تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٩٥

سورة الملك [وهي](١) مكية

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (٢) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (٣) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (٤) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ)(٥)

قوله ـ عزوجل ـ : (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ).

قيل : تعالى وتعاظم ، و (تَبارَكَ) تفاعل من البركة ، والبركة كناية عن نفي كل عيب ؛ قال ـ عزوجل ـ : (وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً) [ق : ٩] أي : ماء لا كدورة فيه ولا قذر ، بل هو ماء مطهر من كل آفة وعيب ، فمعنى قوله : (تَبارَكَ) أي : تعالى من أن يكون له شبيه وعديل ، وتعاظم عما قالت فيه الملاحدة ومن أن يلحقه المعايب والآفات.

وقوله : (بِيَدِهِ الْمُلْكُ).

أي : الذي له ملك الملك ؛ لأنه قال في موضع آخر : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) [آل عمران : ٢٦] [أي : الذي له الملك](٢) ، فذكر اليد هاهنا مكان المالك هناك ؛ فامتدح ـ جل وعلا ـ بملك الملك وكونه مالكا له.

والمعتزلة يقولون بأن ملك ملك الكفرة ليس له ، وأنه لا يولي الملك للكافر ، ويقولون في قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) [البقرة : ٢٥٨] أن الذي آتاه الله الملك هو إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ والهاء تنصرف إليه ، لا إلى الذي حاجه ، وإذا لم يجعلوا ملك ملك الكافر في يده ، لم يصر ممتدحا بما ذكرنا ؛ لأنه يكون في يده بعض الملك لا كله ، وقال في آية أخرى : (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ) [آل عمران : ٢٦] ، وعلى قولهم (٣) يصير الملك في يد من لا يشاء ؛ لأنه لا يشاء الملك للكافر ، ومع ذلك يوجد فيهم الملك.

ثم ما ينبغي لهم أن يقطعوا القول بأن الله تعالى لا يؤتي الملك للكافر ، بل عليهم أن يقولوا : إن كان إيتاء الملك أصلح لهم آتاهم إياه ، وإن كان شرّا لهم لم يؤتهم ؛ إذ من

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : هذا.

١٠١

مذهبهم أن الله لا يفعل بعبده إلا [ما هو الأصلح](١) له في الدين والدنيا في حقه ، فهذا جملة اعتقادهم ، ثم هم لا يعرفون الوجه الذي صار أصلح في كل شيء على الإشارة إليه ؛ لأنهم يقولون : في إبقاء إبليس اللعين إلى اليوم المعلوم صلاح ، وإن كنا لا نعرف الوجه الذي لأجله صار أصلح ، وإفناء الأنبياء والرسل ـ عليهم‌السلام ـ كان (٢) أصلح وإن لم نعرف من أي وجه صار أصلح؟! فليقولوا هاهنا بأن إيتاء الملك إن كان أصلح لهم لم يكن له ألا يؤتيهم ، وإن كان شرّا فعليه ألا يؤتيهم ؛ لئلا يجعلوا الأمر على النفي.

ثم الملك اسم عام ، وهو عبارة عن نفاذ التدبير والسلطان والولاية ، والملك هو أن يكون للمالك خاصة في الشيء ، لا يتناول من ذلك الشيء إلا بإذنه ، وقد يكون المرء مالكا ، وليس بملك ، وقد يكون ملكا ليس بمالك ، فكل واحد من الوجهين يقتضي معنى [غير ما](٣) يقتضيه الآخر.

وجائز أن يكون [تأويل](٤) قوله : (بِيَدِهِ الْمُلْكُ) ، أي : ملك كل من ملك من أهل الأرض بيده ؛ لأنه إن شاء أبقى له الملك ، وإن شاء نزعه ؛ فما من ملك في دار الدنيا إلا وملكه في الحقيقة لله تعالى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

امتدح نفسه تعالى [بأنه على ما يشاء قدير ، وذلك من أوصاف ربوبيته أيضا ومن قول المعتزلة](٥) : إنه على أكثر الأشياء غير قدير ؛ لأنهم يجعلون المعدوم شيئا ؛ فشيئية الأشياء كانت بأنفسها لا بإنشاء الله تعالى ، ويجعلون ظهورها بالله ـ تعالى ـ فقط ، وإذا كان كذلك فإنه (٦) لم يصر قادرا على شيئية الأشياء ، وكذلك ينفون الخلق والقدرة على أفعال العباد.

ومن قولهم ـ أيضا ـ : إن إقدار العبد بيد الله ، وإذا أقدر عبدا من عبيده على الهداية ، خرجت القدرة من يده ؛ فتصير (٧) هذه القدرة مستفادة لا ذاتية ، وإذا كان كذلك فقد نفوا

__________________

(١) في أ : الملك أصلح لهم.

(٢) في ب : إن كان.

(٣) في أ : لم.

(٤) سقط في ب.

(٥) بدل ما بين المعقوفين في ب : بأنه على كل شيء قدير ، وذلك من الأوصاف اللازمة للربوبية أيضا ، وقول المعتزلة.

(٦) في ب : فهو.

(٧) في أ : فكثير.

١٠٢

عنه القدرة عن أكثر الأشياء ، فلا يصير هو قادرا على كل شيء ، وإنما هو قادر على البعض ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوّا كبيرا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً).

قال أبو بكر الأصم : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ) أي : خلقكم أمواتا : نطفة وعلقة ومضغة ، ثم أحياكم (لِيَبْلُوَكُمْ).

وقال غيره : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ) ليجزيكم بعده ، والحياة ؛ ليبتليكم بها ، واستدل بقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [الكهف : ٧] ، فصرف المحنة إلى الحالة التي أنشأهم على وجه الأرض ، وهي حالة الحياة ، [ثم أخبر بعد ذلك أنه يجعلهم](١) صعيدا جرذا بعد الابتلاء بقوله : (وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً) [الكهف : ٨].

وعندنا : أنه خلقهما جميعا للابتلاء ؛ لأن الله ـ تعالى ـ خلق الموت على غاية ما تكرهه الأنفس ، وتنفر عنه ، وخلق الحياة على غاية ما تتلذذ به الأنفس وترغب فيها ، والمحنة في الترغيب والترهيب ، فثبت أن في خلق الموت محنة ؛ فيكون قوله ـ تعالى ـ : (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) كأنه يقول : خلق الموت مرهبا ، وخلق الحياة مرغبة ؛ (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) ، أي : ليبلوكم أيكم أرهب من الشر ، وأرغب في الخير؟

ثم الموت مما لا مهرب منه لأحد ، ولا مخلص لمخلوق ، وكذلك الحياة ، وإن كانت من أرغب الأشياء إلى الأنفس ، فليست هي بحيث يتهيأ للمرء أن يزيد منها بالطلب ، ولا مما يوجد بالكد والسعي ؛ فصارت هي مرغبة في الحياة الدائمة وهي نعيم الآخرة ، [وصار الموت](٢) مرهبا عن الموت الدائم ، والموت الدائم هو العذاب الدائم ، الذي لا ينقطع كما قال ـ تعالى ـ : (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ) [إبراهيم : ١٧] ، أي : لا تنقضي عنه الآلام والأوجاع بل يبقى فيها أبدا ، وإذا ثبت أن الموت صار مرهبا عن العذاب الدائم ، والحياة صارت مرغبة في مثلها ، فنقوم بطلبه ، ووجب القول بالبعث أيضا ؛ إذ الراغب إنما يصل [إلى] ما يرغب فيه بالبعث ، والآخر إنما يصير إلى العذاب الدائم بالبعث.

