تأويلات أهل السنّة - ج ٢

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة - ج ٢

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٥٧٣

١
٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)(١٧٧)

قيل : (لَيْسَ الْبِرَّ) فى نفس التوجه إلى ما ذكر دون الإيمان.

ويحتمل : (لَيْسَ الْبِرَّ) فى ذلك ، ولكن البر لمن يقصد إليه ، إذ قد يقع ذلك لحوائج تعرض ، تخرج عن القربة.

ويحتمل : (لَيْسَ الْبِرَّ) فى التوجه إلى كذا ، ولكن البر فى الائتمار لأمره والطاعة له ، والبر هو الطاعة فى الحقيقة.

وقيل (١) : (لَيْسَ الْبِرَّ) تحويل الوجه إلى المشرق والمغرب ، (وَلكِنَّ الْبِرَّ) ما ثبت فى القلب من طاعة الله وصدقته الجوارح.

وقيل (٢) : (لَيْسَ الْبِرَّ) أن تصلوا ولا أن تعملوا غير الصلاة. كل ذلك يرجع إلى واحد.

وجملته أن يقال : ليس البر كله ذلك ، لكن ما ذكر ، إذ ذلك الوجه هم استعظموه حتى قال الله تعالى : (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) [البقرة : ١٤٥].

والثانى : أن يكون ذلك بنفسه ليس ببر ، وإنما صار برّا بالأمر به ، أو بما ذكر من الإيمان والخيرات. فلمّا زال عنه الوجهان سقط فعله أن يكون برّا.

وقوله : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) ، بأنه واحد ، لا شريك له. يعنى صدق بالله بأنه واحد ، لا شريك له.

(وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ، وصدق بالبعث الذى [فيه] جزاء الأعمال ، وصدق بالكتب ، والملائكة ، [والكتاب](٣) والنبيين.

وللبر تأويلان :

أحدهما : ما قيل.

والثانى : على الإضمار ؛ كأنه قال : ليس البر بر من يولى وجهه ، ولكن البر بر من آمن بالله ، كما قال : (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ

__________________

(١) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٥٢٢ ، ٢٥٢٣ ، ٢٥٢٤).

(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٥٢١ ، ٢٥٢٤) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٣١٠).

(٣) سقط فى ط.

٣

فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ) [التوبة : ١٩] ، أى أجعلتم سقاية الحاج كإيمان من آمن بالله؟

وقيل : أجعلتم صاحب السقاية كمن آمن بالله؟

وقيل (١) : إن البر بمعنى : البار ، يقول ليس البار من يحول وجهه قبل كذا ، ولكن البار (مَنْ آمَنَ بِاللهِ) الآية.

وقوله : (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ).

قيل : أعطى على حاجته.

وقيل : على قلته (٢) آثر غيره على نفسه ؛ كقوله : (وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) [الحشر : ٩].

وقيل (٣) : (عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى) أى ذوى قرابته.

وفيه دلالة أن الأفضل أن يبدأ بصلة قرابته ، ثم اليتامى ؛ لأن على جميع المسلمين حفظهم ؛ ولأنهم أضعف ، فيبدأ بهم قبل المساكين.

روى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : «ليس المسكين الذى ترده اللقمة واللقمتان ، والتمرة والتمرتان. قيل : فما المسكين يا رسول الله؟ قال : الذى لا يجد ما يغنيه ولا يسأل الناس ، ولا يفطن به فيتصدق عليه» (٤).

__________________

(١) قاله البغوى (١ / ١٤٣).

(٢) فى ب : عاقلته.

(٣) قاله سعيد بن جبير ، أخرجه ابن أبى حاتم عنه كما فى الدر المنثور (١ / ٣١٣).

(٤) ورد ذلك من حديث أبى هريرة وابن مسعود :

فأما حديث أبى هريرة فأخرجه البخارى (٣ / ٣٩٨) فى الزكاة ، باب قول الله تعالى : (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) (١٤٧٦ ، ١٤٧٩) ، (٨ / ٥٠) فى التفسير باب (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) (٤٥٣٩) ، ومسلم (٢ / ٧١٩ ـ ٧٢٠) فى الزكاة ، باب المسكين الذى لا يجد غنى ، ولا يفطن له فيتصدق عليه (١٠١ ـ ١٠٢ / ١٠٣٩) ، وأبو داود (١ / ٥١٣) فى الزكاة ، باب من يعطى من الصدقة وحد الغنى (١٦٣١ ، ١٦٣٢) ، والنسائى (٥ / ٨٦) فى الزكاة ، باب تفسير المسكين ، ومالك (٢ / ٩٢٣) ، فى صفة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، باب ما جاء فى المساكين (٧) ، وأحمد (٢ / ٢٦٠ ، ٣١٦ ، ٣٩٣ ، ٣٩٥ ، ٤٥٧ ، ٤٦٩) ، والدارمى (١ / ٣٧٩) فى الزكاة ، باب المسكين الذى يتصدق عليه ، وأبو يعلى (٦٣٣٧) ، والحميدى (١٠٥٩) ، والبيهقى (٧ / ١١) من طرق عنه.

وأما حديث ابن مسعود فأخرجه أحمد (١ / ٣٨٤ ، ٤٤٦) ، وأبو نعيم فى الحلية (٧ / ١٠٨) ، وأبو يعلى (٥١١٨) عن إبراهيم بن مسلم الهجرى عن أبى الأحوص عن ابن مسعود مرفوعا ، به.

قال الهيثمى (٣ / ٩٥) : رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.

٤

(وَابْنَ السَّبِيلِ).

قيل (١) : هو الضيف ينزل بالمسلمين.

وقيل (٢) : هو المنقطع ـ حاج أو غاز ـ وقيل : هو المجتاز وهو واحد.

(وَفِي الرِّقابِ).

قيل (٣) : هم المكاتبون.

(وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ) ، ظاهر.

(وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا)

يحتمل : العهود التى بينهم وبين الناس.

ويحتمل : العهود التى فيما بينهم وبين ربهم. وقد ذكرنا العهد من الله تعالى ـ ما هو؟ ـ فيما مضى.

وفى حرف ابن مسعود ، رضى الله عنه ، (والموفين) (٤) على النسق على الأول.

قيل : إذا عاهدت عهدا بلسانك تفى به بعملك وفعلك.

ثم ليس فى القرآن آية أجمع لشرائط الإيمان من هذه ، وكذلك روى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه سئل عن الإيمان ، فقرأ هذه الآية (٥).

وهكذا روى عن عبد الله بن مسعود ، رضى الله عنه ، أنه سئل عن الإيمان ، فتلا هذه الآية.

وقوله : (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ).

قيل : فى الآية تقديم وتأخير : «السائلين وفى الرقاب والصابرين». وعلى هذا يخرج حرف ابن مسعود ـ رضى الله تعالى عنه : «والموفين بعهدهم».

وقوله : (الْبَأْساءِ).

من البأس ، وهو الفقر.

(وَالضَّرَّاءِ).

