عليها ، لا يؤخذ أحد بفجور أحد ، وفي هذا دليل على أن التقوى إذا ذكر مفردا انصرف إلى الخيرات أجمع ، وإذا قرن به البر والإعطاء ، انصرف إلى الاتقاء عن المحارم ، كقوله ـ تعالى ـ : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى. وَصَدَّقَ ..). [الليل : ٥ ، ٦] ، وإذا قيل : بر ، واتقى ، أريد به : أنه بر بكل ما يحمد عليه ، واتقى عن كل ما يذم عليه فاعله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) :

فموقع ما تقدم من القسم بالشمس والقمر والليل والنهار على هذا ، فقوله (١) : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) في الآخرة (وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) في الآخرة ؛ فيكون هذا منصرفا إلى الجزاء في الآخرة ؛ على ما يذكر في قوله : (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) [الليل : ٤] ؛ فيكون في هذا إيجاب القول بالبعث من الوجه الذي نذكره ، إن شاء الله تعالى.

ثم اختلفوا في تأويل الفلاح :

قال بعضهم : أفلح ، أى (٢) : سعد.

ومنهم من يقول : أي : بقي في الخيرات ، والفلاح : البقاء.

ومنهم من يقول : أفلح ، أي : فاز ، والمفلح في الجملة هو الذي يظفر (٣) بما يأمل ، وينجو عما يحذر ؛ فيدخل في ذلك السعادة والبقاء والفوز.

وقوله ـ عزوجل ـ : (مَنْ زَكَّاها) : جائز أن يكون منصرفا إلى الله تعالى.

وجائز أن ينصرف (٤) إلى العبد ، قال الله ـ تعالى ـ : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى

__________________

(١) في ب : كقوله.

(٢) في ب : قد.

(٣) في ب : ظفر.

(٤) في ب : يصرف.

٥٤٣

مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) [النور : ٢١] ، وقال ـ تعالى ـ : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ ..). [يونس : ٥٨] ، فبين الله ـ تعالى ـ أنه هو الذي تفضل بتزكية من زكا.

وجائز أن يصرف إلى العبد ؛ فيكون قوله : (زَكَّاها) ، أي : صاحبها ، وكذلك قوله : (وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) يحتمل هذين الوجهين ؛ فيكون الله ـ تعالى ـ هو الذي أنشأ فعل الضلال ؛ فيكون الفعل من حيث الإنشاء من الله تعالى ، ومن حيث العمل (١) من العبد.

ثم قوله : (مَنْ دَسَّاها) ، أي : أخفاها ، وإخفاؤها (٢) : أنه صيرها بحيث لا تذكر في المحافل إلا بالذم ، وزكى الأخرى ، أي : أظهرها حتى ينظر إليها الناس بعين التبجيل والتعظيم.

وهكذا شأن المتقي أن يكون مبجلا معظما فيما بين الخلق ، والفاجر يعيش مذموما مهانا فيما بين الخلق.

أو يرجع الإظهار والإخفاء إلى الآخرة : فيجلّ قدر المتقي المزكي ، ويخمل ذكر الفاجر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (دَسَّاها) من «دسّست» ، فأسقط السين ، وأبدل مكانها الياء.

ثم الإضافة في قوله : (دَسَّاها) إلى الله ـ تعالى ـ على خلق ذلك الفعل منه ، وفي قوله : (مَنْ زَكَّاها) على التوفيق.

قوله تعالى : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (١١) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (١٢) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها (١٣) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (١٤) وَلا يَخافُ عُقْباها)(١٥)

وقوله ـ عزوجل ـ : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها) :

ولم يبين لمن كذبوا ، وقد بينه في آية أخرى فقال : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ) [الشعراء : ١٤١].

وقوله ـ عزوجل ـ : (بِطَغْواها) يحتمل وجهين :

أي : لأجل معصيتها وطغيانها ؛ إذ الحامل لهم على التكذيب طغيانهم وتركهم التفكر في أمره ؛ وإلا لو تفكروا فيما جاءهم به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [لم يجدوا](٣) موضع التكذيب.

والثاني : بأهل طغواها ، أي : كذبت ثمود بسبب أهل الطغيان ؛ فيكون في هذه الآية

__________________

(١) في ب : الفعل.

(٢) في ب : وإحصاؤها.

(٣) في ب : لم يكون يجدون.

٥٤٤

إنباء أنهم لم يكذبوا رسولهم بشبهة اعترضت لهم ، أو بحجة كانت لهم ، بل كذبوه (١) عن عناد منهم ، وتيقن منهم برسالته ، وذلك أن حجة نبيهم صالح ـ عليه‌السلام ـ جاوزت الحجج ؛ لأنهم أوتوا الناقة على سؤال سبق منهم ، وعلى تعد منهم في السؤال ؛ إذ كان لهم أن يطالبوه بالحجة على دعوى الرسالة ، ولم يكن لهم أن ينصوا السؤال على شيء يشيرون إليه ، فهم بإشارتهم إلى سؤال الناقة كانوا معتدين فيه.

ثم من حكمة الله ـ تعالى ـ أن الحجة إذا كانت على أثر السؤال ، ثم ظهر التكذيب من السائلين هو الاستئصال في الدنيا ، وقد وجد من أولئك القوم السؤال والتكذيب ؛ فعوقبوا بالاستئصال ، قال الله ـ تعالى ـ : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً) [الإسراء : ٥٩] ؛ فيبين الله ـ تعالى ـ المعنى الذي [لأجله] لم يرسل الآيات التي سألت الكفرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو أنهم لو أوتوا ، ثم عندوا ، استؤصلوا ؛ فقد أراد الله ـ تعالى ـ إبقاء أمته إلى أن تقوم الساعة ، وأرسله رحمة للعالمين ، وجعل حجته من وجه فيها رحمة للعالمين ، وهي القتال ، ووجه الرحمة فيه : أنهم كانوا يمتنعون عن اتباعه ؛ لحب الدنيا وشهواتها ؛ فكان يمنعهم ذلك عن النظر في حججه وآيات رسالته ؛ فكان في الجهاد ما يضيق عليهم المعاش ، ويضطرهم إلى النظر في الحجج ؛ فيحملهم ذلك على تصديقه والإيمان به ؛ فثبت أن في القتال رحمة عليهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها).

