تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٩٥

كانت العبادة منصرفة إلى إتيان الأفعال (١) ، وانصرف التقوى إلى اتقاء المهالك ، وهو كما قلنا في البر والتقوى : إن كل واحد منهما إذا ذكر مفردا اقتضى ما يقتضيه الآخر ، وإذا جمعا في الذكر ، صرف أحدهما إلى جهة والآخر إلى جهة أخرى ، وكذلك الإسلام والإيمان إذا أفرد بذكر أحدهما يكون معنى كل واحد منهما هو معنى الآخر ، وإذا جمعا في الذكر صرف كل واحد منهما إلى جهة على حدة.

وقال الحسن في قوله ـ عزوجل ـ : (وَاتَّقُوهُ) ، أي : اتقوا الله في حقه أن تضيعوه فهو يجمع ما يؤتى (٢) وما يتقى.

ثم الأصل أن الطاعة قد تكون لمن سوى الله ، والعبادة لا تكون إلا لله تعالى ؛ فلذلك قال عند الأمر بالعبادة : (اعْبُدُوا اللهَ) ، فأضافها إلى الله تعالى ، وأضاف الطاعة إلى نفسه بقوله : (وَأَطِيعُونِ) ، ففيه دلالة أن ليس في الطاعة لآخر إشراك بالله تعالى في الطاعة ، بل الله تعالى جعل الإشراك في الطاعة بقوله : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) [النساء : ٨٠] وذم من يعدل بالله تعالى في العبادة بقوله تعالى : (وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) [الأنعام : ١٥٠] ، فالعبادة كأنها تقتضي الخضوع والتضرع على الرجاء والخوف ، والله تعالى هو الذي يرجى منه ويخاف من نقمته ، فأما الطاعة فهي تقتضي فعلا [على الأمر](٣) لا غير ؛ وعلى ذلك لما صرفت الكفرة الرجاء والخوف إلى الأصنام بقولهم : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] ، وقولهم : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] ، سموا (٤) : عباد الأصنام ، فكل من يفعل الفعل على الخوف والرجاء فذلك منه عبادة له.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) إن صرفت قوله : (وَاتَّقُوهُ) إلى اتقاء الشرك يرجع قوله : (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) إلى ما سلف من الذنوب في حالة الشرك ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) [الأنفال : ٣٨].

وإن صرفته إلى سائر وجوه المهالك ، رجع إلى السالف وإلى الآنف جميعا ؛ وهو كقوله تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) [هود : ١١٤] ؛ فيكون قوله (مِنْ) صلة على ما ذكره أهل التفسير ، ومعناه : يغفر لكم ذنوبكم.

وجائز أن يكون قوله : (مِنْ) على التحقيق ليس على حق الصلة ؛ لأنه قد يكون من الذنوب ذنوب يؤاخذ بها بعد الإسلام ، وهي التي تكون بينه وبين الخلق من القصاص

__________________

(١) في ب : الفعل.

(٢) في أ : يؤدي.

(٣) سقط في أ.

(٤) في ب : فسموا.

٢٢١

وغيره ، فالمأثم بالقتل وإن زال عنه بالتوبة ؛ فإن القصاص لا يرتفع عنه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) جائز أن يكون أولئك القوم كانوا يخافون على أنفسهم الإهلاك من قومهم بإيمانهم وإجابتهم لنوح عليه‌السلام ؛ فيخرج قوله : (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) مخرج الأمان لهم أنهم بإيمانهم يبقون إلى الأجل الذي ضرب لهم لو لم يؤمنوا ؛ إذ يكون معناه : أنكم إن أسلمتم بقيتم إلى انقضاء أجلكم المسمى سالمين آمنين ، لا يتهيأ لعدوكم أن يمكر بكم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ، وقال في موضع آخر : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [الأعراف : ٣٤] جائز أن يكون قوله : (لا يَسْتَأْخِرُونَ) ، أي : لا يتأخرون عن آجالهم أو لا يؤخرون بما يطلبون من التأخير ؛ فيكون في هذا إياس لهم أنهم لا يؤخرون إذا طلبوا التأخير ؛ قال الله تعالى : (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) [المنافقون : ١٠] ؛ فأخبر ـ جل جلاله ـ أن الموت إذا أتاه طلب التأخير ليبذل ما طلب منه البذل قبل ذلك من التصدق والإيمان به ، فقطع عنهم طمعهم بقوله : (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها) [المنافقون : ١١] ، وبقوله : (لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [الأعراف : ٣٤] ، وبقوله : (إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ).

وهذه الآية تنقض على المعتزلة قولهم ؛ لأنهم يقولون بأن رجلا لو جاء وقتل آخر ، فإنما قتله قبل انقضاء أجله ، والله تعالى يقول : (لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) ، والأصل : أن الله تعالى إذا علم أنه يقتل فإنما يجعل انقضاء أجله بالقتل ليس بغيره ؛ لأنه لا يجوز أن يجعل انقضاء أجله بموته حتف نفسه ، ثم ينقضي أجله بغير ذلك ؛ لأنه (١) لو جاز ذلك (٢) لأدى ذلك إلى الجهل بالعواقب ، والجهل بالعواقب يسقط الربوبية ، ويثبت الجهل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

أي : لو كنتم تعلمون ما يحل بكم من الندامة عند انقضاء آجالكم ، لكنتم تبذلون للحال ما أريد منكم ؛ لئلا يحل بكم العذاب.

أو [أن](٣) يكون معنى قوله : (إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ) ، أي : أجل العذاب إذا حل ، وقع

__________________

(١) في ب : أنه.

(٢) في ب : هذا.

(٣) سقط في ب.

٢٢٢

لا محالة ، فلو علموا بوقوعه لا محالة ، لارتدعوا عنه.

قوله تعالى : (قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (٦) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (٧) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (٩) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (١٢) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (١٤) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (١٦) وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (١٨) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (١٩) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً)(٢٠)

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً)

يحتمل أن يكون هذا من نوح ـ عليه‌السلام ـ بعد أن أخبر (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) [هود : ٣٦] ، فيكون القول منه قول معتذر : أنه لم يقصر في دعوة قومه إلى الإسلام ، وأنه قد دعاهم إلى الإسلام في كل وقت وحال ، وأنه قد أبلى عذره في ذلك ، وإنما جاء التفريط والتعدي من جهة قومه.

