تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٩٥

الكفر ؛ فظهر مراده بمقابله ، وهو قوله (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ) [الجن : ١٤].

والضر قد يكون في الدين والمال والنفس ، ولكنه لما ذكر قوله : (رَشَداً) ، والرشد يتكلم به في الدين ، علم أن قوله : (ضَرًّا) راجع إليه أيضا ، فكأنه يقول : لا أملك إضلالكم ، ولا رشدكم ؛ إنما ذلك إلى الله تعالى ، يضل من يشاء ، ويهدي من يشاء.

والمعتزلة [تزعم أن](١) الله تعالى لا يملك رشد أحد ولا غيه ، بل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكثر ملكا منه ؛ لأنه يملك (٢) أن يدعو الخلق إلى الهدى بنفسه ، والله تعالى لا يملك ذلك إلا برسوله.

وقال ـ عزوجل ـ : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [البقرة : ٢٧٢] ، وقال : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [القصص : ٥٦] ، ولو كان المراد من الهداية المضافة إلى الله تعالى الدعوة والبيان ، لكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يهديهم ؛ لأنه داع ومبين ؛ فثبت أن في الهداية من الله تعالى لطفا لا يبلغه (٣) تدبير البشر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً).

فكأنهم طلبوا منه ترك تبليغ الرسالة إلى قوم ، أو كتمان شيء ما (٤) أمر بإظهاره ، أو محاباة أحد من الأجلة ، فأمر أن يخبرهم أنه لا يجيره أحد من الله تعالى ، ولا يجد لنفسه ملجأ إن فعل ذلك ، سوى أن [يبلغ رسالات ربه](٥) ؛ فيجيره من عذابه ؛ ويكون له عنده ملجأ ؛ إن فعل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ) :

فمنهم من جعل قوله : (إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ) استثناء (٦) من قوله : قل إني لا أملك لكم ضرّا ولا رشدا إلا بلاغا من الله أي : إني لا أملك لكم هدايتكم ولا إضلالكم إلا ما كلفت لأجلكم من تبليغ الرسالة.

ومنهم من جعل هذا استثناء من قوله : (قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ) إن عدلت عن أمره ، ولم أبلغ الرسالة ؛ فلا يجيرني من عذابه إلا أن أبلغ الرسالة ؛ قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) [المائدة : ٦٧] ، وقال :

__________________

(١) في ب : تقول : إن.

(٢) في ب : أمر.

(٣) في ب : يدركه.

(٤) في ب : فيما.

(٥) في ب : تبليغ الرسالات لربه.

(٦) في ب : استثنى.

٢٦١

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ) [النور : ٥٤].

ولأنه [لا](١) يجوز أن تقع له الحاجة إلى الإجارة من عذاب الله تعالى ، ولم يوجد (٢) منه تقصير ولا تضييع يستوجب به العقاب ؛ فلا بد من أن يمكن فيه ما ذكرنا من التقصير في التبليغ والعدول عما كلف ؛ حتى يستقيم ذكر الإجارة [فيه](٣).

وذكر أبو معاذ ـ صاحب التفسير ـ : أن الاستثناء راجع إلى قوله : (قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً) ، ليس إلى قوله : (قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ) ، واستدل على ذلك بقراءة عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أنه كان يقرأ : قل إني لا أملك لكم غيا ولا رشدا إلا بلاغا من الله ، وليس فيما ذكرنا قطع الاستثناء على قوله : قل إني لا أملك لكم ضرّا ولا رشدا إلا بلاغا من الله ؛ للوجه الذي ذكرنا.

ولأن أكثر أهل التأويل أجمعوا على صرف الاستثناء إلى قوله : (قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ) ؛ فلا يجوز أن يحمل قولهم على الخطأ بما ذكره أبو معاذ ، وما ذهبوا إليه وجه الصحة والسداد.

وجائز أن يكون البلاغ والرسالة واحدا ؛ فيكون قوله الذي يبلغ بلاغا من الله ورسالاته ، ويكون ذلك على التكرار ؛ وهو كقوله (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) [آل عمران : ٤٨] قيل : إنهما واحد.

وجائز أن تكون الرسالة نفس ما أنزل ، وهو الكتاب ، والبلاغ ما أودع فيه من الحكمة والمعاني ؛ وكذلك قيل في قوله تعالى : (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) [آل عمران : ٤٨] : إن الكتاب هو المنزل نفسه ، والحكمة : ما تضمن فيه من المعاني.

وجائز أن يكون البلاغ من الله تعالى منصرفا إلى حكمه ، ورسالاته إلى غيره.

أو تكون رسالاته حكمه ، والبلاغ خبره ؛ وهو كقوله تعالى : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً) [الأنعام : ١١٥] : [صدقا] [أخباره ، وعدلا](٤) أحكامه ، أو إبلاغا (٥) من الله حق الله عليهم ورسالاته بما به مصالحهم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) قالوا : لا ملجأ وممالا ، أي : موضعا يمال إليه ، والالتحاد الإمالة ، سمي اللحد : لحدا من هذا ؛ لأنه يمال عن سننه.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في أ : يقع.

(٣) سقط في ب.

(٤) سقط في ب.

(٥) في ب : بلاغا.

٢٦٢

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) ، وقال في موضع آخر (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) [الأحزاب : ٥٧] ، وقال : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) [الأحزاب : ٣٦] ، وكل من ارتكب المآثم ، فقد دخل في [حد العصيان](١) وإيذاء الرسول ، ولكن المراد هاهنا من يعتقد عصيان الرسول وأذاه ؛ لأن الله تعالى أضاف الأذى والعصيان إلى نفسه (٢) ، ولا أحد يقصد قصد أذى الله (٣) تعالى ، والله ـ عزوجل ـ لا يؤذى ، ولكن أضاف أذى الرسول وعصيانه إلى نفسه ، وقد كانوا يعتقدون عصيانه وأذاه ؛ فجعل عصيانهم وأذاهم لرسوله أذى منهم لله تعالى وعصيانا له ؛ فثبت أن هذا في الاعتقاد ، وقال ـ عزوجل ـ : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) [النساء : ٨٠] ، وقال : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) [النساء : ٦٥] ، فجعل طاعة الرسول طاعة له ، وعصيان رسوله عصيانا له.

ولأنه ذكر العصيان على أثر تبليغ الرسالة ؛ فثبت أن العصيان هاهنا في ترك القبول لما أنزل على الرسول ، وفي اعتقاد العصيان له.

وروي عن أبي حنيفة ـ رحمه‌الله ـ أنه قال : من آمن بالله تعالى ، ولم يؤمن برسوله ، فهو ليس بمؤمن ؛ لأن جهله بالله تعالى هو الذي حمله على تكذيب الرسول ؛ لأن الرسول ليس يدعوه إلا إلى ما يقربه إلى الله تعالى ، وإلى ما ينجيه من عذابه ؛ فلو كان يحب الله تعالى ، ويؤمن به ، لكان يدعوه ذلك إلى حب الرسول ، وإلى طاعته ؛ فثبت أن المكذب للرسول جاهل بربه ، والمطيع له مطيع لله تعالى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً) ، وقال في موضع آخر : (فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً) [مريم : ٧٥].