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن أبى حاتم عنه كما فى الدر المنثور (١ / ٣١٣) ، وقاله قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٥٤١).

(٢) قاله مجاهد وقتادة ، أخرجه ابن جرير عنهما (٢٥٤٣ ، ٢٥٤٤) ، وانظر تفسير البغوى (١ / ١٤٣).

(٣) قاله ابن جرير (١ / ١٠٣) ، والبغوى (١ / ١٤٣).

(٤) ينظر : المحرر الوجيز (١ / ٢٤٤) ، والبحر المحيط (٢ / ٩) ، والدر المصون (١ / ٤٤٩).

(٥) أخرجه إسحاق بن راهويه فى مسنده وعبد بن حميد وابن مردويه عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبى ذر ، وأخرجه ابن أبى حاتم من طريق آخر عنه كما فى الدر المنثور (١ / ٣١٠).

٥

قيل (١) : هو المرض والسقم.

(وَحِينَ الْبَأْسِ).

قيل (٢) : عند القتال.

وقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا).

فى إيمانهم ، أنهم مؤمنون ، وصبروا على طاعة ربهم.

وقوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ).

وقيل (٣) : الذين صدقوا فى إيمانهم وأولئك هم المتقون. روى عن عمرو بن شرحبيل (٤) ، أنه قال : «من عمل بهذه الآية فهو مستكمل الإيمان».

قال الفقيه أبو منصور : تمام كل شىء باجتماع ما يزينه. ألا ترى أن المصلى إذا اقتصر على فرائضها لم يتم له؟!

قوله تعالى : وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٨) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(١٧٩)

قيل (٥) : نزلت الآية فى جيشين من العرب ، كان وقع بينهما حرب وقتال ، وكان لإحداهما فضل وشرف على الأخرى. فأرادوا بالعبد منهم الحر من أولئك ، وبالأنثى منهم الذكر. فأنزل الله تعالى : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى). وهى منسوخة ؛ لأن فيها قتل غير القاتل. نسخها قوله : (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً) [الإسراء : ٣٣].

قيل : لا تسرف ولا تقتل غير قاتل وليك.

__________________

(١) قاله ابن مسعود ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٥٤٧ ، ٢٥٤٨ ، ٢٥٤٩) ، وعن قتادة (٢٥٥٠) ، والربيع (٢٥٥١) ، وغيرهم. وانظر الدر المنثور (١ / ٣١٥).

(٢) قاله ابن مسعود ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٥٥٦ ، ٢٥٥٧) ، وعن مجاهد (٢٥٥٨) ، وقتادة (٢٥٥٩) ، وغيرهم. وانظر الدر المنثور (١ / ٣١٥).

(٣) قاله الربيع بنحوه ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٥٦٤) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٣١٥).

(٤) عمرو بن شرحبيل الهمدانى أبو ميسرة الكوفى أحد الفضلاء روى عن عمر وعلى وعنه أبو وائل والقاسم بن مخيمرة مات قديما. ينظر : الخلاصة (٢ / ٢٨٧) (٥٣١٣).

(٥) قاله الشعبى ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٥٦٦ ، ٢٥٦٩) ، وعن قتادة (٢٥٦٧ ، ٢٥٦٨) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٣١٦).

٦

وقيل : لا تسرف ، أى : لا تمثل فى القتل.

وقيل : لا تسرف فى القتل ، أى : لا تقتل أنت إذ هو منصور.

فثبت بهذا نسخها ؛ إذ لم يؤذن بقتل غير القاتل.

وقوله أيضا : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) [المائدة : ٤٥] ، ولا يحتمل نفس غير القاتل يقتل بنفس. دليله قوله : (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) [المائدة : ٤٥] ، ولا يتصدق على غير القاتل. ثبت أنها منسوخة (١) بما ذكرنا.

وفى الثانى : قال الله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ) [البقرة : ١٧٩] ، لما إذا همّ بقتل آخر يذكر (٢) قتل نفسه ، فيرتدع عن قتله ، فيحيا به النفسان جميعا ، فلو لزم قتل غير القاتل لم يكن فيه حياة ، إذ لا يخشى تلف نفسه.

ثم هذا يدل على وجوب القصاص بين الحر والعبد ، وبين الكافر والمسلم ، إذ لو لم يجعل بينهما قصاص لم يرتدع أحد عن قتلهم ، إذ لا يخشى تلف نفسه بهم. فدل أنهم يقتلون بهم. والله أعلم.

هذا فيما يجعل الآية ابتداء ، لا فى الحيين ، اللذين ذكرا به.

ثم يقال : ليس فى ذكر شكل بشكل تخصيص الحكم فيه وجعله شرطا ونفيه فى غير شكله. دليله ما روى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : «خذوا عنى خذوا عنى ، قد جعل الله لهن سبيلا ، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ، والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة» (٣). ثم إذا زنى البكر بالثيب وجب ذلك الحكم ، فدل أن ليس فى ذكر شكل بشكل تخصيص فى الحكم ، [ولكن فيه إيجاب الحكم](٤) فى كل شكل إذا ارتكب ذلك وهو أن يقتل الحر إذا قتل آخر. والحرية لا تمنع الاقتصاص لفضله. وكذلك العبد إذا قتل آخر يقتل به ، والرق لا يمنع ذلك للذلّ الذى فيه.

وكذلك الأنثى تقتل إذا قتلت أخرى ، ولا يمنع ما فيها من الضعف فى وجوب القصاص. وبالله التوفيق.

__________________

(١) فى ط : آنفا منسوخها.

(٢) فى ب : تفكر.

(٣) أخرجه مسلم (٣ / ١٣١٦) كتاب الحدود ، باب : حد الزنى ، حديث (١٢ / ١٦٩٠) ، وأبو داود (٤ / ٥٦٩ ـ ٥٧٠) كتاب الحدود ، باب : فى الرجم ، حديث (٤٤١٥) ، والترمذى (٤ / ٤١) كتاب الحدود ، باب : الرجم على الثيب ، حديث (١٤٣٤) ، والدارمى (٢ / ١٨١) كتاب الحدود ، باب : فى تفسير قول الله تعالى : (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) ، وأحمد (٥ / ٣١٣ ، ٣١٧ ، ٣١٨ ، ٣٢٠ ، ٣٢١) ، وابن أبى شيبة (١٠ / ٨) ، وأبو داود الطيالسى (١ / ٢٩٨ ـ منحة) رقم (١٥١٤).

(٤) سقط فى أ.

٧

وله وجه آخر : وهو أنه قال : (وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى). ومن الإناث إماء ، وقد أمر بالاقتصاص بينهن ، فلئن وجب تخصيص ما ذكر خاصّا ، وجب أن يذكر عامّا ما ذكر فيه العموم.

فإن قيل : على عموم الاسم فى أحدهما ، وخصوص القول فى الآخر.