أي : قام أشقاها ، وصار أشقاها بما أحدث من الكفر بعقر الناقة.

وروي عن عمار بن ياسر ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلي ـ رضي الله عنه ـ : «ألا أخبرك بأشقى الناس ، رجلين؟» قال : بلى ، يا رسول الله. فقال : «أحيمر ثمود ، عاقر الناقة ، والذي يضرب على هذه ـ وأشار إلى هامته ـ حتى يبتل منها هذه ، وأشار إلى لحيته» (٢) فصار عاقر الناقة أشقى الناس بما ذكرنا.

وجائز أن يكون قاتل علي ، صار أشقى الناس ؛ لأنه استحل قتله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها) :

فهو يحتمل وجهين :

__________________

(١) في أ : يكذبوه.

(٢) أخرجه ابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبغوي ، وأبو نعيم في الدلائل كما في الدر المنثور (٦ / ٦٠٢).

٥٤٥

أحدهما : أي : احذروا ناقة الله ، وهو كقوله : (وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [الأعراف : ٧٣].

والثاني : أي : قال لهم : ذروا ناقة الله تأكل في أرض الله ، وذروا بين الناقة وسقياها ـ أي : شربها ـ ثم أضيفت الناقة إلى الله ـ تعالى ـ لوجهين :

أحدهما : أن الله ـ تعالى ـ لم يأذن لأحد بالتملك عليها ؛ حتى ينسب إليه الملك ، بل بقيت (١) غير مملوكة لأحد ؛ فأضيفت (٢) إلى الله ـ تعالى ـ كما أضيفت إليه المساجد ؛ لما لا ملك لأحد عليها.

أو أضيفت إلى الله ـ تعالى ـ على معنى التفضيل ، والأصل أن إضافة الأشياء إلى الله ـ تعالى ـ بحق الجزئيات على تفضيل تلك الأجزاء من بين غيرها ، وإضافة الأشياء إلى الله ـ تعالى ـ بحق الكليات (٣) ، تخرج مخرج تعظيم (٤) الله تعالى ، فإذا قيل : رب المساجد ، أريد به : تفضيل المساجد من بين سائر البقاع ، وإذا قيل : رب العرش ، أريد به تعظيم العرش ، وكذلك إذا قيل : رب الناقة ، أريد به تعظيم أمرها ، وإذا قيل : رب العالمين ، ورب كل شيء ، أريد به تعظيم الرب ، جل جلاله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها) :

يحتمل أن يكونوا (٥) كذبوا صالحا في رسالته ، أو كذبوه فيما أخبرهم من حلول العذاب بهم إذا عقروا الناقة ، فعقروها مع ذلك.

وقوله ـ تعالى ـ : (فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ) ، قال بعضهم : أي : أطبق عليهم العذاب على الصغير والكبير ، ومنه (٦) يقال : بعير مدموم ؛ إذا كان سمينا أطبق شحمه على لحمه.

وقال بعضهم : دمدم عليهم ، أي : دمر (٧) عليهم بذنبهم ، وذنبهم ما تعدوا من تكذيبهم الرسول ، وعقرهم الناقة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَسَوَّاها) :

يحتمل وجهين :

__________________

(١) في ب : لقيت.

(٢) في ب : فأضيف.

(٣) في ب : الكتاب.

(٤) في ب : التعظيم.

(٥) في ب : يكذبوا.

(٦) في ب : ففيه.

(٧) في ب : دم.

٥٤٦

أحدهما : أنه سواهم بالأرض ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ) [النساء : ٤٢].

أو سوى بين الصغير والكبير في الإهلاك ؛ فالصغار منهم يومئذ ماتوا بآجالهم ، والكبار منهم استؤصلوا بذنوبهم.

وقوله : (وَلا يَخافُ عُقْباها) :

جائز أن تكون الإضافة منصرفة إلى الله تعالى ، وهو أن يكون الله لما أهلكهم لم يخف تبعة الإهلاك.

ووجه الخوف : هو أنه فيما أهلكهم ، أهلكهم بما أوجبت الحكمة إهلاكهم ، ولم يلحقه تقصير في الحكمة ، ولا وجد العائب في ذلك مقالا.

وهكذا قال الحسن : ذاك ربنا ، لم يخف مما أنزل عليهم العذاب (١).

أو يكون منصرفا إلى العاقر ؛ فيكون معناه : أنه عقرها ، ولم يخف العاقبة التي حذرهم بها صالح ـ عليه‌السلام ـ من قوله : (وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [الأعراف : ٧٣].

وقال بعضهم : (وَلا يَخافُ عُقْباها) ، أي : لم يعلم ما يحل به من عقر تلك الناقة ، ولو علم لم يفعل.

ويجوز استعمال الخوف في موضع العلم ؛ لأن الخوف إذا بلغ غايته ، صار علما.

ثم الحكمة في ذكر قصة ثمود وجهان :

أحدهما : أن في ذكرها تثبيت [رسالة محمد صلوات الله عليه ، وهو أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم](٢) لم يوجد منه الاختلاف إلى من عنده علم الأنباء والأخبار ، ولا كان يعرف الكتابة ؛ ليقع له المعرفة بهما ؛ فثبت أنه بالوحي علم.