ويحتمل أن يكون هذا في الدنيا والآخرة جميعا ، ويكون ذلك راجعا إلى يوم بدر ، كما ذكره (٤) أهل التأويل ؛ إذ قد ظهر في ذلك اليوم أنهم شر مكانا ، وأضعف جندا ، وأضعف ناصرا.

ويشبه أن يكون هذا في الآخرة ؛ فإنهم (٥) يعلمون أنهم أقل عددا في الآخرة ؛ لأن كل واحد منهم يتبرأ عن صاحبه وناصره ومعينه في الدنيا ، ويصير عدوّا له ؛ فيقل عددهم ،

__________________

(١) في أ : هذه العصبات.

(٢) زاد في ب : وليس.

(٣) في ب : لله.

(٤) في أ : ذكر.

(٥) في ب : لأنهم.

٢٦٣

وأما في يوم بدر ، فقد كانوا أكثر عددا من المسلمين ؛ فلم يتبين لهم أنهم أقل في العدد.

ويجوز أن يوم بدر يكون المسلمون أكثر عددا ؛ لأن الله تعالى أمد المسلمين بملائكته ؛ فصار عددهم أكثر في التحقيق ، وإن كانت الكفرة في رأي العين أكثر منهم عددا.

ثم يشبه أن تكون هذه الآية نزلت على أثر تخويف الكفرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكثرة عددهم وقوتهم (١) في أنفسهم ، وقلة عدد المسلمين ، فوعد الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنصر وكثرة العدد عند وقوع الحاجة إليها ، وبالله التوفيق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً) :

فهذا ذكره عند ذكر الوعيد ، وهو قوله : (فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً) ، فكأنهم سألوه : متى وقت هذا الوعيد؟ فأمر أن يقول : (قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً).

قد ذكرنا فيما تقدم من الآيات : أن ليس في بيان وقت الوعيد فضل يقع في الوعيد ؛ بل إذا لم يبين وقت الوعيد ، كان فيه فضل تخويف وتحذير لا يوجد فيما يبين ؛ لأنه إذا بين ، فإن كان فيه أمد سوّف الناس وأخروا التوبة ؛ لما أمنوا حلول النقمة بهم إلى مجيء ذلك اليوم ، وإذا لم يمهلوا صاروا إلى الإياس ؛ فيرتفع الخوف والرجاء ، وفيه ارتفاع المحنة ؛ لأن المحنة في الأصل بالعمل على الرجاء والخوف.

ولأنه إذا لم يبين ، كانوا على الحذر والخوف ؛ فيحملهم ذلك على التسارع في الخيرات والإقلاع عن المساوئ ؛ فأمر أن يقول هذا ، وإلا فالذي أمره بأن يقول هذا عالم بالوقت الذي يقع فيه الوعيد.

وقوله عزوجل : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً. إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) الأصل فيما غيب الله تعالى عن الخلق أنه على منازل ثلاثة :

أحدها : ما قد أعجز الخلق عن (٢) احتمال الوقوف عليه بالخلقة ، نحو الكيانات التي هي أصول الأشياء ، لو أراد أحد أن يعرف المعنى الذي به صلح أن يكون كيانا ، لم يقف عليه ، ونحو الماء جعل حياة لكل شيء ، ولو أراد أحد أن يتعرف المعنى الذي به صلح أن يجعل حياة ، لم يقف عليه (٣) ، وكذلك هذا في كل ما جعل كيانا موجودا.

__________________

(١) في ب : وقولهم.

(٢) في ب : على.

(٣) زاد في ب : أحد.

٢٦٤

والثاني : ما أمكن الخلق معرفته وبلوغه إليه بالتأمل والنظر ، بدون معرفة السمع والأثر ، نحو معرفة الصانع ومعرفة وحدانيته.

والثالث : هو الذي لم يعجزهم عن إدراكه ، ولا مكنهم من الوقوف عليه دون خبر يرد ، بقوله : (فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً. إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) في هذا ، وهو الذي مكنوا منه (١) ، لكنهم لا يبلغونه إلا بمعونة الخبر ، وذلك نحو الأشياء التي ترجع إلى مصالح الخلق (٢) والتي توصل إلى مصالح الأغذية فيما (٣) ظهر بين الخلق ، ولكنها لا تعرف إلا بالسماع ، ممن له علم من الخلق وانتشاره فيهم ، وهو بحيث لا يحتمل إدراكه بالنظر ؛ فبين أن ذلك بالرسول ، ومتى وجد ذلك من شخص مشار إليه دل ذلك على الاختصاص له بالرسالة.

ثم ذكر بعضهم : أن في هذه الآية دلالة تكذيب المنجمة ، وليس كذلك ؛ لأن فيهم من يصدق خبره ، ويعرف المطالع ، والمغارب ، والمشارق ، والكواكب التي بها يتوالد الخلق ، والتي يقع عندها التغير والتبدل ، وذلك مما لا يقف على علمه بالتأمل والتدبر.

وكذلك المتطبعة : منهم من يعرف طبائع النبات أنها تصلح لكذا ، وهذا يصلح لكذا ، فيقع به المصالح للخلق ، ومعلوم أن هذا من نوع ما لا يدرك بالتأمل والنظر ؛ فعلم أنهم وقفوا على علمه من جهة رسول انقطع أثره ، وبقي علمه في الخلق ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) ، أي : اختاره واصطفاه ، والأصل أن الرسالة تلزم الخلق الشهادة له بالصدق في كل خبر وبالعدل في كل حكم ؛ لقوله (٤) : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) [النساء : ٦٥] ، وبالإصابة في كل أمر فيما لم يبلغ مبلغا يوجب الأمر ؛ فهو لا يختصه للرسالة ، وفي الاختصاص نعمة عظيمة على الخلق ؛ إذ به وصل الخلق إلى تعرف ما يبلغهم إليه الحاجة في أمر معاشهم ومعادهم [ودينهم ودنياهم](٥).

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً).

قيل : رصدا من بين يدي الرسول ، ومن خلفه من الملائكة ؛ ليمنع الإنس عن الرسل في منعهم الرسل عن التبليغ ؛ حتى يبلغوا ، ذكر هذا عن الحسن البصري رحمه‌الله.

__________________

(١) في أ : فيه.

(٢) في ب : العباد.

(٣) في ب : فما.

(٤) في ب : بقوله.

(٥) في ب : ودنياهم ودينهم.

٢٦٥

وكذلك قال في قوله : (إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ) [الإسراء : ٦٠] : إن إحاطته هي أن يعصمه من الناس من أن يصل إليه منع الناس إياه عن تبليغ الرسالة.

