تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٤

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٤

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٥٥٩

١
٢

سورة الأنعام

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢) وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ)(٣)

قوله ـ عزوجل ـ : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) الحمد : هو الثناء عليه بما صنع إلى خلقه من الخير.

ألا ترى أن الذم نقيضه في : الشاهد (١) ، ويحمد المرء بما يصنع من الخير ، ويذم على ضده.

فالتحميد : هو تمجيد الرب ، والثناء عليه ، والشكر (٢) له بما أنعم عليهم.

__________________

(١) الشاهد في اللغة : عبارة عن الحاضر.

ينظر تاج العروس من جواهر القاموس للسيد محمد مرتضى الزبيدي طبعة وزارة الإعلام (٨ / ٢٥٤) وكشاف اصطلاحات الفنون (٣ / ٩٩).

(٢) بالضم وبسكون الكاف مصدر شكرته وشكرت له ، أشكر شكرا وشكورا ، وشكرانا وهو في اللغة : الاعتراف بالمعروف المسدى إليك ونشره والثناء على فاعله وفي الاصطلاح : فعل يشعر بتعظيم المنعم بسبب كونه منعما ، أو هو صرف العبد النعم التي أنعم الله بها عليه في طاعته.

وهذا الفعل إما فعل القلب ، أعني الاعتقاد باتصافه بصفات الكمال والجمال ـ أو فعل الجوارح وهو الإتيان بأفعال دالة على ذلك ، وهذا شكر العبد لله تعالى.

وشكر الله للعبد أن يثني على العبد بقبول طاعته وينعم عليه بمقابله ويكرمه بين عباده.

والشكر العرفي : صرف العبد جميع ما أنعم الله عليه من السمع والبصر وغيرها إلى ما خلق له وأعطاه لأجله ، كصرفه النظر إلى مطالعة مصنوعاته والسمع إلى تلقي ما ينبئ عن مرضاته والاجتناب عن منهياته.

ويفرق بين الشكر والحمد اللغويين بأمور :

أحدها : الحمد أعم من الشكر باعتبار المتعلق ؛ فإن متعلقه النعمة وغيرها ، ومتعلق الشكر النعمة فقط.

ثانيا : الشكر أعم من الحمد باعتبار المورد ؛ فمورد الشكر اللسان والجنان والأركان ، ومورد الحمد هو اللسان فقط فكان بينهما عموم وخصوص من وجه ، فعمومه : أن يكون لمسدي النعمة ولغيره ، وخصوصه : بأنه لا يكون إلا باللسان ، وعموم الشكر بأنه يكون بغير اللسان ، وخصوصه : بأنه لا يكون إلا لمسدي النعمة ؛ قال الشاعر :

أفادتكم النعماء مني ثلاثة

يدي ولساني والضمير المحجبا

وقيل : هما سواء.

ينظر : كشاف اصطلاحات الفنون (٤ / ١١٢) المطلع على أبواب المقنع (١١ / ٢) نهاية المحتاج وحاشية الشبراملسي (١ / ٢٢) وأسنى المطالب (١ / ٣) وشرح مسلم الثبوت (١ / ٤٧).

٣

والتسبيح (١) : هو تمجيد الرب وتنزيهه عما قالت الملحدة (٢) فيه من الولد وغيره (٣).

والتهليل (٤) : هو تمجيد الرب وتنزيهه عما جعلوا له من الشركاء والأضداد ، والوصف له بالوحدانية والربوبية.

والتكبير (٥) : هو تمجيد الرب والوصف له بالعظمة والجلال ، وتنزيهه عمّا وصفوه

__________________

(١) التسبيح في اللغة : التنزيه تقول : سبحت الله تسبيحا ، أي : نزهته تنزيها ، وعرفه الجرجاني وفي التعريفات بأنه : تنزيه الحق عن نقائص الإمكان وأمارات الحدوث وعن عيوب الذات والصفات وكذلك التقديس.

ينظر : لسان العرب (سبح) ، الصحاح (سبح) ، النهاية في غريب الحديث (سبح) وتهذيب الأسماء واللغات للنووي (٢ / ١٤٢).

(٢) يقال لحد إليه : مال ، وقيل : لحد في الدين يلحد ، وألحد مال وعدل ، وقيل لحد : مال وجار ، وقال ابن السكيت : الملحد : العادل عن الحق المدخل فيه ما ليس فيه ، والإلحاد اصطلاحا : الشك في الله أو في أمر من المعتقدات الدينية. وللإلحاد تاريخ طويل حافل ، وله صور كثيرة متنوعة ، غير أن أوسع معنى يعزى إليه ، هو أنه إنكار للنصوص السائدة عن الله أو المعتقدات الدينية ، فقد أطلقت كلمة (ملحد) على (اسبينوزا) لأنه ربط بين الله والعلم على نحو مخالف للفكرة الدينية اليونانية عن الآلهة.

وفي المجتمع الإسلامي اختلفت أسباب الإلحاد ، فمنهم من ألحد لأسباب من العصبية القومية ، حملته على أن يتعصب لدين آبائه من المجوس والوثنية المانوية ، كما فعل ابن المقفع وبشار.

وهناك فريق ألحد فرارا من تكاليف الدين وطلبا لسلوك مسلك الحياة الماجنة ، كما هو الحال بالنسبة إلى كثير من الشعراء ممن ينتسبون إلى «عصبة المجان» على حد تعبير أبي نواس.

وهناك فريق ثالث يتنازعه العاملان ؛ فجمع بين سلوك المجان ، وبين عصبية الشعوبيين ، مثل أبان ابن عبد الحميد.

ومن هنا أطلق على كل صاحب بدعة ملحد ، بل انتهى الأمر أخيرا إلى أن أطلق لفظ (ملحد) على من كان يحيى حياة المجون من الشعراء والكتاب. وأشهر من وصفوا بالإلحاد : ابن الراوندي الذي عاش في القرن الثالث الهجري.

ينظر : تاج العروس (٩ / ١٣٤) ، الموسوعة الإسلامية طبع المجلس الأعلى للشئون الإسلامية ص (١٩٧).

(٣) سيأتي الرد على نسبة الولد إلى الله تعالى وأنه من الإفك والزور والبهتان عند قول الله تعالى (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الأنعام : ١٠١].

(٤) هو قول لا إله إلا الله ، يقال : هلل الرجل ، أي قال : لا إله إلا الله ، ولا يخرج معناه اللغوي عن معناه الاصطلاحي غير أن التسبيح أعم من التهليل ؛ لأن التسبيح تنزيه الله عزوجل عن كل نقص ، أما التهليل فهو تنزيه عن الشرك.

ينظر لسان العرب م (هلل) المصباح المنير م (هلل) ، نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج (١ / ٥٢٨).

(٥) التكبير في اللغة : التعظيم كما في قول الله تعالى (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) [المدثر : ٣] أي : فعظم وأن يقال : الله أكبر.

وروى صاحب كتاب العناية على الهداية أنه لما نزل (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الله أكبر» فكبرت خديجة وفرحت ، وأيقنت أنه الوحي ، ولا يخرج معناه اللغوي عن المعنى الاصطلاحي. ـ

٤

بالعجز والضعف عن أن يكون ينشئ من العظام البالية خلقا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ).

سفههم ـ عزوجل ـ بما جعلوا له من الشركاء والأضداد على إقرار منهم أنه خلق السموات والأرض ، ولم يجعلوا له شركاء في خلقهما ، وعلى علم منهم أنه تعلّق منافع الأرض بمنافع السماء ، مع بعد ما بينهما كيف جعلوا شركاء يشركونهم في العبادة والربوبية؟!.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ).

قال الحسن (١) : الظلمات والنور : الكفر والإيمان (٢).

__________________

ـ ينظر لسان العرب م (كبر) ، والصحاح للجوهري م (كبر) ، وتاج العروس م (كبر) ، وقواعد الأحكام لعز الدين بن عبد السلام (٢ / ٦٦).

والصلة بين التكبير والتحميد والتسبيح والتهليل أنها كلها مدائح يمدح بها الإله ويعظم ، فمن سبح الله فقد عظمه ونزهه عما لا يليق به من صفات النقص وسمات الحدوث ، وصار واصفا له بالعظمة والقدم ، وكذا إذا هلل ؛ لأنه إذا وصفه بالتفرد والألوهية فقد وصفه بالعظمة والقدم ؛ لاستحالة ثبوت الإلهية دونهما ، كما أن التحميد يراد به كثرة الثناء على الله تعالى ؛ لأنه هو مستحق الحمد على الحقيقة.