والثاني : أن في ذكرها تحذيرا لمكذبي الرسل ، فحذروا بها ليمتنعوا عن تكذيبه ؛ فلا يحل بهم كما حل بمكذبي صالح ـ عليه‌السلام ـ من بأسه وعذابه ، والله الهادي.

* * *

__________________

(١) أخرجه عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (٦ / ٦٠٢).

(٢) في ب : رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٥٤٧

سورة (١) «والليل إذا يغشى» مكية

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (١) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (٢) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (٤) فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (١٠) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى)(١١)

قوله ـ عزوجل ـ : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى. وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى) جعل الله ـ تعالى ـ الليل والنهار آيتين عظيمتين ظاهرتين مكررتين على الخلائق ما يعرف [كل](٢) كافر ومؤمن ، وجميع أهل التنازع الذين ينازعون أهل الإيمان والتوحيد من الجبابرة والفراعنة.

والقسم بالليل والنهار ، والقسم بقوله : (وَالضُّحى. وَاللَّيْلِ إِذا سَجى) [الضحى : ١ ، ٢] واحد.

وقد ذكرنا أن القسم إنما يذكر في تأكيد ما يقع به القسم ، ما لو لا القسم كان ذلك يوجب دون القسم ؛ وذلك لعظم ما فيهما ؛ حتى قهرا جميع الفراعنة والجبابرة ، وغلبا (٣) عليهم في إتيانهما وذهابهما ، حتى أن من أراد منهم دفع هذا ومجيء هذا ، ما قدروا عليه.

وفيهما دلالة وحدانية الله ـ تعالى ـ وألوهيته ، وقدرته ، وسلطانه ، وعلمه ، وتدبيره ، وحكمته :

أما دلالة وحدانيته وألوهيته : اتساقهما وجريانهما على حد واحد وسنن واحد مذ كانا وأنشئا من الظلمة والنور ، والزيادة والنقصان ؛ فدل جريانهما على ما ذكرنا أن منشئهما واحد ؛ إذ لو كان فعل عدد ، لكان إذا جاء هذا ، وغلب الآخر ، دامت غلبته عليه ، وكذلك الآخر يكون مغلوبا أبدا ، والآخر غالبا ؛ فإذا لم يكن ذلك ، دل أنه فعل واحد.

ويدل ـ أيضا ـ على أن ليس ذلك عمل النور والظلمة ، على ما تقوله الثنوية.

ودل اتصال منافع أحدهما بمنافع الآخر على [أن](٤) ذلك عمل واحد لا عدد.

ودل اتساق ما ذكرنا ، ودوامهما على حد واحد على الاستواء (٥) أن منشئهما مدبر عليم ، عن تدبير وعلم خرج ذلك لا على الجزاف بلا تدبير.

__________________

(١) في ب : ذكر سورة.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : وعليا.

(٤) سقط في ب.

(٥) في أ : السواء.

٥٤٨

ودل مجيء كل واحد منهما بطرفة عين على أن منشئهما قادر لا يعجزه شيء من بعث ولا غيره.

ودل ما ذكرنا أن فاعل ذلك حكيم ، على حكمة خرج فعله ، لا يحتمل أن يتركهم سدى لا يأمرهم ، ولا ينهاهم ، ولا يمتحنهم بأمور.

وكذلك جعل فيما ذكر من الذكر والأنثى (١) من الدلالات والآيات من الازدواج والتوالد والتناسل وغير ذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) :

قال بعضهم : إن حرف (ما) متى قرن بالفعل الماضي ، صار بمعنى المصدر ؛ كأنه قال : وخلق الذكر والأنثى ؛ فيكون قسما بجميع الخلائق ، إذ لا يخلو شيء من أن يكون ذكرا وأنثى.

وكذلك ذكر في حرف ابن مسعود ـ رضي الله عنه (٢) ـ : والذكر والأنثى ، وكذلك روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قرأ كذلك.

وقال بعضهم (٣) : (ما) هاهنا بمعنى «الذي» ؛ كأنه قال : والذي خلق الذكر والأنثى ؛ فيكون على هذا الوجه القسم بالله تعالى ، وعلى التأويل الأول بالذكر والأنثى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) :

قالوا : على هذا وقع القسم ، فإن قيل : إن كلا يعلم من كافر ومؤمن أن سعيهم لمختلف ؛ فما الحكمة والفائدة من ذكر القسم على ما يعلم كل ذلك؟

فالوجه فيه ـ والله أعلم ـ : [أن](٤) ما يقع لهم بالسعي ، وما يستوجبون به لمختلف في الآخرة ، وهو جزاء السعي ؛ كأنه قال : إن جزاء سعيكم وثوابه لمختلف ، وذلك أنهم كانوا يقولون : إن كانت دار أخرى على ما يقوله محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ فنحن أحق بها من أتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كقوله : (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) [الكهف : ٣٦].

أو يكون قوله : (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) ؛ لأن المعطي في الشاهد ينفع غيره ، ويضر نفسه في الظاهر ، والممسك ينفع نفسه ، ثم المعطي محمود عند الناس ؛ فلو لم يكن عاقبة ينتفع المعطي بما أعطى ، ويضر البخيل المنع ، لكان الناس بما حمدوا هذا وذموا الآخر سفهاء ؛

__________________

(١) في ب : من الأنثى.

(٢) أخرجه ابن جرير (٣٧٤٢٠).

(٣) قاله الحسن أخرجه ابن جرير (٣٧٤٢٨) ، وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٦٠٤).

(٤) سقط في ب.