ويحتمل أن يكون الملائكة جعلوا رصدا عن الجن عن استراق ما يوحى إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن تلقيه ؛ حتى يكون الرسول هو الذي يبلغ إلى الخلق ، ويشتهر ذلك فيما بين الخلق أن الرسول هو الذي قام بتبليغه إلى الخلق ؛ لأنهم إذا لم يجعلوا رصدا ؛ أمكن الجن أن يسترقوه ويبلغوه ؛ فيأتوا بلدة لم ينتشر (١) عندهم علم ذلك من جهة الرسول ؛ فيعرفوا ذلك من عند الجن قبل أن يبلغهم الرسول ، فإذا بلغ الرسول من بعد ، التبس الأمر على الذين ظهر فيهم العلم من جهة الجن ؛ فجعل عليهم رصدا ؛ [حتى](٢) ينتشر علم ذلك من جهة الرسول ؛ فترتفع الشبه.

أو يكون الرصد لمنع الجن الذين سمعوا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبلغوا قومهم من الجن ؛ حتى ينتهي الخبر إليهم من جهة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال بعضهم (٣) : (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) : إن الملائكة كانوا يرصدون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإذا جاءه الملك ، قالوا : هذا وحي من الله تعالى ، وإذا جاءه الشيطان أخبروه به.

ولكن هذا بعيد ؛ لا يحتمل أن يخفى عليه وحي الشيطان من وحي جبريل عليه‌السلام.

وقال بعضهم (٤) : (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) ، أي : من بين يدي من يبلغ الرسالة إلى الرسول ، وهو الملك الذي ينزل بالوحي ، جعل بين يديه ومن خلفه ملائكة يرصدونه ؛ كيلا يستلب الشيطان عنه (٥) ، ويحدث فيه حدثا من التغيير والتبديل ؛ ليعلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه إنما يبلغ إليه رسالات ربه.

وهذا بعيد أيضا ؛ لأن للمبلغ [من القوة](٦) ما يدفع أذى الجن عن نفسه ، وهو أمين لا يخاف منه التغيير والتبديل حتى يجعل عليه الرصد ؛ فيؤمن من تبديله ؛ ألا ترى إلى قوله ـ عزوجل ـ : (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ. مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) [التكوير : ٢٠ ، ٢١] ، فوصفه الله تعالى بالقوة والأمانة جميعا.

لكنه جائز أن يكون المبلغ ممتحنا بالتبليغ ، والذين معه من الرصد امتحنوا بأمور أخر ،

__________________

(١) في أ : يتيسر.

(٢) سقط في ب.

(٣) قاله الضحاك أخرجه ابن جرير عنه (٣٥١٥٥).

(٤) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير عنه (٣٥١٦٤) وله طرق أخرى ذكرها السيوطي في الدر المنثور (٦ / ٤٣٨).

(٥) كذا في أ.

(٦) في أ : بالقوة.

٢٦٦

لا أن جعلوا رصدا من الجن.

وجائز أن يكونوا أرسلوا معه ؛ لمكان تعظيم الوحي ، وتشريف الرسالة ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ) :

قال قائلون : ليعلم محمد بالرصد : أن قد بلغ سائر الرسل رسالات ربه على الوجه الذي أمروا كما بلغ هو.

والثاني : أن يعلم كل في نفسه : أن قد أبلغ رسالات ربه.

أو ليعلم الأعداء أن قد أبلغ محمد ـ عليه‌السلام ـ رسالات ربه على الوجه الذي أمر ، لم يقع فيه تغيير من شيطان ، ولا جني ، ولا عدو.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ).

أي : بما عند [الرسل ، أو](١) بما عند الملائكة ، أو بما عند الخلق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) أي : أحاط العلم بالذي هو معدود ، لا بالعد ، وهو كقوله : (وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) [الحجر : ١٩] ، أي : ما يوزن عند الخلق.

أو أحاط العلم بما لدى الكفرة لا بالرصد ، وأن في نصب الرصد محنة وتكليفا على الرصد ، لا أن يقع بهم الحفظ ، وهو كقوله ـ عزوجل ـ : (يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ. وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) [آل عمران : ١٢٥ ، ١٢٦] ، فبين أن النصر من عنده ، وأن الملائكة إنما أرسلت ؛ لتطمئن بها قلوب المؤمنين ، وتركن إليها طباعهم.

(وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) ، أي : كل شيء عنده [معدود ومحصى](٢) ، لا يغفل (٣) ـ جل جلاله ـ عن معرفة عدده ، ولا يعتريه أحوال يعزب عنه فيها علم ذلك ، خلافا لما عليه أمر الخلق ، والله الموفق ، [وصلى الله على سيدنا محمد وآله أجمعين](٤).

* * *

__________________

(١) في أ : الرسول و.

(٢) في ب : محصى معدود.

(٣) في أ : يفضل.

(٤) سقط في ب.

٢٦٧

سورة المزمل [مكية](١)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (٤) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (٥) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (٦) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (٧) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (٨) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (٩) وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (١٠) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (١١) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (١٢) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (١٣) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً)(١٤)

قوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ)

المزمل والمدثر يقتضيان معنى واحدا ، على ما نذكر في سورة المدثر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً. نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ).

جائز أن يكون هذا الأمر كله منصرفا إلى وقت واحد ، فإذا صرفته إلى وقت واحد ، فإما أن يكون قوله ـ عزوجل ـ : (إِلَّا قَلِيلاً. نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) منصرفا إلى قوله : (قُمِ اللَّيْلَ) ، أو إلى قوله : (إِلَّا قَلِيلاً) ، فإن صرفت النقصان إلى قوله : (إِلَّا قَلِيلاً) ، زدت في الأمر بالقيام ، وإن صرفت النقصان إلى قوله : (قُمِ اللَّيْلَ) ، فقد زدت في قوله : (نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً) ؛ فإلى أيهما صرف ، اقتضى الزيادة في أحدهما ، والنقصان في الآخر ؛ فيتفق معناهما ، وهذا نظير قوله تعالى : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) [النساء : ١٧٦] ؛ فمنهم من جعل الكلالة اسما للميت الموروث عنه ، ومنهم من أوقع هذا الاسم على الحي الذي يرث الميت ، وأيهما كان فهو يقتضي معنى واحدا ؛ لأن منزلة الحي من مورثه ومنزلة المورث من الحي واحدة ، لا تختلف.

وجائز أن يكون هذا على اختلاف الأوقات ، على ما ذكره أهل التفسير ؛ فيكون قوله : (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) أمرا بإحياء أكثر الليل ، ثم يكون في قوله : (أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً) تخفيف الأمر عليه ؛ فيكون فيه أن له أن ينقص عن الأكثر.

وقوله : (أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) ، أي : على المقدار الذي أبيح له الانتقاص ، وإذا ارتفع

__________________

(١) سقط في ب.

٢٦٨

الانتقاص (١) عاد الأمر إلى ما كان مأمورا به في الابتداء.

ثم القليل ليس باسم لأعين الأشياء ؛ ولكنه من الأسماء المضافة ، فإذا قيل اقتضى ذكره تثبيت ما هو أكثر منه حتى يصير هذا قليلا إذا قوبل بما هو أكثر منه ؛ فلذلك قالوا بأن قوله (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) ، يقتضي أمر القيام أكثر الليل ؛ ولهذا قال أصحابنا فيمن أقر أن لفلان عليه ألف درهم إلا قليلا : [إنه](٢) يلزمه أكثر من نصف الألف ؛ لأنه استثنى القليل ؛ فلا بد [من](٣) أن يكون المستثنى منه أكثر من المستثنى (٤) حتى [يكون المستثنى قليلا ، كما استثنى](٥) والله أعلم.

