تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٩٥

التي تذكر في قوله ـ عزوجل ـ : (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) [الأعلى : ٣].

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) :

أي : أنعم به من قادر ؛ فيخرج مخرج ذكر الآلاء والنعم ، أي : إن الذي فعل بكم هذا هو الله ـ تعالى ـ لم يقدر أحد أن يفعل بكم هذا الفعل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً. أَحْياءً وَأَمْواتاً) :

جائز أن يكون هذا صلة قوله : (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ. فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ) و (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً. أَحْياءً وَأَمْواتاً).

فيكون في ذكر هذا كله تذكير للآلاء والنعم ، وتذكير القدرة والسلطان والحكمة.

فوجه تذكير (١) النعم : أن الله ـ تعالى ـ في أول ما أنشأه ، أنشأه نطفة قذرة ، وجعل لها مكانا يغيب عن أبصار الخلق ، ولم يفوض تدبيرها إلى البشر ، وكذلك في الوقت الذي أنشأه علقة ومضغة ، لم يفوض تدبيره إلى أحد من خلائقه ؛ لأنه في ذلك الوقت بحيث يستعاف ويستقذر ، ولا يدفع عنه المعنى الذي به وقعت الاستعافة والاستقذار بالتطهير ؛ فجعل له قرارا مكينا يستتر به عن أبصار الخلائق ، ثم لما أنشأه نسمة ، وسوى خلقه أخرجه من بطن أمه وألقى في قلب أبويه الرقة والعطف ؛ ليقوموا بتربيته وإمساكه إلى أن يبلغ مبلغا يقوم بتدبير نفسه ومصالحه (٢) ، ثم جعل له بعد مماته أرضا تكفته وتضمه إلى نفسها ؛ فيستتر بها عن أبصار الناظرين ؛ إذ رجع بعد موته إلى حالة تستعاف وتستقذر ولا تقبل التطهير ؛ فكان في ذكره أول أحواله إلى ما ينتهي إليه تذكير النعم ؛ ليصل إلى أداء شكره.

أو جعل الرحم قرارا له في وقت كونه نطفة وعلقة ومضغة ؛ لما لا يعرف الخلائق أنه بم يغذى حتى ينمو ويزيد؟ فرفع عنهم مئونة التربية في ذلك الوقت ، ثم إذا صار بحيث يعرف وجه غذائه ، وعرف الخلق المعنى الذي يعمل في دفع حاجته ، أخرجه من بطن الأم ، وفوض تدبيره إلى أبويه ؛ فهذا وجه تذكير النعم ، وفي ذكره ذكر القوة والسلطان والحكمة ، وهو أن الله تعالى جعل النطفة التي أنشأ منها النسمة ، بحيث تصلح أن ينشأ منها علقة ومضغة ، ولو أراد الخلائق (٣) أن يعرفوا المعنى الذي له صلحت النطفة بأن ينشأ منها العلقة والمضغة والعظام واللحم ، ثم يكون منها نسمة سوية ـ لم يصلوا إلى معرفته ،

__________________

(١) في أ : التذكير.

(٢) في ب : مصالحها.

(٣) في أ : الخلق.

٣٨١

وإذا تفكروا في هذا علموا أن حكمته ليست على ما ينتهي إليه علم البشر ولا قوته تقتصر على الحد الذي تنتهي إليه قوى البشر ، والذي كان يحملهم على إنكار البعث بعد الإماتة تقديرهم الأمور على قوى أنفسهم وتسويتها بعقولهم ، فإذا تدبروا في ابتداء أحوالهم ورأوا من لطائف التدبير وعجائب الحكمة ، علموا أن الأمر ليس كما قالوا وقدروا ؛ فيدعوهم ذلك إلى التصديق بكل ما يأتي به الرسل وتخبرهم من أمر البعث وغيره.

وجائز أن يكون ذكرهم ابتداء أحوالهم ونشوؤهم ، وإلى ما يصيرون إليه ؛ ليدعوا التكبر على دين الله تعالى وينقادوا له بالإجابة ، ولا يستكبروا على أحد من خلائقه ؛ لأنهم في ابتداء أحوالهم كانوا نطفة يستقذرها الخلائق ، ثم علقة ومضغة ، ويصيرون في منتهى الأمر جيفة قذرة ؛ ومن كان هذا وصفه فأنى يليق به التكبر على أحد؟!

ثم قوله ـ عزوجل ـ : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً) : تكفتهم ، أي : تضمهم وتجمعهم في حياتهم (١) وبعد مماتهم ، فالانضمام إليها [في](٢) حال حياتهم ما جعل لهم من المساكن فيها والبيوت ، وجعل لهم بعد مماتهم مقابر يدفنون فيها ، أو جعل متقلبهم ومثواهم في ظهورها في حياتهم ، وجعل بطنها مأوى لهم بعد وفاتهم ، وجعل ظهرها بساطا لهم ؛ ليسلكوا فيها سبلا فجاجا ؛ وقدر لهم فيها أقواتهم ، فذكرهم وجوه النعم في خلقه الأرض ؛ ليستأدي منهم الشكر ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ) :

الرواسي هي الجبال الثابتات في الأرض أثبتها (٣) في الأرض ؛ لتقر بها ، ولا تميد بأهلها ؛ إذ لو مادت لم يصل أهلها إلى ما قدر لهم من المنافع ، فذكرهم بذكره (٤) الجبال الرواسي عظيم نعمه عليهم ؛ ليستأدي منهم الشكر.

والشامخات : هي الطوال.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) :

ولو لا إنزاله عليكم لم تكونوا تصلون إليه بقواكم وحيلكم ، ثم أنزله من السماء إلى الأرض ، ولم يخرج من حد العذوبة ، ولا حل به التغير بما مسته الأرض ، واختلطت به ، وهذا منصرف إلى الشرب خاصة ، ثم لغير العذب من المنافع ما للعذب إلا الشرب خاصة.

__________________

(١) في أ : حسابهم.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : ثبتها.

(٤) في ب : تذكرة.

٣٨٢

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ) :

وهم قوم نوح ـ عليه‌السلام ـ وقوم عاد وثمود.

(ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ) :

قوم فرعون اللعين وقوم لوط ـ عليه‌السلام ـ وغيرهم.

(كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) :

قيل : مجرمي هذه الأمة.

ثم اختلف في وقت فعله :

فمنهم من يقول بأن هذا الإهلاك في الآخرة ، لقوله ـ عزوجل ـ : (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) [القمر : ٤٦].

ومنهم من ذكر أنه فعل بهم يوم بدر.