وفيه إيجاب القول بالرسالة ؛ لأنه إذا ثبت الرغبة في الموعود من الثواب والرهبة (٣) عن العذاب ، وهما جميعا غائبان ، فاحتيج إلى من يظهرهما ويحضرهما ويخبر عنهما ، فلم يكن بد من رسول يخبرهم ويحضر علمه لهم.

__________________

(١) في ب : ثم أخبر عما بعده أنهم يجعلون.

(٢) في أ : وصارت.

(٣) في أ : والرغبة.

١٠٣

ثم الأصل في قوله ـ تعالى ـ : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [أنه إنما يحسن عمله](١) بحسن رغبته ويسوء عمله بسوء رغبته ورهبته ، فخلق الحياة والموت ليتفكر فيهما المرء ، ويعتبر بهما ، فمن حسنت (٢) رغبته ورهبته حسن عمله ، ومن لم يتفكر فيهما ، ولم يعتبر بهما ، ساء عمله ، فالموت والحياة أنشئا مرغبين ومرهبين ، وكذلك الدنيا وما فيها [أنشئت](٣) دلالة على طريق الآخرة ، فالسمع يدل على السمع ، والبصر على البصر ، وآلامها تدل على آلام الآخرة ، ونعيمها دليل على نعيم الآخرة ، والله أعلم.

ثم قوله : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [فيه دليل على إضمار قوله : وأيكم أسوأ عملا](٤) على مقابلة الأول ، إلا أنه اكتفى بذكر أحد المتقابلين عن (٥) الآخر ، والله أعلم.

فإن قال قائل : كيف أضاف الابتلاء إلى نفسه بقوله : (لِيَبْلُوَكُمْ) ، والابتلاء في الشاهد ؛ لاستظهار ما خفي ، ولاستحضار ما غاب ، والله تعالى لا يغيب عنه شيء ، ولا يخفى عليه أمر ، فكيف أضيف إليه الابتلاء؟!

فجوابه أن نقول : إن الابتلاء في الحقيقة كناية عما به ظهور الشيء وبروزه. فاستعمل الابتلاء في كل ما فيه ظهور الأمر ، وإن كان الذي ظهر من الأمر عند المبتلي ظاهرا ، وهذا كما أضيف [الاستدراج والمكر](٦) إلى الله تعالى ؛ لوجود معنى المكر والاستدراج فيه ، وإن لم يكن المقصود من ذلك المكر والاستدراج ، وفي الشاهد المكر أن تحسن إلى عدو ليقع عنده أنك تركت عداوته ، فيعتبر بإحسانك إليه ، ثم تأخذه من وجه أمنه ، ومن حيث لا يشعر به ، هذا هو معنى المكر في الشاهد ، وقد وجد الإحسان من الله تعالى إلى أعدائه ، ووجد منهم الاغترار بالنعم ، ووقع عندهم أنهم من جملة أوليائه ثم أتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ؛ فوجد معنى المكر وإن لم يقصد (٧) بإحسانه إليهم المكر بهم.

والثاني : أن من أمر في الشاهد فإنما يأمر ؛ لمصلحة أو لمنفعة تعود (٨) إليه ، وإذا نهى (٩) عن شيء فإنما ينهى ؛ لنفي مضرة تصل إليه ، والله تعالى لم يأمر الخلق ولم ينههم

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : ويعتبر به ، ومن حسنت.

(٣) سقط في ب.

(٤) سقط في ب.

(٥) في ب : على.

(٦) في ب : المكر والاستهزاء.

(٧) في ب : يقع.

(٨) في أ : تصل.

(٩) في ب : نهاه.

١٠٤

لمنفعة يجلب (١) بها إلى نفسه ، أو لمضرة يدفعها عن نفسه ، وإنما أمرهم ونهاهم ؛ لمنافع ترجع إليهم ومضار تلحقهم ، ثم أضيف إليه الأمر والنهي وإن كان لا منفعة له ولا مضرة عليه ؛ فكذلك ابتلى خلقه ؛ ليظهر للمبتلى عداوته وولايته ، لا لتظهر له ، وأضاف الابتلاء إلى نفسه وإن كان هو مستغنيا عن الابتلاء ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ).

ففيه إبانة أنه لم يبتلنا لمنفعة أو لعز (٢) يرجع إليه ، أو لذل يدفع عنه ، ولكن لعز يحرزه الممتحن إذا أحسن العمل وذنوب تغفر له وتستر عليه ، وهو عزيز بذاته.

وجائز أن يكون معنى قوله : (وَهُوَ الْعَزِيزُ) ، أي : القوي على الانتقام ممن ساء عمله ، واختار عداوته ، (الْغَفُورُ) : الستور على من حسن عمله ، يستر عليه ذنبه ، ويجزيه بحسن عمله ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ).

ففي ذكر السموات السبع إيجاب القول بتصديق ما يأتي به الرسل ؛ [لأن كون السموات سبعا لا يعرف إلا من طريق](٣) الخبر ، وقد ثبت وجود هذا القول [على ألسن الرسل](٤) وهذه الآية أثبتت تصديق ما يأتي به الرسل ؛ فلزمنا القول [في السماوات](٥) أنها سبع وإن لم تشاهد.

ثم يحتمل قوله : (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) ؛ ليبلو أهلها : أيهم أحسن عملا ؛ لأنه بين أنه لم يخلق السموات والأرضين باطلا ، ثم السموات بأنفسها لا تمتحن ، وإنما يمتحن أهلها ، لكنه اقتضى [ذكر السموات](٦) ذكر أهلها ، واقتضى ذكر الأرض ذكر أهلها ، فأخبر بذكر الأرض عن ذكر أهلها ، وبذكر السموات عن ذكر أهلها ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ).

أي : انظر في خلق الرحمن ، هل ترى [فيه](٧) من تفاوت أو فطور؟! فإنك إن رأيت فيه فطورا ، ظننت أن في مدبره عددا ، وإن رأيت فيه تفاوتا ، ظننت في منشئه سفها ، فإنك

__________________

(١) في أ : يجب.

(٢) في أ : أمر.

(٣) بدل ما بين المعقوفين في أ : من.

(٤) في ب : بالرسالة.

(٥) في ب : في أن السموات.

(٦) سقط في ب.

(٧) سقط في ب.