٥٤٩

فدل أن العاقبة هي التي تصير هذا محمودا.

ولأن الخلق جميعا من مسلم وكافر ، ومحسن ومسيء ، قد استووا في نعم هذه الدنيا ولذاتها مما ذكرنا من ممر الليل والنهار [و] مما يخلق فيها من النبات والثمار والعيون والأشجار ، فإذا وقع الاستواء في هذه الدار ، وبه وردت الأخبار عن النبي المختار أن الناس شركاء في الماء والكلأ والنار ـ لا بد من دار أخرى للأشقياء والأبرار ؛ ليقع بها التفاوت [بين الأبرار](١) والأشرار ، والنافع منهم نفسه والضار ، وإذا ثبت أنهما استويا في منافع الليل والنهار ، وجميع ما في الدنيا من الأنزال وغيرها ، فإذا وقع الاستواء بينهم في الدنيا لا بد من دار أخرى [فيها](٢) يقع التفاوت والتفاضل بينهم ، وفيها يميز بين (٣) ما ذكرنا.

ثم بين أن السعي الذي يقع الجزاء له مختلف ، ما ذكر بقوله : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) ، وهو يخرج على وجوه :

يحتمل (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى) ، أي : أعطى ما أمر به ، واتقى عصيانه (٤) وكفران نعمه ، أو اتقى المنع ، أو من أعطى التوحيد لله ـ تعالى ـ من نفسه ، واتقى الشرك والكفران لنعمه ، وصدق بموعود الله ـ تعالى ـ : (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) : للأعمال والشرائع ؛ إذ نشرح صدره للتوحيد والإسلام ونيسره (٥) عليه.

(وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ) ، ولم يأت بالتوحيد ، (وَاسْتَغْنى) عن الله ـ تعالى ـ بما عنده ، (وَكَذَّبَ) بموعود الله (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) ؛ لما (٦) بعده من الأعمال ، والله أعلم.

والثاني : في حق القبول والعزم على وفاء ذلك بقوله : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى) ، أي : قبل الإعطاء ، وعزم على وفاء ذلك ، (وَاتَّقى) ، أي : عزم [على] اتقاء معاصي الله ـ تعالى ـ ومحارمه.

(وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) ، أي : بموعوده ؛ (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) ، أي : سنيسره لوفاء ما عزم [عليه] ، (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ) ، أي : عزم على البخل والمنع بذلك ، (وَاسْتَغْنى) بالذي له وعنده (٧) ، (وَكَذَّبَ) بموعود الله تعالى (فَسَنُيَسِّرُهُ) لوفاء ما عزم [عليه] من الخلاف لله

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : من.

(٤) في ب : عصيان.

(٥) في ب : وييسر.

(٦) في ب : كما.

(٧) في ب : وعيده.

٥٥٠

تعالى والمعصية له.

وعلى ذلك يخرج ما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سئل عن ذلك ؛ فقال : «كل ميسر لما خلق له» ، أو قال : «كل ميسر لما عمل».

والثالث : يخرج على حقيقة إعطاء ما وجب من الحق في المال وحقيقة المنع ؛ يقول : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى) ما وجب (١) من حق الله ـ تعالى ـ في ماله ، (وَاتَّقى) نقمة الله ومقته وعذابه ، (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) ، أي : بموعود الله تعالى ، (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) في الخيرات والطاعات. (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ) ، أي : منع حق الله ـ تعالى ـ الذي في ماله ، (وَكَذَّبَ) بالذي وعد على ذلك ، (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) في الإفضاء إلى ما وعد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى) :

قيل (٢) : إذا هلك ومات ، أو تردى في النار.

وفي ظاهر قوله ـ تعالى ـ : (وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ) دلالة على أن الآية في حقيقة الإعطاء من المال والمنع.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) ، قال بعضهم (٣) : بالجنة.

وقيل (٤) : بشهادة (٥) : أن لا إله إلا الله.

وقيل (٦) : بالخلف على ما أنفق.

وجائز أن تكون «اليسرى» اسم للجنة وكذلك «الحسنى». و «العسرى» و «السوأى» : النار.

ويحتمل أن تكون «اليسرى» اسما لكل ما طاب وحسن من العمل ، و «العسرى» : ما خبث ، وقبح من العمل.

ومنهم من قال : إن الآية نزلت في أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ لأنه اشترى

__________________

(١) في ب : أوجب.

(٢) قاله مجاهد وقتادة أخرجه ابن جرير عنهما (٣٧٤٨١ ، ٣٧٤٨٢).

(٣) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير (٣٧٤٥١ ، ٣٧٤٥٣) ، والفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٦٠٥).

(٤) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير عنه (٣٧٤٥٠) وهو قول أبي عبد الرحمن السلمي ، والضحاك أيضا.

(٥) في ب : شهادة.

(٦) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٣٧٤٣٦ ، ٣٧٤٤٠) ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الشعب من طرق عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٦٠٥) وهو قول عكرمة ، ومجاهد أيضا.

٥٥١

بلالا من أمية بن خلف وأبي بن خلف ببردة وعشر أواق (١) ، فأعتقه لله ـ تعالى ـ فأنزل الله تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى ..). إلى قوله : (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) ، يعني : سعي أبي بكر وأمية وأبي (٢).

وذكر إلى آخر السورة : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) : أبو بكر ، رضي الله عنه ، (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى. وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) : أمية بن خلف ، وأبي بن خلف ؛ يرويه عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه (٣).