قيل : ليس هكذا. لو كان فى ذكر الوفاق فى الاسم منع الحق عن ذلك الوجه المذكور إذ ذكر فى الخلاف لم يدخل فيما ذكر فى الوفاق ما ليس منه. فإذا دخل علم أن ذكر الوفاق فى الخلاف فى حق إدخال ما ليس من شكله بمحل واحد.

ثم يقال : إن نفس العبد للعبد فى حق الجناية ، لا للمولى. إنما للمولى فى نفسه الملك والمالية ، ألا ترى أن العبد لو أقر على نفسه بالقصاص أخذ به ، ولو أقر عليه مولاه لم يؤخذ به. فدل أن نفسه له ، لا للمولى. فكان كنفس الحر للحر. فيجب أن يقتل الحر به ، إذ هو ساوى الحر فى حق النفس ، فيجب أن يسوى بينهما فى حق القصاص.

وقال بعض الناس : لا يقتل الحر بالعبد ؛ لأنه أفضل منه. ثم هو يقول : إنه يقتل الذكر بالأنثى. وهو أفضل. وقال : إن القصاص إنما ذكر فى المؤمنين. ثم قال بالعموم ، وألزم قتل الكافر بالمؤمن ، ولم يذكر فى القصاص الكافر ، وترك القصاص للكافر من المؤمن على عموم إيجاب القصاص على المؤمنين. فإذا جاز ترك القصاص ، على ما ذكر فيه ، وإدخال من لم يذكر فى حق الاقتصاص ، ما يجب إنكار مثله فى الذى ذكر عقيب ذكر الحق ؛ وهم بأجمعهم تحت الإيجاب مذكورين. ثم الإناث بالإناث مع اختلاف الأحوال يلزم القصاص ، كيف لا لزم مثله فى الأحرار؟

والأصل فى هذا : ألا يعتبر فى الأنفس المساواة. ألا ترى أن الأنفس تقتل بنفس واحدة. هكذا روى عن عمر ، رضى الله تعالى عنه ، «أنه قتل رجلا بامرأة». وروى أنه قتل سبعة نفر بامرأة ، وقال : لو تمالأ عليها أهل صنعاء لقتلتهم (١). وقال : وروى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : لا يقتل مسلم بكافر» (٢).

ثم قال صاحب هذا القول : لو أن كافرا قتل كافرا ثم أسلم القاتل يقتل به. فهو قتل

__________________

(١) أخرجه مالك (٢ / ٨٧١) ، ومن طريقه الشافعى (٣٣٣ ـ ترتيب المسند) ، وعنه البيهقى (٨ / ٤٠ ـ ٤١) ، وصححه العلامة الألبانى فى الإرواء (٢٢٠١).

(٢) طرف من حديث على ، أخرجه البخارى (١ / ٢٧٥) ، كتاب العلم باب كتابة العلم (١١١) ، وأحمد (١ / ٧٩) ، والترمذى (٣ / ٨٠) كتاب الديات باب ما جاء : لا يقتل مسلم بكافر (١٤١٢) ، وابن ماجه (٤ / ٢٤١ ـ ٢٤٢) ، كتاب باب لا يقتل مؤمن بكافر (٢٦٥٨) ، والنسائى (٨ / ٢٣) ، كتاب القسامة باب سقوط القود من المسلم للكافر.

٨

مسلما تقيّا برّا بكافر ، إذ الإسلام يطهره. ولم يقتل مسلما فاسقا ارتكب الكبيرة بالكافر ، إذ القتل يفسقه.

والمسلم أحق أن يقتل بالكافر من الكافر بالمسلم. وذلك أن المسلم هتك حرمة الإسلام بقتل الكافر ؛ لأنه اعتقد باعتقاد دين الإسلام حرمة دم الذمى ، وهو بقتله كمستخف بمذهبه.

وأما الذمى فإنه لا يعتقد باعتقاد مذهبه حرمة دماء أهل الإسلام ، فهو ليس بقتل المسلم كمستخف بمذهبه ، والمسلم كمستخف بدينه (١) ، على ما ذكرنا. لذلك كان أحق بالقصاص من الكافر.

ألا ترى أن من قتل فى الحرم قتل به ؛ لأنه هتك حرمة الحرم كالمستخف به.

وإذا قتل خارجا منه ، ثم التجأ إليه ، لم يقتل به حتى يخرج منه ؛ لأنه ليس كمستخف له ، والأول مستخف ؛ لذلك افترقا. فكذلك الأول. والله أعلم.

والخبر عندنا يحتمل وجهين :

أحدهما : قيل : إن قوما قتل بعضهم بعضا فى الجاهلية ، فأسلم بعضهم ، فأراد أولئك أن يأخذوا من أسلم منهم بالقصاص ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يقتل مسلم بكافر» ، كما قال : «كل دم كان فى الجاهلية فهو موضوع تحت قدمى هذا» (٢).

والثانى : أنه أراد بالكافر المستأمن ؛ لأنه قال : «لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد فى عهده». فنسق قوله : «ذو عهد» على المسلم ، فكان معناه : لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد به. فكل كافر لا يقتل به ذو عهد فى عهده لم يقتل به المسلم. فالذمى يقتل به ذو العهد ، لذلك يقتل به المسلم. والمسلم إذا قتل مستأمنا لم يقتل به. وكذلك الذمى. فدل

__________________

(١) فى ب : بمذهبه.

(٢) أخرجه أبو داود (٤ / ٧١١) كتاب : الديات ، باب : فى دية الخطأ شبه العمد ، حديث (٤٥٨٨) ، وابن ماجه (٢ / ٨٧٧) كتاب : الديات ، باب : دية شبه العمد ، حديث (٢٦٢٧) ، والنسائى (٨ / ٤١) كتاب : القسامة ، باب : دية شبه العمد ، وابن الجارود فى المنتقى رقم (٧٧٣). والبخارى فى التاريخ الكبير (٦ / ٤٣٤) ، والدار قطنى (٣ / ١٠٤) كتاب : الحدود والديات وغيره ، حديث (٧٨) ، وابن حبان (١٥٢٦ ـ موارد) ، والبيهقى (٨ / ٤٤) كتاب : الجنايات ، باب : دية شبه العمد ، كلهم من طريق خالد الحذاء عن القاسم بن ربيعة عن عقبة بن أوس عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا إن كل مأثرة كانت فى الجاهلية تعد وتدعى من دم أو مال تحت قدمى إلا ما كان من سقاية الحاج وسدانة البيت» ، ثم قال : «ألا إن دية الخطأ ما كان بالسوط أو العصا مائة من الإبل ، منها أربعون فى بطونها أولادها» ، صححه ابن حبان.

قلت : وأصله فى صحيح مسلم (١٤٧ / ١٢١٨) عن جابر بن عبد الله فى سياق طويل.

٩

بما ذكرنا أنه أراد بالكافر المستأمن ، لا الذمى. والله أعلم.

وقوله : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ).

اختلف فى تأويله :

قال بعضهم : هو القاتل. إذا عفى له : معناه : عنه. فيتبع الولى بأخذ الدية بالمعروف ، شاء القاتل أو أبى.