(١) هو الحسن بن أبي الحسن يسار ، أبو سعيد ، مولى زيد بن ثابت الأنصاري ، ويقال مولى أبي اليسر كعب بن عمرو السلمي ؛ وكانت أم الحسن مولاة لأم سلمة أم المؤمنين المخزومية ؛ ويقال : كان مولى جميل بن قطبة ، ويسار أبوه من سبي ميسان. سكن المدينة ، وأعتق ، وتزوج بها في خلافة عمر ، فولد له بها الحسن رحمة الله عليه لسنتين بقيتا من خلافة عمر واسم أمه خيرة ، ثم نشأ الحسن بوادي القرى ، وحضر الجمعة مع عثمان ، وسمعه يخطب ، وشهد يوم الدار وله يومئذ أربع عشرة سنة رأى عثمان ، وطلحة ، والكبار ، وروى عن عمران بن حصين ، والمغيرة بن شعبة ، وعبد الرحمن بن سمرة ، وسمرة بن جندب ، وأبي بكرة الثقفي ، والنعمان بن بشير ، وجابر ، وجندب البجلي ، وابن عباس ، وعمرو بن تغلب ، ومعقل بن يسار ، والأسود بن سريع ، وأنس ، وخلق من الصحابة ، وقرأ القرآن على حطان بن عبد الله الرقاشي ، وروى عن خلق من التابعين وعنه أيوب وشيبان النحوي ، ويونس بن عبيد ، وابن عون ، وحميد الطويل ، وثابت البناني ، ومالك بن دينار ، وهشام بن حسان ، وجرير بن حازم ، والربيع بن صبيح ، ويزيد بن إبراهيم التستري ، ومبارك ابن فضالة وخلق كثير ، وقال سليمان التيمي : كان الحسن يغزو ، وكان مفتي البصرة جابر بن زيد أبو الشعثاء ، ثم جاء الحسن فكان يفتي. قال محمد بن سعد : كان الحسن رحمه‌الله جامعا عالما ، رفيعا فقيها ، ثقة ، حجة ، مأمونا ، عابدا ، ناسكا ، كثير العلم ، فصيحا ، جميلا ، وسيما. وما أرسله فليس بحجة وقال ضمرة بن ربيعة ، عن الأصبغ بن زيد : سمع العوام بن حوشب ، قال : ما أشبه الحسن إلا بنبي. وعن أبي بردة ، قال : ما رأيت أحدا أشبه بأصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم منه. وعن أنس بن مالك ، قال : سلوا الحسن ؛ فإنه حفظ ونسينا. ينظر سير أعلام النبلاء (٤ / ٥٦٣ ، ٥٦٤ ، ٥٦٥ ، ٥٦٦ ، ٥٧٢ ، ٥٧٣) ، طبقات ابن سعد (٧ / ١٥٦) ، وطبقات خليفة ت (١٧٢٦) ، والزهد لأحمد (٢٥٨) ، وتاريخ البخاري (٢ / ٢٨٩) ، والمعارف (٤٤٠) ، والمعرفة والتاريخ (٢ / ٣٢) و (٣ / ٣٣٨) ، وأخبار القضاة (٢ / ٣).

(٢) ذكره القرطبي في تفسيره (٦ / ٢٤٩) ، ومن قول ابن عباس ذكره السيوطي في الدر المنثور (٣ / ٦) وعزاه لأبي الشيخ.

٥

وقال غيره من أهل التأويل (١) : الليل والنهار في الحقيقة ما يكشف عما استتر من الأبصار : أبصار الوجوه ، وأبصار القلوب.

والظلم ما يستر ويغطي على الأبصار : أبصار الوجوه ، وأبصار القلوب ، فالظلمة تجعل كل شيء مستورا عليه ، والنور يجعل كل شيء كان مستورا عليه ظاهرا باديا ، هذا هو تفسير الظلمة والنور حقيقة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) قيل (٢) : يشركون مع ما بيّن لهم ما يدل على وحدانية الرب وربوبيته ، أي : جعلوا كل ما يعبدونه دون الله عديلا لله ، وأثبتوا المعادلة بينه وبين الله ـ تعالى ـ وليس لله ـ تعالى ـ عديل ، ولا نديد ، ولا شريك ، ولا ولد ، ولا صاحبة ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوّا كبيرا.

وقال الحسن : (بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) أي : يكذبون (٣).

وقوله ـ تعالى ـ : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) أي : خلق آدم أبا البشر من طين ، فأما خلق بني آدم من ماء ؛ كقوله تعالى : (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ)(٤) [المرسلات : ٢٠] أخبر الله ـ تعالى ـ أنه خلق آدم من الطين ، وخلق بني آدم ـ سوى عيسى عليه‌السلام ـ من النطفة ، وخلق عيسى ـ عليه‌السلام ـ لا من الطين ولا من الماء ؛ ليعلموا أنه قادر على إنشاء الخلق لا من شيء ، وأنه لا اختصاص للخلق بشيء ، ولا ينكرون ـ أيضا ـ إنشاء الخلق وإحياءهم وموتهم ، وذلك لأنه لا يخلو ؛ إما أن صاروا ترابا أو ماء ، أو لا ذا ولا ذا ، فإذا رأوا أنه خلق آدم من الطين ، وخلق سائر الحيوان من الماء ، وخلق عيسى ـ عليه‌السلام ـ لا من هذين ، كيف أنكروا إنشاء الخلق بعد الموت ، وهو لا يخلو من هذه الوجوه التي ذكرنا ؛ فيكون دليلا على منكري البعث (٥) بعد الموت ،

__________________

(١) أخرجه ابن جرير في تفسيره (٥ / ١٤٣) (١٣٠٤٣) عن السدي قال : الظلمات ظلمة الليل ، والنور نور النهار.

وذكره السيوطي في الدر المنثور (٣ / ٦) وزاد نسبته لابن أبي حاتم.

(٢) أخرجه ابن جرير (٥ / ١٤٥) (١٣٠٤٧) عن مجاهد ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٦) وزاد نسبته لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ. وانظر التفسير الكبير للرازي (١٢ / ١٢٦).

(٣) ذكره السيوطي في الدر (٣ / ٦) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن قتادة بنحوه.

(٤) ثبت في الأصول : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) [المؤمنون : ١٢].

(٥) البعث ، ويقال له : النشر ، والمعاد وهو مصدر ميمي ، مأخوذ من العود ، وأصل المعاد معود ، نقلت حركة الواو إلى الساكن الصحيح قبلها وهو العين ، ثم قلبت الواو ألفا لتحركها بحسب الأصل ـ

٦

__________________

ـ وانفتاح ما قبلها بحسب الآن فصار معاد ، والبعث هو : بعث الناس من القبور ، أو عود النفس إلى ما كانت عليه من التجرد.

وقد وقع كثير من الاختلاف في البعث يمكن حصره على خمسة أقوال :

الأول : أن البعث عود جسماني فقط ، وقد ذهب إلى هذا المتكلمون النافون للنفس الناطقة ؛ بناء منهم على أن الجسم هو هذا الهيكل المخصوص وليس هناك نفس.

الثاني : وهو قول كثير من المحققين كالحليمي والغزالي والراغب ومعمر وجمهور من متأخري الإمامية وكثير من الصوفية ـ أن البعث عود بالجسم والروح ؛ وهذا منهم بناء على أن النفس مجردة عن المادة.

الثالث : وهو قول الفلاسفة الإلهيين كأفلاطون : أن البعث عود للروح فقط ؛ وذلك منهم بناء على أن النفس هي المكلفة وهي التي تشقى وتنعم ، ولا فائدة في إعادة الجسم معها. ومعنى العود عندهم أن تعود الروح إلى ما كانت عليه من التجرد أولا ، أي : قبل تعلقها بالجسم.

الرابع : وهو قول الفلاسفة الطبيعيين : إنكار الإعادة رأسا.

الخامس : لجالينوس الحكيم : التوقف.

وقد عني صاحب المواقف العلامة الإيجي بهذا الموضوع فعقد له ثلاثة مقاصد :

المقصد الأول : في إعادة المعدوم بعينه.

حيث إن القائلين بالمعاد الجسماني قد اختلفوا على قولين :

القول الأول : إن الإعادة عن عدم وفناء محض للجسم ممكنة ، ولا مانع عقلا يمنع من إعادة المعلوم بعينه ، وهذا قول أهل السنة ومعهم مشايخ المعتزلة.

والقول الثاني : إن الإعادة عن عدم غير ممكنة ؛ إما لأن الإعادة تكون عن تفريق ـ كما هو رأي كثير من المعتزلة ، وإما لأنه لا إعادة للجسم أصلا ، حتى يقال : إنها عن عدم ، إلى هذا ذهب بعض الفلاسفة وبعض المعتزلة والكرامية.

وهذا الخلاف مبني على خلاف آخر هو : هل الوجود عين الموجود أم هو زائد عن الموجود فيهما؟ وهل يستوي في ذلك ممكن الوجود وواجب الوجود أم لا؟ وقد نتج عن هذا ثلاثة أقوال :

أحدها : أن الوجود عين الموجود في الممكن والواجب.

الثاني : أن الوجود زائد في الممكن والواجب.

الثالث : أن الوجود عين الموجود في الواجب زائد في الممكن.

وفيما يلي بيان هذه الأقوال وبيان من قال بها :

القول الأول : به قال الأشاعرة ؛ حيث ذهبوا إلى أن الوجود عين الموجود في الواجب والممكن مطلقا ، فإذا زال الوجود في الممكن زال الموجود ، ولم يبق شيء ، وعلى ذلك فالعدم نفي صرف ، وقد استدلوا على ذلك بما يلي :

أولا : أن القول بأن الوجود زائد عن الموجود يترتب عليه عدم وجود ، فتكون معدومة ، فكيف تتصف بالوجود؟

ثانيا : أن الوجود صفة ثبوتية ، وقيام الصفة الثبوتية بشيء فرع عن وجود ذلك الشيء ، فلو كان الوجود صفة قائمة بالماهية لزم أن يكون قبل الوجود لها وجود ، فيلزم تقدم الشيء على نفسه ، وهذا ممتنع ، فامتنع ما أدى إليه.