قوله تعالى : (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (١٢) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (١٣) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (١٤) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (١٨) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (١٩) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (٢٠) وَلَسَوْفَ يَرْضى)(٢١)

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) :

هذا يخرج على وجوه :

أحدها : جائز أن يكون قوله : (عَلَيْنا) ، أي : لنا ، وذلك جائز في اللغة جار ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) [المائدة : ٣] ، أي : للنصب ، وكقوله ـ تعالى ـ : (وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) [الرعد : ٤٠] ، و (عَلَيْنا حِسابَهُمْ) [الغاشية : ٢٦] ، أي : لنا محاسبتهم ، وقوله ـ تعالى ـ : (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) [النحل : ٩] ، أي : لله قصد السبيل ، وكقوله ـ تعالى ـ : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ) [الأنعام : ٣٠] ، أي : لربهم ، كما قال : (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) [المطففين : ٦] ، ونحو ذلك كثير أن يكون «علينا» بمعنى «لنا» ؛ فيصير كأنه قال : إن (٤) لنا للهدى ؛ كقوله : (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) [الزمر : ٣] ، وكقوله : (وَلَهُ الدِّينُ واصِباً) [النحل : ٥٢] ، يكون فيه إخبار أن الهدى له والدين الخالص له ، وأما سائر الأديان ـ فلما هي سبل الشيطان ـ ليست لله تعالى.

على هذا جائز أن يخرج تأويل الآية ، والوجهان الآخران يخرجان على حقيقة «على» ، لكن أحدهما يخرج ذكر الهدى على إرادة البيان وتبيين الطريق ، والآخر على إرادة حقيقة

__________________

(١) في ب : أوقى.

(٢) أخرجه ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن عساكر من حديث ابن مسعود كما في الدر المنثور (٦ / ٦٠٥).

(٣) تقدم.

(٤) في ب : أي.

٥٥٢

الهدى ، الذي هو ضد الكفر ومقابله.

فأما على إرادة البيان ؛ فكأنه قال : إن علينا غاية البيان في حق الحكمة والعدل فيما يمتحنون ، حتى إن كان التقصير والتفريط فإنما يكون من قبل أنفسهم ، لا من قبل الله تعالى ، أي : يبين لهم كل شيء غاية البيان ونهايته ؛ لتزول الشبهة عنهم ، والله أعلم.

ويحتمل وجها آخر ، وهو أن يقول : إن علينا هداية من استهدانا (١) واجتهد في طلبها ؛ كقوله : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) [العنكبوت : ٦٩].

ووجه آخر : إن علينا إنجاز ما وعدنا على الهدى لمن اهتدى واختاره يخرج تأويل الآية على إرادة البيان من الوجوه التي ذكرنا.

وأما على إرادة حقيقة الهدى الذي هو مقابل الكفر ؛ فكأنه قال : إن علينا التوفيق والمعونة والعصمة في حق الإحسان والإفضال ، لا على أن ذلك عليه لهم.

وفي حرف ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : «إن علينا بيان ما للآخرة والأولى ؛ كيلا يزول عن قصد الطريق ؛ فيهلك نفسه في كل مضيق».

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى) :

فهو يخرج على وجهين :

أحدهما : يقول ـ والله أعلم : إنكم تعلمون أن لنا الآخرة والأولى ، وليس لما تعبدون من الأصنام والأوثان [لا آخرة ولا أولى](٢) ، فكيف صرفتم عبادتكم عمن له الآخرة والأولى إلى من ليس له [الآخرة والأولى](٣) ، على علم منكم بذلك؟ يسفههم في اختيارهم عبادة الأصنام على عبادة الله تعالى.

والثاني : يقول ـ والله أعلم ـ : إن لنا الآخرة والأولى ؛ فما بالكم تبخلون بالإنفاق على أنفسكم ، وما يرجع منفعته إليكم ، بما ليس لكم في الحقيقة ، وإنما هو لله تعالى؟! وهذا التأويل صلة قوله ـ تعالى ـ : (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى ..). الآية [الليل : ٨] ، والأول يكون صلة قوله : (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى).

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى) ، أي : نارا تتوقد ، وتتلهب ، أو تتشعب (٤) ، على ما ذكر من صفتها.

ثم ذلك الإنذار يكون للفريقين : لأهل التوحيد ، ولأهل الشرك جميعا ، والله أعلم.

__________________

(١) في أ : استمر.

(٢) في أ : الآخرة والأولى.

(٣) في ب : ذلك.

(٤) في ب : تنبعث.

٥٥٣

وقوله ـ عزوجل ـ : (لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى. الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى).

قالت المعتزلة : هذا ليس على حقيقة التكذيب ؛ ولكن على التقصير والتفريط في أمر الله تعالى ، والوقوع في مناهيه (١) ؛ فيصرفون الآية إلى أصحاب الكبائر بارتكابهم (٢) الكبيرة يصيرون مكذبين ومتولين ؛ لأنهم في ابتداء اعتقادهم التوحيد والإيمان اعتقدوا وفاء كل ما وقع به الأمر ، ووفاء كل ما يليق به ، والانتهاء عن جميع ما لا يليق به ، فإذا ترك ذلك صار مكذبا لما اعتقد في الأصل وفاء ذلك.

لكن عندنا لا يصير بترك الوفاء مكذبا ؛ لكن يصير مخالفا لما وعد واعتقد.

واستدلت المرجئة الذين لا يرون العذاب إلا لأهل الشرك والكفر بهذه الآية يقولون : إنه لا يصلاها إلا الذي كذب وتولى ، والمسلم وإن ارتكب الكبيرة أو الصغيرة فهو ليس بمكذب ولا متولّ.

ولكن تأويل الآية (٣) عندنا في الكفرة ، ليست في أهل التوحيد والإيمان.