[وقوله](٦) ـ عزوجل ـ : (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) :

[الترتيل](٧) هو التبيين في اللغة ، أي : بينه تبيينا.

وقيل : اقرأه حرفا حرفا على التقطيع ؛ لما ذكر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقطع القراءة ، ولكن جائز أن يكون على قراءة التقطيع ؛ لأن التبيين كان في تقطيعه ؛ وإنما أمر بالتبيين لأن القرآن لم ينزل لمجرد (٨) قراءته فقط ، لكنه لمعان ثلاثة :

أحدها : أن يقرأ للحفظ والبقاء إلى يوم القيامة ؛ لئلا يذهب ، ولا ينسى.

والثاني : أن يقرأ ؛ لتذكر ما فيه ، وفهم ما أودع من الأحكام ، وما لله عليهم من الحقوق ، وما لبعضهم على بعض.

والثالث : يقرأ ؛ ليعمل بما فيه ، ويتعظ بمواعظه ، ويجعلونه إماما يتبعون أمره ، وينتهون عما نهى عنه ؛ فنفذ (٩) قراءته في الصلاة يلزمنا هذا كله ، ولا ندرك ذلك إلا بالتأمل ، وذلك عند قراءته على الترتيل (١٠) ، وهذا الذي ذكرناه يوجب اختيار من يرى الوقوف في القرآن ؛ لأن ذلك يدل على المعنى وأقرب إلى الإفهام.

وفيه دلالة أن المستحب فيه ترك الإدغام ، وترك الهمز الفاحش ؛ لأن ذلك أبلغ في

__________________

(١) في أ : النقص.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في ب.

(٤) زاد في ب : منه.

(٥) بدل ما بين في المعقوفين في ب : يجوز.

(٦) سقط في ب.

(٧) سقط في ب.

(٨) في أ : ليجود.

(٩) كذا في أ.

(١٠) في ب : المرسل.

٢٦٩

التبيين ، والأصل أن السامع للقرآن مأمور بالاستماع إليه ، وإذا لزمه الاستماع (١) ، وفي الاستماع الوقوف على حسن نظمه وعجيب حكمته ، والوقوف على معانيه ؛ فلزم القارئ تبيينه ؛ ليصل السامع إلى معرفة معانيه ، ويقف على حسن نظمه ، وعجيب تأليفه ، وذلك يكون أقرب في إفهام السامع والقارئ ؛ لما فيه من لطائف المعاني.

ثم الترتيل (٢) منصرف إلى القراءة ، وسمى القراءة : قرآنا على جهة المصدر ؛ إذ ما هو كلام الله تعالى لا يوصف بالترتيل (٣) ، والله الموفق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) ، ولم يقل : ثقيلا على من؟ فجائز أن يكون الثقل راجعا إلى الكفرة والمنافقين ، ويكون الثقيل الأمر بالجهاد ؛ لأنه اشتد على الفريقين جميعا ، وأيس الكفار من المسلمين أن يعودوا إلى ملتهم ؛ قال الله تعالى : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) [المائدة : ٣] ، وتخلف المنافقون عن القتال مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وثقل ذلك عليهم ، فجائز أن يكون قوله (ثَقِيلاً) ؛ أي : على الكفرة والمنافقين ، وكذا على أهل الكبائر ثقيل أيضا ؛ لأنهم لم يتمنوا أن ينزل عليهم الكتاب ، وأما على المسلمين فليس بثقيل بل هو كما قال تعالى : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) [القمر : ٣٢].

وجائز أن يصرف ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه أمر بتبليغ الرسالة إلى الفراعنة وإلى الخلق كافة ، وفي القيام بالتبليغ إلى الفراعنة مخاطرة بالروح والجسد ، والقيام بما فيه مخاطرة بالروح والجسد أمر ثقيل صعب جدّا.

أو يكون ذلك منصرفا إلى قيام الليل ؛ فيكون معنى : (قَوْلاً ثَقِيلاً) ، : أي الوفاء بما يوجبه ذلك القول.

وجائز أن يكون هذا منصرفا إلى اتباع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنصاره ؛ فيكون ثقله من الوجه الذي كلفوا القيام بفرائضه ، وحفظ حدوده ، وتحليل حلاله ، واجتناب حرامه.

وزعمت الباطنية أن القول الثقيل هو أن كلف الناطق ـ وهو الرسول عليه‌السلام ـ بتفويض (٤) الأمر إلى الأساس ، وهو الباب ، وذلك الأساس والباب هو علي [بن أبي طالب](٥) ـ رضي الله عنه ـ عندهم ، وهم يسمون [الرسول ـ عليه‌السلام ـ : ناطقا](٦) ، ويقولون بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مأمورا بتبليغ التنزيل إلى الخلق ؛ فلما بلغ التنزيل إليهم ،

__________________

(١) لعل هنا سقط.

(٢) في ب : الرسل.

(٣) في ب : الترسل.

(٤) في ب : تفويض.

(٥) سقط في ب.

(٦) في ب : الرسل عليهم‌السلام نطقاء.

٢٧٠

واستغنوا عنه ، احتاجوا إلى من يعلمهم التأويل ؛ فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يسند أمر التأويل إلى علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ ليكون هو الذي يتولى تعليم الخلق تأويله ؛ فذلك هو القول الثقيل ؛ إذ أمر أن يستند (١) إلى غيره ؛ فاشتد عليه إذ صار غيره ولي الأمر ، وبقي هو ساكنا لا ينطق.

فيقال لهم : إن في الأمر بإسناد الأمر إلى من ذكر تخفيف الأمر على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بزعمكم ؛ لأن من مذهبكم : أنه إذا فوض الأمر إلى علي ـ رضي الله عنه ـ قبض هو ـ عليه‌السلام ـ وصورة القبض عندكم : أن يميز الصورة الروحانية النورانية من الصورة الجسدانية التي كانت محتبسة في الصورة الجسدانية ، ثم تتلف الصورة الجسدانية ، وتبعث الصورة الروحانية النورانية إلى دار الكرامة والحبور والخلاص من الحبس ـ لم يشتد ذلك عليه ، ولم يثقل ؛ بل كان فيه ما يرغبه إلى التفويض ، ويدعوه إليه.

