تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٩٥

أو أن يكون القسم بما ذكر من شدة الخيل وقوتها وحدة بصرها ؛ حيث عدت في ليل مظلم ، لا قمر فيه ، ولا نور ـ عدوا يخرج النار من شدة عدوها من الحجارة التي تضرب بحوافرها ما لا يقدر الإنسان العدو في مكان مستو ، فضلا أن يقدر على ذلك من الصعود والهبوط ، وما ذكر من إثارة النقع من شدة عدوها ، وتوسطها في العدو.

أو يذكر موافقة مرادهم وحصول غرضهم في الإغارة على عدوهم في أغفل ما يكون العدو ، وهو وقت الصبح.

ثم القسم بقوله : (وَالْعادِياتِ) ، وما ذكر من الموريات وغيره ، هو صفة العاديات ونعوتها.

وفيه بشارات ثلاثة :

أحدها : أنه لم تحدث لهم حادثة.

والثاني : الإغارة على العدو.

والثالث : أنهم قد توسطوا العدو.

ومن قال : هي الإبل ، وذلك في أمر الحج ، يذكر سرعة سيرها ، وشدة عدوها في الليلة المظلمة التي فيها الأودية والهبوط والصعود.

ثم قوله : (فَالْمُورِياتِ قَدْحاً) على هذا التأويل ، أي : تضرب الحجر بالحجر ؛ فتخرج منه النار من شدة سيرها وعدوها ، وفي الخيل شدة ضرب الحوافر على ما ذكرنا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً) على هذا التأويل ، يقول بعضهم : نزولهم في تلك المغارات (١) والأودية في وقت الصبح.

والأشبه أن يكون خروجهم من تلك المغارات (٢) والأودية في ذلك الوقت ؛ لأن ذلك الوقت وقت الخروج منها والدفع ، لا وقت المقام.

أو يكون قد استقبلهم العدو (٣) هنالك ، ومن [أراد بهم](٤) الشر ؛ فتكون المغيرات على الإغارة عليهم ؛ إن كان ثم عدو.

(فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) على هذا التأويل : الجمع في الحجج ، وهو الجمع المعروف.

ومن قال : ذلك في الخيل ، يكون توسطهن في جمع العدو.

__________________

(١) في ب : الغارات.

(٢) في ب : الغارات.

(٣) في أ : استتب لهم العدد.

(٤) في ب : إرادتهم.

٦٠١

ثم الذي وقع به القسم قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) ، أي : الإنسان لنعم ربه لكفور ، لا يشكرها ، وهو أن الإنسان يذكر مصائبه وما يصيبه من الشدة في عمره أبدا ، وينسى جميع ما أنعم الله عليه ، وإن لا يفارقه طرفة عين ؛ ولذلك (١) قال الحسن : الكنود : هو الذي يعد المصائب وينسى النعم (٢).

وقيل (٣) : الكنود : القتور البخيل الشحيح في الإنفاق ، ويجب أن يكون وصف كل إنسان ما ذكر ، لكن المؤمن يتكلف شكر نعم الله ـ تعالى ـ ويجتهد في ذلك ، ويصبر على المصائب ، وهو كقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً) [المعارج : ١٩] ، وخلق (عَجُولاً) [الإسراء : ١١] ، هو كل إنسان ، ثم استثنى المصلين منهم (٤) ، وهم المؤمنون ؛ أي : كذلك خلق وطبع كل إنسان ، لكن المؤمن يتكلف إخراج نفسه من ذلك الطبع الذي أنشئ عليه ، وطبع إلى غيرها من الطبائع ؛ كالبهائم والسباع التي طبعها النفور من الناس بالاستيحاش عنهم ، ثم تصير بالرياضة ما تستقر عندهم وتجيبهم عند دعوتهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ) ، قال بعضهم : إن ذلك الإنسان على ما فعله في الدنيا لشهيد في الآخرة على [ما جمعه](٥) ؛ أي : يشهد ذلك ويعلمه ؛ كقوله : (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) [القيامة : ١٤].

وقال بعضهم : (وَإِنَّهُ) ، أي : ذلك الإنسان لبخله وامتناعه عن الإنفاق (لَشَهِيدٌ) ، أي : يتولى حفظ ماله وإحصاءه بنفسه ، لا يثق بغيره.