احتج بما روى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى رجل اختصم إليه فى قاتل أخيه ، فقال : أتعفو عنه؟ قال : لا. قال : أتأخذ الدية؟ قال : لا. قال : أتقتله؟ قال : نعم» (١).

عرض عليه الدية ، ولو كان غير حقه لم يعرض عليه.

وقال فى بعض الأخبار : «ولى القتيل بين خيرتين : بين قتل وأخذ دية».

وأما عندنا : تأويل قوله تعالى : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) ليس هو القاتل ؛ لأنه يكون معفوا عنه ؛ ولأنه لا يتبع أحدا وهو المتبع ، بل هو الولى ؛ لأنه هو المعفو له ، لا القاتل ، حيث أمر بالاتباع بالمعروف ؛ كأنه قال : من بذل له وأعطى من أخيه شىء فاتباع بالمعروف ؛ وذلك جائز فى اللغة ؛ العفو بمعنى البذل والإعطاء ، على ما قيل : خذ ما آتاك عفوا صفوا ، أى فضلا. وكذلك روى عن عبد الله بن عباس ، رضى الله عنه ، أنه قال : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ) ، أى : أعطى له (٢). والحق عندنا : هو القود ، لا غير ، على ما جاء عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «العمد قود إلا أن يعفو ولى المقتول» (٣) ، وقد روى فى بعض الأخبار : «إلا أن تفادى» (٤). والمفاداة : هو فعل اثنين ، فلا يأخذه إلا عن تراض

__________________

(١) طرف من حديث وائل بن حجر ، أخرجه مسلم (٣ / ١٣٠٧ ـ ١٣٠٨) كتاب القسامة ، باب صحة الإقرار بالقتل (٣٢ / ١٦٨٠) ، والدارمى (٢ / ١٩١) ، كتاب الديات ، باب لمن يعفو عن قاتله ، وأبو داود (٤ / ١٦٩ ـ ١٧٠) كتاب الديات باب الإمام يأمر بالعفو عن الدم (٤٤٩٩ ، ٤٥٠٠ ، ٤٥٠١) ، والنسائى (٨ / ١٣) ، كتاب القسامة باب القود.

(٢) أخرجه ابن جرير بنحوه (٢٥٨٠ ، ٢٥٨١ ، ٢٥٨٢ ، ٢٥٨٣).

(٣) أخرجه ابن أبى شيبة وإسحاق بن راهويه فى مسنديهما ، والدارقطنى (٣ / ٩٤) ، والطبرانى فى معجمه عن ابن عباس كما فى نصب الراية للزيلعى (٤ / ٣٢٧) ، واللفظ لابن أبى شيبة ، وزاد إسحاق : «والخطأ عقل لا قود فيه وشبه العمد قتيل العصا والحجر ورمى السهم فيه الدية مغلظة من أسنان الإبل».

وللحديث طريق آخر أخرجه أبو داود (٤ / ١٨٣) كتاب الديات باب من قتل فى عمياء بين قوم (٤٥٣٩ ، ٤٥٩١) ، والنسائى (٨ / ٣٩) ، كتاب القسامة ، باب من قتل بحجر أو سوط ، وابن ماجه (٤ / ٢٢٦) كتاب الديات ، باب من حال بين ولى المقتول وبين القود والدية (٢٦٣٥) ، والبيهقى (٨ / ٢٥ ، ٥٣).

(٤) طرف من حديث أبى هريرة.

أخرجه : البخارى (١ / ٢٧٧ ـ ٢٧٨) ، كتاب العلم ، باب كتابة العلم (١١٢) ، ومسلم (٢ / ـ

١٠

واصطلاح منهما جميعا.

وفى الآية دلالة : أن الحق : هو القصاص ، لا غير ، بقوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ) أخبر أن المكتوب عليه والمحكوم القصاص ، فلو كان الخيار بين القصاص والعفو وأخذ الدية ـ شاء أو أبى ـ لكن لا يكون مكتوبا عليه القصاص ، ويذهب فائدة قوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ) إنما كان يكون عليه أحدهما ، كما لا يقال فى الكفارة : بأن المكتوب عليه العتق ، بل أحد الثلاثة. فلما قال : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ) دل أن أخذ الدية كان كالخلف عنه.

وما روى عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قال لولى القتيل : «أتعفو عنه»؟ قال : «لا». فقال : «أتأخذ الدية»؟ قال : «لا» (١). إنما عرض عليه الدية ، لما علم أن القاتل يرضى بذلك ، على ما روى أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرته بغض زوجها. فقال لها : «أتردين عليه حديقته؟» قالت : نعم ، وزيادة. فقال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما الزيادة فلا» (٢) وإنما قال لها ذلك لما علم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه يرضى بطلاقها إذا ردت عليه حديقته ؛ فعلى ذلك الأول.

ولو كانت لفظة «العفو» تعبر عن إلزام الدية ما أحوجه إلى ذكر الإشارة إلى العفو مرة ، وإلى أخذ الدية ثانيا ؛ فثبت أن ليس للذى يعفو أن يأخذ الدية بالعفو.

وقيل فى قوله : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ) : أصلها أنها نزلت فى دم بين نفر يعفو أحدهم عن القاتل ، ويتبع الآخرون بالمعروف فى نصيبهم ؛ لأنه ذكر «الشىء» ، والشىء : هو العفو عن بعض الحق. فألزم الاتباع للآخرين عند عفو بعض حقه ؛ ثبت أن العفو لا يلزم الدية.

وروى عن عمر (٣) وعبد الله بن مسعود (٤) وعبد الله بن عباس ، رضى الله تعالى عنهم ، أنهم أوجبوا فى بعض عفو الأولياء ، للذين لم يعفوا ـ الدية ، على ترك السؤال عمن عفا عنك عفوت بدية ، ولو كان ثم حق ذكروه له ؛ فدل أن العفو لا يوجب الدية.

__________________

 ـ ٩٨٨) كتاب الحج ، باب تحريم مكة وصيدها (٤٤٧ / ١٣٥٥).

(١) تقدم.

(٢) أخرجه البخارى (٩ / ٣٩٥) كتاب : الطلاق ، باب : الخلع ، حديث (٥٢٧٣) ، والنسائى (٦ / ١٦٩) كتاب : الطلاق ، باب : ما جاء فى الخلع ، وابن ماجه (١ / ٦٦٣) كتاب : الطلاق ، باب : المختلعة تأخذ ما أعطاها ، حديث (٢٠٥٦) ، والدارقطنى (٤ / ٤٦) كتاب : الطلاق والخلع والإيلاء (١٣٥) ، والبيهقى (٧ / ٣١٣) ، والبغوى فى شرح السنة (٥ / ١٤١ ـ ١٤٢) من طريق عكرمة عن ابن عباس به.

(٣) انظر السنن الكبرى للبيهقى (٨ / ٥٩ ـ ٦٠).

(٤) ينظر : التخريج السابق.