ثم يحتمل قوله : (لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى. الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) في باب ودرك دون درك وباب ، فإن لكل فريق دركا ، قال الله ـ تعالى ـ : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) [النساء : ١٤٥] ، وهذا كما قال : (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) [الغاشية : ٦] ، وقال في آية أخرى : (إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) [الحاقة : ٣٦] ؛ فيكون الضريع الذي ذكر في باب ودرك منها ، والغسلين في باب آخر ، فجائز على هذا ألا يصلى ذلك الدرك إلا الأشقى. فأما يجوز أن يكون لصاحب الكبيرة درك خاص.

وأما ما ذكروا أن أصحاب الكبائر قد أوعدوا وخوفوا بمواعيد شديدة ، فلسنا ننكر المواعيد لهم ، وأنهم يعذبون ، ولكن نقول : لا يكونون في الدركات التي فيها الكفار إن أدخلوا في النار.

وجائز ـ أيضا ـ أن يعذبوا بعذاب سوى العذاب الذي ذكر بالنار والتلظي.

وعندنا : هم في مشيئة الله ـ تعالى ـ إن شاء عذبهم وإن شاء تجاوز عنهم ، وخلى عنهم سبيلهم ، وأما النار التي ذكر بصفة التلظي فهي للكفار (٤) ، والله الموفق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى. الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى) :

__________________

(١) في أ : مذهبه.

(٢) في ب : بإنكارهم.

(٣) في ب : لأنه.

(٤) في ب : الكفار.

٥٥٤

أخبر أنه يجنب النار عن الأتقى ويقيه عنها.

ثم فيه دلالة أنه إنما يجنبها ويقيها بالأعمال التي يعملها ؛ فدل أن لله ـ تعالى ـ في أفعالهم صنعا (١) ، حيث أضاف الوقاية إليه والتجنب عنها ، وهو كقوله : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ) [البقرة : ٢٠١].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى. إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى).

أي : ما لأحد عند الله تعالى من نعمة يجزى بها ولا بد [أن] يستحق الثواب بها ، لكن إذا أدى نعمة من نعم الله ـ تعالى ـ التي أعطاها إياه لغيره ؛ ابتغاء وجهه ، وطلب رضاه ـ يجزيه بفضله ؛ كأنه كانت له عنده نعمة يجزى بها.

والثاني : يحتمل أن هذا صلة قوله : (يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى) ، أي : يتصدق ويتزكى ؛ لابتغاء وجه الله ـ تعالى ـ على من ليس عنده نعمة ويد يجازيه بها وينفق عليه جزاء لصنيع قد سبق منه في حقه ؛ كأنه يقول : لا يعطي الزكاة أحدا عن مجازاة [لما] سبق منه إليه من نعمة ؛ إنما أعطاها له لا مجازاة ، ولكن لله تعالى خالصا.

وفيه دليل ألا يعطي الرجل زكاة ماله من عنده له نعمة أو منة ؛ لأنه (٢) يخرج ذلك مخرج الإعطاء ببدل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَسَوْفَ يَرْضى) ، أي : يرضى بالذي يجزى به ، ويساق إليه من الثواب. وحرف ال «سوف» وال «عسى» من الله تعالى واجب ؛ كأنه يقول : يعطيه حتى يرضى.

وقال بعضهم : نزلت هذه الآية ـ وهي قوله عزوجل : (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى) ـ في أبي بكر الصديق ، رضي الله عنه (٣).

وقال بعضهم : هذه الآية نزلت في أبي الدحداح ـ رضي الله عنه ـ طلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم منه نخلة ـ إلى آخر القصة.

وقال بعض أهل الأدب : تردى في النار ، أي : سقط ، ويقال : تردى : تفعل ، من الردى ، وهو الهلاك ، [و] (إِذا تَجَلَّى) [الليل : ٢] : إذا بدا ، واليسرى من التيسير ، والعسرى من التعسير ، والله أعلم.

__________________

(١) في ب : صنيعا.

(٢) في ب : لا.

(٣) أخرجه البزار ، وابن جرير (٣٧٤٩٠) ، وابن المنذر ، والطبراني ، وابن عدي ، وابن مردويه ، وابن عساكر عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه كما في الدر المنثور (٦ / ٦٠٧).

٥٥٥

[سورة الضحى ، هي مدنية](١)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (وَالضُّحى (١) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (٢) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (٣) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (٤) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (٥) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (٦) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (٧) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (٨) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (٩) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (١٠) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)(١١)

قوله ـ عزوجل ـ : (وَالضُّحى. وَاللَّيْلِ إِذا سَجى).

قال بعضهم : الضحى : هو ضوء النهار ، كقوله : (وَضُحاها) [الشمس : ١] ، أي : ضوؤها.

وقال بعضهم (٢) : هو ساعة من النهار ، وهي [من](٣) أول النهار ، ويقال : صلاة الضحى ، وهي عند ضحوة النهار.

ومنهم من يقول : هو كناية عن الحر ؛ كقوله : (أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى) [طه : ١١٨] إلى قوله : (وَلا تَضْحى) [طه : ١١٩] ، أي : لا يصيبك الحر ، والله أعلم.

ومنهم من يقول (٤) : هو كناية عن النهار كله ، أقسم به ، وبالليل الذي ذكر.

فإن كان المراد من الضحى هو ضوء النهار ، ومن (وَاللَّيْلِ إِذا سَجى) : ظلمته ؛ فيخرج القسم به على أن ظلمة الليل تستر الخلائق كلهم في طرفة عين ، وكذلك ضوء النهار يكشف الستر ، ويجلي بطرفة عين جميع الخلائق ، من غير أن يعلم أحد ثقل ذلك الستر أو خفة ذلك الضوء ، فأقسم بذلك لعظيم ما فيهما من الآية.