ومنهم من ذكر أن فعله بمجرمى أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «نصرت بالرعب مسيرة شهرين» (١) ، ألقى الله تعالى في قلوبهم الرعب ؛ حتى تركوا الانتداب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه للمحاربة ، مع كثرة شوكتهم ، وقلة أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فهذا فعله بالمجرمين ، وفي إلقاءه الرعب ألطف آيات رسالته ، وأبين حجة عليها إذ كان فيه ما ينبههم أن الذي أقعدهم عن القتال ، وقذف في قلوبهم الرعب أمر سماوي لا غير ، والله أعلم.

قوله تعالى : (انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٩) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (٣٠) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ (٣١) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (٣٢) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (٣٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٤) هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٧) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (٣٨) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (٣٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ)(٤٠)

وقوله ـ عزوجل ـ : (انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) ، معناه ـ والله أعلم ـ : إلى ما كنتم به تكذبون من عذاب الله تعالى ، وهم كانوا يكذبون بالبعث وبالعذاب ، لكن يقال لهم هذا بعد البعث ؛ فهو منصرف إلى ما ذكرنا من العذاب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ) :

ذكر أن ذلك الظل دخان يخرج من جهنم ؛ فيظنون أنه ظل ؛ فينطلقون إليه ؛ رجاء أن ينتفعوا به.

__________________

(١) تقدم.

٣٨٣

وقوله ـ عزوجل ـ : (ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ) يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون أصله واحدا ، ثم يتشعب منه شعب ثلاث :

وجائز أن يكون في الأصل ذا شعب ثلاث تأتي كل شعبة من ناحية ، ثم تجتمع ، فتصير شيئا واحدا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ) :

أي : لا ينتفعون به ما ينتفع بالظل في الدنيا ؛ لأن ظل الدنيا يهرب إليه لدفع الحر ، أو ليسكن فيه ؛ لأن ظل البيت مما يسكن فيه ، وظل الشجر والحيطان ؛ ليأووا (١) إليه ؛ للتروح ، وذلك الظل لا يغني عنهم في الآخرة في دفع الحرارة ولا في غيرها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ) :

جائز أن يكونوا هربوا إلى ذلك الظل من اللهب ؛ فيخبر أن ذلك الظل لا يدفع عنهم ، أذى اللهب.

وجائز أن يكون [اللهب](٢) في ذلك الظل ، ويكون كثافة الظل ساترة عما فيها من اللهب ؛ فيخبر أن سترها لا يمنع اللهب عن أن يمسهم إذا انضموا إلى الظل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ) مفتوحة [الصاد](٣) :

فالقراءة المعروفة قيل : يراد بالقصر : المعروف المبني باللبن والخشب.

وقيل : يراد بها قصور أهل البادية ، وهي الخيام.

ومن قرأ بالنصب اختلفوا في تأويله :

عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : (كَالْقَصْرِ) قصر النخل (٤) ؛ الواحدة : قصرة ، وذلك أن النخلة تقطع قدر ثلاثة أذرع وأقصر وأطول ، يستوقدون بها في الشتاء.

وقال بعضهم (٥) : هو أصل النخل المقطوع المنقعر من الأرض.

وقيل (٦) : هو أعناق النخيل.

وقيل : القصرة : اسم الخشبة التي تقطع عليها اللحوم ، وتكسر العظام ، تكون للقصابين.

__________________

(١) في ب : يأووا.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في ب.

(٤) أخرجه ابن جرير (٣٥٩٧١) ، وابن المنذر من طريق سعيد بن جبير عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٤٩٥).

(٥) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٣٥٩٧٢ ، ٣٥٩٧٣) ، وعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٤٩٥).

(٦) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير عنه (٣٥٩٧٦).

٣٨٤

وعن الحسن أنه قرأ مخففة (كالقصر) ؛ غير أنه فسرها : أي : الجزل من الخشب ؛ الواحد : قصرة ؛ كقولك : تمرة وتمر (١) ، والله أعلم.

وفيه إخبار عن عظم شررها وقدرها خلافا لما عليه سائر الشرر في الدنيا ؛ لأن شرر الدنيا لا يأخذ مكانا ؛ بل يتبين ثم ينطفئ.

ثم جائز أن يكون بعض شررها في العظم كالخيام ، وبعضه كالقصور ، وبعضه كأصول الأشجار.

وقوله ـ عزوجل ـ : (كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ) قرئ : جملت صفر جماعة الجمل ، وقرئ : جمالات جمع جمالة.

والصفر : قيل (٢) : السود ، وإنما سميت السود : صفرا ؛ لأن السود تعلوها الصفرة في الإبل ، فتسمى بهما ؛ يدلك (٣) قول القائل عليه :

تلك حبلى منه وتلك ركابي

هن صفر أولادها كالزبيب (٤)

شبه الشرر بالقصر ، والقصر بالجمالة ، وهي الإبل السود.

وقرئ جمالات برفع الجيم ، وهي حبال السفن تمد ، ثم إذا ضمت تكون كأوساط الرجال ؛ فشبه الشرر بالحبال الممدودة الصفر عند الامتداد وعند الانضمام كأوساط الرجال ؛ فتكون كالقصر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ) جائز أن يكون معناه : أنهم لا ينطقون نطقا ينتفعون به كما لم يكونوا ينطقون في الدنيا كلاما يقربهم إلى الله تعالى ، فعاملهم في الآخرة حسب معاملتهم الله تعالى في الدنيا ، وهو كقوله تعالى : (نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) [الحشر : ١٩] ، وقوله تعالى : (قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً) الآية [طه : ١٢٥].

ومنهم من يقول (٥) : لا ينطقون في بعض المواضع ، وينطقون في بعضها.

ويحتمل : أي : لا ينطقون بحجة ؛ بل يكذبون ؛ كقوله : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣].

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٣٥٩٧٥).

(٢) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٣٥٩٧٩ ، ٣٥٩٨٠) ، وعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٤٩٥) وهو قول الحسن ، ومجاهد.

(٣) في ب : بذلك.

(٤) في أ : كالرباب.

(٥) انظر تفسير ابن جرير (١٢ / ٣٩١).

٣٨٥

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) :

ليس أنه لا يقبل العذر منهم إذا أتوا به ، ولكن معناه : أنه لا عذر لهم ؛ ليقبل منهم ، وهو كقوله تعالى : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) [المدثر : ٤٨] ، معناه : أنه لا شفيع لهم ، لا أنهم إذا أتوا بشفعاء لم يشفع لهم ، وإذا لم يكن لهم عذر ، فهم لا يعتذرون بعذر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ) فيه إخبار أنه لا يخص بالبعث فريقا دون فريق ، بل يجمع الخلائق كلهم ، ثم يفصل بينهم ؛ فينزل كلا منزلته التي استوجبها (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) [الشورى : ٧].