١١

والله أعلم.

ثم لا يخلو إما أن يكون حقه القصاص ثم له تركه بالدية ؛ فهو إلزام بدل حق قبل (١) آخر من غير رضاه ، وذلك مما لم يعقل فى شىء ، أو كلاهما ، فهو أيضا كذلك ، لا يكون أحدهما إلا باجتماعهما ، أو أحدهما وهو مجهول ؛ فالعفو عنه يبطل حقه ، إذ العفو ترك.

وقال : إن فى أخذ الدية إحياء النفس التى أمر الله بإحيائها ، وفى الامتناع عن أداء الدية إليه والبذل له إذن بالقتل.

ومن قول الجميع : إن أحدا لو قال لآخر : اقتلنى ، أنه لا يعمل بإذنه. فإذا كان معنى الامتناع عن أداء الدية هو إذن بالقتل ، لم يأذن له.

يقال له : أبعدت القياس والتشبيه ؛ لأن فيما نحن فيه إذنا بالقتل ، وظهر الأمر به ، وفيما ذكرت لم يظهر ، حيث قال : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ) ، فأنى يشبه هذا بذلك ويقاس عليه؟

أو أن يقال : لو كان الأمر كما ذكرت لكان يجىء أن يكون الصلح على كل شىء ماله ، وفيه تلف نفسه أن ليس له منعه.

ومن قول الجميع : إن له المنع وجائز وقوع الصلح على ما فيه تلف ماله. ثبت أن ما يقوم له وهم.

وبعد ، فإن الذى ذكرت تدبير الحق عليه أن يفعل ، لا تدبير الإلزام. ولو كان ذلك لازما ، لكان يقتله ببذله نفسه فيغرم فاعل ذلك ؛ وهذا كما يغنى الرجل بشراء ما به قوام نفسه عند الضرورة إلا أن يلزم لو أبى ذلك ، فمثله ديته ، بمعنى أن فى ذلك تلف نفس تلك قيمته ، فمثله الأول.

وما روى فى التخيير بين أخذ الدية ، وما ذكر فهو ـ والله أعلم ـ على بيان الحل والرخصة على ما قيل : إن من حكم التوراة القتل ، ولا يجوز لهم العفو ولا أخذ الدية ، ومن حكم أهل الإنجيل العفو ، لا يقتل بالقصاص ، ولا تؤخذ الدية ، فحكم الله عزوجل على أهل القرآن : أن جعل لهم القتل مرة ، والعفو ثانيا ، وأخذ الدية تارة ؛ فدل أنه يخرج مخرج بيان الحل والرخصة. إذا طابت به نفس من عليه ذلك يبذله إذا طلب ، ولا يوجب قطع الخيار من الآخر. ولهذا ما نقول فى قوله : (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) [البقرة : ١٩٦] ، وقوله فى التخيير فى الكفارة : إن ذلك إلى من عليه ، لا إلى من يأخذ. إذ الحق هاهنا من جانب واحد. فيجعل الخيار إلى من عليه إذا كان من كلا الجانبين يعتبر

__________________

(١) فى ط : قتل.

١٢

رضاءهما جميعا ، والله أعلم.

وقوله : (ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ).

لما ذكر من إباحة العفو فى حكم القرآن ، ولم يكن فى حكم غيره من الكتب ، وأخذ الدية أو القتل ، ولم يكن فى حكم التوراة والإنجيل إلا واحد.

ويحتمل : أن كان فى التوراة هذا أو هذا كما قال : (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ). واحتمل أنه ذكر القود شرعا لنا ، وقوله : (فَمَنْ تَصَدَّقَ) ، لنا خاصة.

وقوله : (وَرَحْمَةٌ).

فيه دلالة ألا يقطع صاحب الكبيرة عن رحمة الله ؛ لأنه أخبر أن التخفيف رحمته فى الدنيا ، فإذا لم يوفهم (١) فى الدنيا من رحمته فلا يوفيهم فى الآخرة منها.

وفى قوله : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) ، دلالة ألا يزول اسم الإيمان بارتكاب الكبيرة ؛ لأنه سماه أخا من غير أخوة نسب ؛ دل أنه أخوة فى الدين [لأنه سماه أخا](٢). وكذلك قوله : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا) [الحجرات : ٩] أبقى لهم اسم الإيمان بعد البغى والقتل. دل أن ارتكاب الكبيرة لا يخرجه من الإيمان.

وهذا يرد على المعتزلة قولهم ؛ لأنهم يقولون : إن من ارتكب كبيرة أخرجته من الإيمان ، وما ذكر من التخليد فى قتل العمد يخرج على وجهين :

أحدهما لاستحلال قتله ، أو يتغمد ديته (٣) ، وإلا فيخرج الآيتان على التناقض فى الظاهر لو لم يجعل على ما ذكرنا. والله أعلم.

وقوله : (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ).

قيل : من اعتدى على القاتل بعد ما عفى عنه ، أو بعد ما أخذ الدية.

وقيل : (بَعْدَ ذلِكَ) ، أى : من بعد النهى عن قتله.

وقيل (٤) : إذا أرى من نفسه العفو ، ثم أخذ الدية ، ثم أراد قتله ، فهو الاعتداء. ثم اختلف بعد هذا بوجهين :

قال قوم : إذا فعل ذلك يترك القصاص فيه للعذاب المذكور فى الآخرة : [وقال

__________________

(١) فى أ ، ط : يواسيهم.

(٢) سقط فى أ ، ط.

(٣) فى أ : بتعمد ديته.

(٤) قاله قتادة بنحوه ، أخرجه ابن جرير (٢٦١٠ ، ٢٦١١) ، وابن المنذر كما فى الدر المنثور (١ / ٣١٧).

١٣

غيرهم](١) إذا اقتص ارتفع عنه العذاب الأليم ، وإن لم يقتص فلا.

وجائز عندنا : أن يكون العذاب الأليم فى الدنيا ، إذ لم يخلق شىء من العذاب أشد من القتل ؛ إذ القتل هو الغاية من الألم والوجع. والله أعلم.

وقوله : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

قيل : فيه بوجهين ، وإلا فظاهر القصاص لا يكون حياة ، لكن قيل (٢) : من تفكره فى نفسه قتلها إذا قتل آخر ارتدع عن قتله ، فتحيا النفسان جميعا.

والثانى : من نظر فرأى آخر يقتل بغيره امتنع عن قتل [آخر ففيه حياته أو تذكر أنه مقتص منه إذا قتل حمله حبه فى إحياء نفسه على أن يرتدع عن قتل](٣) كل ، ففيه الحياة للأنفس جميعا ؛ ولهذا نقول بوجوب القصاص فى الأنفس كلها وإن اختلفت أحوالها ، إذ لو لم يجعل بين الأنفس على اختلاف الأحوال قصاص لم يكن فى القصاص حياة. فأحق من يجعل فيه القصاص عند مختلف الأحوال لما يغضب الشريف على الوضيع فيحمله غضبه على قتله ، فجعل القصاص ، أو لما يستخف به.