١٠٥

إذا رأيت فيه فطورا وشقوقا رأيت فيه تمانعا وتدافعا ، وفي حصول التمانع والتدافع حصول العدد ؛ لأن التدافع والتمانع إنما يقع عند ثبات العدد ؛ لأن ما يبني هذا يهدمه الآخر ، وما يهدمه الآخر وينقضه يبني الآخر ، فعند ذلك يقع التدافع ، وإذا لم ير فيه فطورا أو شقوقا ، بل رآه متسقا مجتمعا ؛ دل على وحدانيته وقدرته وسلطانه.

وكذلك التفاوت يدل على السفه ونفي الحكمة ، وارتفاع التفاوت يدل على حكمته وعجيب تدبيره ؛ فيكون في ارتفاع [الفطور والتفاوت](١) إثبات القول بالوحدانية وإيجاب القول بالبعث من حيث ثبت حكمته ، وفي نفي القول بالبعث زوال الحكمة ، وفيه إيجاب المحنة والابتلاء ؛ لأن العدد إذا ثبت ، كان للممتحن ألا يعمل حتى يتبين له الغالب من المغلوب فلا يضيع عمله.

أو يشتغل (٢) كل بإقامة سلطانه ونفاذ تدبيره ، فلا يتفرغ للأمر بالمحنة ؛ ألا ترى [إلى](٣) قوله : (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ) [المؤمنون : ٩١] قيل : يذهب كل واحد منهم بالجزء الذي (٤) خلقه ؛ فيظهر عند ذاك فطور وشقوق ؛ لأن ما خلق هذا يمتاز من الذي خلقه الآخر ، فارتفاع الفطور يدل على وحدانية الصانع جل جلاله.

وقيل في قوله : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) أي : من حيث الدلالة على وحدانية الرب ـ تعالى ـ أو من حيث الحكمة والمصلحة ؛ فالخلائق كلها في المعاني التي ذكرناها غير متفاوتة ، لا أن تكون الأشياء المحدثة غير متفاوتة في أنفسها ؛ لأن بين السموات والأرضين تفاوتا ، وكذلك بين (٥) الحياة والموت تفاوت ، ولكن منافع السماء متصلة بمنافع الأرض ، ومنافع أهل الأرض متصلة بالأرض وقوامهم ومعاشهم بما يخرج منها ، وكل ذلك يدل على وحدانيته وعلى حكمته ولطائف تدبيره.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ. ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ).

فجائز أن يكون هذا على رجوع بصر الوجه.

وجائز أن يكون على رجوع بصر القلب.

__________________

(١) في ب : التفاوت والفطور.

(٢) في ب : يستعمل.

(٣) سقط في ب.

(٤) في ب : والذي.

(٥) في ب : من.

١٠٦

أو يكون أحدهما على بصر الوجه ، والثاني على بصر القلب.

والأشبه أن يكون على بصر القلب ؛ لأنه قد سبق (١) منه النظر إلى السموات والأرضين ببصر الوجه ، وسبق منه العلم من حيث النظر أنه لا تفاوت فيها ولا فطور ، فدعاه إلى أن ينظر ببصر القلب ؛ ليدله ذلك على المعاني التي ذكرناها ؛ وهو كقوله ـ تعالى ـ : (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) [آل عمران : ١٣٧] ، وقال تعالى : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) [الروم : ٩] ، ولم يرد به السير بالأقدام ؛ إذ قد سبق منهم السير فيها ، ولكن معناه : أو لم يتفكروا في عواقب من تقدمهم من مكذبي الرسل أنهم بأي سبب أهلكوا؟ ولأي معنى عوقبوا واستؤصلوا؟

ثم قوله : (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ. ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ ..). الآية منهم من قال : إن الكرتين هاهنا كناية عن مرة بعد مرة ، ليس على تثنية (٢) العدد ، فكأنه أمره أن يكون أبدا معتبرا ناظرا في خلق الرحمن ؛ وإلى هذا يذهب الحسن والأصم.

وجائز أن يكون قوله : (كَرَّتَيْنِ) مرتين ، ولكن على اختلاف (٣) الوقتين ؛ فيكون أحد النظرين [بالليل](٤) والآخر (٥) بالنهار ؛ لأنه يرى بالليل آيات وبالنهار آيات سواها ، وثبوت كل ذلك يدل على وحدانيته وعجيب حكمته ونفاذ قدرته وسلطانه.

أو أن تكون النظرة الأولى ببصر الوجه والنظرة الثانية ببصر القلب ؛ لأنه إذا نظر النظرة الأولى ببصر وجهه ، فرأى (٦) ما فيه من العجائب أشعر قلبه ما رأى ، فينظر فيه مرة أخرى ببصر القلب ؛ ليتأكد ذلك ويتكرر.

ويجوز أن يكون النظران جميعا ببصر الوجه ؛ لأنه لا يستوعب النظر بالجملة في المرة الأولى ؛ فينظر [مرة أخرى](٧) ؛ ليدرك ما غاب عنه في المرة الأولى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (خاسِئاً).

أي : صاغرا مستسلما معترفا بالقصور عن درك كنه سلطانه والإحاطة بعظمته وجلاله.

(وَهُوَ حَسِيرٌ).

أي : منقطع عن درك بلوغ حكمته ونفاذ أمره.

__________________

(١) في أ : سهل.

(٢) في أ : تثبيت.

(٣) في ب : خلاف.

(٤) سقط في ب.

(٥) في أ : وثانيتها.

(٦) في ب : فيرى.

(٧) في ب : في المرة الأخرى.

١٠٧

ثم الأشبه أن يكون المراد بهذا الخطاب المكذبين بالبعث ؛ لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن كان الخطاب متوجها إليه في الظاهر ؛ لأنه إنما أراد بالنظر في خلق الله تعالى ؛ ليتقرر عنده عظمة الله تعالى وسلطانه وعجيب حكمته ونفاذ تدبيره ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد كان تقرر عنده علم ذلك كله ؛ فلم يكن يحتاج إلى النظر فيما ذكر ؛ ليتقرر صرف النظر إلى المكذبين بالبعث ، فأمروا بالنظر فيما ذكر ؛ ليتقرر عندهم سلطانه ونفاذ تدبيره ، وأنه ليس بالذي يعجزه أمر وأن قدرته ليست بمقدرة (١) بقوى البشر ، وهم كانوا ينكرون البعث والإحياء على تقرير الأمور بقوى أنفسهم ، فإذا نظروا في هذه الأشياء وعرفوا فيها لطائف وحكما لا تدركها عقولهم وقوة لا تبلغها حيلهم ، أدى ذلك إلى رفع الإشكال عنهم وإزاحة الريب الذي اعتراهم في أمر البعث ؛ فيحملهم على الإيمان.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ).