ثالثا : لو كان الوجود زائدا عن الموجود لكان له وجود ويتسلسل.

القول الثاني ـ به قال المعتزلة حيث ذهبوا إلى : أن الوجود زائد عن الموجود في الواجب ـ

٧

__________________

ـ والممكن ، بحيث لو زال الوجود في الممكن بقيت ذاته المخصوصة ، وعلى ذلك فالمعدوم شيء له تقرر وثبوت ، وقد استدلوا على ذلك بما يلي :

أولا : لو كان الوجود عين الموجود لما أفاد الحمل ، وكان قولنا : السواد موجود بمنزلة السواد سواد أو الموجود موجود.

ثانيا : أننا نعقل الماهية مع الشك في وجودها كالمثلث مثلا ؛ فإننا نفهم ماهيته وحقيقته بدون أن نتحقق وجوده ؛ لأنه عبارة عن سطح وخط ، وهما وهميان. وهذه أدلة زيادته في الممكن ، ولهم أيضا أدلة على زيادته في الواجب.

القول الثالث : وبه قال بعض الحكماء ، حيث ذهبوا إلى أن الوجود عين الموجود في الواجب ، وهو زائد في الممكن ، وهذا القول وسط بين القولين السابقين ؛ حيث وافق القول الأول في اعتبار الوجود عين الموجود في الواجب ، ووافق القول الثاني في اعتبار الوجود زائدا عن الموجود في الممكن.

والحقيقة أن هذه الأقوال الثلاثة لا تصمد للمناقشة ، وهي منقوضة بما ورد عليها من اعتراضات ، إلا أن إيراد هذه الاعتراضات وتفصيلها لا يتسع له المجال هاهنا ، وإنما الذي يعنينا هاهنا هو التأكيد على أنه يتفرع على مذهب المعتزلة أمران :

أولا : أن المعدوم الممكن شيء ؛ لأن الماهية عندهم غير الوجود ؛ معروضة له وقد تخلو عنه.

ثانيا : أن المعدوم متميز ؛ لأنه متصور ، ولا يمكن التصور بدون تميز ، وكل متميز ثابت ، بخلاف مذهب الأشاعرة ؛ فإنه يتفرع عليه أمران ـ أيضا ـ ولكنهما يناقضان ما ترتب على مذهب المعتزلة ؛ أحدهما : أن المعدوم الممكن ليس شيئا ، بل هو نفي محض ، ثانيهما : أن المعدوم الممكن ليس له تميز ولا ثبوت.

وقد يعترض معترض بأن هذا الخلاف لا طائل تحته ؛ لأنه إن كان المقصود بكون المعدوم شيئا أنه موجود في الخارج فهذا أمر متفق على نفيه ؛ لأنه لا يعقل ذلك ، وإن كان المقصود أنه موجود في الذهن ، أي : متصور فيه ، فهذا أيضا أمر متفق على ثبوته ؛ لأن الممتنعات الصرفة لها هذا الوجود ، فلا ينكر الأشعري أن العدم شيء بهذا المعنى.

ويجاب عن هذا الاعتراض بأن المعتزلة يقررون أن المعدوم بعد الوجود له تقرر وثبوت أرقى من الوجود الذهني ، فهو وجود وسط بين النفي المحض وبين المحسوس ، فله تحقق في نفسه بغض النظر عن الذهن ، وأما الأشاعرة فيقولون : إنه عدم محض ليس له تقرر وثبوت.

أدلة المثبتين للإعادة والنافين لها :

أولا : أدلة أهل السنة وبعض مشايخ المعتزلة القائلين بالإعادة من العدم :

يعترف هؤلاء بأن هناك عدما أول ووجودا أول ، وإمكان عدم ثان مع إمكان وجود ثان عن هذا العدم ، وأدلتهم على ذلك تتمثل فيما يلي :

الدليل الأول : لو امتنع وجود المعدوم ثانيا لذاته أو للازمه ، لكان من باب أولى أن يمتنع وجوده أولا ، لكن لما ثبت وجود المعدوم أولا ـ حيث خلق الله الخلق من العدم ـ ثبت إمكان وجود المعدوم ثانيا.

وقد اعترض على هذا الدليل بأمرين :

أحدهما : أنه لا يلزم من امتناع الوجود الثاني امتناع الوجود الأول ، وبالتالي لا يكون في ثبوت إيجاد الخلق من العدم ـ وهو الوجود الأول ـ دليل على جواز الوجود الثاني.

ويعتمد هذا الاعتراض على أن الوجود الأول أعم من الوجود الثاني ؛ لأن الوجود الأول وجود بعد عدم سابق ، أما الوجود الثاني فهو وجود بعد عدم طارئ ؛ إذن فالوجود الأول أعم والوجود ـ

٨

__________________

ـ الثاني أخص ، ولا يلزم من وجود الأعم وجود الأخص ؛ كما لا يلزم من امتناع الأخص امتناع الأعم ؛ لأن الأخص قد يمتنع في حين يتحقق الأعم في فرد آخر من أفراده ، ولهذا نظير ، مثل لو قلت : لا تجلس في هذا المكان ، فإن هذا لا يقتضي منعك من مطلق الجلوس ، ولا من الجلوس في مكان آخر ؛ لأنه يجوز أن يكون سبب منع الخاص جهة خصوصه ، وعليه أن الممتنع هو الوجود الثاني الأخص ، ولا يؤثر في امتناع مقابله الذي هو الوجود الأول لأنه لم يؤثر في امتناع الأعم الذي هو مطلق الوجود.

الاعتراض الثاني : أن الوجود الثاني إنما امتنع بسبب صفة لازمة للمعدوم ، وهي طرآن العدم عليه ، وهذه الصفة لا توجد في الوجود الأول ؛ فلا ينبني على امتناع الوجود الثاني امتناع الوجود الأول.

وقد أجيب عن هذين الاعتراضين : بأن الوجود من حيث هو وجود أمر واحد لا يختلف باختلاف الأزمنة ؛ إذن فالوجود ابتداء والوجود إعادة هما أمر واحد ، وأما كون أحدهما أولا والآخر ثانيا فإن هذه صفات عارضة لا تأثير لها في الأصل وهو الوجود ، وبعبارة أخرى ، فإن كون الوجود أولا أو ثانيا أمر إضافي لا يغير الماهية ، ومثل الوجود الإيجابي فإنه أمر واحد ويختلف بحسب الإضافة ، والقاعدة أن كل أمرين اتحدا ماهية واختلفا بحسب العوارض فإنهما يتلازمان في أحكام الماهية ، التي هي الوجوب الذاتي والإمكان الذاتي والامتناع الذاتي ؛ والخصم قد أعطى الوجود الثاني حكما هو الامتناع الذاتي ، فيجب أن يعطاه الوجود الأول ؛ لأن الامتناع المذكور راجع إلى الذات وهي واحدة لا تختلف. وعلى هذا صحت الملازمة (وثبت أصل الدليل كان الوجود الثاني ممتنعا لذاته أو للازمه لما وجد أولا).

الدليل الثاني على الدعوى :

أن إعادة إيجاد الشيء أهون من بدء إيجاده ، وكل ما كان كذلك فهو جائز ، فالإعادة جائزة وقد دل على هذا قول الله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧] والأهونية بالنسبة لقدرة العباد لا بالنسبة لله تعالى ؛ لأن الممكنات جميعا بالنسبة إليه سواء ، لا تفاوت فيها بالأهونية ، والمعنى إذن : أن الله تعالى قد ضرب لكم مثلا بما تعهدونه في قدرتكم من أن بعض الممكنات أسهل عليكم من البعض الآخر ، وما تعهدونه في عمل صنعة ، فإيجادها ثانيا أسهل عليكم من البدء ، فكذلك الإعادة بالنسبة إليه تعالى فإنها إيجاد ثان ، فهي بالقياس إلى ما تعهدونه تكون أسهل عليه تعالى ، ولكن الله تعالى له المثل الأعلى ، أي الصفة التي هي أعلى وأكمل من كل صفة ، وقد فهم بعض المفسرين أن الضمير في قوله تعالى : (عَلَيْهِ) راجع إلى الخلق ، والمعنى أن الإعادة أهون على الخلق ، أي القابل لأن يخلق وهو المعدوم ، فإن الأهونية كما تكون بالنسبة إلى الفاعل باستجماع الشرائط تكون أيضا بالنسبة إلى القابل ، فدرجة القابلية متفاوتة ، فالمعدوم الذي سبق اتصافه بالوجود درجة قبوله للموجود ثانيا أسهل وأهون ، أي : يقبل الوجود قبولا أسرع من قبول المعدوم أولا ؛ وقد اعترض على هذا الدليل بأن إيجاد المعدوم ثانيا ليس أهون ؛ لأنه عدم محض ، فكيف يقال : إنه يقبل الوجود قبولا أسرع؟ بل هو متساو مع المعدوم الأول ، فلا أهونية ، وإنما تحصل الأهونية إذا كان يوجد مثل للمعدوم ، فيكون إيجاد مثله أهون ؛ لأن صورته باقية محفوظة ، ولكن ليس الكلام هاهنا في إيجاد مثل للمعدوم ، بل في إيجاد المعدوم بعينه ، وعلى هذا فالدليل يلائم إعادة الجسم عن تفريق ؛ لأن الأجزاء موجودة مستعدة ومتصفة بالوجود ، فقبولها للوجود الثاني أسهل.