وقال بعضهم : (وَإِنَّهُ) يعني : الله تعالى (عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ) أي : عالم ، يحصيه ؛ ويحفظه ، كقوله : (لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها ..). [الكهف : ٤٩].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) ، أي : ذلك الإنسان لشديد الحب للمال ، فذكر بخله ، وشحه في المال ، في ترك الإنفاق والبذل ، وعلى ذلك طبع كل إنسان ؛ على ما ذكرنا ، لكن المؤمن يتكلف إخراج نفسه مما طبع بالرياضة ، ويجتهد في الإنفاق ، والحب هاهنا : حب إيثار ، أي : يؤثر لنفسه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ) ، يقول ـ والله أعلم ـ : فهلا

__________________

(١) في ب : وكذلك.

(٢) أخرجه ابن جرير (٣٧٨٤٣) ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الشعب عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٦٥٤).

(٣) قاله الحسن وقتادة أخرجه البيهقي في الشعب عنهما كما في الدر المنثور (٦ / ٦٥٤).

(٤) في ب : فيهم.

(٥) في ب : جميعه.

٦٠٢

يعلم قدرة ربه وسلطانه وحكمته في إنشائه أنه يستخرج ما في القبور ويحييهم.

أو يكون قوله : (أَفَلا يَعْلَمُ) ، أي : فيعلم (إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ. وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ).

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) ، أي : إن ربهم يومئذ لخبير بما كان منهم في الدنيا ، (وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ) ، يقول : فهلا يعلم ـ أيضا ـ أنه يميز ما في الصدور ، ويبين ويظهر ما فيها ، لا يترك كذلك غير مميز ، ولا مبين ، بل يظهر ويميز ، كقوله : (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) [الطارق : ٩].

ثم قوله : (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) ، أي : عن علم له بذلك يأخذهم ، ويجزيهم بما يجزيهم.

وفي قوله ـ تعالى ـ : (وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ) دلالة أن حصول الأعمال وخلوصها وما يثاب عليها ويعاقب بالقلوب وبالنيات ، لا بنفس الأعمال ؛ حيث قال : (وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ).

قال أهل اللغة وأبو عوسجة : (ضَبْحاً) : الضبح : صوت في الصدر ؛ ضبح يضبح ضبحا ، فهو ضابح.

(فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً) ، أي : هيجن الغبار بحوافرهن ، والنقع : الغبار ، والنقوع : جماعة ، (فَوَسَطْنَ) من التوسط ، أي : صرن في الوسط ، و (لَكَنُودٌ) : كفور ، (وَحُصِّلَ) ، أي : اختبر ؛ يقال : حصلت : أي : اختبرت.

وقال بعضهم والقتبي : (وَالْعادِياتِ) : الخيل ، والضبح : صوت حلوقها إذا عدت.

وقيل : الضبح والضبح واحد في السير ؛ يقال : ضبحت الناقة ، وضبعت.

(فَالْمُورِياتِ) ، أي : أورت النار بحوافرها ، والأرض الكنود : التي لا تنبت شيئا ، ويقال : بعثرت ، أي : قلبت ، فجعل أسفلها أعلاها.

(وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ) ، أي : ميز ما فيها من الخير والشر ، والشك ، واليقين ، والله أعلم.

* * *

٦٠٣

سورة القارعة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (الْقارِعَةُ (١) مَا الْقارِعَةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (٣) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (٤) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (٥) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (٦) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٧) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (٨) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (٩) وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (١٠) نارٌ حامِيَةٌ)(١١)

قوله ـ عزوجل ـ : (الْقارِعَةُ) قال : القارعة عندهم هي الداهية الشديدة من الأمور ، وهي في هذا الموضع وصف لشدة هول يوم القيامة ، وهو من الله ـ تعالى ـ تذكير لعباده ، وتعجيب لهم عما يكون في ذلك اليوم من الأهوال في [الأحوال والأفعال](١) وسمى الله ـ تعالى ـ في كتابه ذلك اليوم بما يكون فيه من اختلاف الأحوال ، نحو قوله : (الْحَاقَّةُ) ، و (الْواقِعَةُ) [الواقعة : ١] ، وما أشبه ذلك ، فكذلك قوله ـ عزوجل ـ : (الْقارِعَةُ) [تذكير لهم](٢) بما وصف من حال ذلك اليوم وشدته ؛ ليتفكروا في العواقب ، ويتدبروا ما يستقبلهم في الأواخر من العذاب ؛ فيمتنعوا بذلك عما نهاهم الله ـ تعالى ـ عنه.