وأما الوارث لما يطمع وصوله إلى مورثه فيحمله على قتله ، فسبب القتل ليس ما يذكر ، لكنه شدة الغضب (٤) ، وفى المواريث زيادة ، وهو ما يصل إلى ماله ، وفى الكافر من استخفافه بدينه (٥) من المقتول ، فطلب فيه المعنى الذى فيه الإحياء وهو حرمان الميراث ؛ فعلى هذا التقدير يقتل المسلم بالكافر ؛ لأن المسلم قد يستخف بالكافر فى دار سلمه ، فيحمله استخفافه إياه على قتله. ففيه معنى يدعو إلى الفناء ، فيجب أن يقتص من المسلم بالكافر لتحقيق معنى الحياة. وعلى هذا التقدير يقتل الحر بالعبد ؛ لأن الحر يستخف بالعبد ، فيدعوه استخفافه به على قتله ، فهو يقتل به.

أو نقول : يقتل الولد بالوالد لما يستعجل الوصول إلى ملكه ، فيحمله على قتله ؛ فلزم حفظ ما لأجله الحياة ، ثم فى الوالد شفقة ومحبة تمنع الوالد عن قتل ولده ؛ لذلك انتهى عنه القصاص ، وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام : «لا يقاد الوالد بولده» (٦). وبالله التوفيق.

__________________

(١) سقط فى ط.

(٢) قاله قتادة بنحوه ، أخرجه ابن جرير (٢٦٢٧ ، ٢٦٢٨) ، وعبد الرزاق وعبد بن حميد كما فى الدر المنثور (١ / ٣١٨).

(٣) ما بين المعقوفين سقط فى أ ، ط.

(٤) زاد فى ب : إلى.

(٥) فى أ : بذنبه.

(٦) أخرجه : الترمذى (٤ / ١٩) كتاب : الديات ، باب : الرجل يقتل ابنه هل يقاد منه أم لا؟ حديث ـ

١٤

__________________

 ـ (١٤٠١) ، وابن ماجه (٢ / ٨٨٨) كتاب : الديات ، باب : لا يقتل الوالد بولده ، حديث (٢٦٦١) ، والدارمى (٢ / ١٩٠) كتاب : الديات ، باب : القود بين الوالد والولد ، والدارقطنى (٣ / ١٤٢) كتاب : الحدود والديات ، حديث (١٨٥) ، والبيهقى (٨ / ٣٩) كتاب : الجنايات ، باب : الرجل يقتل ابنه ، والسهمى فى تاريخ جرجان (ص ٤٢٩ ـ ٤٣٠) ، وأبو نعيم فى الحلية (٤ / ١٨) كلهم من طريق إسماعيل بن مسلم عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تقام الحدود فى المسجد ولا يقاد بالولد الوالد». وقال الترمذى : لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث إسماعيل بن مسلم وإسماعيل تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه. ا ه.

وقال أبو نعيم : غريب من حديث طاوس تفرد به إسماعيل عن عمرو. ا ه.

قلت : لكنه لم يتفرد برفع هذا الحديث فقد توبع على رفعه.

تابعه سعيد بن بشير :

أخرجه الحاكم (٤ / ٣٦٩) من طريق أبى الجماهير محمد بن عثمان ، ثنا سعيد بن بشير ، ثنا عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس مرفوعا بلفظ : «لا يقاد والد من ولده ، ولا تقام الحدود فى المساجد».

تابعه عبيد الله بن الحسن :

أخرجه الدارقطنى (٣ / ١٤٢) كتاب : الحدود والديات ، حديث (١٨٤) ، والبيهقى (٨ / ٣٩) كتاب : الجنايات ، باب : الرجل يقتل ابنه ، من طريق عقبة بن مكرم ، ثنا أبو حفص التمار ، ثنا عبيد الله بن الحسن العنبرى عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس به.

وتابعه قتادة أيضا :

أخرجه البزار كما فى نصب الراية (٤ / ٣٤٠) عن قتادة عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس به.

ولأول الحديث شاهد من حديث جبير بن مطعم :

أخرجه الحارث بن أبى أسامة فى مسنده كما فى المطالب العالية (١ / ١٠٠) رقم (٣٦٠) ، وعزاه الحافظ هناك للحارث.

وذكره الهيثمى فى مجمع الزوائد (٢ / ٢٨) ، وقال : رواه الطبرانى فى الكبير ، وفيه الواقدى وهو ضعيف. ا ه.

والحديث فى المعجم الكبير (٢ / ١٣٩ ـ ١٤٠) رقم (١٥٩٠).

وفى الباب عن عمر بن الخطاب ، وعبد الله بن عمرو ، وسراقة بن مالك.

حديث عمر بن الخطاب :

أخرجه ابن الجارود فى المنتقى حديث (٧٨٨) ، والدارقطنى (٣ / ١٤٠ ـ ١٤١) كتاب : الحدود والديات ، حديث (١٨٦) ، والبيهقى (٨ / ٣٨) كتاب : الجنايات ، باب : الرجل يقتل ابنه ، كلهم من طريق محمد بن عجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو قال : كانت لرجل من بنى مدلج جارية فأصاب منها ابنا فكان يستخدمها ، فلما شب الغلام دعا بها يوما فقال : اصنعى كذا وكذا ، فقال الغلام : لا تأتيك حتى متى تستأمر أمى؟ قال : فغضب أبوه فحذفه بسيفه فأصاب رجله أو غيرها فقطعها ، فنزف الغلام ، فمات فانطلق فى رهط من قومه إلى عمر فقال : يا عدو نفسه أنت الذى قتلت ابنك؟ لو لا أنى سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا يقاد الأب بابنه» لقتلتك هلم ديته ، قال : فأتاه بعشرين أو بثلاثين ومائة بعير ، قال : فتخير منها مائة فدفعها إلى ورثته وترك أباه.

قال البيهقى : وهذا إسناد صحيح.

وقال الحافظ فى تلخيص الحبير (٤ / ١٦): «وصحح البيهقى سنده ؛ لأن رواته ثقات». ـ

١٥

قال الشيخ ـ رضى الله تعالى عنه ـ : الوالد يحب ولده ؛ لأنه يرغب أن يكون له ولد. وأما الولد فإنما يحب والده له لنفسه ومنافع له. فإذا كان الولد له لم يقتص منه.

قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(١٨٢)

وقوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ

__________________

 ـ وله طريق آخر :

أخرجه الترمذى (٤ / ١٨) كتاب : الديات ، باب : الرجل يقتل ابنه ، حديث (١٤٠) ، وابن ماجه (٢ / ٨٨٨) كتاب : الديات ، باب : لا يقتل الوالد بالولد ، حديث (٢٦٦٢) ، وأحمد (١ / ٤٩) ، وابن أبى عاصم فى الديات (ص ٩٧) ، وعبد بن حميد فى المنتخب من المسند (ص ٤٤) رقم (٤١) ، والدارقطنى (٣ / ١٤٠) كتاب : الحدود والديات ، كلهم من طريق الحجاج بن أرطأة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عمر بن الخطاب قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا يقاد الوالد بالولد».