ومن مذهب الباطنية : أنهم لا يعلمون أحدا مذهبهم إلا بعد أن يحلفوه (٢) بالأيمان المغلظة بألا يخبر به أحدا ؛ إشفاقا على أنفسهم ، ولو كان الأمر على ما قدروا أن التلف يرد على الصورة الجسدانية التي هي سبب لحبس (٣) الصورة الروحانية ، وإذا تلفت ردت الروحانية إلى دار فيها كل أنواع السرور ـ فما الذي يحوجهم إلى الاستحلاف ، وما بالهم يشفقون على أنفسهم ، وليس في إتلاف أنفسهم إلا الخلاص من الحبس ، والوصول إلى الكرامات ، ومن هذا وصفه حق عليه الموت ؛ ليعلموا (٤) أنهم يعاملون الخلق على خلاف ما يوجبه اعتقادهم ، ولو كان ما اعتقدوا حقا ، لما استجازوا مخالفته (٥) ، ولكن الذي دعاهم إلى ما ذكرنا تسويل الشيطان وتزيينه في قلوبهم ، وما مثلهم إلا مثل اليهود ، الذين ادعوا أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس ؛ فقيل لهم : (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [البقرة : ٩٤] ؛ لأنكم لا تصلون إلى الآخرة إلا بالموت ، فإن كنتم محقين في دعواكم فتمنوا [الموت](٦) لتصلوا إليها ؛ فكان في امتناعهم (٧) عن التمني ما يظهر كذبهم ، ويبطل مقالتهم ، ويبين تمويههم ؛ فكذلك في إشفاق هؤلاء على أنفسهم من الهلاك إظهار وإنباء أنهم قصدوا به قصد التمويه على الضعفة ؛ ليصلوا إلى المأكلة

__________________

(١) في أ : يستدل.

(٢) في ب : يلحقوه.

(٣) في ب : يحبس.

(٤) في أ : ليعلم.

(٥) في ب : مخالفة.

(٦) سقط في ب.

(٧) في ب : الامتناع.

٢٧١

ويتوسعوا به في أمر دنياهم من غير حجة لهم في ذلك.

وبهذا الفصل الذي ذكرنا يحتج على الثنوية ؛ فإن من مذهبهم تحريم القتل والذبح ، وأحق من يرى القتل والذبح مباحين هم ؛ لأن من مذهبهم : أن العالم إنما هو بامتزاج النور والظلمة ، فما من جزء من أجزاء النور إلا هو مشوب بجزء من أجزاء الظلمة ، وكانا متباينين ، فغلبت الظلمة على النور ، فامتزجت به ؛ فصارت الظلمة حابسة (١) للنور ، ومعلوم أن (٢) في القتل تخليص أجزاء النوراني من [حبس الظلمات](٣) ؛ لأن في القتل إزالة السمع والبصر والعقل ، ومعلوم أن السمع (٤) والبصر في هذه الأشياء ، إذ بها رؤية الأنوار ، فإذا امتازت هذه الأشياء من الجسد ، وبقي الجسد الظلماني لا يبصر شيئا ، فقد وصل جوهر النور إلى غرضه ومقصوده بالقتل ، وصار إلى مقره ، فإذا كان القتل يوصله إلى غرضه ويخلصه عن وثاق الظلمة وحبسه ، فقد أحسن القاتل إليه بالقتل والذبح ؛ فلا يجيء أن يجرّم القتل على مذهبهم : بل يجب أن يمدح المرء على ذلك الفعل ، ويستصوب (٥) ذلك منه.

وقال القتبي : القول الثقيل كلام الله تعالى ، وثقله : هو تبجيله وتعظيم حرمته ، ليس كلام السفهاء الذي لا يكترث به ، ولا يؤبه له (٦).

وقال الزجاج : الثقيل : الوزين ، [أي](٧) : الذي له وزن وقدر في القلوب ، الذي يجب أن يعظم ويوقر ، ليس بالقول الذي يستصغر.

وجائز أن يكون القول الثقيل [هو](٨) الحق ؛ على ما روي في بعض الأخبار : «إن الحق ثقيل مر ، والباطل خفيف وفر».

وروي عن أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : «حق لميزان لا يوضع فيه إلا الخير أن يثقل ، وحق لميزان لا يوضع (٩) فيه إلا الباطل أن يخف» ؛ فيكون ثقله العمل بما فيه.

__________________

(١) في أ : ملابسة.

(٢) في ب : بأن.

(٣) في ب : أجزاء الظلمات.

(٤) في أ : النور.

(٥) في ب : واستصوب.

(٦) في ب : به.

(٧) سقط في ب.

(٨) سقط في ب.

(٩) في أ : يوزن.

٢٧٢

وجائز أن يكون القول الثقيل هو تكليف القيام عامة الليل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً) :

قرئ : وطاء ووطئا ، فمن قرأ : وطاء بالمد ، فتأويله من المواطأة ، وهي الموافقة ، أي : موافق للسمع ، والبصر ، والفؤاد ؛ لأن القلب يكون أفرغ بالليالى عن الأشغال التي تحول المرء عن الوصول إلى حقيقة درك [معاني الأشياء](١) ، وكذلك السمع والبصر يكون أحفظ للقرآن ، وأشد استدراكا لمعانيه.

ومن قرأه : (وَطْئاً) ، فهو من الوطء بالأقدام (٢) ؛ فتأويله : أنه أشد على البدن وأصعب ؛ لأن المرء قد اعتاد التقلب والانتشار في الأرض بالنهار ، ولم يعتد ذلك بالليل ، بل اعتاد الراحة فيه ، فإذا كلف القيام والانتصاب برجليه في الوقت الذي لم يعتد فيه القيام ، كان ذلك أشد عليه وأصعب على بدنه.

ولأن المرء بالنهار ليس ينتصب قائما في مكان واحد ، فيمكث فيه [كذلك](٣) ؛ بل ينتقل من موضع إلى موضع ، ولو كلف الانتصاب في مكان اشتد عليه ذلك ، ولحقه الكلال والعناء من ذلك.

ثم أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ينتصب قائما يصلي إلى نصف الليل أو أكثر ؛ فكان في ذلك محنة شديدة ، وكلفة شاقة ، والله أعلم.

ثم الأصل أن المرء ينتشر (٤) بالنهار ؛ لطلب ما يعيش به وليصل إلى ما يتمتع به في أمر دنياه ، وينام الليل ؛ طلبا للراحة ، وإيثارا للتخفيف ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ممنوعا عن اكتساب الأشياء التي يتوصل بها إلى سعة الدنيا إلا القدر الذي يقيم به مهجته ، وكذلك منع عن الراحة بالليالي ، وأمر بإحياء الليل إلا القدر الذي لا بد منه ، والله أعلم.

وجائز أن يكون في الأمر بقيام الليل نوع [من الراحة والتخفيف](٥) ؛ وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألزم بتبليغ الرسالة إلى الناس كافة ، فحمّل تبليغها إليهم بالنهار ، ورفعت عنه الكلفة بالليل ، وأمر بأن يتفرغ لعبادة ربه ، وكان الأمر بالتفرغ للعبادة أيسر من الأمر بتبليغ الرسالة ؛ لأن في الأمر بالتبليغ أمرا بما فيه المخاطرة بالروح والجسد ، وليس في الأمر بالانتصاب قائما أكثر الليل ذلك ؛ وإنما فيه إيصال الوجع إلى بعض أعضائه ؛ فيكون

__________________

(١) في ب : المعاني.

(٢) في ب : بالقدم.

(٣) سقط في ب.

(٤) في أ : يتيسر.

(٥) في ب : راحة وتخفيف.

٢٧٣

فيه بعض التخفيف.