ثم إن الله ـ تعالى ـ خلق [في](٣) بني آدم نفسا يدرك بها الشهوات واللذات في الدنيا ، وعقلا يتذكر به عواقب الأمور وأواخرها ، ويزيده ذلك تيقظا وتبصرا ، ثم العقل مرة يدعوه إلى نفسه حتى يميل إلى ما يدعوه في جزاء ما أطمع في العاقبة ، والنفس مرة تدعوه إليها ؛ فيصير هواه وميله فيما يتلذذ [به] من الشهوات في دنياه ، وعلى ذلك تأويل قوله : (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي ..). [يوسف : ٥٣] ، أي : [يرحمه ويعصمه](٤) عن اختيار السوء.

أو رحمه حتى جعل هواه فيما توجبه العواقب من الجزاء والثواب ؛ فلذلك ذكر الله ـ تعالى ـ عباده بما يستقبلهم من الأهوال في ذلك اليوم ؛ ليعملوا عقولهم في أفكاره ، والتذكر عنه ؛ فيزدجروا عما زجرهم عنه.

أو يتذكروا ما وعد لهم من الجزاء في ذلك اليوم ؛ فيزدادوا بذلك حرصا في الخيرات.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) ، اختلفوا في تأويله من

__________________

(١) في ب : أحوال وأفعال.

(٢) في ب : تذكيرهم.

(٣) سقط في ب.

(٤) في ب : رحمه وعصمه.

٦٠٤

وجوه ، ولكنه في الحاصل يرجع إلى معنى واحد :

فمنهم من قال : أي : كالجراد المنتشر حين أرادت الطيران.

ومنهم من قال (١) : كالجراد الذي يموج بعضه (٢) في بعض.

ومنهم من قال (٣) : كالفراش [المبثوث](٤) الذي يتهافت (٥) في النار ؛ فيحترق ؛ وكل ذلك يؤدي معنى الحيرة والاضطراب من هول ذلك اليوم.

وأصل ذلك قوله ـ تعالى ـ : (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) [الحج : ٢] ، فكأن الله ـ تعالى ـ قال : إنهم يصيرون في الحيرة من هول ذلك اليوم وشدته كالطائر الذي لا يدري أين يطير؟ وأين يثبت؟ وأين ينزل؟

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) قال بعضهم : كالصوف المصبوغ.

وقال بعضهم : كالمندوف من الصوف.

فإن كان على التأويل [الأول](٦) فمعناه ـ والله أعلم ـ : أن الجبال في ذلك اليوم تتلون ألوانا من شدة ذلك اليوم بلون العهن ؛ ألا تراه يقول : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً) [النمل : ٨٨] ، وقال : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً) [طه : ١٠٥] ؛ فكذلك هذا على ذلك المعنى.

وإن كان على التأويل الآخر ، فمعناه : أن الجبال مع شدتها وصلابتها ، تصير في الرخاوة والضعف من هول ذلك اليوم كالصوف المندوف ؛ إذ ذلك أضعف أحواله.

وقال قتادة : شبههم بغنم لا راعي لها ، ذكر العهن كناية عن الغنم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ. فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) ، اختلفوا في تأويل الميزان من وجوه ، ولكنّ أقربها عندنا وجهان :

أحدهما : أن يكون المراد من قوله : (ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) جملة المؤمنين ، وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) جملة الكفار ، ويكون الوجه في ذلك أن المؤمن لما عظم حق الله ـ تعالى ـ وأقام حدوده كان له ميزان وقيمة وخطر عند الله ـ تعالى ـ في ذلك اليوم ، والكافر لما ترك ذلك ، خف وزنه وقيمته وخطره ، وقد يطلق ـ والله أعلم ـ

__________________

(١) قاله ابن زيد أخرجه ابن جرير عنه (٣٧٨٥٧).

(٢) في أ : بعضهم.

(٣) قاله قتادة أخرجه عبد بن حميد ، وابن جرير (٣٧٨٥٦) كما في الدر المنثور (٦ / ٦٥٥).

(٤) سقط في ب.

(٥) في ب : تهافت.

(٦) سقط في ب.