سماها : سماء الدنيا ؛ لدنوها إلى المخاطبين الممتحنين ، لا أن تكون السماء الثانية سماء الآخرة ، والذي يدل على صحة ما ذكرنا : أن مقابل الآخرة (٢) ليست هي الدنيا (٣) بل مقابلها الأولى ، ومقابل الدنيا القصوى ؛ فثبت أن ليس فيها تثبيت أن السماء الثانية هي سماء الآخرة ، والمصابيح هي النجوم ، فذكر عباده عظم ما أودع من النعيم في النجوم عليهم ، فجعل فيها ثلاثة أوجه من النعيم :

أحدها : أنه جعلها زينة للناظرين ؛ كما قال ـ تعالى ـ : (وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ) [الحجر ١٦] ، ثم هذه الزينة إنما تظهر عند ما تخفى على الناظرين زينة الأرض ، وذلك في ظلم الليالي ؛ فأبدل الله لهم زينة في السماء مكان الزينة التي أنشأها في الأرض ، وفضل هذه الزينة على سائرها ؛ لأن سائرها لا يظهر إلا بالدنو إليها والقرب منها ، ثم جعل هذه الزينة بحيث تظهر فترى من البعد ؛ فثبت أن لها فضلا وشرفا على زينة الأرض.

والنعمة الثانية : ما ذكر في قوله : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) [الأنعام : ٩٧] ؛ فجعلها هدى من ظلمات أحوال تقع فيسلم بها المرء عن الوقوع في المهالك.

والنعمة الثالثة : ما ذكر من قوله ـ تعالى ـ : (وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) ، وفي جعلها رجوما للشياطين رفع الاشتباه عن الخلق وإخراجهم من ظلمات الأفعال إلى النور ، وذلك أن الشياطين كانوا يصعدون إلى السماء ؛ فيستمعون إلى الأخبار التي يتحادث بها أهل السماء ، فيما بينهم مما يراد بأهل الأرض ، فيسترقون السمع منهم ، فيأتون بها أهل

__________________

(١) في ب : بمقدورة.

(٢) في أ : الدنيا.

(٣) في أ : الآخرة.

١٠٨

الأرض ويلقونها إلى أهل الأرض بعد ما يخلطونها بأكاذيب من عند أنفسهم فيشبهون على الخلائق ويضلونهم بذلك عن سبيل الله تعالى ؛ فملأ الله ـ تعالى ـ السماء بالحرس والشهب ؛ ليدفعوا الشياطين عن استراق السمع ؛ ليكون تبليغ الأخبار إلى أهل الأرض بمن يؤمن عليه الكذب ، وهو الرسول ـ عليه‌السلام ـ فتسلم تلك الأخبار عن التخاليط والشبه ؛ فيسلم الناس عن الوقوع في الظلمات.

ثم يكون في جعل النجوم زينة للسماء : أن أهل [السماء ابتلوا](١) أيهم أحسن عملا؟ كما ابتلي به أهل الأرض ؛ ألا ترى إلى ما ذكر في أهل الأرض من قوله : (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [الكهف : ٧] فأخبر أن الزينة للامتحان.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ).

ففيه أنهم وإن عذبوا بالنيران التي جعلت في النجوم الرجوم ، لا يدفع عنهم ما استوجبوا من العذاب الدائم ، بل قد أعد لهم عذاب السعير ، كما أعد لغيرهم من الشياطين وأهل الكفر.

قوله تعالى : (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٦) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (٧) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (٨) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (٩) وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (١٠) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (١١) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١٢) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٣) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)(١٤)

[وقوله : (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) فالمصير : هو الطريق ، أي : فبئس الطريق طريق من سلكه أفضى به إلى عذاب السعير](٢).

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً).

الشهيق : هو الصوت المنكر.

ثم من الناس من يقول : (سَمِعُوا لَها) ، أي : لجهنم.

ومنهم من جعل الشهيق من أهلها ، وقد يجوز (٣) أن يذكر المكان والمراد منه الأهل ؛ كما قال : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها) [الطلاق : ٨] ، وكلا الأمرين يحتمل عندنا ، ولا

__________________

(١) في ب : السماء الدنيا وابتلوا.

(٢) سقط في ب.

(٣) في أ : تجاوز.

١٠٩

نحتاج إلى معرفة ذلك ؛ لأن الصوت المنكر أمر ظاهر ممن لا يعقل الصوت كهو [من الذي يعقل](١) ، فليس الذي يعقل الصوت أولى أن يجعل الفعل له من الذي لا يعقل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَهِيَ تَفُورُ. تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ).

أي : تغلي ، ثم النار بنفسها لا تغلي ، وإنما تغلي بالذي يجعل فيها ؛ ففيه أن طعامهم وشرابهم في النار النار [فيغلي النار بطعامهم وشرابهم](٢).

وقوله : (تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ).

فجائز أن يكون [هذا](٣) كناية عن الخزنة.

وجائز أن يكون هذا وصف النار ، ولله تعالى أن يجعل في جهنم ، وفيما شاء من الأموات ما يعرف به عظمته وجلاله ، فيغضب له على أعدائه غضبا يكاد أن ينقطع في نفسه ؛ ويسلم لأوليائه.

ثم في ذكر غضبها تذكير أن من حق الله تعالى على أوليائه أن يغضبوا له على أعدائه غضب جهنم عليهم ، بل جهنم أبعد عن أن تمتحن بذلك منا ، ثم هي بلغت من الغضب على أعداء الله تعالى مبلغا كادت تتقطع بنفسها ، فالأولياء أحق أن يوجد منهم هذا الوصف ، وقد مدح الله تعالى الذين مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لما [وجد](٤) فيهم من الشدة على الأعداء ، وذلك قوله ـ تعالى ـ : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) [الفتح : ٢٩] ، وقال : (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [المائدة : ٥٤] ، وهكذا الحق على كل مؤمن أن يكون على هذا الوصف.

وفيه حكمة أخرى : وهي (٥) أنه ذكر شدة النار على أهلها ؛ لئلا يقولوا يوم القيامة : (إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) [الأعراف : ١٧٢].

وقوله ـ عزوجل ـ : (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) [ينذركم لقاء يومكم هذا](٦)(قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ).

وهذا هو إخبار عن نهاية أمرهم وآخر شأنهم ؛ وذلك أنهم فزعوا في الآخرة إلى (٧) اليمين بالكذب ، فقالوا : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣] ؛ رجاء أن ينفعهم ذلك

__________________

(١) في ب : ممن لا يعقل.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في ب.

(٤) سقط في ب.

(٥) في أ : وهو.

(٦) سقط في أ.

(٧) في أ : و

١١٠

في الآخرة كما كانت تنفعهم في الدنيا ، فلما ألقوا فيها ، أيقنوا أن أيمانهم لا تدفع عنهم العذاب ؛ ففزعوا إلى الاعتراف والصدق ؛ رجاء أن يتخلصوا من العذاب ، فقالوا : (بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ) ينذرنا عن لقاء هذا اليوم ، (فَكَذَّبْنا) بالذي كان ينذرنا النذر ، وقلنا : (ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) مما تنذروننا به.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ).

فجائز أن يكون القائل لهم بهذا هم الخزنة ، أو هذا خطاب في الدنيا (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ).