فإن قيل على التأويل [الأول](١) : كيف خص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في باب النكاح ؛ حيث أبيح له فضل العدد ، ولم يبح لأمته ، وفي ذلك زيادة تمتع بشهوات الدنيا؟

فجوابه أن يقال : بأن المعنى الذي به حظر على غيره الزيادة على الأربع ، وقصر الأمر على الأربع هو خوف الجور ؛ ألا ترى إلى قوله ـ عزوجل ـ : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً) [النساء : ٣] ، وإذا كان التحريم للوجه الذي ذكرنا ، ارتفع الحظر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأن الله ـ عزوجل ـ عصمه عن الجور ، ومكنه من العدل بين نسائه ، ثم ليس في إباحة زيادة العدد سوى فضل محنة وكلفة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [لأنه إذا أمر أن يقوم فيما بينهن بالعدل ، وأن يبتغي مرضاتهن بحسن العشرة معهن ، وإنما يصل المرء إلى الإرضاء بالأموال ، ولم يتمتع هو من الدنيا مقدار ما يصل إلى إرضائهن بالأموال ، ولم يتهيأ له أن يصيبهن إلا بسعة الأخلاق ، وأن يبين (٢) لهن لتقر أعينهن ولا يحزن ـ فثبت أنه ليس في إباحة العدد فضل تمتع ، بل فيه زيادة محنة وابتلاء.

وفيه أيضا ما يحقق رسالته ، ويثبت نبوته ؛ لأن المرء إنما يصل إلى توفير الحقوق الواجبة عليه بالنكاح إذا تناول من فضول الدنيا وطعم لذاتها ، وأعطى النفس شهواتها ، ثم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان ممنوعا من إعطائه النفس شهواتها ، ومع ذلك قام بإيفاء حقوق الأزواج ؛ فثبت أنه باللطف من الله تعالى وصل إلى إيفاء حقهن ، ليس بأسباب البشرية.

وفي هذه الآية دلالة أن الصلاة تشتمل على الذكر والفعل جميعا ؛ لأنه قال : أشد على البدن ، وشدته تكون بالفعل ، وقال : (وَأَقْوَمُ قِيلاً) ، وذلك يرجع إلى الذكر.

ثم يجوز أن يكون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكلف تبليغ الرسالة بالليالي ؛ لأن أعداءه من الفراعنة وغيرهم كانت همتهم أن يقتلوه ويمكروا [به] ، ولم يكن يتهيأ لهم إيصال الأذى به ؛ لمكان أتباعه ، والليالي هي أوقات غفلة الأتباع ، [فلو] كلف التبليغ فيها لتمكنوا من إيصال المكر به ؛ فوضع عنه التبليغ ، وامتحنه بالقيام لعبادة ربه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ) قيل : هو من نشأ ينشأ ، أي : نما ، فسميت : ناشئة ؛ لأن الأوقات تحدث ، وتترادف.

وجائز أن يكون المراد من ناشئة الليل ، أي : ما يوجد من الأحوال في الليل من القيام للصلاة ، والاشتغال بعبادة الرب ، جل جلاله.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في أ ، ب : بيتن.

٢٧٤

وقوله : (وَأَقْوَمُ قِيلاً) ، أي : أصوب كلاما ، والأقوم : هو المبالغة في الوصف بما أريد بالقيام ؛ فإن أريد به الكلام ، فحقه أن نصرفه إلى الصدق ؛ إذ الأقوم من الأخبار أصدقها ، وإن أريد به القيام بقاء ما يقتضيه لك الكلام فمعنى قوله (أَقْوَمُ) ، أي : أبلغ في وفاء ما يوجبه القول ، وإن أريد [به] القراءة نفسها فهو بالليالي أقوم قراءة.

[و] قوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) :

أي : فراغا وسعة ومنقلبا ؛ فالسبح يذكر ويراد به الفراغ ، ويذكر ويراد به المشي والتقلب ، وهذا الذي قالوه محتمل ، ولكن لا يجيء أن يصرف تأويل الآية إلى الفراغ ، والتقلب إلى حوائج نفسه ؛ لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن يتناول من الدنيا إلا قدر ما يقيم به مهجته ؛ فلا يحتاج إلى فضل تقلب ، ولا إلى كثير فراغ ؛ ليتوسع في أمر دنياه.

ولكن حقه أن يصرف قلبه إلى تبليغ الرسالة ، ودعاء الخلق إلى توحيد الله تعالى ، وإلى ما يحق عليهم ؛ فيكون في قوله : (إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) ترخيص لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أن ينصب بالليالي للقيام بين يديه ، واجتزأ منه بتبليغ الرسالة بالنهار.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) :

أي : اذكر ربك ؛ دليله قوله على أثره : (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) ، والتبتل يقع إليه لا إلى اسمه ، ثم ذكر المولى ـ جل جلاله ـ هو أن ينظر إلى أحوال نفسه ، ما الذي يلزمه من العبادة في تلك الحال؟ فيكون ذكر ربه بإقامة تلك العبادة ، لا بأن يذكر الله تعالى بلسانه فقط ، وهو كقوله : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) [نوح : ١٠] ، واستغفارهم أن يأتمروا بما أمروا ، وينتهوا عما نهوا ، لا أن يقولوا بألسنتهم : «نستغفر الله» ؛ لأنهم وإن قالوا «نستغفر الله» ، لم يقبل ذلك منهم إذا كانوا كفرة ؛ فثبت أن استغفارهم أن يجيبوا إلى ما دعاهم إليه نوح ؛ فكذلك ذكر الله تعالى يقع بوفاء ما يلزمهم حالة القيام به ، وذلك يكون بالأفعال مرة ، وبالأقوال ثانيا.

ومنهم من صرف الأمر إلى الاسم على ما يؤديه ظاهر اللفظ ، فأمر بذكر اسم الرب لما يحصل له من الفوائد بذكره ؛ لأن من أسمائه أسماء ترغبه في اكتساب الخيرات](١) والإقبال على [عبادة الرب](٢) ، ومنها ما يدعو الذاكر إلى الخوف والرهبة ، ومنها ما يوقفه على عجائب حكمته ، ولطيف تدبيره ، وتقرير سلطانه وعظمته في قلبه ، ومنها ما يحدث له زيادة علم وبصيرة ، وهي الأسماء المشتقة من الأفعال ، فإذا تأمل فيها عرف الوجه الذي

__________________

(١) من أول قوله : «لأنه إذا أمر» إلى هنا بياض في ب.

(٢) في أ : العبادة.

٢٧٥

منه اشتقّ تلك الأسماء ، فذكر أسمائه يحدث له ما ذكرنا من الفوائد والعلوم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً)

التبتل (١) هو الانقطاع إلى الله تعالى ، وأن يقطع نفسه من شهواتها ، ويصرفها عن لذاتها ؛ فكأنه قال : وتبتل إليه ، وبتل نفسك تبتيلا من الشهوات واللذات ؛ ولذلك سميت مريم ـ رضي الله عنها ـ : البتول ؛ لأنها قطعت نفسها عن منافع الدنيا ، وأقبلت إلى الآخرة ، وانقطعت إليه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ)

قال أبو بكر الأصم : تأويله : [ملك المشرق والمغرب](٢) ، وحقه أن يقال : مالك المشرق والمغرب ؛ لأنه هو المالك على التحقيق.