٦٠٥

هذا الكلام على معنى الجاه والمنزلة ، يقال : لفلان عند فلان وزن وقيمة ، وليس عنده ذلك الوزن ، فكذلك هذا.

والوجه الثاني : من وزن السرائر التي لم يطلع الله ـ تعالى ـ ملائكته الذين يكتبون أعمال بني آدم ذلك ، ومعلوم أن ذلك إنما يحصل من المؤمنين دون الكفرة ، وقد وصفنا مسألة الميزان وبيناها ؛ فلذلك اختصرنا الكلام في ذا الموضع ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) ، منهم من قال : مرضية ، يرضى أهل الجنة بتلك (١) العيشة ؛ فهي مرضية.

ومنهم من قال : ذات رضاء ؛ كقوله : (ماءٍ دافِقٍ) [الطارق : ٦] ، أي : ذات اندفاق.

ومنهم من قال : إنه أضاف الرضاء إلى العيش ؛ لأنه به يرضى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) منهم من قال (٢) : سمى النار : أما للكافر ؛ لأنه إليها يأوي.

ومنهم من قال (٣) : المراد من الأم : أم رأسه ؛ أي : يلقى في جهنم على أم رأسه منكوسا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (هاوِيَةٌ) ، أي : تهوي به ؛ حيث لا يكون له ثبات ولا قرار.

وقوله ـ عزوجل ـ : (نارٌ حامِيَةٌ) ، أي : تحميه ، وتنضجه.

ومنهم من قال : (نارٌ حامِيَةٌ) ، أي : شديدة الحر ، والله أعلم ، [وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين](٤).

* * *

__________________

(١) في ب : بذلك.

(٢) قاله ابن زيد أخرجه ابن جرير عنه (٣٧٨٦٧).

(٣) قاله عكرمة ، وأبو خالد الوالبي أخرجه ابن أبي حاتم عنهما كما في الدر المنثور (٦ / ٦٥٥).

(٤) سقط في ب.

٦٠٦

[سورة «ألهاكم التكاثر»](١)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (٢) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (٥) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (٦) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (٧) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) (٨)

قوله ـ عزوجل ـ : (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ. حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) ، أي : شغلكم التفاخر بالتكاثر ، ثم لم يقل : عما ذا شغلتم؟ فيجوز أن يكون (أَلْهاكُمُ) ، أي : شغلكم التكاثر عن توحيد الله ـ تعالى ـ أو عن التفكر في حجج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو عن ذكر البعث.

ثم قوله ـ تعالى ـ : (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ. حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) يحتمل تأويلين :

أحدهما : أن يكون الغرض من الخطاب بهذه الآية : آباءهم وسلفهم الذين تقدموا بالإخبار عن قبح صنيعهم واشتغالهم بالسفه ؛ فيكون هذا صلة آيات أخر ، من نحو قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) [الزخرف : ٢٢] ، وغير ذلك ؛ فكأن الله ـ تعالى ـ يخبرهم بآبائهم ، ونهاهم عن الاقتداء بآبائهم ؛ لأنهم تعاطوا أفعالا تخرج عن الحكمة حتى ماتوا ، وذلك يقع من وجهين :

أحدهما : أن من أنعم عليه نعمة ، فجحدها ، ولم يؤد شكرها ، استوجب المقت (٢) والعقوبة ؛ يقول : كيف تقتدون بآبائكم ، وإنهم كفروا بنعمة الله ، وجحدوا بها ، بل الواجب عليكم أن تتبعوا النبي الذي جاء بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم.

والثاني : أن يكون فيه علامة ودلالة للبعث : أن آباءهم لما فعلوا ما يستوجب به المقت والعقوبة ، وماتوا من غير أن يصيبهم ذلك في دنياهم : أن لهم دارا أخرى يعاقبون فيها بما فعلوا.

وإن كان الخطاب إنما انصرف إليهم ، ففيه إخبارهم عن سفههم : أنه شغلهم التفاخر بالتكاثر حتى جحدوا آيات رسوله ، عليه‌السلام.

أو (٣) أن يكون فيه إخبار عن سفههم من وجه آخر ، وهو أن الافتخار كيف وقع بالأموات ، والتفاخر بالأموات غير مستقيم.

__________________

(١) في ب : سورة (أَلْهاكُمُ).