والحقيقة إن هذا الاعتراض الوارد على هذا الدليل هو من القوة بمكان بحيث يمكننا القول بأن هذا الدليل لا يصلح معتمدا للمستدلين به ، لكن يبقى لهم قوة دليلهم الأول ، والله أعلم. ـ

٩

__________________

ـ ثانيا : أدلة القائلين بعدم الإعادة من العدم :

تبين لنا مما سبق أن بعض المعتزلة والفلاسفة والكرامية ينكرون إمكانية الإعادة بعد العدم ، بل لا يعترفون بمعدوم أصلا ؛ وكلامهم إنما هو من باب إلزام خصومهم فقط ، فمهمتهم إبطال الإعادة العينية للمعدوم ، وبذلك يتم مقصودهم ، وهم تارة يدّعون أن ما ذهبوا إليه ـ من أن المعدوم لا يعاد بعينه ـ أمر بدهي لا يحتاج إلى نظر واستدلال ، وتارة يلجئون إلى إقامة الحجج والأدلة على مدعاهم ، وقد تبلورت هذه الحجج في أربعة أدلة يبطلون بها إعادة المعلوم بعينه : دليل التخلل ، والوقت ، والمثلية ، والصفة.

الدليل الأول : إن القول بإعادة المعدوم بعينه ثانيا يؤدي إلى أن يتخلل العدم بين الشيء ونفسه ، وتخلل العدم بين الشيء ونفسه ممتنع ؛ لأن التخلل لا بد له من طرفين متغايرين ؛ إذ لو كان بين الشيء ونفسه لأدى إلى التناقض ، وهو تقدم الشيء على نفسه وتأخره عنه ، ومعنى ذلك تقدم لا تقدم أو تأخر لا تأخر وذلك تناقض ، وإذا ثبت أن تخلل العدم بين الشيء ونفسه ممتنع ، امتنع كذلك إعادة المعدوم بعينه.

وقد أجاب أصحاب القول الأول المثبتين للإعادة ، وهم أهل السنة ، وبعض شيوخ المعتزلة على هذا الدليل بما يأتي :

أولا : أن العدم لا يتخلل بين الشيء ونفسه كما يزعمون ؛ لأنه ليس للعدم وجود حقيقي.

ثانيا : على افتراض أن العدم قد يتخلل ، فإن تخلله ليس واقعا بين الشيء ونفسه ، بل هو تخلل بين الشيء وغيره باعتبار الزمن ، وهذا يعني أن العدم المتخلل بين الوجود الأول والوجود الثاني قد وقع بين شيء مقيد بقيد وشيء آخر مقيد بقيد آخر ؛ ومن ثم يكون واقعا بين شيئين مختلفين لا بين الشيء ونفسه.

ثالثا : أن القول بامتناع التخلل بين الشيء ونفسه باطل ؛ لأن الشخص الباقي وقع فيه هذا التخلل ، وذلك أن الشخص الباقي له زمن أول لوجوده وزمن لبقائه ، وهما طرفان لبقائه ، وهناك لحظة استمرار تسمى زمن البقاء تخللت بين الموجود في اللحظة الأولى وبينه في اللحظة الأخيرة وهكذا : «محمد» ... زمن البقاء ... «محمد»

وحيث كان مثل هذا التخلل محالا كان البقاء لكل شخص محالا ، وذلك باطل بداهة ، فما أدى إليه من دليلكم يكون باطلا.

وقد رد هذا الجواب الثالث ، بأن هناك فرقا بين تخلل العدم وبين التخلل في الباقي ؛ فإن العدم يقطع الاتصال بين الموجودين قطعا حقيقيّا ، وأما الباقي فشيء واحد لا خلاف فيه ، ولحظة البقاء وصلت بين الزمنين ، فلم يكن هناك قطع للشخص الباقي ، بل وصل لزمن بقائه.

الدليل الثاني : أن القول بإعادة المعدوم بعينه يؤدي إلى اجتماع النقيضين ، وهو محال.

وبيان ذلك أنه إذا أعيد المعدوم بعينه فإنه يكون بهذا مبتدأ وهو في نفس الوقت معاد ، وهذا تناقض ؛ فامتنع لذلك القول بإعادة المعدوم بعينه.

وقد أجاب أهل السنة على هذا الدليل : بأن قول : (إن الحاصل في وقته الأول مطلقا يكون مبتدأ) قول غير مسلم به ، وبالتالي لا يلزم ما ذكره المستدل من اجتماع الابتداء والإعادة. بل المبتدأ هو الحاصل في وقته الأول غير المعاد ، وأما إذا حصل في وقته الأول المعاد فلا يكون مبتدأ بل معادا فقط. أو نقول : إن المبتدأ هو الذي لم يسبق بحدوث ، والمعاد وإن حصل في وقته الأول هو مسبوق بحدوث ، وعلى هذا فليس المعاد مبتدأ ؛ لأنه حصل في وقته الأول غير المعاد أو لأنه سبق بحدوث.

الدليل الثالث : لو صح القول بإعادة المعدوم بعينه لصح أن يوجد مثلان لا يتميز أحدهما عن ـ

١٠

__________________

ـ الآخر ، لكن وجود مثلين لا يتميز أحدهما عن الآخر باطل ؛ فما أدى إليه من صحة إعادة المعدوم بعينه باطل ، فثبت نقيضه وهو المطلوب.

وبيان ذلك أن الله عزوجل قادر على إيجاد مثل المعدوم مستأنفا فلنفرضه واقعا مع المعدوم ، وحينئذ يوجد مثلان بدون تميز وهما المعدوم والمستأنف الذي فرضنا وقوعه. وكذلك فإن الاثنينية تقتضي التغاير ، وما ذاك إلا بتمايزهما ، فوجود مثلين بدون تمايز باطل.

ويمكن أن يجاب عن هذا الدليل بأنه ـ أولا ـ إن كان مرادكم بالمثل المستأنف المماثل في النوع أي : في الماهية ، فالملازمة ممنوعة ؛ لأن التميز بينهما حاصل بالهوية ؛ لأن كل اثنين يتحدان في النوع هما متمايزان بالعوارض المشخصة ، وعلى هذا فقولكم في الملازمة : لا يتميز أحدهما عن الآخر ، ممنوع.

وإن كان مرادكم بالمثل المستأنف المماثل من كل الوجوه أي : في الحقيقة والهوية ، امتنعت الملازمة أيضا ، ومن ناحية أخرى فإن قدرة الله لا تتعلق بإيجاد هذا المثل المستأنف ، لأنه غير ممكن ، ووظيفة القدرة التعلق بالممكن ، وهذا المثل المستأنف لا يصح إيجاده عقلا ، وبالتالي فهو غير ممكن ؛ لأن مقتضى كونه ثانيا مع المعاد ألا يكون هو هو ، ومقتضى كونه مثلا له بمعنى الاتحاد والعينية أن يكون هو هو ، فآل الأمر إلى أنه عين المعاد ـ لا عينه ـ وذلك تناقض.

ويجاب عن هذا الدليل ثانيا بأنه لو تم ـ أي : هذا الدليل ـ لما وجد المبتدأ ؛ لأنه لو وجد لجاز أن يوجد مثلان لا يتميز أحدهما عن الآخر ؛ لأن الله قادر على إيجاد مثله معه ، فدليلكم يجري في المبتدأ أيضا سواء أكان المثل بمعنى المماثلة في النوع أو بمعنى الاتحاد والعينية ، وإذا كان دليلكم يترتب عليه باطل وهو عدم وجود المبتدأ فهو باطل ؛ لأن اللازم إذا كان باطلا بطل ملزومه.

الدليل الرابع : أنه متى أعيد المعدوم بعينه يقال فيه : إنه عين الأول ، أي : أنه يلزم الحكم عليه عند وجوده بأنه عين الموجود الأول ، فالحكم عليه بأنه عين الموجود الأول يقتضي أنه ـ وهو معدوم ـ متصف بصحة العود ، إذ لو كان مستحيلا عوده لما وجد ، فلا يحكم عليه حينئذ ، إذ الحكم عليه بأنه عين الأول فرع عن إمكان عوده ، ولو كان متصفا بصحة العود وإمكانه ، لكان متميزا حال العدم.

وهذه النتيجة الأخيرة التي ترتبت على تسلسل القول بإعادة المعدوم بعينه ـ وهي التميز حال العدم ـ باطلة ، فبطل كل ما أدى إليها ؛ فبطل تبعا لذلك إعادة المعدوم بعينه ، وقد نوقش هذا الدليل من قبل كل من أهل السنة وبعض شيوخ المعتزلة ، وكل منهما قد سلك مسلكا مختلفا في المناقشة عما سلكه الفريق الآخر :

أما شيوخ المعتزلة : فإن من أصل مذهبهم ـ كما سبق أن أوضحناه من قبل ـ أن المعدوم شيء ثابت متقرر ، وليس نفيا صرفا ؛ وبناء على هذا فهم لا يسلمون بقول المستدل : إن التميز للمعدوم باطل ؛ لأنه نفي صرف.