ويحتمل أن يكون هذا منه على الإشفاق والرحمة والتعرض ؛ لاستنزال اللين والرحمة ، لعل الله تعالى بلطفه يلين قلوبهم فينقادوا للحق ، ويرغبوا في الإجابة ؛ ليتخلصوا من العذاب ويستوجبوا المغفرة من ربهم ، فهو يخرج على أحد هذين الوجهين : إن كان قبل الإخبار ، فهو على التعرض منه ؛ لاستنزال اللين والرحمة ، وإن كان بعده فهو على إبلاء العذر ، لا على الدعاء والرجاء بأن يلين قلوبهم بلطفه فينقادوا للحق ؛ إذ لا يجوز أن يخبر الله تعالى أنهم لا يؤمنون ، وهو يطمع منهم أن يؤمنوا.

ثم قوله : (إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً) ، أي : دعوت في كل وقت وكل ساعة من الليل والنهار أمكنني فيه الدعاء.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً).

وأصل هذا أن عداوتهم كانت قد اشتدت لنوح عليه‌السلام ، وكانوا (١) قد استثقلوه وأبغضوا كلامه ، فحدث لهم ببغضهم كلامه واستثقالهم إياه معنى حملهم على الفرار ؛ فنسب ذلك إلى الدعاء ؛ لأن حدوث ذلك المعنى كان عند وجود الدعاء ؛ فنسب إلى الدعاء على معنى المجاورة والقرب ، لا أن يكون الدعاء في الحقيقة سببا لزيادة الفرار ؛

__________________

(١) في ب : وكان.

٢٢٣

وهو كقوله تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) [التوبة : ١٢٥] ، والقرآن لم يجعل سببا لزيادة الرجس ، ولكنهم لما أحدثوا بغضا عند ما تلى عليهم القرآن ، فحدث لهم بذلك معنى حملهم على ذلك الوجه ، فأضيفت تلك الزيادة إلى القرآن ؛ إذ عند ذلك حدث ذلك السبب الزائد في الرجس ، فنسب إليه على معنى المجاورة ، وقال الله تعالى : (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي) [المؤمنون : ١١٠] وهم لم يكونوا منسيين ، بل كانوا مذكرين يذكرونهم مرة بعد مرة ، لكن بغضهم إياهم واتخاذهم سخريا أوقع لهم النسيان ، فنسب إليهم الإنساء ، فعلى ذلك لما أبغضوه واستثقلوا كلامه ودعاءه ، أحدث لهم ذلك البغض زيادة نفار وجحود ، ثم نسب النفار إلى الدعاء [على] الوجه الذي ذكرنا لا أن يكون الدعاء في الحقيقة منفر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) ، وقال في موضع آخر : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ ..). إلى قوله : (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) [إبراهيم : ٩] ، فيجوز أن تكون هذه الآية فيما يدعون رؤساءهم وأشرافهم والأجلة منهم ، فإذا دعاهم ردوا أيديهم في [أفواه الأنبياء](١) عليهم‌السلام ، وضربوهم (٢) على ما ذكر في الأخبار ، وأما الأتباع منهم ، والمقلدون لهم ، كانوا يجعلون أصابعهم في آذانهم ويغطون وجوههم ورءوسهم ؛ كيلا يسمعوا كلامه فيقع شيء منه في قلوبهم ؛ لما حذرهم رؤساؤهم عن ذلك.

أو يكون هذا في طائفة منهم ، وهذا في طائفة إذا كان أيس من قوم ، وأقبل على آخرين ، فاختلفت معاملتهم معه على ما كان من أمر نبينا [محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم](٣).

ثم هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : على التحقيق على ما ذكرنا (٤) ؛ ليؤيسه من الإجابة.

والثاني : جائز أن يكون على التمثيل ، فضرب مثلهم في تركهم الإجابة مثل من جعل إصبعه في أذنه واستغشى ثيابه ؛ لئلا يسمع ولا يجيب ؛ وهو كقوله ـ عزوجل ـ : (فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ) [آل عمران : ١٨٧] ، ولم يوجد منهم نبذ ، ولكنهم أعرضوا عنه إعراض من ينبذه وراء ظهره ، وكذلك في قوله ـ عزوجل ـ : (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) على التمثيل ، وهو أنهم تركوا الإجابة إلى ما دعوا إليه كترك الإجابة من الذي يرد يده في

__________________

(١) في ب : أفواههم ، وهم الأنبياء.

(٢) في ب : وضربوه.

(٣) في ب : عليه‌السلام.

(٤) في ب : ذكرت.

٢٢٤

فيه ؛ لئلا يتكلم (١) ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا) ، أي : داموا على ما هم عليه وثبتوا على كفرهم.

وقال قتادة : (وَأَصَرُّوا) ، أي : صاحوا في وجوه الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ ردا عليهم ، أو مغالبة في الدعاء ؛ كقوله : (وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) [فصلت : ٢٦].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً) ، أي : استكبروا عن طاعة الله تعالى ، وامتنعوا عن الإجابة لرسوله عليه‌السلام.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً. ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً) ، ففي هذا إخبار أنه دعاهم إلى عبادة الله تعالى في كل وقت تهيأ له من ليل أو نهار ، ولم يقصر فيها ، ودعاهم في كل وقت ؛ رجاء الإجابة منهم.

ويحتمل (إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً) ، أي : إذا بعدوا مني ، وازدحموا وكثروا (٢) ؛ فدعاهم جهارا ؛ لتعمهم الدعوة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً) إذا قربوا منه وقلوا ، فلما أدخلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم أعلن في الدعاء.

ثم جائز أن يكون الجهر والإسرار منصرفا إلى الدعوة ، ويكون الإعلان إعلانا بالحجج وإظهارا للبينات ، وإلى هذا يذهب أبو بكر الأصم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) ، فالاستغفار طلب المغفرة بما ذكر من قوله عزوجل : (اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ) [نوح : ٣] ؛ فيكون هذا منه أمرا لهم بإتيان الإيمان الذي هو سبب المغفرة ، لا أمرا بسؤال المغفرة نفسه من الله تعالى ؛ إذ استغفار كل قوم يرجع إلى أحوالهم ، فإذا كانوا كفرة ، فهو إيمان بالله تعالى ، وإن كانوا [أصحاب ذنوب](٣) ، فالتوبة إلى الله تعالى ، وإن كانوا مخلصين فمما سلف من ذنوبهم مما يعلمونها ، ونحو ذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً. وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً) ، فيحتمل أنما قال هذا لهم ؛ لأنهم كانوا في شدة عيش وضيق حال فوعد أنهم إن انتهوا عن الكفر ، وأجابوا إلى ما يدعوهم إليه ، غفر [الله لهم](٤) ذنوبهم ، وأرسل

__________________

(١) في أ : يتكلمه.

(٢) في أ : أثروا.

(٣) في أ : أصحابه.

(٤) في ب : بهم الله.