(٢) في أ : العفو.

(٣) في ب : و.

٦٠٧

أو يكون فيه وجه ثالث : إنما تفاخروا بما لا صنع لهم فيه ؛ لأنهم : إنما افتخروا بالأموال والأولاد ، وذلك من لطف الله ـ تعالى ـ وجميل (١) صنعه ؛ فيكون في هذا كله ذكرهم بما فيهم من السفه والخرق.

ثم التعيير بذكر هذه الأسباب إنما وقع ـ والله أعلم ـ دون ما هم فيه من الكفر ؛ لأن هذه الأسباب مما يبتلى به المؤمن في بعض الأحوال ؛ فعيرهم الله ـ تعالى ـ بذلك ؛ ليكون فيه تذكير وموعظة للمؤمنين ، ولو خرج ذكر الكفار في هذا ، لكان لا يجتنب المؤمن شيئا من هذه الأفعال.

وقد روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ : (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) ، فقال : «يقول ابن آدم : مالي ، [مالي](٢) ، وما لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ...» الخبر ؛ فهذا يدل على أن الوعيد على الإطلاق من غير تصريح (٣) بأهل الكفر ؛ لموعظة المسلمين ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) يحتمل : حقيقة زيارة الموتى ، وذلك مما يذكرهم أن التكاثر مما لا ينفعهم إذا كان عاقبتهم هذا.

ويحتمل : أي : صرتم إلى المقابر بعد الموت ؛ فحينئذ تذكرون حق الله ـ تعالى ـ ثم لا ينفعكم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ. ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) ، قال بعضهم : كلا ، بمعنى : النفي ، والتعطيل.

وقال بعضهم : معنى قوله : (كَلَّا) ، أي : حقا.

فإن كان على الوجه الأول ، فكأنه قال : ليس كما حسبتم ، وتوهمتم ، وقدرتم عند أنفسكم وتعلمون ذلك إذا نزل بكم العذاب ، وهو على الابتداء.

وإن كان على معنى : حقا ، فكأنه قال : حقا ستعلمون أنه ليس كما قدرتم عند أنفسكم ، وكل ذلك يرجع إلى الوجوه التي وصفنا أنكم (٤) ستعلمون غدا حقا يقينا (٥) : أن الذي ألهاكم ، وشغلكم عن توحيد الله تعالى و (٦) التفكر في حجج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والإيمان بالبعث كان عبثا باطلا ، وأنه كان من الواجب عليكم : أن تؤمنوا بالله ورسوله ،

__________________

(١) في أ : وجميع.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : التصريح.

(٤) في ب : لكم أنه.

(٥) في ب : نفيا.

(٦) في ب : أو.

٦٠٨

وتنظروا في حجج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتؤمنوا بالبعث.

وفائدة التكرار : ما جرى من العادة في تكرار الكلام عند الوعيد أو عند الإياس أو الرجاء ؛ نحو قولهم : الويل الويل ، وقولهم : بخ بخ ، وغير ذلك ؛ فكذلك هذا.

ومنهم من حمل كل لفظة من ذلك على تأويل على حدة : أن قوله ـ عزوجل ـ : (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) عند الموت عند ما ترون العذاب : أن الأمر ليس كما حسبتم ، وتعلمون في يوم البعث أنه حق يقين.

وقوله ـ عزوجل ـ : (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ) ، يعني بهذا ـ والله أعلم ـ : إبطال ما كانوا عليه من الظنون والحسبان في هذه الدنيا ؛ ألا ترى إلى قوله ـ تعالى ـ : (ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا) [الجاثية : ٣٢] ، فإذا نزل بهم العذاب تحقق عندهم ، وعلموا علما يقينا.

وقال بعضهم : (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) حين نزل بكم الموت ، (ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) في القبر ، وكذلك روي عن (١) علي ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : كنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت هذه السورة (٢).

وفيه وجه ثان : وهو أنهم كانوا عند أنفسهم علماء ، وأنهم على حق ، ولكن الله ـ تعالى ـ بين لهم أن علمهم (٣) كان حسبانا ؛ ألا ترى إلى قوله ـ تعالى ـ : (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) [الكهف : ١٠٤] ؛ فيظهر لهم عند ذلك : أن اليقين ما نزل بهم ، وأن الذي علموا لم يكن علم يقين ؛ بل كان شكا وحسبانا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) ، يحتمل وجهين :

أحدهما : يرونها عند الموت.