وقيل : هو يوم الحكم ؛ فجائز أن يكون سمي به ؛ لما يختصم فيه أهل المذاهب ؛ فيحكم فيه بين المحق وبين الذي كان على الباطل ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ) :

جائز أن يكون يقال لهم هذا في الآخرة : أن كيدوا حتى تنجوا أنفسكم مما نزل بكم ؛ أي : إن كانت لكم حيل تحتالون بها فافعلوا ، وهو حرف التقريع والتوبيخ على نفي نفاذ المكر والحيلة ، ليس على ما عليه أمر الدنيا : أنهم يحتالون ويمكرون بأنواع الخداع والتمويهات.

ويحتمل أن قيل لهم هذا في الدنيا ، أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعارضهم بهذا فيقول لهم : (فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ) في قتلي أو (١) إخراجي من بين أظهركم ، كما قال هود ـ عليه‌السلام ـ لقومه : (فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ) [هود : ٥٥] ، فعجزهم عن ذلك يظهر لهم آية رسالته ، وحجة نبوته ؛ إذ خوف الأعداء من غير أعوان كانوا له ولا جنود مجندة ؛ بل كان وحيدا فريدا بين ظهراني قوم مشركين ، ليست همتهم إلا إطفاء هذا النور.

قوله تعالى : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (٤١) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٤٢) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)(٤٤)

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ) ، فالمتقون : هم الذين اتقوا عذاب الله ، قال الله تعالى : (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) [آل عمران : ١٣١] ، وقال في آية أخرى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) [التحريم : ٦] وقال : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ) [البقرة : ٢٠١] ، فهذا هو التقوى.

__________________

(١) في ب : و.

٣٨٦

ثم [إن](١) أهل التوحيد أقروا بالعذاب ، فاجتهدوا (٢) في اتقائه ، فقيل لهم : انطلقوا إلى ظلال وعيون ؛ وأهل النار كانوا مكذبين بالعذاب ، فقيل لهم : (انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) [المرسلات : ٢٩] من العذاب.

ثم أخبرنا بالوجه الذي يقع به الاتقاء فقال : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) [فاطر : ٦] ، وأمرنا بالانتصاب لمحاربته ، ثم علمنا وجه المحاربة بقوله : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) [فصلت : ٦] ، وقال : ـ تعالى ـ : (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) [المؤمنون : ٩٧] ، وقال : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ) [البقرة : ٢٠١] ، فألزمنا الفزع إليه ، وبين أنا لا نقوى على محاربته إلا بالابتهال إليه والفزع.

ثم يحتمل أن يكون الاتقاء هاهنا منصرفا إلى التصديق خاصة ؛ لأنه ذكر الاتقاء هاهنا مقابل التكذيب في الأولين.

وجائز أن يكون منصرفا إلى المصدقين بالأقوال ، والموفين (٣) بالأعمال ؛ فالمتقي : هو الذي اتقى إساءة صحبة نعم الله تعالى فوقاه الله ـ تعالى ـ شر يوم القيامة ، مجازاة له ، والمحسن : هو الذي أحسن صحبة نعمه ، فأحسن الله منقلبه ، وأحله بدار كرامته ، في ظلال وعيون وفواكه.

أو المتقي : هو الذي وقى نفسه عن المهالك ، فوقاه الله تعالى يوم القيامة ، والمحسن : هو الذي أحسن إلى نفسه ، وهو الذي استعملها في طاعة الله تعالى ؛ فأحسن الله إليه بما أنعم عليه من الظلال والعيون.

ثم أخبر أنهم في ظلال ؛ لأن الظلال مما (٤) ترغب إليه الأنفس في الدنيا ؛ لأنها تدفع عنهم أذى الحر والبرد وأذى المطر والرياح ، وغير ذلك ، وظلال الأشجار والحيطان تدفع أذى الحر ، وظلال البنيان تدفع أذى الحر والبرد والمطر ، وهي لا تحول ـ أيضا ـ بين المرء والأشياء ، عن أن يدرك حقائقها ؛ فعظمت النعمة في الظلال ، ووقعت إليها الرغبة في الدنيا ، فقال : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ) ، وقال تعالى : (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ. وَماءٍ مَسْكُوبٍ) [الواقعة : ٣٠ ، ٣١] ، ثم الأنفس إذا أوت أوت إلى الظلال ، اشتهت ما تتمتع به الأبصار ، وأعظم ما تتلذذ به الأبصار أن يكن نظرها إلى المياه الجارية ؛ فأخبر أنهم في ظلال وعيون.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : فأجهدوا.

(٣) في أ : الموقنين.

(٤) في ب : فيم.

٣٨٧

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ) ، أي : فواكه أيضا ؛ فأخبر أن لهم فيها ما تتلذذ به الأبصار ، وتتمتع (١) به ، وفيها ما تشتهى أنفسهم ، وفيها ما يدفع عن أنفسهم (٢) الأذى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً) لا تبعة عليكم (٣) من جهة السؤال ، ولا تنغيص ؛ أي : لا يؤذيهم ما يأكلون ويشربون ، فالهنيء الذي لا تبعة على صاحبه ، ولا تنغيص فيه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) ، فسمى المتقي : محسنا ؛ لأنه بدأ بذكر المتقين ، وذكر ما أعد لهم ، ثم أخبر أنهم جوزوا بإحسانهم ؛ فيكون فيه دلالة على أن الاتقاء متى ذكر على الانفراد يقتضي إتيان المحاسن والاتقاء عن المهالك.

قوله تعالى : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٥) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (٤٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٧) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (٤٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٩) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ)(٥٠)

ثم رجع إلى المكذبين ، فقال (٤) : (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ) ، فهذا في الظاهر أمر بالأكل والشرب ، وهو في الحقيقة وعيد ، وهو أن تمتعكم بالأكل وغيره الذي يمنعكم عن النظر في الآيات قليل ، عن سريع تفارقونه ، وتصيرون إلى عذاب الله تعالى.

وقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ) قد ذكرنا أن المجرم هو الوثاب في المعاصي.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ) ، أي : إذا قال لهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اركعوا ؛ أي : اخضعوا ، واستسلموا لله ـ تعالى ـ امتنعوا عن ذلك ؛ استكبارا منهم على الرسل ، وإعراضا عن النظر في حجج الله تعالى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) أي : فبأي حديث يصدقون بعد حديث الله ـ تعالى ـ الذي لا حديث أصدق منه ، وأقوى في الدلالة.