٢٢٥

السماء عليهم مدرارا ؛ فيتوسعوا به ، على ما قال [به](١) بعض أهل التأويل : إن الله تعالى [قد](٢) حبس عنهم المطر ، وعقمت أرحام نسائهم ، وهلكت مواشيهم وجناتهم لتمام أربعين سنة ، ثم أهلكوا بعد ذلك ، وكانوا كلهم كفارا ، ليس فيهم صغير ؛ فلذلك كان (٣) نوح ـ عليه‌السلام ـ يعدهم بما ذكرنا ، والله أعلم.

ويحتمل أن يكونوا خافوا انقطاع النعمة عنهم بالإجابة وزوال السعة عنهم [بالإسلام](٤) ومن الناس من يترك الإيمان خشية هذا ، فأخبر ـ عزوجل ـ أن الذي هم فيه من رغد العيش لا ينقطع عنهم بالإسلام ، بل يرسل [عليهم المطر](٥) من السماء مدرارا متتابعا ، ويمددهم بأموال وبنين مع ما (٦) يجعل لهم من الجنان (٧) والأنهار ، لكن ذوو الألباب والعقلاء ينظرون إلى حسن العاقبة وما إليه مآل الأمر دون الحال ، فذلك الذي يرغب (٨) فيه ؛ ولذلك اختلفت دعوة النبي عليه‌السلام لأمته : فمنهم من بشره بكثرة أمواله وبنيه ، ومنهم من رغبه في آخرته ، (فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس : ٥٨] ، وقال : (قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ ..). الآية [آل عمران : ١٥].

ونظير الأول كقوله عزوجل : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [الأعراف : ٩٦].

والأصل أن الرسل ـ عليهم‌السلام ـ بعثوا مبشرين ومنذرين ، داعين ، زاجرين ، محتجين ، مدحضين ، فما تلوا عليهم من أنباء الأولين دخل فيهم جميع الأوجه الثلاثة ؛ إذ النذارة والبشارة مرة تقع بالابتلاء ، ومرة بذكر ما ينزل بالمتقدمين المصدقين منهم والمكذبين ؛ أن كيف كان عاقبة هؤلاء وهؤلاء.

وكذلك [دعاء الرحمة](٩) يكون مرة بابتداء الدعاء ، والزجر ، وبذكر الأمم السالفة ، وأن الرسل كيف [كانوا يدعونهم](١٠) ثانيا للحق ، والله أعلم.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : قال.

(٤) سقط في ب.

(٥) في ب : المطر عليهم.

(٦) في أ : مما.

(٧) في ب : الجنات.

(٨) في ب : يرغبه.

(٩) في ب : الدعاء والرحمة.

(١٠) في ب : كان دعائهم.

٢٢٦

وقوله ـ عزوجل ـ : (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً).

قال أبو بكر الأصم : تأويله [كيف](١) لا ترجون لله ثوابا فتعبدوه فيثيبكم بها ، وقد علمتم أن الخير كله في يده ، وأن الذي تعبدون من دون الله لا يملكون لكم نفعا ولا يدفعون عنكم ضرّا ؛ فجعل قوله : (وَقاراً) مكان «عبادة» ، والله أعلم.

وقال غيره : [(ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) ، أي :] ما لكم لا ترجون لأنفسكم عند الله منزلة وشرفا وقدرا.

وقال بعضهم (٢) : [أي :](٣) ما لكم لا تخافون عظمة الله وقدرته عليكم ؛ فتنتهوا عما نهاكم وتأتوا ما أمركم به ، وحمل الرجاء على الخوف ؛ لما قد ذكرنا أن الرجاء المطلق يقتضي الخوف والرجاء جميعا ، وكذلك الخوف المطلق يقتضي رجاء ، والله أعلم.

والأشبه بالتأويل عندنا : أن الرجاء لله تعالى على مثال الغضب لله ، والحب لله ، والبغض لله ، أي : ما لكم لا تسعون سعي من يرجو ما عند الله على الوقار والهيبة ، بعد أن شاهدتم من نعم الله تعالى وإحسانه إليكم من خلق السموات والأرض ، وتسخير الشمس والقمر ، وما ذكر من منته في الآيات التي يتلوها ؛ وذلك أن المرء إذا سعى لآخر على غير رجاء أو لم يرج أحدا ، استحقر به ، فألزمهم (٤) نوح ـ عليه‌السلام ـ سعي من يرجوه على التوقير والهيبة على ما عليه العادة في الشاهد أن الساعي للملوك والكبراء على الرجاء كيف يكون منهم توقيرهم إياهم وهيبتهم منهم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً).

فمن حمل قوله : (لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) على حقيقة الرجاء ، فتأويله : كيف لا ترجون أن يعظم قدركم عند الله ـ عزوجل ـ إذا أجبتم إلى ما دعاكم إليه ، وفيما ذكر من خلقه إياهم أطوارا تذكير لهم حسن صنيعه بهم فيما قلبهم من حال إلى حال من أول ما أنشأهم إلى حالهم التي هم فيها ، فكيف لا يرجون إحسانه في حادث الأوقات إذا أقبلوا على طاعته واشتغلوا بعبادته؟!

وإن كان قوله ـ عزوجل ـ : (لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) على الخوف ، ففيما ذكر من قوله ـ عزوجل ـ : (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) تذكير العظمة والسلطان والقدرة ، وهو أنه دبركم في تلك الظلمات الثلاث ، ولم يخف عليه أحوالكم فيها ، بل قلبكم من حال إلى حال كيف شاء ،

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) قاله ابن عباس أخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عنه ، كما في الدر المنثور (٦ / ٤٢٥).

(٣) سقط في ب.

(٤) في أ : ما لزمهم.

٢٢٧

فكيف يخفى عليه أفعالكم في حال بروزكم وظهوركم ؛ فيكون في [ذكر](١) هذا تنبيه أن الله تعالى لا يخفى عليه شيء من أعمال الخلق فيدعو ذلك إلى المراقبة ، ويلزم التيقظ والتبصر في كل حال ؛ لئلا يتعدى حدود الله ، ولا يضيع حقوقه ، فيحل به البوار والهلاك.

فإذا حملت التأويل على الرجاء ، فهو يخرج على غير التأويل الذي حملته على الخوف ؛ لأنك إذا حملته على الرجاء كان فيه تذكير عظيم مننه ، ونعمه عليهم من أول ما أنشأهم إلى الوقت الذي انتهوا إليه ؛ فيحملهم ذلك على طلب ما يشرف قدرهم عند الله تعالى ، ويحمد عاقبتهم.