ففي قوله : (بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ) اعتراف منهم بأنهم قد سمعوا وعقلوا ، فقوله : (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ) ، ليس هو على نفي السمع والعقل ؛ إذ قد أقروا أنهم سمعوا وعقلوا ، وإنما هو على نفي الانتفاع بما سمعوا وعقلوا ؛ لأن الانتفاع بالمسموع هو الإجابة لما سمع ، والانتفاع بالعقل أن يقوم بوفاء ما عقل ، وهم لم يجيبوا لما سمعوا ، ولم يقوموا بوفاء ما عقلوا.

وقال بعضهم : (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ) : في الدنيا كما نسمع الآن ، أو كنا نعقل كما نعقل الآن (ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ).

وهذا غير مستقيم ؛ لأن تلك الدار ليست بدار إسماع (١) وإفهام ، وإنما المعنى ما ذكرنا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ).

أي : بعدا ، على معنى الدعاء عليهم.

وقيل (٢) : السحق : واد في جهنم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ).

يحتمل : أي : الذين يخشون عذاب ربهم والعذاب عنهم غائب ، فأهل الإسلام يخشون عذاب الله وهو غائب عنهم ، والكفرة لا يخشونه إلا أن يعاينوه.

وجائز أن يكون قوله ـ عزوجل ـ : (يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) أي : يخشون الله ـ تعالى ـ أن يعذبهم.

__________________

(١) في ب : استماع.

(٢) قاله سعيد بن جبير أخرجه ابن جرير (٣٤٤٩٧) وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٣٨٣).

١١١

أو أن يخشوه فيما أوعدهم.

ثم الأصل : أن ما من مؤمن بالبعث ـ سوى المعتزلة ـ إلا وهو يخشى الله تعالى ، لكنهم يتفاوتون في الخشية.

ثم الخشية تقتضي الرجاء والخوف ، ليس كالأمن والإياس الذي لا يقتضي كل واحد منهما إلا وجها واحدا ، وإذا كانت الخشية تقتضي ما ذكرنا ، فكل مؤمن يخاف عذاب الله تعالى ؛ لما رأى من كثرة نعم الله تعالى وغفلته عن حقوق تلك النعم ؛ لأن من حقها أن يشكر الله تعالى عليها ، وقد عرف كل [مؤمن تقصيره](١) في أداء الشكر وتفريطه في قضاء (٢) الحقوق ؛ فيرجو رحمته ، لما عرف من سعة رحمته ، وعرفه متفضلا عفوّا غفورا ، لكن فيهم تفاوت في الخشية والرهبة : فمن كان أذكر (٣) لغفلته ، فهو لعقوبته أكثر خشية ، ومن كان أقل ذكرا لغفلته فهو أقل خشية ؛ فيتفاوتون على تفاوتهم في الذكر ، وهو كالموت الذي يرهبه الناس جميعا ويتيقنون بحلوله ، لكنهم يتفاوتون في ذلك : فمن كان له أكثر ذكرا ، كان أبلغ في التيقظ ، وأكثر رهبة ، ومن كان أغفل عن ذكره فهو له أقل رهبة.

ولقائل أن يقول : كيف جعلتم كل مؤمن خائفا راجيا ، والراجي : هو الذي يطلب ، والخائف : هو الذي يهرب ، فكل من رجا شيئا يعلم أنه لا وصول إليه إلا بأعمال وأسباب ، فهو يقوم بتلك الأعمال ، بغاية ما يحمله وسعه ؛ ليصل إلى مأموله ، وإذا لم يقم بها لم يكن راجيا في الحقيقة ، بل كان متمنيا ، وكذلك من خاف حقيقة الخوف ، وعلم أن المخوف نازل به إن لم يهرب ؛ فهو يهرب مما يخافه أشد الهرب.

ثم كثير من المؤمنين تراهم مقصرين في الأعمال التي يتوصل بها إلى بلوغ الآمال ، ولا يهربون مما يخافون منه أشد الهرب وغاية الخوف ، فكيف وصفتم كل مؤمن بالخوف والرجاء وكثير منهم لا يتحقق فيهم هذا الوصف؟!

واستدل على صحة ما ذكر بقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ) [البقرة : ٢١٨] ، فالراجي لرحمة الله من دأب في طاعته ، وقال ـ تعالى ـ : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) [المؤمنون : ٦٠] ، فقيل : يا رسول الله ، هم الذين يزنون ويسرقون؟! فقال : «بل هم الذين يصومون ويصلون وقلوبهم وجلة» ، وقال ـ تعالى ـ : (إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) [الأنبياء : ٢٨].

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : أداء.

(٣) في أ : إذا ذكر.

١١٢

فجوابه : أن المؤمن ليس يرى كل خلاصه من العذاب وأمنه من العقاب بعمله حتى إذا وجد التقصير في العمل أظهر ذلك المعنى فساد الرجاء والخوف ، وإنما يتوقع خلاصه بتوفيق الله وعفوه ، ويرجو رحمته ؛ بكرمه وجوده ؛ لذلك لم يوجب التقصير في العمل إبطال الرجاء والخوف ، وهذا إذا كان غير معتزلي المذهب ولم يكن من الخوارج ، فأما إذا كان الراجي والخائف أحد هذين ؛ فتقصيره في العمل يدل على فساد الرجاء والخوف ؛ لأن كل واحد منهما ليس يرى لنفسه شفيعا إلا عمله ، به ينجو وبه يهلك ، فإذا لم يبالغ في الطلب من جهة العمل ، ولم يبالغ في الهرب من الخوف بالعمل ـ ظهر أنه ليس براج ولكنه متمنّ ، وتبين أنه غير خائف في الحقيقة.

ثم المعتزلة لا يخافون الله تعالى ولا يرجون رحمته في الحقيقة ؛ لأنهم يزعمون أن العبد إذا ارتكب الكبيرة ، فليس لله ـ تعالى ـ ألا يعذبه عليها وأن (١) يغفرها له ، وإذا اجتنب الكبيرة استوجب المغفرة وإن ارتكب الصغائر ، وليس لله ـ تعالى ـ أن يعذبه عليها ، والقائل بهذا غير راج لرحمة الله تعالى ، ولا خائف من عذابه ، وإنما يقع الخوف والرجاء من عند نفسه ؛ لأن الزلة التي استوجب بها العذاب فهو الذي اكتسبها ، ولو لم يعملها ، لم يعذب ، وفاز بالنجاة ؛ فصار رجاؤه وخلاصه بعمله ، لا برحمة الله تعالى وفضله ، ولا بذلك وصف الله تعالى المؤمنين في كتابه ، ولأن الله تعالى أثنى على الذين يدعونه ؛ خوفا وطمعا ورغبا ورهبا ، وعلى قول أهل الاعتزال لا يدعو أحد ربه على الرغبة والرهبة والخوف والطمع ؛ لأن الداعي إن كان صاحب كبيرة فهو فيما يدعو الله تعالى ؛ ليغفر له ، إنما يدعو ليجور عليه ؛ إذ لا يسعه أن يغفر له ولا يعذب عليه ، فدعاؤه بالمغفرة معناه يقتضي أن جر عليّ ، وذلك عظيم ، وإن كان صاحب صغيرة فهو فيما يطلب المغفرة منه ـ تعالى ـ يسأله ألا يجور عليه ؛ لأنه ليس له أن يعذب على الصغائر على مذهبه ولو عذب صار به جائرا ، فإذا خاف عذابه حتى إذا فزع إلى الدعاء ، فقد خاف جوره ، ومن لم يأمن من ربه الجور بل خاف ذلك منه ، فهو لم يعرف ربه حقيقة المعرفة ؛ وكذلك من دعا الله تعالى ؛ ليجور عليه ، فقد دعا إلى أن يسفه ، والسفيه لا يصلح أن يكون إلها ؛ فثبت أن الداعي على الرغبة والرهبة غير ممدوح عنده ، ولا هو ممن يستحق الثناء عليه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ).