قال الزيلعى فى نصب الراية (٤ / ٣٣٩) : قال صاحب التنقيح : قال يحيى بن معين فى الحجاج : صدوق ، ليس بالقوى ، يدلس عن محمد بن عبيد الله العزرمى عن عمرو بن شعيب.

وقال ابن المبارك : كان الحجاج يدلس ، فيحدثنا بالحديث عن عمرو بن شعيب مما يحدثه العزرمى. ا ه.

لكن تابعه ابن لهيعة :

أخرجه أحمد (١ / ٢٢) من طريق ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، قال أبو حاتم الرازى : لم يسمع ابن لهيعة من عمرو بن شعيب شيئا ، انظر المراسيل لابن أبى حاتم (١١٤).

حديث عبد الله بن عمرو :

تقدم من رواية ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.

حديث سراقة بن مالك :

أخرجه الترمذى (٤ / ١٨) كتاب : الديات ، باب : الرجل يقتل ابنه ، حديث (١٣٩٩) ، والدارقطنى (٣ / ١٤٢) كتاب : الحدود والديات ، حديث (١٨٣) من طريق إسماعيل بن عياش عن المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن سراقة بن مالك بن جشعم قال : «حضرت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقيد الأب من ابنه ولا يقيد الابن من أبيه».

قال الترمذى : حديث فيه اضطراب وليس إسناده بصحيح ، والمثنى بن الصباح يضعف فى الحديث.

وقال الدارقطنى : والمثنى وابن عياش ضعيفان.

وقال الترمذى فى العلل الكبير (ص ٢٢٠) : سألت محمدا ـ البخارى ـ عن هذا الحديث ، فقال : هو حديث إسماعيل بن عياش وحديثه عن أهل العراق وأهل الحجاز كأنه شبه لا شىء ، ولا يعرف له أصل. ا ه.

قال الزيلعى فى نصب الراية (٤ / ٣٤٠) : قال فى التنقيح : حديث سراقة فيه المثنى بن الصباح ، وفى لفظه اختلاف. ا ه.

والحديث صححه الألبانى فى الإرواء (٧ / ٢٦٩) بمجموع طرقه.

١٦

بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ).

تكلموا فيه بأوجه :

قيل (١) : إنه منسوخ بما بين عزوجل فى آية أخرى من حق الميراث.

ومنهم من قال : لم ينسخ.

ثم قيل : فيه بوجهين :

قيل : إنه قد كان ذلك ؛ لأن الناس كانوا حديثى عهد فى الإسلام ، يسلم الرجل ولا يسلم أبواه. فقوله : (كُتِبَ) إنما وقع على من كان لا يرث.

ومنهم من يقول : بأنها كانت للوارث ولم ينسخ ، وإنما يقع الأمر فى غير من يرث ممن ذكر. لكن فى ذلك ذكر (كتب) ، وذلك إيجاب.

ولا يحتمل أن يفرض عليهم صلتهم مع التحذير عن اتخاذهم أولياء بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ) [التوبة : ٢٢٣] ، وقوله : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) [المجادلة : ٢٢] ، وفى إلزام الفرضية من حيث المعروف إبقاء الموالاة وإلزام المحبة ، وقد حذر وجود ذلك ؛ فثبت أن الآية فيمن يتوارثون اليوم لكنها نسخت. والله أعلم.

ومنهم من يقول : لا ، ولكنه وقع على من كان يرث وعلى من كان لا يرث بقوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ) ، فهو كان مكتوبا عليهم مفروضا فى حق الوصاية.

ثم من رأى نسخه استدل بقوله : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) [النساء : ١١] ، ذكر فيه الوصاية على بيان كل ذى حق حقه. فليس الذى أوصى الله يمنع وصايته التى كتب عليهم. لكن فى الآية دليل لم ينسخ بهذه لوجهين :

أحدهما : قوله : (يُوصِيكُمُ اللهُ). فهو وصيته ذكره كذكر الوصاية فى الأول ، ففيه جعل حق كالحق المجعول لهم إذا لم يذكر ذلك الوصية مع الميراث ثم نفاه.

والوجه الآخر : أنه قال : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ) [النساء : ١٢] ، فجعل حكم الإرث على ذكر الوصية ، والإرث بعد الوصية ؛ فبان أن لها حكم البقاء.

ثم قيل : فيه بوجهين :

قال قائلون : قوله : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) [النساء : ١١] ، لم يكن ميراثا ، ولا هو

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٦٥٩ ، ٢٦٦٠) ، وعن ابن عمر (٢٦٦١) ، وعكرمة ، والحسن البصرى (٢٦٦٢) ، وغيرهم ، وانظر الدر المنثور (١ / ٣١٩).

١٧

من أهل الميراث. فحدوث الإرث لا يمنع حق القطع عنه بالمكتوب الأول.

ومنهم من جعل ذلك فيمن كان وارثا. فورود البيان من بعد يقطع عنه المكتوب له.

ثم من الناس من ادعى نسخ هذا بقوله : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) [النساء : ٧] ، ولو جعل الوصية له ما جعل الله لهم فيه من النصيب خص به الكثير دون القليل ؛ فثبت أن ذلك (الكتاب) رفع عنهم مما جعل لهم الحق فى الذى قل أو كثر.

ثم الوجه فيه عندنا : فهو أنه إن لم يكن نسخ بهذه الآيات ، على ما قاله بعض الناس ، فهو منسوخ بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله أعطى كل ذى حق حقه ، فلا وصية لوارث». فبين أنه قد كان أعطى ذا حق حقه على رفع ما كانت لهم من الوصاية فيه.

ثم اختلفوا فى الخبر الذى روى : «إن الله تبارك وتعالى قد أعطى كل ذى حق حقه ، فلا وصية لوارث».

قال قائلون : فلا يجوز ورود النسخ على الآية ؛ إذ السنة لا ترد على نسخ الكتاب.

وقال آخرون : لا ، ولكنه من أخبار الآحاد. وأخبار الآحاد ، على قولكم ، لا ترد على نسخ خبر مثله ، فكيف على كتاب رب العالمين؟

فأما الأول ـ فى أن السنة لا تعمل فى نسخ الكتاب ـ : فقد سبق القول فيه ، أن الذى حملهم على هذا هو جهلهم بموقع النسخ ، وإلا لو علموه ما أنكروه. وهو ما قلنا : إن النسخ بيان منتهى الحكم إلى الوقت المجعول (١) له.

فأما من قال : بأنه من أخبار الآحاد ، فإن الأصل فى هذا أن يقال : إنه من حيث الرواية من الآحاد ، ومن حيث علم العمل به متواتر.