وإن حملته على الخوف ، كان فيه تذكير القدرة والسلطان ؛ فيحملهم على المراقبة والاتقاء في حادث الأوقات.

ومن حمل قوله : (وَقاراً) على العبادة ، فهو يخرج على غير الوجهين الذين ذكرناهما في الخوف والرجاء إذا صرف إليهما التأويل ، كأنه يقول : إن الذي خلقكم أطوارا قد تعلمون أنه حكيم [ومن هو حكيم](٢) لا يسفه ، وترككم سدى لا يأمركم ولا ينهاكم ، ولا يستأدي منكم شكر النعم ـ سفه ؛ فيكون في ذكر هذا ترغيب في العبادة وإخلاص الطاعة.

ويكون في ذكر هذا أيضا إثبات (٣) الربوبية وإلزام القول بالوحدانية ؛ لأنه أنشأهم من أول ما أنشأهم نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة إلى أن خلقهم بشرا سويّا ، فلو لم يكن المدبر والمنشئ واحدا ، لكان يعجز عن تقليبه من حال إلى حال ؛ لأنه إذا أراد أن ينشئ من النطف علقة ، ومن العلقة مضغة ، كان للآخر أن يمنعه عن تدبيره ؛ فلا يتهيأ له إنشاء علقة ولا مضغة ، فارتفاع المانع دليل على أن لا مدبر سواه ، ولا خالق غيره.

وإذا ثبت انفراده بما ذكرنا ثبت أنه هو المستحق للعبادة من الخلائق.

وقال بعضهم : معنى قوله : (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) ، أي : مختلف الأخلاق والصور والألوان والألفاظ والأصوات والنغم ؛ حتى لا يرى أحد يشبه آخر بجميع خلقته (٤) ، وهذا من عظيم (٥) ما يستدل به على قدرته وحكمته ، والله الموفق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً)

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : تثبيت.

(٤) في ب : خلقه.

(٥) في ب : عظم.

٢٢٨

قد (١) ذكرنا أن قوله : (أَلَمْ تَرَوْا) يقتضي تذكير أمر عرفوه ، فأغفلوا عنه ، فقد يقتضي تذكير أعجوبة لم يسبق من الخلائق العلم بها ، يقول : قد رأوا أنه خلق سبع سماوات طباقا بغير علائق فوقها ولا أعمدة تحتها ، ومن قدر على خلق مثله لقادر على خلق كل ما (٢) يريد ؛ فيكون فيه إيجاب القول بالبعث ؛ إذ إعادتهم ليست بأعسر (٣) من خلق السموات في تقدير عقولكم ، فمن قدر على خلقهن ، لقادر على البعث ، والله الموفق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) :

منهم من يذكر أنه جعله نورا في السماء الدنيا ، وأضافه إلى جملة السموات.

وقد يجوز ـ أيضا ـ أن يضاف الشيء إلى العدد وإن لم [يكن](٤) يوجد ذلك إلا في البعض ، يقال : في سبع قبائل مسجد واحد ، والمسجد إذا كان واحدا [فهو](٥) لا يكون في سبع قبائل ، وإنما يكون في قبيلة واحدة ، ويقال : فلان توارى في دور قوم ، وهو لا يكون متواريا في دور جملتهم ، وإنما يكون (٦) متواريا في واحدة (٧) منهن ، ثم أضيف التواري إلى الجملة فكذلك أضاف (٨) نور القمر إلى السموات السبع وإن كان القمر في سماء واحدة.

ومنهم من ذكر أن نور القمر قد أحاط بجميع السموات ، وزعم أن وجهه إلى السموات ، وظهره إلى أهل الأرض ، ولهذا ما يعمل عليه السواتر (٩) من السحاب وغيره ، فأما نور وجهه فإنه لا يستره شيء من السواتر.

لكن هذا إنما يعرف بالخبر ، فإن صح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خبر ، فذلك هو ، وإلا فالإمساك عن مثله أحق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) فذكر السراج هاهنا مكان الضوء في موضع آخر ، وهو قوله ـ عزوجل ـ : (جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً) [يونس : ٥] ، فذكر في القمر النور

__________________

(١) في ب : وقد.

(٢) في ب : شيء.

(٣) في ب : بأعوز.

(٤) سقط في ب.

(٥) سقط في ب.

(٦) في ب : كان.

(٧) في ب : واحد.

(٨) في ب : أضيف.

(٩) في ب : السوار.

٢٢٩

وفي الشمس الضياء ؛ لأن القمر يكون في وقت الحاجة إلى النور ، وذلك في ظلمة الليل ، ثم الله تعالى أنشأ الليل لنسكن فيه ، لكن قد يبدو للخلائق بالليل حوائج يحتاجون إلى قضائها ؛ فمن الله تعالى عليهم بنور القمر ؛ ليتوصلوا [بنوره إلى قضاء حوائجهم](١) ، وجعل الشمس ضياء ؛ ليختطف ضوؤها نور الليل ، ويغلب عليه ، ولا يختطف نور النهار (٢) نور الشمس ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) :

جائز أن يكون [أضاف الإنبات](٣) إلى الأرض ، ويرد ذلك إلى الأصل الذي خلق من التراب ، وهو آدم ـ عليه‌السلام ـ فنسب الفرع إلى الذي منه خلق الأصل ؛ لحدوثه (٤) منه ، لا أن يكون خلق الجملة من التراب ، وهو كقوله ـ عزوجل ـ : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) [الذاريات : ٢٢] ، والذي لنا في السماء هو المطر لا الذي يرزق [به](٥) ، ولكن الذي يرزق به أصله المطر ، فنسب إلى المطر ؛ لأنه هو الأصل الذي يتوصل به إلى الإرزاق ؛ فكذلك الخلائق لما كانوا من نسل آدم ـ عليه‌السلام ـ وكان هو أصلا لهم ، أضيف النسل إلى الأصل ؛ الذي حدث منه الأصل.

ويحتمل أن يكون يرجع هذا إلى كل في نفسه ؛ وذلك لأن حياة الأبدان (٦) وقوامها بالذي يخرج من الأرض ، وينبت منها من أنواع الأغذية ، فإذا كان قوامها بما ينبت منها ، فكأنما أنبتنا منها ؛ فاستقام أن يضاف الإنبات إليها ، كما يستقيم أن يضاف خروج الثمار إلى الأرض (٧) وإن كان حدوثها من الأشجار ؛ إذ قوام الأشجار وبقاؤها بها ؛ فنسب ما يخرج منها إلى الأرض (٨) على التقدير الذي ذكرنا.