أي : من يرجو الله تعالى ويخافه ، فله مغفرة لذنوبه ، وأجر كبير ، وهو الجنة.

__________________

(١) في ب : أن لا.

١١٣

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ).

فهذه الآية كأنها في إلزام الوعيد ؛ يقول : إنه عالم بالأنفس التي فيها الصدور بما يضمرون فيها ، وما يودعون ، وما يكتمون ، وما يخبرون عما أودعوا فيها ويظهرون.

والصدر : هو ساحة القلب ، سميت صدرا ؛ لأن الآراء تصدر عنها ؛ فهو عالم بالأنفس التي لها الصدور بما يصدر عن آرائهم ، وعالم بما يضمر فيها من الأسرار.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ).

تأويله عند أهل الإسلام : ألا يعلم من خلق ما (١) أسروا أو جهروا ، و (من) راجع إلى الله تعالى دون الخلق ، كأنه يقول : ألا يعلم الخالق (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) ، وفيه إثبات خلق الأفعال والأقوال وخلق الشر ؛ فيكون حجة لنا على المعتزلة في خلق أفعال العباد.

وقال جعفر بن حرب وأبو بكر الأصم : إن حرف (من) لا يرجع إلى الله تعالى ، وإنما يرجع إلى الخلق ؛ فكأنه يقول : ألا يعلم الله من خلق ؛ على إضمار اسم الله تعالى فاحتالا بهذه الحيلة لنفي الخلق عن الأفعال ؛ لأن حرف (من) يرجع إلى الأنفس دون الأفعال والأقوال.

وذلك فاسد ؛ لأن الآية في موضع الوعيد ، ولو كان قوله : (مَنْ خَلَقَ) راجعا إلى الأنفس ، لزال موضع الوعيد ؛ إذ ليس في خلق الأنفس وعلم الله بها إثبات العلم بأفعال وجدت منهم ، ولا في خلق الأنفس إيجاب الوعيد بالأفعال ؛ ولأنه لو لم يكن الله تعالى خالقا لما يجهر به العبد ولما يخفيه لم يكن ليحتج به على عمله ؛ إذ قد يجوز جواز الجهل من غير الذي يفعله ؛ فلا يجوز أن يحتج عليهم بفعل غيره ؛ ولأنه ليس في إثبات العلم بخلق الأنفس إثبات العلم بما أسروا أو جهروا ، كما لم يكن عند المعتزلة في إيجاب الخلق لنفس الإنسان إيجاب الخلق لأفعالهم ، ومعلوم بأن الآية في تحقيق العلم بما أسروا أو جهروا ؛ لأن قوله : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) مذكور على أثر قوله : (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ) ، وقوله : (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي : عليم بما تسرون وما تجهرون ؛ فثبت أن الخلق راجع إلى ما أسروا أو جهروا ، ثم إن الناس على اختلافهم اتفقوا أن كل واقع بالطبع والضرورة مخلوق لله تعالى ، وإنما اختلفوا في الفعل الواقع بكسب العبد : فمنهم من أثبت فيه الخلق وهو قول أهل الهدى ، ومنهم من أبى القول بخلقه.

ثم المرء لا يتهيأ له استعمال اليد إلا في العمل الذي جعل في طبع اليد احتمال ذلك العمل ، ولا يتهيأ له أن يستعمله في الوجه الذي لم يجعل في طبعها احتمال ذلك ؛ لأنه لو أراد أن يرى بيديه ، أو يسمع بهما لم يملك ذلك ؛ فثبت أنه ملك استعمالهما في القبض

__________________

(١) في أ ، ب : مما.

١١٤

والبسط ، والأخذ والتسليم ؛ بما جعل في طبعهما (١) احتمال ذلك ، وإذا كان كذلك ، فقد ثبت الخلق فيما يعمل بيديه وفيما يرى بعينيه (٢) ويسمع بأذنيه ، والله الموفق.

وقوله : (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ).

في تدبيره ؛ إذ دبر لسان الإنسان على ما إذا استعمله يخرج منه الكلام ، وإذا أراد [أحد](٣) أن يتعرف المعنى الذي به صلح للنطق ، لم يقف عليه ، ودبر قلبه (٤) على أن يصور ما يقع فيه من الخيال ، فيؤديه بلسانه ، ودبره على وجه يصلح أن يدع الأسرار والودائع من وجه لو أراد الخلائق أن يتعرفوا الوجه الذي صلح القلب أن يكون مصورا وحافظا ومعدنا للأسرار ، لم يقفوا عليه.

وقيل : اللطيف : هو الذي لا يعزب عنه علم ما جل ودق.

وقيل : اللطيف بعباده في الإحسان إليهم والإنعام عليهم ، الخبير بما فيه مصالحهم.

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (١٥) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (١٦) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (١٧) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (١٩) أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (٢٠) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (٢١) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(٢٢)

وقوله ـ عزوجل ـ : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها ..). الآية.

وإذا ذلل لكم الأرض ؛ لتمشوا في مناكبها ، وتأكلوا من رزقه ، فلا يجوز أن يكون خلقا عبثا باطلا ، فلا بد من الرجوع إليه ، ليسألكم عما له خلق ، أوفيتم بالذي خلق له ، أو لم تفوا ؛ وذلك أن المرء في الشاهد إذا أعطى إنسانا مالا استعمله في جهة من الجهات ، فلا بد من أن يرجع إليه فيسأله هل استعمله في الذي أذن له فيه أم لا؟

وإذا ثبت أنه لم يخلقها عبثا باطلا ، وإنما خلقت للمحنة ؛ فلا بد من أن ينشروا إليه ؛ ليخبروه عما بلاهم به وامتحنهم.

ثم احتمل أن يكون هذا صلة قوله : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ) [الملك : ٢] ،

__________________

(١) في ب : طبعها.

(٢) في أ : بعينه.

(٣) سقط في ب.

(٤) في أ : قوله.