والثاني : أي : يرونها بالتفكر والنظر في آيات الله وحججه في الدنيا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ) ، له معنيان :

أحدهما : عيانا ومشاهدة.

والثاني : أن تكون رؤيتهم بعين اليقين ، ليس على ما كان عندهم : أنهم لو فتح لهم باب من السماء وعرجوا إليها ، لقالوا : (إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ)

__________________

(١) زاد في ب : ابن عم رسول الله.

(٢) أخرجه ابن جرير (٣٧٨٧٣ ، ٣٧٨٧٥) ، والترمذي ، وحنيش بن أصرم في الاستقامة ، وابن المنذر ، وابن مردويه كما في الدر المنثور (٦ / ٦٥٩).

(٣) في أ : عملهم.

٦٠٩

[الحجر : ١٥] ، يقول [الله](١) تعالى : يرتفع عنهم السحر عن أبصارهم ، فيرونها عين اليقين.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) ظاهر هذا يقتضي أن يكون سؤالهم بعد ما دخلوا النار ؛ لأنه قال : (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَ) بعد ما وصف أنهم يدخلون النار ؛ فبان أنه في ذلك الوقت ، فإن كان على ذلك ، فهو في موضع التقرير عندهم : أنهم استوجبوا المقت والعقوبة ؛ لأنه كان عندهم أن من أنعم عليه بنعمة ، فلم يشكرها ، استوجب المقت والعقوبة ؛ فالله ـ تعالى ـ يسألهم في ذلك الوقت عن شكر ما أنعم عليهم ؛ ليقرر عندهم استيجاب العقوبة ، ويجوز أن يكون هذا عند الحساب ؛ لأنه قال : (يَوْمَئِذٍ) ، ولم يقل : قبل ذلك ، أو بعده ؛ بل قال على الإطلاق ؛ فيعمل به.

وإذا احتمل ذلك الوجه [أن ينصرف] إلى المؤمنين والكافرين كان الوجه في سؤال المؤمنين تذكيرهم أن أعمالهم لم تبلغ ما يستوفي بها شكر النعمة التي أنعمها عليهم ، وليعلموا أن الله ـ تعالى ـ تفضل عليهم ، وتجاوز عنهم ، لا أن بلغت إليه حسناتهم ، فاستوجبوا رحمته بها ؛ بل بكرمه وفضله.

وإن كان في الكافرين ، فهو تقرير ما استوجبوا من نقمته حيث تركوا شكر نعمه.

ثم قوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) إن كان السؤال من الكفرة فإنهم يسألون عما تركوا من الإيمان بالله ـ تعالى ـ وبما أتى إليهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبغير ذلك من النعيم.

وإن كان في المؤمنين فهو في سائر النعم من المأكول والمشروب والملبوس ونحوها ، والله أعلم.

* * *

__________________

(١) سقط في ب.

٦١٠

سورة العصر (١)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ)(٣)

قوله ـ عزوجل ـ : (وَالْعَصْرِ. إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) ، خرج قوله : (وَالْعَصْرِ) مخرج القسم ، والقسم موضوع في الشاهد ؛ لتأكيد ما ظهر من الحق الخفي ، أو لنفي شبهة اعترضت ، أو دعوى ادعيت ؛ فكذلك في الغائب.

ثم الأصل بعد هذا : أنه ليس في جميع القرآن شيء مما وقع عليه القسم إلا إذا تأمله المرء واستقصى فيه ، وجد فيه المعنى الذي أوجبه القسم لو لا القسم.

ثم اختلفوا في تأويل قوله : (وَالْعَصْرِ) :

فمنهم من قال : هو الدهر والزمان.

ومنهم من قال (٢) : هو آخر النهار ، فذلك وقت يشتمل على طرفي النهار ، وهو آخر النهار وأول الليل ؛ فكأنه أراد به : الليل والنهار.