ففي قوله : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) على التأويل [الأول](٩) إثبات القدرة على البعث وإلزام الحجة على من يجحد كونه ؛ لأنه يذكرهم قدرته أنه أنشأهم من الأرض ، ولم يكونوا شيئا ، فمن قدر على إنشائهم من الأرض بعد أن كانوا ترابا ، لقادر على أن

__________________

(١) في ب : إلى قضاء حوائجهم بنوره.

(٢) زاد في ب : و.

(٣) في ب : الإنبات أضيف.

(٤) في ب : بحدوثه.

(٥) سقط في ب.

(٦) في أ : الأبرار.

(٧) في أ : الأرضين.

(٨) في ب : الأرضين.

(٩) سقط في ب.

٢٣٠

يعيدهم إلى الحالة التي كانوا عليها من كونهم بشرا سويا ، وإن صاروا عظاما ورفاتا ؛ لأنهم كانوا يزعمون أن كيف يعادوا خلقا جديدا بعد أن صاروا ترابا ، فاحتج عليهم بأمر الابتداء من الوجه الذي ذكرنا.

وإن كان على التأويل الثاني ، ففيه تذكير نعمه : أن قد أخرج لهم من الأرض ما يتعيشون به ، ويقيمون به أودهم ، أو يستأدي منهم الشكر ، وفيه تذكير قوته وسلطانه ؛ ليخوفهم عقابه فيتعظوا ويتقوا سخطه ، ويطلبوا مرضاته.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً) ، فجمع بين الإعادة والإخراج بحرف الجمع ، وجعل [قوله عزوجل](١)(وَيُخْرِجُكُمْ) في موضع «ثم» ؛ لأن هذا الإخراج يكون بعد الإعادة إلى الأرض ، فيكون في هذا دليل أن أحد الحرفين وهو «الواو» قد يستعمل مكان «ثم».

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً)

أي : جعلها كالشيء المبسوط الذي ينتفع ببسطه ، ولو لم يجعلها كذلك ، لم يتوصلوا إلى حوائجهم ، ولا الانتفاع بها ، ففي ذكر هذا تذكير بما (٢) لله تعالى عليهم من عظيم المنة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً) :

قيل (٣) : الفجاج : هي الطرق الواسعة.

وقيل : السبل في السهل ، والفجاج : الطرق في الجبال ، وهذا ـ أيضا ـ من عظيم نعم الله تعالى على عباده ؛ لأن الله تعالى قدر أرزاق الخلق في البلاد ، فلو لم يجعل لهم في الأرض سبلا ، لم يجدوا طريقا يسلكونه ، فيتوصلون به إلى ما به قوام أبدانهم ؛ فصارت الطرق المتخذة لما (٤) نسلك فيها ، فنصل إلى حوائجنا وإلى معايشنا : كالدواب التي سخرت لنا ؛ فنتوصل بها إلى حوائجنا ، وهذا يبين لك أن ملك أقطار الأرض وتدبيرها يرجع إلى الواحد القهار ؛ لأنه أحوج الخلق إلى الانتشار في (٥) البلاد ؛ لإقامة أودهم ، وجعل لهم سببا يتوصلون به إلى ذلك ؛ فثبت أن مالك الأقطار واحد.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : ما.

(٣) قاله ابن عباس بنحوه أخرجه ابن جرير (٣٥٠٢٤) ، وابن المنذر عنه ، كما في الدر المنثور (٦ / ٤٢٦) وهو قول قتادة أيضا.

(٤) في ب : بما.

(٥) زاد في أ : الأنساب إلى.

٢٣١

قوله تعالى : (قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (٢١) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (٢٢) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (٢٣) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (٢٤) مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً (٢٥) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (٢٧) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً)(٢٨)

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي) ، أي : عصوني فيما أمرتهم به أو فيما دعوتهم إليه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً) :

يشبه أن يكون المتبوعون (١) هم الذين كثرت أموالهم وحواشيهم ، استتبعوا من دونهم (٢) فيتبعوهم ولم يتبعوا نوحا عليه‌السلام ، وقد (٣) كان نوح ـ عليه‌السلام ـ يدعوهم إلى اتباعه ، فأخبر أنهم لم يتبعوه ، وإنما اتبعوا من كثرت أمواله وأولاده وحواشيه ؛ فتكون هذه الآية في الأتباع أنهم اتبعوا أجلتهم ورؤساءهم ليس في رؤسائهم ، وما تقدم من الآيات في أجلتهم من دعاء نوح ـ عليه‌السلام ـ إياهم إلى التوحيد وغيره.

ويحتمل أن تكون هذه الآية في الأجلة والضعفة جميعا ؛ فيكون قوله تعالى : (وَاتَّبَعُوا) ، أي : اتبعوا من تقدمهم من أهل الثروة والغناء ، والذين وسعت عليهم الدنيا ، وبسطت لهم ؛ ظنّا منهم أنهم أحق بالله تعالى ، وأقرب إليه في المنزلة.

والذي حملهم على هذا هو أنهم لا يرون أحدا في الشاهد يترك صلة وليه ويصل عدوه ، فيرون أنه إذا بسطت على رؤسائهم الدنيا ، [و] وسع الله تعالى عليهم ، وضيق على هؤلاء ـ أن أولئك أقرب منزلة وأعلى حالا ، وأنهم هم الأولياء ، وهم لا يؤمنون بالآخرة وثوابها ، فكانوا يزعمون أنه يوفر الجزاء على الأولياء والمحسنين في الدنيا ، وزعموا أن من وسع عليه الدنيا فهو أحق أن يكون وليا لله تعالى حيث وصل إليه الجزاء فيها ، فهذا الظن هو الذي حملهم على الاتباع.

__________________

(١) في ب : المبتدعون.

(٢) في ب : ذنوبهم.

(٣) في ب : فقد.

٢٣٢

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِلَّا خَساراً) ، أي : بوارا وهلاكا لذلك المتبوع ، فكانت تلك النعم التي ظنوا أنهم أكرموا بها بصنيعهم سببا لخسارهم.

ثم قوله تعالى : (وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً) كقوله : (وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا) [التوبة : ٨٥] ، ثم قد بينا تأويل شكايته إلى الله تعالى من قومه ، فهذه الآية وتلك الآيات في معنى تأويل الشكاية إلى الله تعالى ـ واحد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً).

قال بعضهم : إنهم كانوا يمكرون ما يمكرون بألسنتهم ؛ حيث كانوا يدعونهم إلى الكفر والصد عن سبيل الله ، فكنى بالمكر عما قالوه بألسنتهم ، فكان ذلك (مَكْراً كُبَّاراً) ، أي : قولا عظيما.