أما أهل السنة : فهم يخالفون المعتزلة في اعتبارهم أن المعدوم شيء ثابت متقرر وليس نفيا صرفا بل إنهم يوافقون المستدل على أن التميز للمعدوم باطل ؛ لأنه نفي صرف ، إلا أنهم يناقشون المستدل ، بأنه إن كان مراده بالتميز التميز الخارجي ، فإنهم لا يسلمون له بقوله : إن اتصاف المعدوم بصحة العود يقتضي تميزه ، أي : في الخارج ؛ لأن الاتصاف بصحة العود أمر اعتباري لا وجود له في الخارج فلا يقتضي التميز الخارجي ؛ لأن الذي يقتضي التميز المذكور هو الصفات الخارجية لا الاعتبارية.

أما إن كان مراده بالتميز التميز في الذهن فإنهم يقولون : إن هذا التميز ـ أي : الذهني ـ باطل ؛ لأن التميز الذهني حاصل في الممتنعات الصرفة ؛ فمن باب أولى حصوله في المعدومات الممكنة. ـ

١١

على الدهرية (١) في إنشاء الخلق لا من شيء ؛ فإنهم ينكرون ذلك ويحيلونه ؛ ولهذا وقعوا

__________________

ـ وقد يجاب عن هذا الدليل من زاوية أخرى بأنه لو تم لما وجد أحد من الممكنات ابتداء ؛ وذلك أن الممكن قبل وجوده متصف بصحة الوجود ، وهذه الصفة تقتضي تميزه حال عدمه ، والتميز حال العدم باطل على مقتضى هذا الدليل ، فهو كما يجري في المعدوم بعد الوجود يجري في المعدوم قبل الوجود ، إذن لو تم هذا الدليل لترتب عليه باطل وهو عدم وجود الممكنات ، فإذن هو باطل.

والحقيقة أن المسألة أبسط من هذا بكثير ، وهي جلية الوضوح في القرآن الكريم وسنة المصطفي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فالله ـ عزوجل ـ قادر على الإعادة من العدم ، قال الله تعالى : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) [يس : ٧٨ ـ ٧٩].

ينظر : الصحاح للجوهري ، طبعة دار الكتب العلمية ، مادة (ب ع ث) (١ / ٤٠٧). تاج العروس للزبيدي ، طبعة المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت مادة (ب ع ث) ، شرح المقاصد للتفتازاني مكتبة الكليات الأزهرية (٥ / ٨٢ ـ ١٠٦) أصول الدين لأبي منصور البغدادي ، طبعة دار الكتب العلمية (٢٣٥) ، أصول الدين للبزدوي ص (١٥٦). حاشية رمضان أفندي على العقائد (٢٢٦) ، نشر الطوالع للعلامة المرعشي الشهير بساجقلي زاده ، طبعة مكتبة العلوم العصرية ص (٣٤٧) (شرح المسايرة) للكمال بن الهمام (٩٨) وما بعدها.

(١) الدهر : بالفتح وسكون الهاء وفتحها ، هو الزمان الطويل الأمد الممدود ، وألف سنة كما في القاموس ؛ وقال الراغب : إنه اسم لمدة العالم من مبدأ وجوده إلى انقضائه ، يعبر به عن كل مدة كثيرة ، بخلاف الزمان ؛ فإنه يقع على المدة القليلة والكثيرة.

وفي المغرب : الدهر والزمان واحد.

وأما الفقهاء فقد اختلفوا فيه ، فقال أبو حنيفة رحمه‌الله : لا أدري ما الدهر وما معناه ؛ لأنه لفظ مجمل ، ولم يجد نصّا على المراد منه فتوقف فيه ، ثم اختلفوا فروى بشر عن أبي يوسف أن التعريف والتنكير سواء عند أبي حنيفة رحمه‌الله ، وذكر في الهداية : الصحيح أن هذا في المنكر ، وأما المعرف فبمعنى الأبد بحسب العرف ، وعندهما الدهر معرفا ومنكرا ستة أشهر.

والدهرية : فرقة من الكفار ذهبوا إلى قدم الدهر واستناد الحوادث إلى الدهر كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله : (ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) [الجاثية : ٢٤].

وذهبوا إلى ترك العبادات رأسا لأنها لا تفيد ، وإنما الدهر بما يقتضيه مجبول من حيث الفطرة على ما هو الواقع فيه ، فما ثم إلا أرحام تدفع ، وأرض تبلع ، وسماء تقلع ، وسحاب يقشع ، ويسمون بالملاحدة أيضا ، فهم عبدوا الله من حيث الهواية.

وفي كليات أبي البقاء : الدهر هو في الأصل اسم لمدة العالم من مبدأ وجوده إلى انقضائه ، ومدة الحياة ، وهو في الحقيقة لا وجود له في الخارج عند المتكلمين ؛ لأنه عندهم عبارة عن مقارنة حادث لحادث ، والمقارنة أصل اعتباري عدمي ؛ ولذا ينبغي في التحقيق ألا يكون عند من حده من الحكماء بمقدار حركة الفلك ، وأما عند من عرفه منهم بأنه حركة الفلك فإنه وإن كان وجوديّا إلا أنه لا يصلح للتأثير.

والدهر معرفا : الأبد بلا خلاف ، وأما منكرا فقد قال أبو حنيفة رحمه‌الله : لا أدري كيف هو في حكم التقدير ؛ لأن مقادير الأسماء واللغات لا تثبت إلا توقيفا.

وقد ورد في ترجمة المشكاة عن الشيخ عبد الحق الدهلوي في شرح حديث : «يؤذيني ابن آدم ؛ يسب الدهر وأنا الدهر ...» إلى آخره لأن الدهر بمعنى الفاعل والمدبر والمتصرف ؛ لأن سب الدهر مشعر بالاعتقاد في فاعليته وتصرفه كأن يقال : إن الدهر اسم للفاعل المتصرف فقال : «وأنا الدهر» ـ

١٢

في القول بقدم العالم ، والله الهادي.

ويحتمل قوله : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) أن يراد به في حق جميع بني آدم ، وأضاف خلقنا إلى الطين ، وكأن الخلق من الماء ؛ لما أبقي في خلقنا من قوة ذلك الطين الذي في آدم وأثره ، وإن لم يره تلك القوة وذلك الأثر ، وهذا كما أن الإنسان يرى أنه يأكل ، ويشرب ، ويغتذي ، ويحصل به زيادة قوة في سمعه وبصره ، وفي جميع جوارحه ، وقد يحيا بها جميع الجوارح (١) ، وإن لم ير تلك القوة ، فكذلك هذا.

ويحتمل ـ أيضا ـ على ما روي في القصة (٢) أنه يمازج مع النطفة شيئا من التراب ، فيؤمر الملك بأن يأخذ شيئا من التراب من المكان الذي حكم بأن يدفن فيه ، فيخلط بالنطفة ، فيصير علقة ومضغة ، فإنما نسبهم إلى التراب لهذا.

ويحتمل النسبة إلى التراب وإن لم يكونوا من التراب ؛ لما أن أصلهم من التراب ، وهو آدم.

وقوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى)

فالقضاء يتوجه إلى وجوه كلها ترجع إلى معنى انقطاع الشيء وتمامه ، وقد يكون لابتداء فعل وإنشائه ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ) [طه : ٧٢] [ويقال : قضيت هذا الثوب ، أي : عملته وأحكمته.

وقد يكون بمعنى الأمر ؛ قال الله ـ تعالى ـ : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٢٣] أي : أمر ربك ؛ لأنه أمر قاطع حتم.

__________________

ـ يعني أنكم تعتقدون أن الدهر هو الفاعل والمتصرف وأنا الفاعل والمتصرف ، أو على تقدير أن المضاف محذوف ، أي : «أنا مقلب الدهر» لأن آخر الحديث يدل على هذا ؛ فهو يقول في آخره «بيدي الأمر أقلب الليل والنهار».

وقد قال الكرماني : إن المقصود بقوله «أنا الدهر» «أنا المدهر» أي : مقلبه.

وقال البعض إن : «الدهر» من أسماء الله الحسني وقد أنكره الخطابي ، ولكن صحته تفهم من الفانوس ، وبصرف النظر عن هذا فإن المعنى في هذا المقام يكون غير جيد ، اللهم إلا إذا كان الدهر بمعنى الفاعل والمتصرف ، ووجود الإيذاء في سب الدهر سببه أن ذم الدهر وسبه يشعران بنسبة التصرف إليه ، أو بسبب أن سب الدهر يرجع إلى الجناب الإلهي ؛ لأنه ما دام هو الفاعل الحقيقي فإن السب يعود إليه ، نعوذ بالله منه.

انظر اصطلاحات الفنون (٢ / ٢٧٤ ـ ٢٧٥).

(١) الجوارح : أعضاء الإنسان التي تكتسب وهي عوامله من يديه ورجليه ، واحدتها جارحة ؛ لأنهن يجرحن الخير والشر ، أي : يكتسبنه ، وهي مأخوذة من جرحت يداه واجترحت.

ينظر تاج العروس من جواهر القاموس (٦ / ٣٣٨) ، لسان العرب (جرح).

(٢) انظر القصة عن ابن مسعود كما عند أبي نعيم ، وتفسير القرطبي (٦ / ٢٥٠).

١٣

وقد يكون بمعنى الإعلام ؛ قال ـ تعالى ـ : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) [الإسراء : ٤] أي : أعلمناهم إعلاما قاطعا. وقد يكون لبيان الغاية [والانتهاء عنه والختم ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ قَضى أَجَلاً) أي : ختم ذلك وأتمه ، وقد](١) يكون غير ما ذكرنا (٢).