١١٥

وقوله : (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) [الملك : ٣] فخلق تلك [الأشياء] كلها ؛ ليمتحن أهلها [بها](١) ، فعلى ذلك خلق الأرض ذلولا ليبلوكم بها.

ويحتمل أن يكون هذا صلة قوله : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) [الملك : ٣] فأمر هناك بالنظر مرة بعد مرة هل ترى فيه تفاوتا أو فطورا ؛ ليتبين عنده إذا لم ير فيه تفاوتا ولا فطورا وحدانية الرب وقدرته وسلطانه وحكمته ، فأمرهم ـ أيضا ـ بالمسير في الأرض والمشي في مناكبها وهي أطرافها ـ هل يرون فيها فطورا أو تفاوتا؟ فإذا (٢) لم يروا فيها شيئا من ذلك ، تقرر عندهم بجميع ما ذكرنا من الحكمة هناك ، فهو في قوله : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً) موجود ؛ ولأنه ذكرهم لطيف خلقه وتدبيره في خلق الأرض ، وما له على الخلق من [عظيم النعمة](٣) في حقهم ، وهو أنه قدر لهم فيها أرزاقهم إلى حيث يمشون فيها ، وهيأ لهم الرزق هنالك ، ولا يحتمل أن يذلل لهم الأرض ؛ فيضربون فيها حيث شاءوا ويستخرجون منها أقواتهم أينما تصرفوا عبثا باطلا ، بل لا بد أن يستأديكم شكر ما أنعم عليكم به.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ).

هذه الآية في موضع المحاجة على منكري البعث ، فكأنه يقول ـ والله أعلم ـ : إذا أنكرتم البعث وقد عرفتم الفرق بين العدو والولي وبين المطيع والعاصي ، فكيف أمنتم عذابه في الدنيا أن ينزل بكم من فوق رءوسكم أو من تحت أرجلكم.

أو قد عصيتموه وعاديتموه بتكذيبكم رسوله واختياركم عبادة غيره ، فكيف أمنتم نزول عذابه عليكم في حالتكم هذه ، وأنتم لا تقرون بالآخرة ؛ ليتأخر عنكم العذاب؟!

ثم قوله : (أَأَمِنْتُمْ) أي : قد أمنتم.

والثاني : أنكم كيف أمنتم عذاب الله تعالى وأنتم تنكرون البعث ؛ لتكون المحنة في الدنيا للجزاء في الآخرة ، وهم يرون المحنة في الدنيا للجزاء في الدنيا ؛ لأنهم كانوا يزعمون أن من وسع عليه في رزقه والنعيم في الدنيا فإنما وسع جزاء لعمله ، ومن ضيق عليه العيش فإنما ضيق عقوبة له بما أساء من عمله ، كما قال الله تعالى : (فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ. وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ) [الفجر : ١٥ ، ١٦] ، فكانوا يعدون التضييق والتوسيع في الدنيا جزاء لصنيعهم ، وكانوا

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : وإذا.

(٣) في ب : عظم النعم.

١١٦

يقرون بالمحنة في الدنيا ، والمحنة تكون من الرجاء والخوف ، وقد رجوتم إنزال الرزق عليكم من السماء ، ورجوتم أن يخرج لكم من الأرض ما تتعيشون به وترزقون منه ؛ فكيف لا تحذرون نزول العذاب عليكم من السماء أو إتيانه من الأرض ، كما رجوتم النفع منهما جميعا؟!

والثالث : أنكم إذا أنكرتم الرسول وجحدتموه ، وقد انتهى إليكم حال من سبقكم من مكذبي الرسل ، كيف عذبوا واستؤصلوا : فمنهم من أهلك بإمطار الحجارة [عليه من السماء](١) ، ومنهم من أهلك بالخسف بالأرض ، فكيف أمنتم أنتم أن ينزل عليكم ما نزل بهم وقد أوجدتم أنتم وتعاطيتم ما تعاطاه الذين أهلكوا من التكذيب؟!

ثم [قوله](٢) : (مَنْ فِي السَّماءِ) أراد نفسه تعالى ، أخبر أنه إله السماء ، لا على تثبيت أنه في الأرض سواه وعلى النفي أن يكون هو إله الأرض ، بل هو في السماء إله وفي الأرض إله ؛ وهو (٣) كقوله تعالى : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) [المجادلة : ٧] ليس فيه أن النجوى إذا كانت (٤) بين اثنين فهو لا يكون ثالثهم.

وجائز أن يكون قوله : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ) أي : أأمنتم [من](٥) في السماء ملكه وسلطانه ، ولم تروا أحدا انتهى ملكه إلى السماء ، فكيف تأمنون ممن بلغ ملكه السماء [؛ فكيف تأمنون مكره وتعادونه (٦) ، وأنتم لا تجترءون على [معاداة](٧) ملك من [ملوك الأرض](٨) الذي لا يجاوز ملكه الأرض ؛ هيبة منه وخوفا من سلطانه ، فكيف تأمنون عذاب من بلغ ملكه ما ذكرنا؟!

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِذا هِيَ تَمُورُ).

قيل : تهوي في الأرض أبدا إلى أسفل السافلين.

وقيل : تمور بأهلها في قعرها على ما كانت من قبل تمور على ظهرها قبل أن توتد (٩) بالجبال ، والحاصب : الحجارة.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في ب.

(٣) في أ : وهذا.

(٤) في أ : كان.

(٥) سقط في ب.

(٦) في أ : في معاداتكم إياه.

(٧) سقط في ب.

(٨) في ب : الملوك الذين في الأرض.

(٩) في ب : توجد.

١١٧

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ).

أي : ستعلمون حال نذري الذين أنذروكم بالعذاب أنهم كانوا محقين فيه ولم يكونوا كاذبين كما زعمتم.

أو ستعلمون ما أنذركم به (١) إذا وقع العذاب.

وقوله : (وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ).

يذكرهم حال من تقدمهم من المكذبين وما حل بهم من النكير ؛ ليرتدعوا عن التكذيب ؛ فلا يحل بهم ما حل بأولئك.

ثم قوله : (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي : كيف كان إنكاري عليهم أليس وجدوه شديدا و (٢) حقّا؟!

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ).

قيل : صافات بأجنحتها لا يتحرك منها شيء ، ويقبضن فما يمسكهن إلا الله تعالى في الحالين جميعا ، أعني : القبض والبسط.

وقال في آية أخرى : (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [النحل : ٧٩] ، [والجو : هو الهواء.

ثم قوله : (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)](٣) ، أي : لآيات للمؤمنين على الكفرة ، وهكذا شأن الآيات إنما جعلت آيات للمؤمنين والأولياء على الكفرة والأعداء ؛ لأن الكفرة تصل إليهم الآيات على ألسن الرسل والأنبياء والأولياء ، فجعلت الآيات آيات للمؤمنين ؛ ليحتجوا بها على أهل الكفر.