وإن كان المراد منه نفس الليل والنهار ؛ فالقسم بهما لما جعل فيهما من المنافع الكثيرة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِذا سَجى) اختلف فيه :

قال بعضهم (٥) : إذا استوى.

__________________

(١) في ب : ذكر أن سورة (وَالضُّحى) مكية.

(٢) قاله قتادة : أخرجه ابن جرير (٣٧٤٩٢) ، وعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٦٠٩).

(٣) سقط في ب.

(٤) في ب : قال.

(٥) قاله مجاهد : أخرجه الفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن جرير (٣٧٤٩٦ ، ٣٧٤٩٧) ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٦٠٩).

٥٥٦

وقال بعضهم (١) : إذا سكن وركد.

وقال بعضهم (٢) : (إِذا سَجى) : إذا غشي وأظلم ، وغطى كل شيء وستر ، وهو من التسجي والتستر (٣) ؛ يقال (٤) : تسجى قبر المرأة ؛ إذا تستر (٥) وتغطى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) على هذا وقع القسم ، ثم اختلف في السبب الذي [لأجله] نزل هذا :

قال بعضهم : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان سئل عن شيء إذ طلبوا منه شيئا ، فقال : أفعل ذلك غدا ، أو أجيبكم (٦) عنه غدا ، ولم يستثن ؛ فاحتبس عنه الوحى أياما لذلك ؛ فقال المشركون : ودعه ربه وقلاه ، أي : تركه وأبغضه.

ومنهم من قال (٧) : إنه أبطأ عليه الوحى ، فجزع جزعا شديدا ، فقالت له خديجة ـ رضي الله عنها ـ : «إني لأرى قلاك ربك وودعك» ؛ مما ترى من جزعه ؛ فنزل قوله : (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى).

ولسنا ندري كيف كان الأمر؟ فإن كان نزل ذلك لقول قريش ، فالقسم يحتمل كذلك ؛ ردا لقولهم.

والقول الثاني : أنه نزل لقول خديجة ـ رضي الله عنها ـ فهو غير محتمل ؛ لأن خديجة تعلم أن الله ـ تعالى ـ لم يودعه ولا قلاه ، وكذا كل مؤمن معتقد أن الله ـ تعالى ـ لا يودع أحدا من رسله.

ولأنها تصدق الرسول ـ عليه‌السلام ـ أنه لم يودعه ولا قلاه إذا أخبرها بغير قسم ؛ فلا معنى للقسم ؛ فدل أن هذا الوجه غير محتمل.

ثم صرف تأويل الآية إلى غير ما قالوا أشبه عندنا وأقرب مما قالوا ، وهو أنه ـ عليه‌السلام ـ بعث إلى الفراعنة والجبابرة الذين كانت همتهم قتل من خالفهم ، وإهلاك من

__________________

(١) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٣٧٤٩٨) ، وعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٦٠٩).

(٢) قاله سعيد بن جبير بنحوه أخرجه عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٦٠٩).

(٣) في أ : الستر.

(٤) في ب : فقال.

(٥) في أ : ستر.

(٦) في أ : أخبركم.

(٧) من طريق عروة أخرجه ابن جرير (٣٧٥١٢) والحاكم ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل كما في الدر المنثور (٦ / ٦٠٩).

٥٥٧

استقبلهم بالخلاف ، ولم يكن معه فضل مال وسعة يستميل به قلوب الناس ؛ فيقول أولئك الكفرة : إن ربه قد خذله وتركه وقلاه ، حيث بعثه إلى من ذكرنا من الفراعنة والجبابرة الذين كانت همتهم القتل وعادتهم إهلاك من خالفهم بلا أنصار ولا أعوان من الملائكة ، ولا مال وسعة (١) يستميل به القلوب والأنفس ؛ لأن من سلم إنسانا إلى أعدائه الذين يعلم أنهم أعداؤه ، ويخلي بينه وبين الأعداء بلا أنصار وأعوان ولا مال وسعة من الدنيا ـ يقال : إنه قد خذله وتركه وقلاه ؛ إذ لا يفعل ذلك في الأصل إلا لذلك ؛ فعند ذلك قالوا : إنه ودعه وقلاه ، وهو ما قالوا : (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً. أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها) [الفرقان : ٧ ، ٨] ، وقولهم : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١] ، ونحو ذلك مما قالوا ، فلو لا صرف أهل التأويل تأويل الآية إلى ما ذكروا ، وإلا صرفه إلى ما ذكرنا أشبه.

وفي قولهم : «قد ودعه [ربه]» (٢) دلالة أنهم قد عرفوا أنه رسول [الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم](٣) وأقروا بذلك حتى قالوا ؛ فنزل قوله : (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ).

والثاني : أنه لو كان يخترع على ما كانوا يقولون أولئك ، لكان لا يحتبس عن الاختراع ، ويكون يخترع أبدا ؛ حتى لا يقولوا : «إنه ودعه» ؛ فدل ظهور احتباس الوحي :

أنه عن أمر يخبر ، وأنه مأمور بذلك ، ثم أخبر أنه لم يبعث إلى هؤلاء الفراعنة والجبابرة لما ذكر أولئك الكفرة أنه خذله وتركه وقلاه ، ولكن بعثه وهو ينصره ويعينه على تبليغ ما أمر بتبليغه إلى من أمر بتبليغه ، ولم يقله ، ولكنه اصطفاه واختاره ؛ حتى يعلو أمره ، ويكثر ذكره ، وفي ذلك آية (٤) عظيمة على إثبات الرسالة ، وهو ما ذكرنا أنه بعث إلى من همتهم القتل والإهلاك لمن خالفهم ، فقهرهم جميعا ، وغلب على الكل حتى أظهر الإسلام فيمن قرب منه ومن بعد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) :

يقول : مع ما أعطيت في الدنيا من الشرف والذكر والغلبة على الفراعنة ، فالآخرة خير لك من الأولى ؛ يرغبه في الآخرة ، ويزهده في الدنيا.