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) (قضى) على عشرة أوجه :

منها «قضى» بمعنى : وصى ؛ قال تعالى في سورة الإسراء : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ)[الإسراء : ٢٣] يعني : ووصى ربك ، وقال تعالى في سورة القصص : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ)[القصص : ٤٤] يعني : وعهدنا إلى موسى ، ووصيناه بالرسالة إلى فرعون.

والوجه الثاني «قضى» بمعنى : أخبر ؛ قال سبحانه في سورة الإسراء : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ)[الإسراء : ٤] بمعنى : أخبرنا بني إسرائيل في التوراة ، وقال تعالى في سورة الحجر : (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ) [الحجر : ٦٦] يعني : وعهدنا إلى لوط ، فأخبرناه : (أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ)[الحجر : ٦٦].

والوجه الثالث «قضى» بمعنى : فرغ ؛ قال تعالى في سورة النساء : (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ)[النساء : ١٠٣] بمعنى : فإذا فرغتم من الصلاة ، وكقوله تعالى : (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ)[البقرة : ٢٠٠] يعني : فرغتم ، وكقوله تعالى في سورة الجمعة : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ)[الجمعة : ١٠] : أي : فإذا فرغت ، وقال تعالى في سورة الأحقاف : (فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ)[الأحقاف : ٢٩] يعني : فرغ.

والوجه الرابع «قضى» بمعنى : فعل ؛ قال تعالى في سورة طه : (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ)[طه : ٧٢] يعني : افعل ما أنت فاعل (إِنَّما تَقْضِي)[طه : ٧٢] : إنما تفعل ، وقال تعالى ـ أيضا ـ في سورة الأنفال : (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً)[الأنفال : ٤٤] يعني : ليفعل الله أمرا كان قضاه في علمه أن يفعل ، ومثلها في سورة مريم ، قوله تعالى : (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)[مريم : ٣٥] ، وقال تعالى في سورة الأحزاب : (إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً)[الأحزاب : ٣٦] يعني : إذا فعل الله ورسوله شيئا من أمر تزويج زينب ، وقال في سورة آل عمران ـ في أمر عيسى : (إِذا قَضى أَمْراً)[آل عمران : ٤٧].

والوجه الخامس «قضى» : نزل الموت ؛ قال تعالى في سورة الزخرف : (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ)[الزخرف : ٧٧] يعني : لينزل علينا ربك الموت ، وقال تعالى في سورة فاطر : (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا)[فاطر : ٣٦] يعني : لا ينزل عليهم الموت ، وقال تعالى في سورة القصص : (فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ)[القصص : ١٥] فأنزل به الموت.

والوجه السادس «قضى» بمعنى : وجب ؛ قال تعالى في سورة يوسف : (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ)[يوسف : ٤١] يعني : وجب الأمر ، وقال تعالى في سورة إبراهيم : (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ)[إبراهيم : ٢٢] لما وجب الأمر ، أي : العذاب ، وقال تعالى في سورة البقرة : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ)[البقرة : ٢١٠] يعني : وجب العذاب ووقع.

والوجه السابع «قضى» يعني : كتب ؛ قال تعالى في سورة مريم : (وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا)[مريم : ٢١] يعني : مكتوبا في اللوح المحفوظ أن عيسى سيكون.

والوجه الثامن «قضى» بمعنى : أتم ؛ قال سبحانه وتعالى في سورة القصص : (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ)[القصص : ٢٩] يعني : فلما أتم موسى الأجل يعني : شرطه ، وكقوله تعالى فيها : (أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ) [القصص : ٢٨] أي : أتممت ، وقال سبحانه وتعالى في سورة الأنعام : (وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى)[الأنعام : ٦٠] يعني : ليتم ، وكقوله تعالى ـ

١٤

ثم قوله : (قَضى أَجَلاً) يحتمل هذا كله سوى الأمر.

ثم قوله : (قَضى أَجَلاً) قيل (١) : هو الموت ، (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) يوم القيامة ، أطلعنا على أحد الأجلين وهو الموت ؛ لأنا نرى من يموت ونعاين ، ولم يطلعنا على الآخر وهو الساعة والقيامة.

وقيل (٢) : (قَضى أَجَلاً) : أجل الدنيا من خلقك إلى أن تموت ، (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) يوم القيامة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ).

أي : تشكون وتكذبون بعد هذا كله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) هذا ـ والله أعلم ـ صلة قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) فإذا كان خالقهما لم يشركه أحد في خلقهما ، كان إله من في السموات وإله من في الأرض لم يشركه أحد في ألوهيته ، ولا في ربوبيته.

ويحتمل قوله : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) أي : [إلى الله تدبير](٣) ما في السموات وما في الأرض ، وحفظهما إليه ؛ لأنه هو المتفرد بخلق ذلك كله ؛ فإليه حفظ ذلك وتدبيره.

__________________

ـ في سورة طه : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ)[طه : ١١٤] أي : من قبل أن يتم إليك وحيه ، وقال تعالى في سورة الأحزاب : (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ)[الأحزاب : ٢٣] يعني : أتم أجله ، (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ)[الأحزاب : ٢٣].

والوجه التاسع «قضى» بمعنى : فصل ؛ قال تعالى : (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ)[الزمر : ٦٩] يعني : وفصل بينهم بالقضاء ؛ وقال تعالى في سورة الأنعام : (لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ)[الأنعام : ٥٨] يقول : لفصل الأمر بيني وبينكم ، وقال تعالى في سورة يونس : (فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ)[يونس : ٤٧] يعني : فصل بينهم ؛ وقال سبحانه وتعالى : (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ)[النمل : ٧٨] يعني : يفصل.

والوجه العاشر «قضى» يعني : خلق ؛ قال تعالى في سورة فصلت : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ)[فصلت : ١٢] يعني : خلقهن.

(١) أخرجه ابن جرير (٥ / ١٤٧) (١٣٠٦٥) عن مجاهد وعكرمة ، (١٣٠٦٨) عن ابن عباس ، (١٣٠٦٩) عن السدي وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٧) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس ولعبد بن حميد وابن المنذر وأبي الشيخ عن مجاهد.

(٢) أخرجه ابن جرير (٥ / ١٤٧) (١٣٠٦٠) عن ابن عباس (١٣٠٦٣) (١٣٠٦٦) عن قتادة والحسن البصري (١٣٠٦٤) عن مجاهد وعكرمة ، (١٣٠٦٧) عن مجاهد ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٧) وزاد نسبته للفريابي وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ والحاكم وصححه عن ابن عباس ولعبد بن حميد وابن المنذر وأبي الشيخ عن مجاهد ولعبد الرزاق وابن المنذر وأبي الشيخ عن قتادة والحسن.

(٣) في أ : الله يدبر.

١٥

وقوله : (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) اختلف فيه.

قيل (١) : (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ) : ما تضمرون في القلوب (وَجَهْرَكُمْ) : ما تنطقون ، (وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) : من الأفعال التي عملت الجوارح ؛ أخبر أنه يعلم ذلك كله ؛ ليعلموا أن ذلك كله يحصيه (٢) ليحاسبهم على ذلك ؛ كقوله : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) [البقرة : ٢٨٤] أخبر أنه يحاسبهم بما أبدوه وما أخفوه ، فعلى ذلك الأول قد أفاد أن (٣) ذلك كله يحصيه (٤) عليهم ، ويحاسبهم في ذلك ؛ ليكونوا على حذر من ذلك وخوف. وقيل : (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ) : ما خلق فيهم من الأسرار ، من نحو السمع ، والبصر وغيرهما ؛ لأن البشر لا يعرفون ماهية (٥) هذه الأشياء وكيفيتها ، ولا يرون ذلك كما يرون غيرها من الأشياء ، ولا يعرفون حقائقها ؛ أخبر أنه يعلم ذلك وأنتم لا تعلمون.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَجَهْرَكُمْ) أي : الظواهر منكم ، (وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) : من الأفعال والأقوال.

__________________

(١) قال الرازي في تفسيره (١٢ / ١٢٩) المراد بالسر : صفات القلوب ، وهي الدواعي والصوارف ، والمراد بالجهر أعمال الجوارح ... فالداعية التي هي من باب السر هي المؤثرة في أعمال الجوارح المسماة بالجهرة ، ونقله عنه أبو حيان الأندلسي في البحر المحيط (٤ / ٧٨).

(٢) في أ : يحصيها.

(٣) في أ : إخبار.

(٤) في ب : نحصيه.

(٥) الماهية : مشتقة من (ما هو) وهي ما به يجاب عن السؤال ب (ما هو). تطلق غالبا على الأمر المنفعل من الإنسان ، وهي أعم من الحقيقة ؛ لأن الحقيقة لا تستعمل إلا في الموجودات. يقال : إن للموجودات حقائق ومفهومات.

والماهية تستعمل في الموجودات والمعدومات. يقال للمعدومات مفهومات لا حقائق ، وتطلق الماهية والحقيقة على الصورة المعقول ، وكذا على الوجود العيني.