وجائز أن يكون هذا على تسفيه عقولهم وأحلامهم ، وهو أنهم يمتنعون عن التصديق بحديث الله تعالى ؛ إذ لا حديث أصدق منه ، ثم يصدقون الأحاديث الكاذبة والأباطيل المزخرفة ، والله أعلم [بالصواب ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين](٥).

* * *

__________________

(١) في ب : فتتمتع.

(٢) في أ : بعضهم.

(٣) في ب : بكم.

(٤) في ب : فقالوا.

(٥) سقط في ب.

٣٨٨

سورة [النبأ ، وهي مكية](١)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (عَمَّ يَتَساءَلُونَ (١) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (٢) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (٣) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٤) ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٥) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (٦) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (٧) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (٨) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (٩) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (١٠) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (١١) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (١٢) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (١٣) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (١٤) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (١٥) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً)(١٦)

قوله ـ عزوجل ـ : (عَمَّ يَتَساءَلُونَ. عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) اختلف في التساؤل :

فمنهم من ذكر أن التساؤل كان عن أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، سألوا عن (٢) حاله : أهو نبي أم (٣) ليس بنبي؟ (٤)

ومنهم (٥) من ذكر أن التساؤل كان عن القرآن : أنه من الله تعالى أو ليس من الله تعالى؟

أو يتساءلون فيما بينهم : هل تقدرون على إتيان مثله أم لا؟

وجائز أن يكون التساؤل (٦) عن أمر البعث ، أو عن التوحيد ، كما قال [الله](٧) ـ تعالى ـ خبرا عنهم : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) [ص : ٥]؟.

ثم جائز أن يكون هذا السؤال من أهل الكفر ، سأل (٨) بعضهم بعضا ، فاختلفوا فيه ، ولم يحصلوا من اختلافهم على إصابة الحق ؛ ألا ترى إلى قوله ـ تعالى ـ : (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ. ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) ، ولو كان فيهم مصدق ، لكان قد وقع له العلم في ذلك الوقت ؛ فلا يحتاج إلى أن يعلم ويبينه عليه.

فإن كان السؤال عن حال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فوجه اختلافهم أن بعضهم زعم أنه شاعر ، وقال بعضهم : هو ساحر ، وقال بعضهم : مفتر كذاب ، وادعى بعضهم أنه مجنون.

__________________

(١) في ب : عم يتساءلون.

(٢) في ب : من.

(٣) في ب : أو.

(٤) أخرجه عبد بن حميد ، وابن جرير (٣٥٩٩٧) ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن الحسن بنحوه كما في الدر المنثور (٦ / ٣٩٥).

(٥) قاله ابن عباس أخرجه ابن مردويه عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٤٩٨) وهو قول مجاهد أيضا.

(٦) في ب : السائل.

(٧) سقط في ب.

(٨) في ب : يسأل.

٣٨٩

وجائز أن يكون السؤال من الكفرة للمؤمنين.

وإن كان على هذا فما ذكره أهل التفسير فهم بين مصدق ومكذب ، يراد بالمكذب الذين صدر عنهم السؤال ، ويراد بالمصدق أهل الإسلام الذين سئلوا.

ثم لا يجوز لأحد تحصيل السؤال على جهة واحدة ، والقطع عليه بالتوقف الموجب للعلم.

ثم في قوله ـ تعالى ـ : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً) جواب عما سبق من السائل ؛ [فإن كان السائل](١) عن أمر الرسالة ، فحقه أن يحمل (٢) على جهة غير الجهة التي يحمل (٣) عليها إذا صرف التساؤل إلى أمر البعث ، أو إلى أمر التوحيد أو القرآن.

والأصل فيه أن الله ـ تعالى ـ بما (٤) ذكر من مهاد الأرض ، وخلق الأزواج ذكر عباده عظيم (٥) نعمه وكثرة إحسانه إليهم ؛ ليستأدي منهم الشكر ؛ فإذا وقعت لهم الحاجة إلى الشكر ، [فيضطرهم ذلك إلى من يبين لهم ، و](٦) احتاجوا إلى من يعرفهم [الوعد والوعيد](٧) ومحل الشكور ، ومحل الكفور ، ومحل الموالي ، ومحل المعادي ؛ إذ وجدوا هذه الدنيا تمن على الأولياء ، وعلى الأعداء على حالة واحدة ؛ فاحتاجوا (٨) إلى من يعرفهم الوعد والوعيد ، وأوجب ما ذكرنا القول بالبعث ؛ ليظهر به منزلة الشكور والكفور.

وفي ذكر هذه النعم ـ أيضا ـ دلالة الوحدانية ؛ لأن الله ـ تعالى ـ مهد الأرض ، فجعلها متمتعا للخلق ، ومنقلبا لهم ، وأخرج منها ما يتعيشون به ، وجعل سبب الإخراج ما ينزل من السماء من القطر ، فجعل منافع الأرض متصلة بمنافع السماء ، فلو لم يكن مدبرهما واحدا لانقطع الاتصال ، ثم لو أراد أحد أن يعرف المعنى الذي [له](٩) يقع إحياء الأشياء بالماء ، لم يصل إليه ، ولو أرادوا أن يتداركوا الوجه الذي صلح هذا الطعام أن يكون سببا لدفع الحاجات وقطع الشهوات ، لم يقفوا عليه ؛ فيكون فيما ذكرنا إزالة الشبه والشكوك التي تعترض لهم في الأمور الخارجة عن تدبيرهم وقواهم.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : يحتمل.

(٣) في ب : حمل.

(٤) في ب : لما.

(٥) في ب : عظم.

(٦) سقط في ب.

(٧) سقط في ب.

(٨) في ب : واحتاجوا.

(٩) سقط في ب.

٣٩٠

وقوله ـ عزوجل ـ : (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ. ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) :

منهم من ذكر أن هذا وعيد على وعيد ، وقد ذكرنا أن حرف الوعيد ما يكرره العرب فيما بينهم للتأكيد ، كما يقال : هيهات هيهات ، وأولى لك فأولى.

وجائز أن يكون قوله : (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) على علم دلالة ، وقوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) على علم المشاهدة والعيان.

ثم قوله ـ تعالى ـ : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً) ، أي : بساطا ، (وَالْجِبالَ أَوْتاداً) ذكر أن الأرض لما خلقت مادت بأهلها ، فأرساها الله ـ تعالى ـ بالجبال ؛ لطفا منه ، لا أن جعلها سببا للإرساء ؛ ألا ترى إلى قوله : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً. فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً. لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) [طه : ١٠٥ ـ ١٠٧] ، فقد جعلها في ذلك الوقت مستمسكة ثابتة مستقرة بدون الجبال ؛ فثبت أنها ليست بسبب للإرساء في التحقيق ، ويكون فيه تعريف الخلق وجوه الحيل في الأمور إذا تعذر (١) عليهم الوصول إليها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) قيل : ألوانا ؛ فيكون في هذا إبطال الحكم بقول القائف ؛ لأنهم يستدلون بالتشابه في الألوان ، ويحكمون بها (٢) ، فلو كان الأمر على ما قدروا ، لارتفع الاختلاف في الألوان ؛ فيكون الخلق كلهم على لون واحد.