وقال أبو معاذ : تقول العرب : «لا أكلمك العصران» ، يريدون : الليل والنهار ، وفي مرور الليل والنهار مرور الدهور والأزمنة ؛ لأنهما يأتيان على الدهور والأزمنة وما فيهما ؛ فكان في ذكر الليل والنهار ذكر كل شيء ، والقسم بكل شيء قسم بمنشئه ؛ لأن كل شيء من ذلك [إذا] نظرت فيه ، دلك على صانعه ومنشئه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) ، إن الدنيا وما فيها كأنها خلقت وأنشئت متجرا للخلق ، والناس فيها تجار ؛ كما ذكره في غير آي من القرآن ، قال الله ـ تعالى ـ : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) [التوبة : ١١١] ، وقال : (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) [الصف : ١٠] ، أي : إن الإنسان لفي خسار من تجارته ومبايعته (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ..). الآية.

ولقائل أن يقول : كيف استثنى أهل الربح من أهل الخسران ، ولم يستثن أهل الخسران (٣) من أهل الربح؟! فيقول : «إن الإنسان لفي ربح إلا الذين كفروا» ، واستثناء هذه الفرقة من تلك أولى في العقول من تلك؟!

__________________

(١) في ب : والعصر.

(٢) قاله ابن عباس بنحوه أخرجه ابن المنذر عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٦٦٧).

(٣) في ب : الخسر.

٦١١

والجواب عن هذا : أن هذه الآية إنما نزلت بقرب من مبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والقوم بأجمعهم كانوا أهل كفر وخسار ؛ فلذلك وقع الاستثناء على ما ذكر ؛ إذ استثناء القليل من الكثير هو المستحسن عند أهل اللغة ، وإن كان القسم الثاني في حد الجواز ، والقرآن في أعلى طبقات الكلام في الفصاحة.

ثم قوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ الْإِنْسانَ) اسم جنس ؛ فكأنه أراد : جميع الناس ؛ ألا ترى أنه قال : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) ، ولا تستثنى الجماعة من الفرد ؛ فكأنه يقول ـ على هذا ـ : إن الناس في أحوالهم واختياراتهم في خسر إلا من كانت تجارته في تلك الحالة ما ذكر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) يحتمل أن يكون تأويله : الصالحات التي كانت معروفة في الكفر والإسلام من حسن الأخلاق وغيره ؛ ألا ترى أنه قال : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [آل عمران : ١١٠] ، نقول : المعروف هو المعروف الذي هو معروف في الطبع والعقل ، والمنكر الذي ينكره العقل ، وينفر عنه الطبع.

وإن كان المراد منه : الكفر ، فكأنه قال : إن الكافرين في هلاك وخسار ، إلا من آمن بالله تعالى ورسوله وعمل صالحا.

ثم في هذه السورة ذكر الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وكذلك ذكر الصالحات في سورة «التين» (١) ، وترك ذكر الصالحات في سورة «الكبد» ؛ فكأن (٢) الله ـ تعالى ـ ذكر الصالحات في تلك السورة ؛ لما قد كان ذكرها قبل ذلك ؛ ألا ترى إلى قوله ـ تعالى ـ : (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) [البلد : ١٤] ، وغير ذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) : الحق في الأصل كل ما يحمد عليه فاعله ، والصبر : هو الكف عن كل ما يذم عليه فاعله ؛ فكأن التواصي بالحق تواص بكل ما يحمد عليه ، والتواصي بالصبر تواص عن كل ما يذم عليه.

ثم [في] ظاهر قوله ـ تعالى ـ : (وَالْعَصْرِ. إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ..).

الآية ـ ما يوجب أن من لم يجمع بين هذه الأشياء التي ذكرها (لَفِي خُسْرٍ) ؛ فيكون ظاهره حجة للخوارج والمعتزلة ، إلا أن الانفصال عن هذا ـ والله أعلم ـ : أن الله تعالى وعد الجنة لمن جمع هذه الأشياء التي ذكر في هذه الآية ، وذكر الإيمان مفردا في آية أخرى ، ووعد عليه الجنة ؛ فلا يخلو وعده الجنة عن الإيمان المفرد في تلك الآية من أحد

__________________

(١) في ب : والتين.

(٢) في ب : وكان.

٦١٢

وجهين :

إما أن يكون ذكر الإيمان مفردا ، وأراد به الاكتفاء عن ذكر الجملة ؛ فيكون في ذكر طرف منه ذكر لجملته.

أو يكون في إيجاب الجنة له على مفرد الإيمان ، فالحال فيه موقوفة.