وجائز أن يكون على حقيقة المكر ، وهو أن رؤساءهم مكروا بأتباعهم حيث قالوا : إن هؤلاء لو كانوا أحق بالله تعالى منا ، لكانوا هم الذين يوسع عليهم ويضيق علينا ، فإذا وسع علينا وضيق عليهم ، ثبت أنا نحن الأولياء [والأصفياء](١) دون غيرنا ، وهذا منهم مكر عظيم ؛ لأنه يأخذ قلوب أولئك فيصدهم عن سبيل الله تعالى.

وجائز أن يكون مكرهم ما ذكر أنهم كانوا يأتون بأولادهم الصغار إلى نوح عليه‌السلام ، ويقولون لهم : إياكم واتباع هذا فإنه ضال مضل ، فكان هذا مكرهم بصغارهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً ..). الآية.

هذه المقالة منهم كانت بعد أن انقادت لهم الأتباع ، واتبعتهم إلى ما دعوهم إليه من عبادة الأصنام ، فقالوا بعد ذلك : (لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ) أي : لا تذرن عبادتها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً).

هي أسماء الأصنام التي كانوا يعبدونها.

ثم يحتمل أن يكون الذي بعثهم على عبادة الأصنام ما ذكره أهل التفسير : أن قوم نوح ـ عليه‌السلام ـ اتخذوا هذه الأصنام أول ما اتخذوها على صورة رجال عباد كانت هذه الأسماء أسماءهم ، فسموا الأصنام بأسماء العباد ؛ ليعتبروا بها ، ويجتهدوا في العبادة إذا نظروا إليها ، فلما مضى ذلك القرن الذين اتخذوها عبرة وخلفهم قرن بعدهم ، قال لهم الشيطان : إن الذين من قبلكم كانوا يعبدون هذه الأصنام ، فعبدوها.

__________________

(١) سقط في ب.

٢٣٣

ومنهم من ذكر أن جسد آدم ـ عليه‌السلام ـ كان عند نوح ـ عليه‌السلام ـ يترك كل مؤمن في زمانه أن يدخل فينظر إلى جسد آدم عليه‌السلام ومن لم يكن مؤمنا لم يدعه أن ينظر إليه ، فجاء إبليس إلى الكفار فقال : أيفخر نوح ومن [آمن به](١) عليكم بجسد آدم وأنتم كلكم ولده؟ فصنع لكل قوم صنما على صورة آدم ـ عليه‌السلام ـ فكانوا يعبدون تلك الصورة.

ويحتمل أن يكون الذي بعثهم على ذلك هو أنهم لم يروا أنفسهم تصلح لعبادة رب العالمين ، كما يرى هؤلاء الذين يخدمون الأجلة في الشاهد لا يطمع كل واحد منهم في خدمة الملوك ، ولا يرى نفسه أهلا لخدمتهم ، بل يشتغل بخدمة من دونه أولا ؛ على رجاء أن يقربه إلى الملك ، فكذلك هؤلاء حسبوا أنهم لا يصلحون لخدمة رب العالمين ، فكانوا إذا رأوا شيئا حسنا [كانوا](٢) يظنون أن حسنه لمنزلة له عند الله تعالى لا غير ، فكانوا يقبلون على عبادته ؛ رجاء أن يقربهم إلى الله تعالى ، فجعلوا الأصنام على أحسن ما قدروا عليه ثم اشتغلوا بخدمتها وعبادتها ؛ رجاء أن تقربهم إلى الله تعالى ، كما قال ـ عزوجل ـ حكاية عنهم : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] ، وقال : (وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] ، فجائز أن يكون هذا الحسبان هو الذي حملهم على عبادتها وتعظيم شأنها ، والله أعلم أي ذلك كان!

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً) جائز أن يكون أريد به الكبراء أنهم أضلوا كثيرا ، أي : دعوا إلى الضلال ، وزينوه في قلوبهم فأضلوا (٣) سفهاءهم بذلك.

وجائز (٤) أن يكون أريد به الأصنام ، ولكن حقه إن كان على الأصنام أن يقول : «وقد أضللن كثيرا» ؛ كما قال إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ : (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) [إبراهيم : ٣٦] ، ولكن الإضلال من فعل الممتحنين ، والأصنام ليست لها أفعال ، فلما نسب إليها نسبة من [يوجد](٥) منه الفعل ، أخرج الخطاب على الوزن الذي يخاطب به من يوجد منه هذا الفعل ؛ وهو كقوله تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها) [الطلاق : ٨] ، فأضاف إلى القرية فعل أهلها ، والفعل إذا أضيف إلى الأهل ، أضيف بلفظ التذكير ، ثم أنث هاهنا ؛ لإضافة فعل الأهل إلى القرية ، ولو كانت القرية بحيث يكون منها الفعل لكان

__________________

(١) في ب : معه.

(٢) سقط في ب.

(٣) في أ : ما ضلوا.

(٤) في ب : فجائز.

(٥) سقط في ب.

٢٣٤

الخطاب يرتفع عنها بلفظ التأنيث لا بلفظ التذكير ، فحيث أضيف إليها فعل أهلها أنث كما يوجب لو كان الفعل متحققا منها.

ثم الأصنام لا يتحقق منها الإضلال ، ولكن معنى الإضافة هاهنا هو أنها أنشئت على هيئة لو كانت تلك الهيئة ممن يضل لأضل ، وهو كما قلنا في تأويل قوله ـ عزوجل ـ : (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) [الأنعام : ٧٠].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً) :

فهذا يشبه أن يكون بعد ما بين له (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) [هود : ٣٦] ، فإذ علم أنهم لا يؤمنون لم يدع لهم بالهدى ، ولكن دعا الله تعالى ليزيد في إضلالهم ، ويكون الإضلال عبارة عن الهلاك ، والضلال : الهلاك ، قال الله تعالى : (وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ) [السجدة : ١٠] أي : هلكنا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً) ، فحرف «ما» هاهنا صلة في الكلام ، ومعناه : بخطيئاتهم ، أو من خطيئاتهم أغرقوا ، فأدخلوا نارا في الآخرة ؛ إذ أغرقت أبدانهم وأجسادهم وردت أرواحهم إلى النار.

(فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً) ، أي : لم يجدوا لأنفسهم بعبادتهم من عبدوا من دون الله تعالى أنصارا من المعبودين ؛ لأنهم كانوا يعبدون من يعبدون من دون الله ليقربهم إلى الله ، ويكونوا لهم شفعاء وعزّا ، فلم يجدوا الأمر على ما قدروه عند أنفسهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً).

قيل : تأويله : لا تذر على الأرض من الكافرين ساكن دار ، وإذا لم يبق منهم ساكن دار فقد بادوا (١) جميعا وهلكوا ، فكأنه يقول : لا تذر منهم أحدا.