وقال بعضهم : الرب هو المصلح ، ثم خص المشرق والمغرب بالذكر وإن كان هو مالكهما ومالك الخلائق أجمع ؛ لأن ذكر المشرق يقتضي ذكر السموات والأرضين ، وفي ذكر السموات والأرضين ذكر أعلى العليين وأسفل السافلين ؛ لأنه إذا نظر إلى المشرق ورأى ما يطلع في المشرق من عين الشمس ، ثم تجري في أقطار السماء ، وتقطع كل يوم مسيرة ألف عام ، ثم تغرب في عين حمئة ؛ فتصير إلى أسفل السافلين ، وتجري كذلك حتى تصل إلى مطلعها ، ثم تطلع هنالك ؛ فدل ذلك على أن مدبر السموات والأرضين ومنشئهما واحد ، وأن سلطانه في الأرض كسلطانه في السماء ، ويعلم أن من بلغت قدرته هذا المبلغ في أن يسير عين الشمس في يوم واحد مسيرة ألف عام ما يشتد على الخلق قطع هذه المسافة في مدد كثيرة ـ لا يجوز أن يعجزه شيء ، ودل على أن ملكه دائم لا ينقطع ؛ لأن عين الشمس تجري في كل يوم ، على ما سخرت ، لا تتبدل ، ولا تتغير باختلاف الأزمنة والأوقات ، وجعل منافع أهل الأرض متصلة بمنافع السماء ، ولو لم يكن مدبرهما واحدا لارتفع الاتصال (٣) ، وانقطعت منافع السماء عن أهل الأرض ؛ فكان في ذكر المشرق والمغرب دلالة وحدانيته ، وإظهار قوته وسلطانه ، والوقوف على عجائب حكمته ولطائف تدبيره.

ثم تخصيص ذكر المشرق والمغرب دون السماء والأرض ؛ هو ـ والله أعلم ـ لأن هذا أوصل إلى معرفة التوحيد ، وأسرع إلى الإدراك من ذكر السموات والأرض ، وإن كان

__________________

(١) في ب : فالتبتيل.

(٢) في ب : الملك للمشرق والمغرب.

(٣) في ب : الإيصال.

٢٧٦

في [التدبر في](١) أمر السماء والأرض تحقيق ذلك.

وفي قوله ـ عزوجل ـ : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) ، أي : الذي أمرت بذكره هو رب المشرق والمغرب ، وفيه تعريف الوجه الذي يوصل إلى معرفة ربوبيته.

وقوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ، أي : لا معبود يستحق العبادة إلا هو ؛ لأن الذي يحمل الإنسان على عبادة المعبود الخوف والرجاء ، وإذا عرفهم بذكر المشرق والمغرب أن تدبير الخلائق كلها راجع إليه ، وأنه هو القاهر عليهم والقادر [عليهم](٢) ، وبيده الخزائن والمنافع أجمع ، علموا أنه هو الإله الحق ، والرب القاهر ، وأن من سواه مربوب مقهور ، لا يملك نفعا ولا ضرّا ، فكيف يستوجب العبادة والإلهية؟!.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) :

جائز أن يكون أراد به أن كل أمورك كلها إلى الله تعالى حتى يكون هو الذي يدبر ويحكم ، ولا تر لنفسك فيها تدبيرا.

والوكيل في الشاهد هو الذي يدخل في أمر آخر على جهة التبرع ؛ لينصره فيه ، ويعينه ؛ فيكون قوله : (فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) ، أي : اطلب من عنده النصر والمعونة ، والمرء في الشاهد إنما يفزع إلى الوكيل ؛ ليزيح [عن نفسه](٣) علله ، ويقضي عنه حوائجه ، ويقوم عنه في النوائب ؛ فكأنه يقول : افزع إلى الله تعالى في نوائبك ؛ فيكون هو الذي يزيح عنك العلل ، ويقضي عنك الحوائج ، ويكون معتمدك في النوائب ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ)

قال أهل التفسير : تأويله : اصبر على تكذيبهم إياك ؛ ألا ترى إلى قوله في سياق الآية : (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ) ، فثبت أنه دعي إلى الصبر على التكذيب.

وجائز أن يكون منصرفا إلى هذا وإلى غيره ؛ لأنهم كانوا لا يقتصرون على تكذيبه ، بل كانوا ينسبونه إلى الكذب مرة ، وإلى السحر ثانيا ، وإلى الجنون ثالثا ، وإلى أنه يتيم رابعا ؛ فكانوا يؤذونه بأنواع الأذى ؛ فجائز أن يكون قوله : (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) منصرفا إلى كل ذلك.

ثم الأمر بالصبر يقع بخصال ثلاث :

أحدها : ألا تجازهم على تكذيبهم إياك تكذيبك إياهم ، أو لا تجزع عليهم ، وفي

__________________

(١) في أ : التدبير.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : عنه.

٢٧٧

الجزع بعض التسلي والتشفي. ولا تدع عليهم بالهلاك والتبار بل اصبر لذلك.

ولقائل أن يقول : كيف كان يشتد عليه (١) تكذيبهم إياه حتى كاد يتحزن لذلك ، والذين نسبوه إلى الكذب كانوا من أعدائه ، وليس يستثقل التكذيب من العدو ، ولا يستكثر منه ؛ لأنه بما يعاديه يعتقد أن يسيء إليه بجميع ما يمكنه وسعه ، وإنما يستثقل التكذيب من أهل الصفوة والمودة ؛ فكيف استثقله؟ وكيف بلغ به التكذيب مبلغا يحزن به ؛ حتى يدعى إلى الصبر بقوله : (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ..). الآية [الأنعام : ٣٣] ، وبقوله (٢) : (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ)؟

والجواب عن (٣) هذا أن الكذب والجهل مما يستثقلهما العقل والطبع جميعا ، وكذلك التكذيب والتجهيل ، أمر ثقيل على الطبع والعقل جميعا ، حتى إن الكذاب (٤) إذا نسب إلى الكذب ، اشتد عليه ذلك ، ولم يتحامل ، وكذلك الجهول إذا عرف بالجهل ، ثقل ذلك عليه ؛ فإذا كان التكذيب مستقبحا (٥) في عقول الخلق وطبائعهم ، وإن كانت (٦) طبائعهم مشوبة بالآفات وفي عقولهم نقص ، فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع صفاء عقله ، وسلامة طبعه عن الآفات أحق أن يثقل عليه ؛ فيحزن لذلك.

ثم ما من إنسان ينسب إلى الكذب فيما يحدث عن نفسه أو عمن سواه من الخلائق ممن علت رتبتهم أو انحطت إلا وهو يجد لذلك ثقلا ، فكيف إذا أخبر [عن] الله تعالى وكذب فيه ، أليس هذا أحق أن يثقل على القلب ويتحزن له؟!

ويجوز أن يكون حمله على الحزن شدة إشفاقه على المكذبين ؛ لأن تكذيبهم يفضي بهم إلى العطب والهلاك ؛ فأشفق عليهم باشتغالهم بما به هلاكهم ، وحزن لذلك.