وقيل : (أَزْواجاً) : فرقا شتى ؛ ليعرف كل منهم عنصره ، ومنتهى أصله.

وقيل (٣) : (أَزْواجاً) ، أي : جعل لكل أحد شكلا من جنسه ؛ فجعل للذكر أنثى زوجا من جنسه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً) ، قيل : السبات : التمدد.

وقيل : السبات : النوم الذي لا حركة فيه ؛ ولهذا قيل للذي شبه بالميت (٤) : مسبوت.

وقيل (٥) : السبات : الراحة ؛ ولذلك سمى : السبت ؛ لأنه يوم راحة وترك العمل في بني إسرائيل.

ثم في إنشاء النوم (٦) دليل سلطانه ، ودخول الخلق بأجمعهم تحت تدبيره ؛ إذ لم يتهيأ لأحد الاحتراز من النوم حتى لا يعتريه ؛ بل يقهر الجبابرة فيذلهم ، ولا يمكنهم الخلاص

__________________

(١) في ب : بعدت.

(٢) في ب : فيها.

(٣) انظر تفسير ابن جرير (١٢ / ٣٩٧).

(٤) في أ : الذي شبيه بالموت.

(٥) انظر تفسير ابن جرير (١٢ / ٣٩٧).

(٦) في ب : اليوم.

٣٩١

عنه بالحيل والأسباب ، ثم النوم كأنه من أثقل الأحمال وأشدها ، ثم إذا زايل الإنسان ، وعاد المرء إلى حال اليقظة ، وجد في نفسه خفة وراحة ومن شأن هذا الإنسان : أنه إذا حمل الحمل الثقيل ، مسه من ذلك فتور وكلال لا يزول عنه ساعة ما يضع الحمل عن نفسه ؛ بل يبقى ذلك الكلال فيه إلى مدة ، فمن تدبر في أمر النوم ، دله على عظيم شأنه وعجائب تدبيره.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً) ، فهذا اللباس لباس الأعين لا غير ؛ ألا ترى أنه لا يستغنى بلباس الليل عما أخذ عليه من اللباس للصلاة ، ولا يعمل لباس الليل عمل اللباس المعروف في دفع أذى البرد والحر.

وقال بعضهم (١) : اللباس : السكن ؛ كما قال في آية أخرى : (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) [الأنعام : ٩٦] وكأن الذي حملهم على هذا التأويل هو أن تمام السكن والراحة يقع بالنوم ؛ فصرفوه إليه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) ، أي : يتعيش فيه ، لا أن يكون نفسه معاشا ، كما سماه : مبصرا ؛ لما يبصر به ، لا أنه في نفسه مبصرا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً) ، أي : السموات ، فذكرهم ؛ هذا لينبههم على قدرته وسلطانه ؛ فعرفوا أنه فعال لما يريد ، قادر على ما يشاء.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً) ، فكأن السراج هو الشمس هاهنا ، جعلها تتوهج وتتلألأ ما بين السماء والأرض.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً) : منهم من ذكر أن المعصرات هي السحاب التي أنشئ (٢) فيها القطر ؛ يقال للجارية التي قد دنت حيضتها : معصرة ، فشبه السحاب بمعاصر الجواري.

وقيل (٣) : سمى السحاب : معصرا ؛ لأنه يعصر المطر.

وقيل (٤) : هي ذوات الأعاصير ؛ يعني : الرياح ، كقوله : (فَأَصابَها إِعْصارٌ) [البقرة : ٢٦٦] ، أي : ريح.

__________________

(١) قاله قتادة أخرجه ابن جرير عنه (٣٦٠٠٧).

(٢) في ب : ليس.

(٣) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير عنه (٣٦٠٢١) وهو قول سفيان أيضا.

(٤) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٣٦٠١٤) ، وعبد بن حميد ، وأبو يعلى ، وابن أبي حاتم ، والخرائطي من طرق عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٠٠).

٣٩٢

وعن الحسن : هي السموات (١).

وقال الزجاج : المعصر : هو الذي قد أتى وقت إرسال القطر منه ؛ كما يقال : مجرز لما أتى وقت جرازه.

ثم في إنزال الماء من المعصرات تذكير النعم والقدرة والحكمة ، وكل وجه من هذه الأوجه الثلاثة يوجب القول بالبعث :

فأما وجه تذكير النعم ، فهو أن القطر ينزل من السماء متتابعا ، ثم الله ـ تعالى ـ بلطفه يمنع اتصال بعض ببعض والتصاقه ، ويرسل كل قطرة إلى الأرض بحيالها ، وينزل بعضها على أثر بعض ؛ لينتفع بها ، ولو التصق بعضها ببعض واتصل ، لم يقم لها شيء ؛ فكانت تصير سببا للتعذيب والإهلاك ، فبفضله ورحمته أنزلها متتابعة ؛ لينتفع بها الخلق ، ويتمتعوا بها.

وفيه تذكير القوة والحكمة ـ أيضا ـ لأنه أنشأ السحاب الثقال ، وساقه إلى الموضع الذي قدر أن يرسل القطر هنالك ، ومعلوم أن ذلك (٢) الإرسال ليس من فعل السحاب ؛ لأن السحاب يمتنع عن إرسال القطر حتى ينتهي إلى الموضع الذي أمر بإرسال القطر فيه ، ولو كان ذلك للسحاب نفسه ، لكان أينما مر يعمل في الإرسال ، ولو كان ذا ثقب لكانت الريح متى دخلت في الثقب أرسل السحاب ما أنشئ فيه من القطر ، فإذا (٣) لم يوجد ذلك بان أن الله ـ تعالى ـ بحكمته وقدرته ولطفه هو الذي أنشأ فيه ذلك ، ودبر إرساله ، لا أن يكون ذلك عمل السحاب ، ولو (٤) أراد أحد من حكماء الأرض أن يعرف المعنى الذي له صلح ذلك السحاب أن يستمسك فيه القطر ، ولا يستمسك في مكان آخر ، لم يقف عليه ، فذكرهم ، ليعلموا أن حكمته ليست على الوجه الذي ينتهي إليه حكم البشر ، ولا قدرته مقدرة بقوى البشر ؛ بل هو قادر على ما يشاء ، فعال لما يريد.