وقوله عزوجل : (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ).

هذا كلام شنيع في الظاهر من نوح عليه‌السلام ؛ لأنه خارج مخرج الإنكار على الله تعالى لو تركهم ولم يهلكهم ، وهذا يشبه بقول من قال : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) [البقرة : ٣٠] ، وهذا ـ أيضا ـ خارج مخرج التذكير (٢) لله تعالى : أنه لو أبقاهم أدى ذلك إلى إضلال العباد ، وفيه تقدم بين يدي الله تعالى وذلك عظيم ؛ لأنه ليس في شرط الألوهية إهلاك من عمله الإضلال ؛ ألا ترى أن إبليس اللعين وأتباعه جل سعيهم في

__________________

(١) في أ : ماتوا.

(٢) في أ : التكبر.

٢٣٥

إضلال بني آدم ، ثم لم يستأصلوا ولم يهلكوا ، بل أبقوا إلى الوقت المعلوم.

ولكن يجوز أن يكون دعا عليهم ، بعد أن (١) أذن له بالدعاء عليهم بالهلاك والبوار ؛ فيكون الدعاء بالهلاك على تقدم الإذن.

والأصل : أن الرسل ـ عليهم‌السلام ـ بعثوا لدعاء الخلق إلى الإسلام ، [وكانوا في دعائهم](٢) راجين الإسلام منهم ، خائفين عليهم بدوامهم على الكفر ، فلما قيل لنوح (٣) ـ عليه‌السلام ـ : (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) [هود : ٣٦] ـ وقع له الإياس عن إسلام من تخلف عن الإيمان ، فارتفع معنى الدعاء إلى الإسلام ، فجائز أن يرد له الإذن بعد ذلك بالدعاء عليهم بالهلاك ، فيدعو إذ ذاك.

ثم يكون قوله : (إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ) خارجا مخرج الإشفاق والرحمة على من معه من المؤمنين ، وهو أن الذين داموا على الكفر لو أبقوا ، خيف منهم أن يضلوا المؤمنين ويغيروهم إلى ملتهم ؛ فتكون شفقته على المسلمين داعية له على الدعاء بالهلاك على الكفرة ؛ لئلا يتوصلوا إلى الإضلال.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) وقت بلوغهم المحنة والابتلاء ، فحينئذ يوجد منهم الفجور ، لا أن يلدوا فجارا كفارا ؛ إذ لا صنع لهم في ذلك الوقت ، وهو كقوله : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ) [الإنسان : ٢] أي : نبتليه لوقت بلوغه المحنة والابتلاء ، لا أن يبتلى وقت ما يشاء.

وفي هذه الآية دلالة (٤) أن الكفر قد يقع عليه اسم الفجور ؛ لأنه [لو خرج](٥) قوله : (كَفَّاراً) مخرج التفسير لقوله : (فاجِراً)(٦) استقام أن يحمل تأويل قوله تعالى : (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) [الانفطار : ١٤] على الكفرة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً) هكذا الواجب على المرء في الدعاء والاستغفار أن يبدأ بنفسه ، ثم بوالديه ، ثم بالمؤمنين.

ثم قوله : (بَيْتِيَ) قال بعضهم : أي : في سفينتي.

وقال بعضهم : (في بيتي) أي : في ديني ؛ فيكون البيت كناية عن الدين.

__________________

(١) زاد في ب : يكون.

(٢) في ب : فكانوا بدعائهم.

(٣) في أ : فيما قبل نوح.

(٤) في ب : دليل.

(٥) في ب : أخرج.

(٦) زاد في ب : لذلك.

٢٣٦

وقال بعضهم : إنما هو بيته الذي يسكن فيه ؛ لما أطلعه [الله](١) تعالى أن من دخل بيته مؤمنا لا يعود إلى الكفر.

قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ : ثم إن أرجى الأمور للمؤمنين (٢) في الآخرة دعاء الأنبياء والملائكة ـ عليهم‌السلام ـ في الدنيا ؛ لأنهم إنما يدعون بعد الإذن لهم [بالدعاء](٣) ، فلا يحتمل أن يأذن الله تعالى لهم بالدعاء ، ثم لا يجيب دعوتهم.

وذكر عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال : إن نوحا ـ عليه‌السلام ـ دعا بدعوتين :

أحدهما : للمؤمنين بالاستغفار والتوبة.

والثانية : على الكفار بالبوار والتبار.

وقد أجيبت دعوته فيما دعا على الكفرة ؛ فلا يجوز أن يجاب في شر الدعوتين ، ثم لا يجاب في خير الدعوتين.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً) قيل : كسرا وذلا وصغارا ؛ فإنه مشتق (٤) من التبر ، وكل مكسور يقال له : تبر ؛ فكأنه يقول : اكسر منعة الظالمين وشوكتهم ؛ فإن كان التأويل هذا فهو يقع على جميع الظلمة من (٥) كان في وقته ومن بعده.

وقيل : التبار : الهلاك ؛ فإن كان هذا معناه فهو على ظالمي زمانه ؛ إذ لا يجوز للأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ أن يدعوا على قوم إلا أن يؤذن لهم (٦) بالدعاء عليهم ، وإنما جاء الإذن في حق قومه ، فأما في حق غيرهم لم يثبت ؛ فلا يجوز القول فيه إلا بما تواتر الخبر به عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والله أعلم (٧).

* * *

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : للمؤمن.

(٣) سقط في ب.

(٤) في أ : أشفق.

(٥) في ب : ممن.

(٦) في ب : له.

(٧) في ب : والله الموفق.

٢٣٧

سورة الجن ، وهي مكية

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (٢) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (٣) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً (٤) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً (٥) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (٦) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً (٧) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (٨) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (٩) وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً)(١٠)

قوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ) ، اختلف في السبب الذي كان به مجيء الجن إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمنهم من ذكر أن إبليس صعد إلى السماء ، فوجدها قد ملئت حرسا شديدا وشهبا ؛ فتيقن أنه قد حدث في الأرض حادث ، ففرق جنوده ؛ ليعلم (١) ذلك.

ومنهم من يقول بأن الأصنام خرت لوجوهها حين بعث [رسول الله](٢) صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فعلم إبليس أنه قد حدث في الأرض حادث حتى خرت له الأصنام ، ففرق جنوده ؛ ليصل إلى علم ذلك.

ثم من الناس من يزعم أن قصة هذه السورة وقصة قوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) [الأحقاف : ٢٩] ـ واحدة.