وتعريفها المشهور ـ وهو أنها ماهية الشيء ـ غير مرضي ؛ إذ لا يصح أن يقال : إن الشيء الذي بسببه يكون الإنسان إنسانا هو ماهية الإنسان ، فماهية الإنسان شيء هو سبب الإنسان ، أو شيء سبب كون الإنسان إنسانا ، وأيضا الشيء الذي يكون زيد به زيدا هو الإنسان مع تشخص ، فإن كان هذا ماهية زيد لا يصح قولهم : إن النوع تمام ماهية أشخاصه والحق أن ماهية الشيء تمام ما يحمل على الشيء حمل مواطأة من غير أن يكون تابعا لمحمول آخر فإن الإنسان يحمل عليه الموجود والكاتب والضاحك وعريض الظفر ومنتصب القامة والجسم النامي والحساس والمتحرك بالإرادة والناطق نطقا عقليّا إلى غير ذلك ، فيجمع جميع ما يحمل عليه ؛ ثم ينظر في الأمور اللازمة ؛ إذ المفارقة ليست من الماهية ، فكل ما يحمل عليه بتبعية شيء آخر كالضاحك فإنه يحمل عليه بتبعية أنه متعجب ، ثم يحمل عليه بتبعية أنه ذو نطق عقلي ، فبالضرورة ينتهي إلى أمر لا يكون حمله عليه بتبعية أمر آخر ؛ لئلا تتساوى المحمولات ، فذلك الأمر المحمول بلا واسطة هو الماهية.

قلت : والمراد بها هنا حقائق الأشياء والله أعلم. ينظر التعريفات للجرجاني ص (٢٠٥).

١٦

قوله تعالى : (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٥) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ)(٦)

قوله ـ عزوجل ـ : (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ).

يحتمل : ما تأتيهم من آية من آيات توحيده ، أو من آيات إثبات رسالة محمد ونبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويحتمل (١) في إثبات البعث والنشور بعد الموت ؛ لما أخبر أنه خلقهم من طين ، فإذا ماتوا صاروا ترابا ، فإذا كان بدء إنشائهم من طين ، فإذا عادوا إليه يقدر على إنشائهم ثانيا ؛ إذ ليس إنشاء الثاني بأعسر (٢) من الأول. ثم يحتمل (٣) الآيات آيات القرآن.

ويحتمل الآيات ما كان أتى به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الآيات سوى آيات القرآن (٤).

ثم أخبر عن تعنتهم ومكابرتهم بقوله : (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) ، فإذا أعرضوا عنها لم ينتفعوا بها ؛ ليعلم أنه إنما ينتفع بالآيات من تأملها ونظر فيها لا من أعرض عنها.

ثم سورة الأنعام إنما نزلت في محاجة أهل الشرك ، ولو لم يكن القرآن معجزا كانت

__________________

(١) في ب : ومحتمل.

(٢) العسر ، بالضم وبضمتين ، قال عيسى بن عمر : كل اسم على ثلاثة أحرف أوله مضموم وأوسطه ساكن فمن العرب من يثقله ، ومنهم من يخففه ، مثل : عسر ، وعسر ، وحلم وحلم ، وبالتحريك : ضد اليسر ، وهو الضيق والشدة والصعوبة ويقال حاجة عسر ، وعسير : متعسرة.

ينظر تاج العروس (١٣ / ٢٨) ، لسان العرب (عسر).

(٣) في ب : ومحتمل.

(٤) منها على سبيل المثال قصة نبع الماء من بين أصابع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تكررت منه في عدة مواطن ، في مشاهد عظيمة ، ووردت عنه من طرق كثيرة يفيد عمومها العلم القطعي المستفاد من التواتر المعنوي.

ولم يسمع بمثل هذه المعجزة العظيمة من غير نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حيث نبع الماء من بين عظمه وعصبه ، ولحمه ودمه.

ينظر هذه المعجزات في سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد (١٠ / ١٣) ، والمواهب اللدنية (٥ / ١٥٢) ، ودلائل النبوة لأبي نعيم (٢ / ١٤٤) ، وتنوير الحوالك شرح موطأ مالك للسيوطي (١ / ٥٤) ، والموطأ (١ / ٥٤) ، وصحيح البخاري (٤ / ٢٣٣) ، وصحيح مسلم (٧ / ٥٩) ، وسنن النسائي (١ / ٥٢) ، وسنن الترمذي (٥ / ٦٩) ، وشمائل الرسول لابن كثير (١٧٧) ، والشفا للقاضي عياض (١ / ١٨٦) ، والتاج الجامع للأصول (٣ / ٢٧٦) ، والبداية والنهاية لابن كثير (٦ / ٩٣ ، ٩٤) ، والمسند (٣ / ١٧٠ ، ٢١٥) ، وسنن البزار (٣ / ١٣٧) ، وموطأ مالك (١ / ٥٤) ، ومشكل الآثار (٤ / ٣٣٢) ، والدر المنثور (٤ / ١٨٥) ، والبغوي (٤ / ١٦٢) ، وكنز العمال (٥٤٩٦).

١٧

سورة الأنعام معجزة ؛ لأنها نزلت في محاجة أهل الشرك في إثبات التوحيد والألوهية لله والبعث ، فكيف يكون وقد جعل الله القرآن آية معجزة عجز البشر عن إتيان مثله (١) ،

__________________

(١) قال الله سبحانه وتعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُ) [الإسراء : ٨٨] فيهم العرب العاربة ، وأرباب البيان وتعاونوا (عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ) [الإسراء : ٨٨] في بلاغته وحسن نظمه.

وقوله : (لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ)[الإسراء : ٨٨] جواب قسم محذوف (وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً)[الإسراء : ٨٨] معينا على الإتيان بمثله ، ولم تندرج الملائكة في الفريقين مع عجزهم أيضا ، لأنهما هما المتحدون به. ومن ثم تعجبت الجن من حسن نظمه وبلاغته البالغة أقصى درجاتها فقالوا : (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ)[الجن : ١ ـ ٢].

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من الأنبياء من نبي إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ـ وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله عزوجل إلي ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا» رواه الشيخان.

قال الحافظ ابن حجر رحمه‌الله تعالى : قوله : ما من الأنبياء من نبي إلا قد أعطى ... هذا دال على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا بد له من معجزة تقتضي إيمان من شاهدها. ولا يضره من أصر على المعاندة.

قال ابن قرقول : «من» الأولى بيانية والثانية زائدة ، وما موصولة أو نكرة موصوفة بما بعدها وقعت مفعولا ثانيا ل «أعطى» ، و «مثله» مبتدأ و «آمن» خبره. والجملة صفة للنكرة أو صلة الموصول. والراجع إلى الموصول : الضمير المجرور في عليه ، أي : مغلوبا عليه في التحدي والمباراة. والمراد بالآيات : المعجزات. وموقع المثل هنا موقعه في قوله : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ)[البقرة : ٢٣] أي : مما هو على صفته في البيان الغريب ، وعلو الطبقة في حسن النظم. والمثل يطلق ويراد به عين الشيء أو ما يساويه ، والمعنى ليس نبي من الأنبياء إلا قد أعطاه الله من المعجزات الدالة على نبوته الشيء الذي من صفته أنه إذا شوهد اضطر المشاهد إلى الإيمان به ، وتحريره أن كل نبي اختص بما يثبت دعواه من خوارق العادات بحسب زمانه ، فخص كل نبي بما ثبت له من خوارق العادات المناسبة لحال قومه ، كقلب العصا ثعبانا في زمن موسى وكونها تلقف ما صنعوا. وإخراج اليد بيضاء. وإنما كان كذلك لأن الغالب في زمانه السحر فأتاهم بما هو فوقه ، فاضطرهم إلى الإيمان به ولم يقع ذلك لغيره.

وفي زمن عيسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان الغالب الطب فجاءهم بما هو أعلى منه : في إبراء الأكمه والأبرص بل بما ليس في قدرة البشر وهو إحياء الميت.

وأما النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأرسله الله من العرب أهل الفصاحة والبلاغة وتأليف الكلام على أعلى طبقاتها ومحاسن بدائعها ، فأتاهم بالقرآن فأعجزهم عن الإتيان بأقصر سورة منه.

وقوله : آمن ، وقع في رواية حكاها ابن قرقول : أومن ـ بضم الهمزة ثم واو ـ وقوله (عليه) : بمعنى اللام أو الباء الموحدة. والنكتة في التعبير بها تضمنها معنى الغلبة ، أي : يؤمن بذلك مغلوبا عليه بحيث لا يستطيع دفعه عن نفسه ، لكن قد يخذل فيعاند كما قال تعالى : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً)[النمل : ١٤].

وقال الطيبي رحمه‌الله تعالى : المجرور في «عليه» حال أي : مغلوبا عليه في التحدي وموقع المثل موقعه من قوله : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) أي : على صفته من البيان وعلو الطبقة في البلاغة ، وقوله : «وإنما كان الذي أوتيته وحيا ... إلى آخره» معناه : معظم الذي أوتيته ، وإلا فقد أوتي من المعجزات ما لا ينحصر. والمراد به القرآن ، وأنه المعجزة الباقية على وجه الدهر إلى يوم القيامة ، ولبلوغه أعلى طبقات البلاغة ، وأقصى آيات الإعجاز ، فلا يتأتى لأحد أن يأتي بأقصر سورة منه لجزالة تراكيبه ، وفخامة ترتيبه الخارج عن طوق البشر ، وليس المراد حصر معجزاته فيه. ولا أنه لم يؤت من المعجزات ما أوتي من تقدمه ؛ بل المراد أنه المعجزة العظمى التي اختص بها دون ـ

١٨

__________________

ـ غيره ، تحدى بها قومه ؛ ولذلك رتب عليه قوله : «وأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» يريد : لاضطرار الناس إلى الإيمان به إلى يوم القيامة.