وفيه أن تدبير السماء والأرض والهواء يرجع إلى الواحد القهار ؛ إذ لا يتهيأ لأحد أن يمنع القطر المرسل من السماء عن الوصول إلى الموضع الذي أمر أن ينتهي إليه.

والثجاج : القطر المتتابع بعضه على إثر بعض ، والثج : الصب ، والإراقة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً) :

جائز أن يكون ذكر الحب ؛ لأن المقصود من زراعة ما يكون له الحب ـ الحب ؛

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٣٦٠٢٣) وهو قول قتادة أيضا.

(٢) في ب : تلك.

(٣) في ب : وإذا.

(٤) في ب : فلو.

٣٩٣

فذكره ؛ لما إليه ينتهى القصد ، ويكون ذكر النبات منصرفا إلى ما لا حب له ؛ لأن القصد من زراعته النبات لا غير.

وجائز أن يكون منصرفا إلى شيء واحد ؛ لأن الذي فيه الحب فيه النبات أيضا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً) قد ذكرنا أن الجنة هي (١) اسم المكان الملتف بالأشجار ، وهي التي اجتمعت فيها الأشجار.

قوله تعالى : (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (١٧) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (١٨) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (١٩) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (٢٠) إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (٢١) لِلطَّاغِينَ مَآباً (٢٢) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (٢٣) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (٢٤) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (٢٥) جَزاءً وِفاقاً (٢٦) إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (٢٧) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (٢٨) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (٢٩) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً)(٣٠)

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً) الميقات : الميعاد ؛ أي : وعد فيها جميع الأولين والآخرين ، صالحهم وطالحهم ، صغيرهم وكبيرهم.

وسمي : يوم الفصل ؛ لما يفصل فيه بين الأولياء وبين الأعداء ، ويتبين [فيه مثوى](٢) الفريقين جميعا ، واليوم ليس بيوم فصل في الظاهر ؛ لأن الدنيا تمر على الفريقين على حالة واحدة ، وإن كان قد فصل بينهما بالتوفيق والخذلان.

وقيل : يوم الفصل : يوم الحكم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) قد ذكرناه فيما تقدم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَتَأْتُونَ أَفْواجاً) ، قيل : أمة فأمة ، تأتى أمة كل رسول بحيالها.

وقيل : يقرن كل أحد بشيعته ؛ على ما نذكره في قوله ـ تعالى ـ : (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) [التكوير : ٧].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً) : منهم من ذكر أنها تفتح لإنزال من شاء الله تعالى من الملائكة (٣) ، وتنشق وتنفطر ؛ لشدة هول القيامة.

ومنهم من قال : إن الشق والفتح والانفطار كله واحد ، فذكر الفتح ؛ لشدة هول ذلك اليوم.

وجائز أن يكون الكل يقتضي معنى واحدا ؛ لأنه فيما ذكر فيه الانشقاق قد ذكر فيه نزول

__________________

(١) في ب : هم.

(٢) في ب : فيما سوى.

(٣) في ب : ملائكته.

٣٩٤

الملائكة بقوله : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) [الفرقان : ٢٥].

وقوله ـ تعالى ـ : (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً) :

جائز أن يكون شبهها بالسراب ؛ لما أنها إذا سيرت لم توجد في المكان الذي رآها فيه الناظر كالسراب الذي يرى من بعد إذا رآه الناظر ، فأتاه لم يجده شيئا ، لا أن تكون الجبال في الحقيقة سرابا ؛ لأن السراب هو الذي يتراءى من البعد أنه شيء ، ولا شيء في الحقيقة ، وأما الجبال وإن سيرت فهي في نفسها شيء.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً) : منهم من ذكر أنها كانت في علم الله ـ تعالى ـ أنها ترصد على من حقت عليه كلمة العذاب فتعذبه ، ولا يمكنه الفرار عنها.

وقيل : ترصد بشهيقها وزفيرها من استوجب العذاب ؛ فتعذبه وتتقرب به إلى ربها بطواعيتها له ، وسخطها على من سخط الله عليه.

وقيل (١) : معنى المرصاد : أن يكون ممر كل كافر ومؤمن عليها ، لكن الكافر يقع فيها ، والمؤمن ينجو عنها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لِلطَّاغِينَ مَآباً) ، أي : مرجعا ، والطاغي هو الذي تعدى حدود (٢) الله تعالى ، وضيع حقوقه ، وكفر بأنعمه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) ، ذكر الأحقاب ، ولم يبين منتهى العدد ، ولو كان اللبث فيها يرجع إلى أمد في حق الكفرة ، لكان يأتي عليه البيان ؛ كما أتى البيان على منتهى يوم القيامة بقوله : (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) [المعارج : ٤] ، وقال : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) [المعارج : ٤] ، فلما لم يبين ، ثبت أنه لا يرجع إلى حد ، وإلى هذا ذهب الحسن.

ومنهم من ذكر أن معناه : أنهم يلبثون ثلاثة أحقاب ، والحقب ثمانون سنة ، يعذبون بلون من العذاب ، ثم يعذبون بلون آخر من العذاب بعد ذلك ، لا أن ينقطع عنهم العذاب بعد مضي الأحقاب ، والأحقاب هي النهاية في الأوقات ، فذكر النهاية في الأوقات ، وما يكبر فيها ؛ ليعلم أنهم أبدا فيها ؛ كما قال : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) [هود : ١٠٧] ؛ لأنهما هما اللذان عرفا بالدوام ؛ فاقتضى ذلك معنى الدوام ، فكذلك ذكر ما هو النهاية من الأوقات يعرف أنهم أبدا فيها مقيمون.

__________________

(١) قاله الحسن بنحوه أخرجه ابن جرير (٣٦٠٤٤ ، ٣٦٠٤٥) ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٠١) وعن سفيان وقتادة مثله.

(٢) في أ : حد.

٣٩٥

وقوله ـ عزوجل ـ : (لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً) ، فذكر بعضهم (١) أن البرد هو النوم.

ومنهم من ذكر أن معناه : الروح ، والراحة.

وقال بعضهم (٢) : (لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً) يقطع عنهم الحر ، (وَلا شَراباً) يقطع عطشهم ، (إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً) فالحميم : هو الماء الذي قد انتهى في الحر نهايته ، والغساق : الزمهرير.