وقال بعضهم بأن هؤلاء النفر الذين ذكروا في هذه السورة كانوا من مشركي الجن ، والذين ذكروا في سورة الأحقاف كانوا من يهود الجن ؛ دليله : أنه قال في هذه السورة فيما حكي عن الجن : (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً) [الجن : ١٢] ، واليهود يقرون بالبعث ، ولا ينكرونه ؛ فثبت أنهم كانوا من جنس المشركين ، وقال في سورة الأحقاف : (قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) [الأحقاف : ٣٠] ؛ فثبت أنه قد كان عندهم علم بالكتاب [المنزل](٣) على رسول الله [موسى](٤) صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكانوا به مقرين ، واليهود هم الذين يؤمنون بكتاب موسى ـ عليه‌السلام ـ لا غير.

__________________

(١) في ب : علم.

(٢) في ب : النبي.

(٣) سقط في ب.

(٤) سقط في أ.

٢٣٨

ثم فيما حكى الله تعالى عن الجن من تصديقهم هذا الكتاب واستماعهم ما جرى من المخاطبات فيما بينهم ـ فوائد :

إحداها : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مبعوثا إلى الجن والإنس حتى صرف الجن إلى الاستماع إليه.

وفيه أنهم لما أخذوا القرآن من لسانه قاموا (١) فيما بين القوم بإنذارهم ، وأعانوه في التبليغ على ما أخبر ـ عزوجل ـ (فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) [الأحقاف : ٢٩].

وفيه أن أولئك النفر تسارعوا إلى الإجابة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فيكون فيه تسفيه قوم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذين نشأ بين أظهرهم ؛ لأنهم عرفوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [فيما بينهم](٢) بالصيانة والعدالة ، ولم يقفوا منه على كذب قط ، وحق من يعرف بالصدق إن لم يصدق ألا (٣) يتسارع إلى تكذيبه فيما يأتي [به] من الأنباء ، بل يوقف في حاله إلى أن يتبين منه ما يظهر كذبه ، وقومه استقبلوه بالتكذيب ، ولم يعاملوه (٤) معاملة من كان معروفا بالصدق والصيانة ، والجن الذين صدقوه ، لم يكونوا عارفين بأحواله فيما قبل أنه صدوق ، أو ممن يرتاب في خبره ، ثم تسارعوا إلى تصديقه ؛ لما لاحت لهم الحجة وثبتت عندهم آية الرسالة وعاملوه (٥) معاملة من قد عرف بالصدق ؛ فدل أنهم كانوا في غاية من السفه.

وفيه ـ أيضا ـ دلالة رسالته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأن قوله تعالى : (فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ ..). إلى آخر القصة فيما بينهم ـ إخبار عن علم الغيب وهذا لا يعرف إلا بمن عنده علم الغيب ؛ فثبت أنه بالله تعالى علم.

ثم يجوز أن يكون الذي حملهم على الإيمان به ما عرفوا أنه أتى بالمعجز الذي يعجز الخلق عن الإتيان بمثله ، وبما وقفوا على إحكام معانيه وحسن تأليفه ونظمه.

وفيه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يشعر بمجيئهم حتى أوحي إليه أنه قد أتاه نفر من الجن ، واستمعوا إلى ما أوحي إليه ؛ فيكون فيه دلالة على فساد قول الباطنية ؛ حيث يزعمون أن [رسول الله](٦) صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل الوحي بالجسد الروحاني ؛ لأنه لو كان كما وصفوا ، لرأى الجن عند ما حضروا إليه ؛ إذ الجسد الروحاني مما يبصر الجن ، ولم يكن يوحى إليه ، فيعرف أن

__________________

(١) في أ : قالوا.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : لا.

(٤) في ب : يعاملوا معه.

(٥) في أ : وعاملوا معه.

(٦) في ب : النبي.

٢٣٩

قد حضره نفر من الجن.

وروي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سأل جبريل ـ عليه‌السلام ـ أن يراه على صورته ، فقال [له] جبريل : «إنك لا تطيقه ؛ لأن الأرض لا تسعني ، ولكن انظر إلى أفق السماء» (١) ، ولو كان يأخذ الوحي بالجسد الروحاني ، لكان قد رأى جبريل ـ عليه‌السلام ـ على صورته فيبطل فائدة هذا السؤال ؛ فثبت أن الأمر ليس كما زعموا ، بل كان يقبله بالصورة الجسدانية ، وأنه كما وصفه الله تعالى بقوله : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ ..). [الكهف : ١١٠].

وقال القتبي : النفر : ما بين الثلاثة إلى التسعة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَزادُوهُمْ رَهَقاً).

قال بعضهم : العجب : الغريب ، وإنما استغربوا ذلك منه ؛ لأنهم سمعوه من أميّ لا يعرف الكتابة ولا يقرأ الكتب.

ومنهم من قال بأن حسن تأليفه ونظمه ووصفه هو الذي حملهم على التعجب.

ومنهم من قال : إنما تعجبوا من آياته وحججه ؛ لأنه جاء في تثبيت التوحيد ، وإثبات الرسالة ، وإثبات البعث ، ولم يكن لهم معرفة بالوحدانية ؛ بل كانوا أهل شرك ، ولم يكونوا أهل معرفة بالبعث ولا الرسالة ؛ فكانت الآيات عجيبة ؛ حيث قررت عندهم هذه الأوجه ، والله أعلم.

ثم في هذه السورة وفي قوله تعالى : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) [الأحقاف : ٢٩] إخبار أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن يشعر بمجيئهم. وروي في الخبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه لما تلى على أصحابه سورة الرحمن ، قال لأصحابه : «إن الجن كانوا أحسن إجابة منكم ، إني تلوت عليهم هذه السورة ، فكانوا يقولون : ما بشيء من آلائك نكذب ربنا ، فلك الحمد» (٢). ففي هذا الخبر دلالة أنه قد رآهم وشعر بمجيئهم ؛ فيكون فيه إثبات الوجهين جميعا : أن قد شعر مرة ، ولم يشعر أخرى.

ثم يجوز أن يكون رآهم بما قوى الله ـ عزوجل ـ بصره حتى احتمل إدراك الجن ، وضعفت أبصار غيره عن رؤيتهم ؛ ألا ترى أن أهل الجنة يرون الملائكة عند ما تأتيهم بالتحف من ربهم ، فيقوي الله ـ عزوجل ـ بصرهم حتى رأوا الملائكة بجوهرهم ، وإن ضعفت أبصارهم عن الرؤية في الدنيا ، ففي ذلك تجويز أن يكون الله ـ تعالى ـ قوى بصر

__________________

(١) تقدم.

(٢) تقدم.

٢٤٠