وذكر ذلك على سبيل الرجاء ؛ لعدم العلم بما في الأقدار السابقة.

وقيل : المعنى أن المعجزات الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ انقرضت بانقراض أعصارهم ، فلا يشاهدها إلا من حضرها. ومعجزة القرآن مستمرة إلى يوم القيامة. وخرق العادة في أسلوبه وبلاغته وإخباره بالمغيبات فلا يمر عصر من الأعصار إلا ويظهر فيه شيء مما أخبر به أنه سيكون ـ يدل على صحة دعواه ؛ ولهذا قال : فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة.

قال الحافظ ـ رحمه‌الله تعالى ـ : وهذا أقوى المحتملات.

وقيل : المعنى أن المعجزات الماضية كانت حسية تشاهد بالأبصار كناقة صالح وعصا موسى ـ عليهم الصلاة والسلام ـ ومعجزة القرآن تشاهد بالبصيرة فيكون من يتبعه لأجلها أكثر ؛ لأن الذي يشاهد بعين الرأس ينقرض بانقراض مشاهده ، والذي يشاهد بعين القلب باق يشاهده كل أحد ممن جاء بعد الأول مستمرّا.

قال الحافظ ابن حجر رحمه‌الله تعالى : ويمكن نظم الأقوال كلها في كلام واحد ؛ فإن محصلها لا ينافي بعضها بعضا ، ورتب صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله : فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة على ما تقدم من معجزة القرآن المستمرة ؛ لكثرة فوائده وعموم نفعه ؛ لاشتماله على الدعوة والحجة والإخبار بما سيكون ، فعم نفعه من حضر ومن غاب ومن وجد ومن سيوجد ؛ فحسن ترتب الوجوه المذكورة على ذلك ، وهذه الوجوه قد تحققت ؛ فإنه أكثر الأنبياء تابعا.

ولا خلاف بين العلماء على أن كتاب الله عزوجل معجز لم يقدر أحد على معارضته بعد تحديهم بذلك ، قال تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ)[التوبة : ٦] فلو لا أن سماعه حجة عليه لم يقف أمره على سماعه ولا يكون حجة. وقال سبحانه وتعالى : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ)[العنكبوت : ٥٠ ـ ٥١] فأخبر أن الكتاب آية من آياته ، كاف في الدلالة قائم مقام معجزات غيره وآيات من سواه من الأنبياء ، ولما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم وكانوا أفصح الفصحاء ومصاقع الخطباء ، وتحداهم على أن يأتوا بمثله ، وأمهلهم طول السنين فلم يقدروا ، ثم تحداهم بعشر سور منه ، ثم تحداهم بسورة ، فلما عجزوا عن معارضته والإتيان بسورة تشبهه ـ على كثرة الخطباء فيهم والبلغاء ـ نادى عليهم بإظهار العجز وإعجاز القرآن. هذا وهم الخطباء ـ وكانوا أحرص شيء على إطفاء نوره ، وإخفاء أمره. فلو كان في مقدرتهم معارضته لعدلوا إليها ؛ قطعا للحجة ، ولم ينقل عن أحد منهم أنه حدث نفسه بشيء من ذلك ، ولا رامه. بل عدلوا إلى العناد تارة وإلى الاستهزاء أخرى. فتارة قالوا : سحر ؛ للطافته ، وتارة قالوا : شعر ؛ لحسن نظمه وفصاحته. وقال آخرون : أساطير الأولين ، وقال آخرون : إفك ؛ لاستغراب معانيه ، وقال آخرون : قول الكهنة لتحيرهم. كل ذلك من التحير والانقطاع. ثم رضوا بتحكيم السيف في أعناقهم وسبي ذراريهم وحرمهم ، واستباحة أموالهم. وقد كانوا آنف شيء وأشد حمية ، فلو علموا أن الإتيان بمثله في قدرتهم لبادروا إليه ؛ لأنه كان أهون عليهم.

وقال بعض العلماء : والذي أورده صلى‌الله‌عليه‌وسلم على العرب من الكلام الذي أعجزهم عن الإتيان بمثله أعجب في الآية وأوضح في الدلالة من فلق البحر وإحياء الموتى ، وإبراء الأكمه ؛ لأنه أتى أهل البلاغة وأرباب الفصاحة ورؤساء البيان والمتقدمين في اللسن بكلام مفهوم المعنى عندهم. وكان عجزهم عنه أعجب من عجز من شاهد عيسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن إحياء ؛ الموتى لأنهم لم يكونوا يطمعون فيه ولا في إبراء الأكمه والأبرص ولا يتعاطون علمه. وقريش كانت تتعاطى الكلام الفصيح والبلاغة والخطابة. ـ

١٩

__________________

ـ وقال القاضي : معجزات الرسل كانت واردة على أيديهم بقدر أحوال زمانهم ، وكانت بحسب الفن الذي علا واشتهر فيه : فلما كان زمن موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم غاية علم أهله بالسحر بعث إليهم بمعجزة تشبه ما يدعون قدرتهم عليه ، فجاءهم على يديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم منها ما خرق عاداتهم ، من انقلاب العصا حية واليد السمراء يدا بيضاء ، من غير سوء ، ولم يكن ذلك المعجز في قدرتهم ، وقد أبطل ما جاءهم منها. وكذلك زمن عيسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان انتهاء ما كان علم أهله الطب وأوفر ما كان في أهله ، فجاءهم على يديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما لم يخطر لهم ببال من إحياء الميت وإبراء الأكمه الذي ولد ممسوح العين ، والأبرص وهو الذي بيده بياض ـ فكان يأتيه من أطاق الإتيان ، ومن لم يطق ذهب صلى‌الله‌عليه‌وسلم به إليه ، فربما اجتمع عنده الألوف ممن به داء فيداويهم من دون معالجة وطب بالدعاء ، وهكذا سائر معجزات الأنبياء كانت بقدر علم زمانهم ، فكان كل نبي يرسل إلى قومه بمعجزة من جنس ما عانوه من علم وصناعة وغيرها.

ثم بعث الله تعالى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجملة معارف العرب وعلومهم أربعة :

البلاغة ؛ وهي ملكة يبلغ بها المتكلم في تأدية المعاني حدا يؤذن بتوفية كل تركيب حقه.

والشعر : وهو كلام موزون مقفى مراد به الوزن.

والخبر : يقصد به علم الأنساب.

والكهانة : وهي معاناة الخبر من الكائنات وادعاء معرفة الأسرار ؛ فأنزل الله سبحانه وتعالى عليه القرآن الخارق لهذه الأربعة من أجل الفصاحة والإيجاز والبلاغة الخارجة عن نوعه وطريقته. وكان العرب يتناضلون بالفصاحة ويتباهون في تحبير الشعر والبلاغة وكانوا أفصح الفصحاء ، ومصاقع الخطباء فأنزل الله تعالى على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرآنا عربيا مبينا ، يشتمل على مذاهب لغة العرب ، فتلا عليهم كلاما متشابها في الرصف ، متجانس الوصف ، سهل الموضوع ، عذب المسموع ، خارجا عن موضوع لغة القريض والأسجاع ، مستعذبا في الأفهام والأسماع. فلما سمعوه استعذبوه. فقالوا فيه ما قالوا. فتحداهم أن يأتوا بمثله فعجزوا ، ثم تحداهم بعشر سور مثله فعجزوا. ثم تحداهم بسورة من مثله. قالوا عند العجز : بل القتل والقتال. وجنحوا ـ للقصور ـ إلى الجحود والجدال ، فلما عدلوا عن معارضته التي لو تمت لم يدل على كذبه إلى قتاله الذي لو تم مرادهم فيه لم يدل على كذبه كان الإعجاز باديا ظاهرا ، وعجزهم عن معارضته واضحا معلوما ، فالقرآن أفضل المعجزات لبقائه بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يبق معجز غيره بعد وفاة أصحابه ؛ ولأن الأحكام الشرعية مستنبطة منه ، ولم تستنبط من معجز سواه ، فالقرآن بحر لا تفنى عجائبه ، ولا تنقضي غرائبه ، لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.

وحكى أبو عبيد : أن أعرابيا سمع رجلا يقرأ : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ)[الحجر : ٩٤] فسجد وقال : سجدت لفصاحة هذا الكلام. وسمع آخر رجلا يقول (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا)[يوسف : ٨٠] قال : أشهد أن مخلوقا لا يقدر على مثل هذا الكلام.

وحكى الأصمعي : أنه رأى جارية خماسية أو سداسية وهي تقول : أستغفر الله من ذنوبي كلها.

فقلت لها : مم تستغفرين ولم يجر عليك قلم؟ فقالت :

أستغفر الله لذنبي كله

قبلت إنسانا لغير حله

مثل الغزال ناعما في دله

انتصف الليل ولم أصله

فقلت لها : قاتلك الله ، ما أفصحك!! فقالت : أتعد هذا فصاحة بعد قوله تعالى (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ)[القصص : ٧] فجمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين.

انظر : سبل الهدى والرشاد (٩ / ٥٧٢ ـ ٥٧٨). ـ

٢٠