وقال بعضهم (٣) : هو ما ينفصل عن أبدانهم من الصديد والزهومة ، وهو الودك ؛ فمعناه ـ والله أعلم ـ : أن الذي يتطعم به أهل النار لا يعذبهم (٤) ، ولا يجدون به مستمتعا ، بل يصير ذلك سبب إهلاكهم ، لا أن يقع لهم بذلك البرد راحة وشفاؤهم ؛ كما وصفهم الله ـ تعالى ـ : (فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) [طه : ٧٤] ، فيبقون أبدا في الهلاك لا يقضى عليهم فيستريحوا ، ولا ينقطع عنهم العذاب فيتلذذوا بالحياة.

وقيل : الغساق : لون من العذاب ، لم يطلع الله تعالى عليه عباده.

وقوله ـ عزوجل ـ : (جَزاءً وِفاقاً) ، أي : وافق جزاؤهم أعمالهم ، لا ينقصون ، ولا يزدادون على قدر ما استوجبوا ، بل يجزون مثل أعمالهم.

وجائز أن يكون معناه : أن جزاءهم وافق أعمالهم في الخبث.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً) :

منهم من ذكر أنهم لا يخافونه.

ومنهم من حمله على حقيقة الرجاء ، أي : لم يكونوا يرجون الثواب.

والوجه فيه : أنهم كانوا قوما لا يؤمنون بالبعث ولا بالجزاء والعذاب حتى يخافوا العقاب ، ويرجوا الثواب.

فإن حملته على الخوف ، فهم لم يخافوه ؛ لما لم يؤمنوا به ، وكذلك إن حملته على حقيقة الرجاء ، فهم لم يكونوا يرجونه ؛ لما كذبوا به.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً) ، فالكذاب والتكذيب في لغة العرب واحد ؛ والآيات : جائز أن يراد بالآيات آيات البعث ، ويراد بها آيات الوحدانية ، وآيات الرسالة ، ونحوها.

__________________

(١) قاله مرة أخرجه ابن المنذر عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٠٣).

(٢) قاله ابن عباس بنحوه أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٠٣) وهو قول أبي العالية أيضا.

(٣) قاله أبو رزين أخرجه ابن جرير عنه (٣٦٠٦٥ ، ٣٦٠٦٧) وهو قول عكرمة وإبراهيم وسفيان وقتادة وغيرهم.

(٤) كذا في أ.

٣٩٦

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً) :

جائز أن يكون الإحصاء والكتاب واحدا.

وجائز أن يكون أريد بالإحصاء ما أثبت في الكتاب ؛ كقوله تعالى : (لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) [الكهف : ٤٩].

وقوله : (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) الزيادة في العذاب هي دوامه وبقاؤه ، لا أن يزادوا على القدر الذي كان أعد لهم من العذاب ؛ لأنه أخبر أنهم لا يجزون إلا مثلها ، فإذا كان الذي عذبوا قبله جزاء لهم ، لم يجز [أن](١) يزادوا عليه فثبت أن الزيادة انصرفت على الدوام والبقاء ، وبهذا قال أصحابنا في تأويل قوله : (فَزادَتْهُمْ إِيماناً) [التوبة : ١٢٤] ، وفي كل ما ذكرت فيه (٢) الزيادة ـ : إنه على الثبات والدوام عليه ، لا أنه يزيد وينقص.

قوله تعالى : (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (٣١) حَدائِقَ وَأَعْناباً (٣٢) وَكَواعِبَ أَتْراباً (٣٣) وَكَأْساً دِهاقاً (٣٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (٣٥) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (٣٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (٣٧) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (٣٨) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (٣٩) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً)(٤٠)

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً) ، أي : مفازا عن أنواع العذاب التي ذكرت في الطاغين.

وقوله ـ عزوجل ـ : (حَدائِقَ وَأَعْناباً) ، فالحدائق هي الأماكن التي أحاطت الأشجار بأطرافها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَعْناباً) ظاهر ، وقد ذكرنا أنهم وعدوا في الآخرة بكل ما يقع لهم الرغبة في الدنيا.

ثم الأصل أن هذه السورة نزلت على إثر التساؤل بقوله تعالى : (عَمَّ يَتَساءَلُونَ. عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) [النبأ : ١ ، ٢] ، فجائز أن يكون الذي حملهم على السؤال ما اعترض لهم من الشبه ، أو خطر ببالهم ، فسألوا ؛ ليبين لهم ، وتزول عنهم الشبه (٣) ، فذكرهم عظم نعمه وعجائب تدبيره وقوته وسلطانه ، ووعد أن من أمعن النظر فيها دلهم ذلك على بعثهم وإزاحة الإشكال عنهم بقوله : (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ. ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) [النبأ : ٤ ، ٥] ، وبين مآب من استقام على الصراط المستقيم ، وسلك سبيله ، وأخبر أن من لم ينعم النظر فيها ، ولم يعط النصفة من نفسه

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في أ : من.

(٣) في ب : الشبهة.

٣٩٧

وضيعها ، فمصيره إلى ما ذكر من قوله : (إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً. لِلطَّاغِينَ مَآباً) [النبأ : ٢١ ، ٢٢] ، وسيعلم ذلك بقوله : (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) [النبأ : ٤] إن حمل هذا على الوعيد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكَواعِبَ أَتْراباً) قيل (١) : الكاعب : هي التي تكعب ثدياها ، وذلك حين تبلغ أن تحيض ، وهي ناهد ، وهي أشهى ما يكون إلى الرجال.

والأتراب المستويات في السن ؛ ففي هذا إنباء أنهن يكن أبدا على سن واحد ، لا يتغيرن عن تلك الحال ، ولا يهرمن.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكَأْساً دِهاقاً) ، قيل (٢) : ملآنا.

وقيل (٣) : صافيا.

وقيل (٤) : متتابعا.

فوصفه بالملآن ؛ ليعلم أن ذلك الشراب لا ينقص (٥) ما داموا يشربون ؛ خلافا لما عليه شراب أهل الدنيا.

ومن حمله على الصفاء ، فمعناه : أنه صاف عن الآفات والمكروه التي تكون في شراب أهل الدنيا من التصديع وإذهاب العقل ، وغير ذلك.

ومن حمله على التتابع ، فمعناه : أن ذلك الشراب لا ينقطع ، ولا ينفد ما داموا في شربه ، بل يتتابع عليهم ، ولا يحدث فيهم حال تمنعهم عن الشرب من السكر وغيره ؛ فيمتنعوا عن شربه ؛ خلافا لشرب أهل الدنيا.