ثم الهواء ليس بمكان يمسك ما عليه من الأشياء مثل السماء والأرض فيما أنشئتا على حد يمسكان الأشياء ويقر عليهما الخلائق ، وإذا كان كذلك [فإن الله](٤) تعالى بلطفه أمسك الطير وقت طيرانها ووقت قبضها (٥) في الهواء ، ومن قدر على إمساك الطير مع ثقله (٦) وتقريره في مكان لا تقر فيه الأشياء ، لقادر على ما يشاء.

ثم في هذه الآية إنباء : أن لله تعالى في أفعال الطير صنعا وتدبيرا على ما يشاء ؛ لأن

__________________

(١) في أ : ما أريدكم بها.

(٢) في ب : أو.

(٣) سقط في أ.

(٤) في ب : فالله.

(٥) في ب : قبضهم.

(٦) في أ : وقفه.

١١٨

الفعل الذي يوجد من الطائر الطيران إذا طار والوقوف إذا قبض ، ثم أضاف فعل الإمساك ؛ وكل ذلك إلى نفسه.

وذكر عن جعفر بن حرب في قوله : (ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ) [النحل : ٧٩] : أن الإمساك كناية عن التعليم وعبارة عنه ؛ لأنه قد يعبر بالإمساك عن التعليم ؛ يقول الرجل لآخر فيما يعلم الرماية : أمسكت على يده حتى رمى (١) ، فيريد به ، أي : توليت تعليمه الرماية ، فقوله : (ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ) أي : ما يعلم إمساكهن وقت الطيران إلا الله تعالى ؛ وكذلك وقت القبض.

والجواب عن هذا أن القائل يقول : (أمسكت على يده حتى رمى) ، إنما يستجيز إطلاق هذا اللفظ من نفسه إذا وجد منه فعل الإمساك في وقت ما يهم الرامي بالرمي ، وأما إذا لم يوجد منه في ذلك الوقت فعل الإمساك ، لم يستقم أن يقال (٢) : أمسكت على يده ، وإن كان هو الذي علمه الرمي ؛ ألا ترى أن من علم آخر الخياطة حتى اهتدى الخياطة إذا خاط ثوبا ، لم يستجز أستاذه أن يقول : أنا الذي خطته ، وإن كان هو الذي علمه الخياطة ؛ وكذلك من بنى بناء ، لم يستقم من أستاذه أن يضيف فعل البناء إلى نفسه ؛ فيقول : أنا الذي بنيته ، ويريد به : أنا الذي علمته ، وإذا لم يستقم هذا ، بطل أن يضاف فعل الإمساك إلى الله تعالى ، ولا فعل له في ذلك سوى التعليم ، فلو كانت الإضافة إليه من حيث التعليم ، لجاز أن ينسب إليه فعل الخياطة وفعل البناء والحياكة ، فيقال : خائط وبان وحائك ؛ لأنه هو الذي علم ، وإذا بطل أن ينسب إليه ما ذكرنا من الأفعال وإن كان هو الذي علم الخلق ، بطل أن ينسب إليه فعل الإمساك من حيث التعليم ، والله الموفق.

واحتج جعفر بن حرب ـ أيضا ـ في نفي الفعل عن الله تعالى ، فقال : إن الله ـ تعالى ـ لم يقل : ما خلق طيرانهن إلا الله ولا خلق القبض إلا الله ، وإنما قال : (ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ) ، فثبت أنه لا صنع له في الإمساك ، وبان أن الذي أضيف إليه من الإمساك هو على الوجه الذي ذكرنا.

فالجواب عن هذا : أن الأمة فهمت من قوله : (ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ) ما يفهم من قوله : ما خلق طيرانهن وقبضهن إلا الله ؛ إذ هو يقتضي ما يقتضيه ذكر الخلق ، وإذا كان كذلك ، فلا فرق بين أن يضيف الخلق نفسه ، وبين أن يضيف فعل الإمساك ، ثم لو ذكر

__________________

(١) في ب : يرمي.

(٢) في أ : يكون.

١١٩

الخلق مكان الإمساك ، أمكن [جعفرا أن يتأول](١) في الخلق ما تأول في الإمساك ، فيقول : معنى قوله : خلق طيرانهن ، أي : علم طيرانهن ، وقوّاهن على الأسباب التي بها تطير ، فلا يتهيأ لله تعالى على قوله أن يثبت لخلقه و [لا] يقرر عندهم خلق شيء من الأشياء.

ثم الأصل أن الآيات المذكورة في القرآن إنما ذكرت لإثبات أوجه خمسة :

أحدها : في تثبيت القدرة على البعث ، وهي لا تثبت القدرة ، ولا توجب القول بالبعث على قول المعتزلة ؛ وذلك أن الله تعالى احتج في تثبيت القدرة على البعث بقدرته على ابتداء الخلق ، فقال : (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ) [يس : ٧٧] ، وقال : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧] ، [فاحتج بأمر الابتداء](٢) على تثبيت القدرة على الإعادة ، [وليس فيه ما يثبت القدرة على الإعادة](٣) عندهم ؛ لأنهم نفوا خلق الأفعال عن الله تعالى مع إقرارهم أن الله تعالى هو الذي ابتدأ الخلائق ، وهو الذي أنشأهم ، ولم يكن في إثبات القدرة على خلق الأعيان إثبات قدرة منه على خلق الأفعال ، وإن كان خلق الأفعال دون خلق الأنفس ، فكيف ذكر قدرته على ابتداء الخلق على تثبيت القدرة على الإعادة ، وإن كان أمر الإعادة أيسر من الابتداء ، مع أن آثار الخلق في أفعال العباد وإثبات التدبير فيها أوجد منه في أمر البعث ؛ وذلك أنك تجد من الأفعال أفعالا هي مؤذية لأهلها متعبة مؤلمة ، ومعلوم بأن قصد أربابها أن يتلذذوا بها ويتمتعوا بها ؛ فثبت أن لغيرهم فيها تدبيرا وصنعا حتى صارت كذلك ؛ ولأنه يوجد في أفعالهم أحوال لا تبلغها أوهامهم ولا تقدرها عقولهم ؛ لأن الفعل يأخذ من الجو والمكان والوقت ما لا تقدره الأوهام ولا تبلغه العقول ؛ فثبت أن لغيره فيه صنعا وتدبيرا ؛ ولأن فعله يخرج على قبيح وحسن ، لا [يبلغ علم](٤) فاعله أنه يبلغ في الحسن والقبح ذلك المبلغ ، وينتهي في الحسن مبلغا لو أراد أن يخرج على ذلك الحد في المرة الثانية لم يخرج كذلك ، فكل ما ذكرنا يبين أن جميع أفعالهم على ما هي عليه (٥) ليست لهم ، ثم مع ذلك أنكروا أن تكون الأفعال من جهة الخلق لله تعالى ، ولم يظهر شيء من أمارات البعث ولا وجد فيه التدبير ؛

__________________

(١) في ب : أن يتأول جعفرا.

(٢) في أ : واحتج بالابتداء.

(٣) سقط في أ.

(٤) في ب : يعلم.

(٥) في ب : وعليها.

١٢٠