ومن أصلنا : أن المتواتر بالعمل هو أرفع خبر يعمل ، إذ المتواتر المتعارف قرنا بقرن مما عمل الناس به لم يعملوا به ، إلا لظهوره ، وظهوره يغنى الناس عن روايته ، لما علموا خلوه عن الخفاء.

ولهذا يقول فى الخبر الذى جاء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنه نهى عن كل ذى ناب من السباع» (٢) ، فترد به الخبر المروى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه من أخبار الآحاد. هو من حيث

__________________

(١) فى أ ، ط : المجعولة.

(٢) أخرجه مسلم (٣ / ١٥٤٣) كتاب : الصيد والذبائح ، باب : تحريم أكل كل ذى ناب ، حديث (١٦ / ١٩٣٤) ، وأبو داود (٢ / ٣٨٣) كتاب : الأطعمة ، باب : النهى عن أكل السباع ، حديث (٣٨٠٣) ، والدارمى (٢ / ٨٥) كتاب : الأضاحى ، باب : ما لا يؤكل من السباع ، وأحمد (١ / ٢٤٤ ، ٢٨٩ ، ـ

١٨

الرواية من الآحاد ، ولكنه من حيث تواتر الناس للعمل به صار بحيث يوجب علم العمل. فما لم يجز أن يجتمع الأمة على شىء علموا (١) كله من كتاب أو سنة غير ما ورد ، فيكونوا قد اجتمعوا على تضييع كتاب أو سنة ، فكذا هذا ، لا يجوز أن يجتمع الناس على ترك الوصية للوارث ، وثم كتاب نسخه أو سنة أخرى يلزم العمل به ؛ فلهذا قضينا بنسخه. والله أعلم.

وقوله : (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

قيل فيه بوجهين :

يحتمل : (فَمَنْ بَدَّلَهُ) هذه الوصاية المكتوبة للوالدين ، إن كان هذا أراد بقوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ) [البقرة : ١٠٨] الآية ، فإنما إثمه عليه.

ويحتمل : (فَمَنْ بَدَّلَهُ) الوصية (بَعْدَ ما سَمِعَهُ) من الموصى (فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ).

ثم يحتمل بعد هذا وجهين :

يحتمل : أنه أراد تبديل الوصى بعد موت الموصى.

ويحتمل : تبديل من حضر الوصى ذلك الوقت من الشهود وغيره.

وقوله : (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) أى : سميع لمقالته ووصايته. و (عَلِيمٌ) بجوره وظلمه ، أو (عَلِيمٌ) بتبديله. والله أعلم.

وقوله : (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

__________________

 ـ ٣٠٢ ، ٣٧٣) ، وابن الجارود (٨٩٢) ، وابن حبان (٥٢٥٦ ـ الإحسان) ، والطحاوى فى شرح معانى الآثار (٤ / ١٩٠) ، والبيهقى (٩ / ٣١٥) كتاب : الضحايا ، باب : ما يحرم من جهة ما لا تأكل العرب ، وأبو نعيم فى الحلية (٤ / ٩٥) ، والبغوى فى شرح السنة (٦ / ٣٢) من طريق أبى بشر ـ والحكم عند بعضهم ـ عن ميمون بن مهران عن ابن عباس به.

وقد رواه ميمون بن مهران عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أخرجه أبو داود (٢ / ٣٨٣) كتاب : الأطعمة ، باب : النهى عن أكل السباع ، حديث (٣٨٠٥) ، والنسائى (٧ / ٢٠٦) كتاب : الصيد والذبائح ، باب : إباحة أكل لحوم الدجاج حديث (٤٣٤٨) ، وابن ماجه (٢ / ١٠٧٧) كتاب : الصيد ، باب : أكل كل ذى ناب من السباع ، حديث (٣٢٣٤) ، والطحاوى فى شرح معانى الآثار (٤ / ١٩٠) ، وأحمد (١ / ٣٣٩) ، والبيهقى (٩ / ٣١٥) كتاب : الضحايا ، باب : ما يحرم من جهة ما لا تأكل العرب ، وابن الجارود (٨٩٣) من طريق على بن الحكم عن ميمون بن مهران عن سعيد بن جبير عن ابن عباس.

(١) فى أ ، ط : عملوا.

١٩

قيل : فيه بوجهين :

يحتمل : (فَمَنْ خافَ) أى : علم من الموصى ظلما وجورا على الورثة بالزيادة على الثلث ، (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) فى تبديله ومنعه ورده إلى الثلث وقت وصاية الموصى.

ويحتمل : (فَمَنْ خافَ) ، أى : علم من الموصى خطأ وجورا بعد وفاته بالوصية ، (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) فى تبديله ورده إلى ما يجوز من ذلك ويصح ، وهو الواجب على الأوصياء أن يعملوا بما يجوز فى الحكم ، وإن كان الموصى أوصى بخلاف ما يجيزه الحكم ويوجبه.

قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ : وكان صرف (الخوف) إلى (العلم) أولى ؛ إذ هو تبديل الوصية وقد نهى عنه وأذن به للجور ، فإذا لم يعلم فهو تبديل بلا عذر ، وقد يخفف (١) للخوف حق العلم إذا غلب الوجه فيه ، كما أن أذن للإكراه إظهار الكفر ، وذلك فى حقيقته خوف عما فى التحقيق على العلم بغلبته وجه الوفاء فى ذلك.

وقوله : (فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ) ، يعنى بين الورثة بعد موت الموصى ، ورد ما زاد على الثلث بين الورثة على قدر أنصبائهم.

وقوله : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، لجور الموصى وظلمه إذا بدل الوصى ذلك ورده إلى الحق.

ويحتمل : (غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، لمن رد على الموصى جنفه وميله فى حال وصايته. والله أعلم.

والأصل فى أمر الوصاية للوارث ، أن آيات المواريث لم تكن نزلت فى أول ما بهم حاجة إلى معرفة ذلك ، فيجوز أن يكون فى الابتداء كانت الوصايا بالحق الذى اليوم هو ميراث ، يبين ذلك ما روى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى ابنتى سعد (٢) ، الذى قتل بأحد ، وقد كان استولى عمهما على ميراثه ، فسألت أمهما عن ذلك ، فقال : لم ينزل فيه شىء. ثم دعاهما ، وأعطاهما ما بين

__________________

(١) فى أ : يخف.

(٢) هو : سعد بن الربيع بن عمرو بن أبى زهير بن مالك بن امرئ القيس بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج.

الأنصارى الخزرجى الحارثى البدرى النقيب الشهيد الذى آخى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينه وبين عبد الرحمن ابن عوف ، فعزم على أن يعطى عبد الرحمن شطر ماله ، ويطلق إحدى زوجتيه ، ليتزوج بها فامتنع عبد الرحمن من ذلك ، ودعا له ، وكان أحد النقباء ليلة العقبة.

ينظر : طبقات ابن سعد (٣ / ٢ / ٧٧) ، سير أعلام النبلاء (١ / ٣١٨ ـ ٣٢٠) ، الجرح والتعديل (٤ / ٨٢ ـ ٨٣).

٢٠