وروي عن العباس بن عبد المطلب أنه قال : «كنا إذا استحثثنا الساقي في الجاهلية ، قلنا : داهق لنا» ، أي : تابع لنا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً) ، أي : لا يسمعون فيها ما يحق أن يلغى ، بل يسمعون فيها كل خير ، والذي يحق أن يلغى ما ذكروا من الحلف والباطل والكذب ؛ فلا يسمعون شيئا من ذلك كما يسمع من أهلها في الدنيا إذا شربوها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (كِذَّاباً) إن قرئ بالتخفيف فهو من الكذب ؛ أي : لا يكذبون.

وإن قرئ بالتشديد فهو من التكذيب ؛ أي : لا يكذب بعضهم بعضا ؛ فكان معناه : أن

__________________

(١) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٣٦٠٩٩ ، ٣٦١٠٠) ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في البعث عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٠٤).

(٢) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير عنه (٣٦١٠٦ ، ٣٦١٠٧) وهو قول أبي هريرة والحسن ومجاهد وغيرهم.

(٣) قاله عكرمة أخرجه ابن جرير عنه (٣٦١١٩).

(٤) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير (٣٦١٢١) ، وعبد بن حميد عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٠٥).

(٥) في ب : ينتقص.

٣٩٨

ذلك الشراب لا يعمل فيهم هذا العمل ؛ حتى يحملهم على الكذب والتكذيب ؛ كما يوجد في شراب أهل الدنيا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فِيها) أي : في الجنة.

ثم قوله : (كِذَّاباً) قرأه بعضهم بالتخفيف في الموضعين هاهنا وفي : (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً) [النبأ : ٢٨] وقرئ بالتشديد في الموضعين ، وقرأه بعض القراء بالتشديد في الأول ، وبالتخفيف في الثاني.

وعن الكسائي أنه قال : بالتخفيف لغة مضر ، وبالتشديد لغة يمانية ؛ يقولون : كذبه تكذيبا وكذابا ، وخربه تخريبا وخرابا ، ونحو ذلك ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً) ، قوله : (جَزاءً) ، أي : جزاهم ، و (عَطاءً) : أعطاهم ، و (حِساباً) : حاسبهم.

وقال الحسن : جزاهم بأعمالهم ، أي : زادهم على القدر الذي استوجبوا.

وقال بعضهم : أعطاهم عطاء كثيرا حتى قال كل واحد منهم : حسبي ، حسبي.

والذى يؤيد هذا التأويل ما روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه كان يقرأ : جزاء من ربك عطاء حسنا (١).

وقال بعضهم : جزاء بأعمالهم التي كتبت الحفظة ، وأحصتها عليهم ، وأعطى عطاء حسابا ؛ أي : كثيرا ؛ جزاء لما أخفوا من أعمالهم التي لم يطلع عليها ملائكة ، فأعطاهم عطاء بينا ظاهرا يعرفه الناس.

وجائز أن يكون الجزاء عطاء من ربه ، لا أنه يستوجب الجزاء ؛ لما ذكرنا أنه لا أحد من هذا البشر إلا وقد سبقت له من الله ـ تعالى ـ نعم ، لو أنفذ جميع عمره في أداء شكره منها ، لم يصل إلى كنه ما عليه من الشكر ؛ إذ من قام بالشكر ، ووفق عليه ، زيد له ـ أيضا ـ في النعم ؛ لمكان (٢) الشكر ، فإذا وصل إلى جزاء عمله في الدنيا ، لم يستوجب به المزيد ؛ فثبت أن الجزاء في الآخرة بحق الإفضال من الله تعالى والإنعام ، لا بحق الاستيجاب ؛ ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ ..). الآية [النساء : ٦٩] ، فسمى الكرامة : إنعاما ، وقال في آية أخرى : (وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) [الحديد : ٢١] ، فجعل ما آتاهم من النعيم فضلا منه ؛ فثبت أن الذي جزاهم به عطاء من ربه حساب ، أي : كثير.

__________________

(١) في أ : حسابا.

(٢) في ب : بمكان.

٣٩٩

وقوله ـ عزوجل ـ : (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) ، فالرب : المالك ، فذكر أنه مالك السموات والأرض وما بينهما ؛ ليعلموا أنه لم يمتحن أحدا بعبادته لحاجة تقع له ، أو لمنفعة تصل إليه ، بل هو الغني ، وله ما في السموات وما في الأرض ، وأن منفعة ما امتحنوا به من العبادات راجعة إلى أنفسهم إذا وفوا بها ، وإذا لم يقوموا بأدائها كان الضرر راجعا إليهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (الرَّحْمنِ) بين أنه رحمان ؛ ليرغبوا في رحمته ، ويتسارعوا إلى مغفرته.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً) هيبة من الله تعالى ، وتعظيما لحقه ؛ فلا يملكون من هيبته الخطاب بالشفاعة أو بالخصومة أو بأي شيء كان.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا) ، اختلف في الروح :

فمنهم من قال (١) : هو جبريل ، عليه‌السلام.

ومنهم (٢) من صرفه إلى أرواح المسلمين.

ومنهم من ذكر أنهم الحفظة على الملائكة يرون الملائكة ولا تراهم الملائكة.

وجائز أن يكون الروح الكتب المنزلة من السماء ، كما قال : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ) [النحل : ٢] ؛ فتكون الكتب مخاصمة مع من ضيع حقها ونبذها وراء ظهره ، وشافعة (٣) لمن أدى حقها ، وعمل بما فيها.

ومنهم من ذكر أن هذا من المكتوم الذي لا يفسر ؛ قال الله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [الإسراء : ٨٥].

وقوله ـ عزوجل ـ : (لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) ، جائز أن يكون هذا منصرفا إلى الشافع ؛ أي : الشافع لا يقول فيما يشفع غير الصواب ، وما حل به من الرهبة والخوف من هيبة الله تعالى لا يزيله عن التكلم بالحق ؛ بل الله تعالى يثبته على الحق ، ويجرى على لسانه الصواب.

وقال بعضهم : معناه : لا يشفع إلا من قال في الدنيا صوابا ، وهو الحق.

وقيل (٤) : معناه : أنه لا ينال من الشفاعة حظا إلا من قال في الدنيا الصواب ،

__________________

(١) قاله الضحاك أخرجه ابن جرير (٣٦١٣٥ ، ٣٦١٣٦) ، وعبد بن حميد ، وأبو الشيخ عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٠٦).

(٢) قاله ابن عباس بنحوه أخرجه ابن جرير (٣٦١٤٦) ، والبيهقي في الأسماء والصفات عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٠٦).

(٣) في ب : شافعا.

(٤) قاله مجاهد بنحوه أخرجه ابن جرير (٣٦١٥١) ، والفريابي ، وعبد بن حميد عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٠٧).

٤٠٠