أو يكون حزنه غضبا لله تعالى ؛ إذ الرسل كانوا يغضبون لله تعالى ، ويشتدون على أعدائه.

والجواب عن قوله : إن المكذبين كانوا من أعدائه ، فكيف اشتد عليه تكذيبهم ، وذلك أمر غير مستشنع (٧) من الأعداء؟ فنقول : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يعاملهم معاملة الولي مع

__________________

(١) في أ : لا يشتد عليه.

(٢) في ب : وكقوله.

(٣) في ب : على.

(٤) في ب : الكذوب.

(٥) في أ : مستحقّا.

(٦) في ب : كان.

(٧) في أ : مستبدع.

٢٧٨

وليه الصفي ، ولم يكن يعاملهم بما يعامل به الأعداء ؛ لأنه كان يدعوهم إلى ما فيه نجاتهم وشرفهم في أمر دنياهم وآخرتهم ، ومن عامل آخر معاملة أقرب الأصفياء معه ، كان الحق عليهم أن يجازوه بالإحسان ؛ فإذا تركوا ذلك ، وقابلوه بالتكذيب ، اشتد عليه ، وحزن لذلك. ثم في قوله : (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) ، وفي قوله : (وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) [الأحقاف : ٣٥] إبطال قول من قال : إن الله تعالى لا يفعل بعبده إلا ما هو أصلح له ؛ لأنا نعلم أنه إذا أذن لنبي من الأنبياء بالدعاء على استعجال الهلاك ، واستجيب [له] فيما دعا ، كان فيه ما يحمل القوم على الإيمان ، ويردعهم عن التكذيب ؛ لأنهم يخافون حلول النقمة عليهم ؛ فيتركون التكذيب ، ويقبلون على الإجابة ؛ فيكون فيه نجاتهم عن الهلاك ، وشرفهم في أمر دنياهم وآخرتهم ، فإذا لم يؤذن (١) دل أنه ليس من شرط الله تعالى أن يفعل بعباده ما هو أصلح لهم.

فإن قيل : كيف لم يؤذن بالدعاء عليهم ؛ ليحملهم ذلك على الإسلام ، ويمنعهم عن التكذيب؟

قيل له : لأن فيما ذكرته رفع المحنة والابتلاء ؛ لأن الحجة إذ ذاك تقع من جهة الضرورة ؛ لأنهم إذا علموا أنهم يستأصلون بالتكذيب ، امتنعوا عنه ، وأجابوا إلى الإسلام كرها ؛ فتصير الحجج اضطرارية ، لا تمييزية واختيارية ، وحجج الرسل ـ عليهم‌السلام ـ اختيارية ، لا ضرورية ؛ لما ذكرنا أنها لو جعلت اضطرارية ، لارتفعت المحنة ؛ فجعلت حججهم من وجه يقع بها الشبه ؛ ليوصل إلى معرفتها بالفكر ؛ لئلا ترتفع المحنة.

فإن قال قائل : إن أبا حنيفة ـ رحمه‌الله ـ ذكر في كتاب العالم والمتعلم : أن إيمان الملائكة وإيمان الرسل وإيماننا واحد ، ثم قال : فإذا استوينا نحن والرسل في الإيمان ، فكيف صار الثواب لهم أكمل ، وخوفهم (٢) من الله أشد؟

فأجاب عن هذا السؤال بأجوبة ، وقال في جملة ما أجاب : إنهم لو ارتكبوا الزلات يحل بهم العقاب عقيب الزلل ؛ فصار خوفهم بالله تعالى ألزم من هذه الجهة.

ولسائل أن يسأل على هذا ، فيقول : فإذن إيمانهم بالله تعالى ، وتركهم المعاصي ضروري لا اختياري؟!

فيجاب عنه بأن يقال بأن الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ لم يبيّن لهم العصمة ، بل كانوا على خوف من وقوعهم في المهالك ؛ ألا ترى إلى قول إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) [إبراهيم : ٣٥] ، ولو كانت العصمة له ظاهرة ، لكان يستغني عن السؤال.

__________________

(١) في ب : يؤذنوا.

(٢) في ب : وخوفه.

٢٧٩

وقال في قصة شعيب ـ عليه‌السلام ـ : (وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) [الأعراف : ٨٩] ، فثبت أنه لم يبين لهم العصمة ، ونحن إنما شهدنا لهم بالعصمة بالوجود ؛ لأن (١) الحكمة توجب العصمة ، والرسل ـ عليهم‌السلام ـ أمروا بتبليغ الرسالة ، ولم يؤذن لهم بالنظر في أمر من تقدمهم من الرسل ؛ ليظهر لهم العصمة بالتدبر والتفكر ؛ فثبت أنهم كانوا على الخوف والرجاء في فكاك أنفسهم ، وفي وقوعها [في المهالك](٢) ، وأن إيمانهم بالله تعالى لم يكن ضروريّا ، بل وصلوا إلى معرفته بالتمييز ؛ لذلك عظمت درجاتهم.

والثاني : أن الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ قد كان تقرر في قلوبهم هيبة الله تعالى وعظمته ؛ فكانت المعرفة هي التي دعتهم إلى الإيمان به ، لا خوف حلول العقوبة بهم لو ارتكبوا الزلات ، وأما الكفرة ، فلم (٣) يعرفوا عظمة الله تعالى ، ولا قدرته ، ولا سلطانه حتى يحملهم ذلك على الإيمان به ، فلو حلت العقوبة بهم بالتكذيب ، لكان الخوف هو الذي يحملهم على الإيمان لا غير ؛ فيصير إيمانهم ضروريا ؛ فلهذا لم يعاقبوا بالتكذيب ؛ لئلا ترتفع المحنة ، وخولف بينهم وبين غيرهم ، وهذا كما نقول بأن أنباء من تقدم من الرسل حجة لرسولنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم في إثبات نبوته ، وإن كانت تلك الأنباء قد عرفها أهل الكتاب ، وأخبروا بها ؛ لأن أهل الكتاب عرفوا تلك الأنباء بالتعلم والتلقين ، ولم يختلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى من عنده علم تلك الأنباء ؛ فعلم أنه بالله تعالى علم ، لا بتعليم أحد ؛ فصارت الأنباء حججا لذلك ، ولو لم تصر لغيره حجة ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) :

جائز أن يكون تأويله : اهجرهم وقت سبهم ، ونسبتهم إياك إلى ما لا يليق بك ، ولا تعبأ بهم ، ولا تكترث إليهم ، وإلى ما يتقولون عليك ؛ لأن ذلك بعض ما يزجر (٤) المتقول والساب عما هو فيه ، وهو كقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) [الفرقان : ٦٣].

ويحتمل أن يكون تأويله : أن انقطع عنهم انقطاعا جميلا ، والانقطاع الجميل : ألا يترك شفقته عليهم ، ولا يدعو عليهم بالهلاك ، ولا يمتنع عن دعائهم إلى ما فيه رشدهم

__________________

(١) في ب : لا أن.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : لم.

(٤) في ب : يوجب.

٢٨٠