أو يقول : إن أولى لك أن يكون سعيك للآخرة ؛ فهو خير لك من الأولى ، وهو

__________________

(١) زاد في ب : أن.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في ب.

(٤) في ب : لأنه.

٥٥٨

كقوله ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) [الانشقاق : ٦].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى).

أي : لتعطى في الآخرة ما ترضى من الكرامة والشرف.

وقال بعضهم (١) : أي : ولسوف يعطيك ربك فترضى في الدنيا من الذكر والشرف والمنزلة والغلبة على الأعداء.

ويحتمل : يعطيك في أمتك ما ترجو وتأمل من الشفاعة لهم وترضى.

ويقول بعض الناس (٢) : إن أرجى آية هذه ؛ حيث وعد له أنه يعطيه ما يرضى ، ولا يرضى أن يكون أمته في النار.

ومنهم من قال : أرجى آية (٣) قوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) [النساء : ١١٠] ، وهو قول ابن مسعود ، رضي الله عنه.

وعندنا أرجى الآيات هي التي أمر الله ـ تعالى ـ رسله بالاستغفار للمؤمنين ، وكذلك ما أمر الملائكة بالاستغفار لهم ؛ فاستغفروا لهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى) الآية :

ما ذكر من الأحوال التي ذكر فيه من قوله : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى. وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى. وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى) الآية ، وقوله تعالى : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) [العنكبوت : ٤٨] ، ونحو ذلك من الأحوال التي ذكر فيه [وهي] في الظاهر أحوال تذكر للشين فيمن تقال فيه ، لكن في ذكر ما ذكر فيه من الأحوال : ذكر بشارة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنصر له والعون ؛ وآية له على رسالته ونبوته ؛ لأن نفاذ القول وغلبة الأمر مع الأحوال التي ذكر ـ أعظم في الأعجوبة من نفاذه في حال السعة (٤) وحال قوة الأسباب وتأكيدها.

أو (٥) أن يكون قوله : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى. وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى. وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى. فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) ، ونحوه ؛ لأن أولئك الكفرة كانوا ينسبونه إلى الافتراء

__________________

(١) في ب : بعض الناس.

(٢) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٣٧٥١٦) ، والبيهقي في الشعب ، والخطيب في تلخيص المتشابه من طرق عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٦١٠).

(٣) في ب : الآية.

(٤) في أ : الأحوال التسعة.

(٥) في ب : و.

٥٥٩

والاختراع من ذات نفسه ، فأخبر أن اليتيم والفقير ليس يبلغ في العلم والمعرفة المبلغ الذي يقدر على الاختراع وإنشاء الشيء من نفسه على وجه يعجز عن مثله جميع الخلق ؛ لما لا يجد ما ينفق في ذلك ، ويتحمل من المؤن حتى يبلغ مبلغ الاختراع ، وكذلك ما ذكر حيث قال : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ..). الآية [العنكبوت : ٤٨] ؛ لأنهم قالوا : (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) [النحل : ١٠٣] ، والبشر إنما يتعلمون بالكتابة والخط ، فإذا لم يكن لرسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ شيء من ذلك ؛ دلّ أنه بالله ـ تعالى ـ عرف وحده.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى) ، أي : وجدك يتيما فآواك.

ثم يحتمل قوله : (فَآوى) وجوها :

أحدها : وجدك يتيما فآواك إلى [عمك حتى رباك](١) ودفع عنك كل أذى وآفة ، وساق إليك كل خير وبر ، إلى أن بلغت المبلغ الذي بلغت.

والثاني : يقول : قد وجدك يتيما فآواك إلى عدو من أعدائك حتى تولى تربيتك وبرك ، وعطف عليك ، وتولى عنك دفع المكروه والأذى ، يذكر منته وعظيم نعمه عليه أنه كان ما ذكر ، ثم صير عدوا من أعدائه أشفق الناس عليه وأعطف ، والله أعلم.

والثالث : قد وجدك يتيما فآواك إلى نفسه ، وعطف عليك حتى اختصك واصطفاك للرسالة والنبوة ؛ حتى صرت مذكورا في الدنيا والآخرة ، وحتى أحوج جميع الناس إليك ، وليس ذلك من أمر اليتيم أنه يبلغ شأنه وأمره إلى ما بلغ من أمرك وشأنك حتى صرت مخصوصا من بين الناس جميعا ، فيما ذكرنا من اختصاصه إياك بالرسالة ، وأحوج جميع الناس إليك ؛ يذكر عظيم مننه ونعمه عليه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) هذا يخرج على وجوه :

أحدها : يقول ـ والله أعلم ـ : لو لا أن الله تعالى هداك لدينه ، ووفقك له ، وإلا وجدك ضالا ؛ إذ كان نشوؤه بين قوم ضلال ، لم يكن أحد يهديه ويدعوه إلى الله تعالى ، ولكنه هداك وأرشدك ، فلم يجدك ضالا ، وهو كقوله ـ تعالى ـ : (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها ..). [آل عمران : ١٠٣] ، أي : لو لا أنه أنقذكم منها ، وإلا صرتم على شفا حفرة من النار لو لم ينقذكم منها ، وكقوله : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) [الإسراء : ٧٤] ؛ لأن البشر أنشئ وطبع على الركون والميل إلى النعم العاجلة ،

__________________

(١) في ب : ملك حتى رآك.

٥٦٠