ولأن الله ـ تعالى ـ أوجب الجنة ، ولم ينف إيمانه عمن ينقص عن ذلك ، فالحال فيه موقوفة على كليته (١) ، وإذا كان كذلك لم يقطع القول على إيجاب الجنة لمن أتى بالإيمان مفردا ، أو على إيجاب النار ؛ فيكون السبيل فيه على الرجاء ؛ لأنه لو لم يذكر كان يقع [فيه اليأس](٢) ، وأصل كل عبادة في الدنيا إنما بنيت على الرجاء والخوف ؛ فلذلك كان الأمر على ما وصفنا.

أو نقول بأن الله ـ تعالى ـ أوجب (٣) النار على من أتى بجميع السيئات ، ولم يكن فيه دليل على أن من أتى بالكفر وحده (٤) لا يستوجب به نارا ، فكذلك الله ـ سبحانه وتعالى ـ وإن أوجب الجنة لمن جمع بين هذه الأعمال ؛ فلا يدل على أن من أتى بالإيمان وحده ، لا يستوجب به الجنة.

وعلى أنه يجوز أن يكون استثناء كل من أتى بشيء من هذه الأعمال (٥) بالانفراد ؛ فيكون فيه استثناء كل طائفة من ذلك على حدة ، كأنه (٦) قال : إلا الذين آمنوا وإلا الذين عملوا الصالحات ، وإلا الذين تواصوا بالحق. وإذا كان كذلك لا يكون حجة لهم ، وإذا أريد به الجمع يكون حجة ؛ فجاء التعارض والاحتمال ؛ فوجب التوقف.

ويحتمل أن يراد به الاعتقاد ، أي : إن الإنسان لفي خسر ، إلا من آمن ، واعتقد هذه الأعمال الصالحة ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ..). الآية [التوبة : ٥] ، والله أعلم.

* * *

__________________

(١) في أ : دليله.

(٢) في ب : به الناس.

(٣) زاد في ب : على.

(٤) في ب : ولا يستوجب.

(٥) في ب : الأفعال.

(٦) في ب : كانت.

٦١٣

سورة الهمزة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (١) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (٢) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (٣) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (٤) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (٥) نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ (٦) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (٧) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (٨) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ)(٩)

قوله ـ عزوجل ـ : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) ، اختلفوا في معنى الهمزة واللمزة : فقال بعضهم : معناهما واحد ، وهو الدفع والطعن.

وقال بعضهم : الهمزة : هو الذي يؤذي جليسه بلسانه ، واللمزة : الذي يؤذي بعينيه (١) وغير ذلك.

وقال بعضهم (٢) : الهمزة : الذي يطعنه عند حضرته ، واللمزة : الذي يطعنه عند غيبته ، وهذا إنما يسمى (٣) به من يعتاد ذلك الفعل.

وأهل اللغة وضعوا هذا المثال ، وهو «فعل» لمن يعتاد ذلك الفعل ويحترفه.

قال أهل التأويل : إن الآية في الكفار ؛ لكن بعضهم قالوا (٤) : نزلت في الأخنس بن شريق.

وقيل : نزلت في الوليد بن المغيرة.

ولقائل أن يقول : إن الآية نزلت في الكفار ، وكذلك كثير من الآي من [نحو](٥) قوله ـ تعالى ـ : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) [المطففين : ١] ونحوها ، ومعلوم أنه وجد منهم هذا الفعل أو عدم ، استوجبوا ما ذكر من العقوبات وأشد ، مع أن الذي فيه من الكفر أقبح من هذين الفعلين ، فكيف وقع تعييرهم بذلك؟!.

والجواب عن هذا وأمثاله من نحو قوله ـ تعالى ـ : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) [المطففين : ١] ، وقوله : (لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ. وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ. وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ. وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) [المدثر : ٤٣ ـ ٤٦] ، فهم وإن أقاموا الصلاة ، وأعطوا الزكاة ، لم تزل عنهم عقوبة النار.

والجواب عنه : أن الإيمان لم يحسن لاسمه ، ولا قبح الكفر لنفس اسم الكفر ؛ لأنه ليس أحد (٦) ممن يذهب مذهبا ويدين دينا إلا وهو يكفر بشيء ويؤمن بشيء ؛ لأن المسلم

__________________

(١) في أ : بعينه.

(٢) قاله أبو العالية بنحوه أخرجه ابن جرير (٣٧٩٢٩) ، وعبد بن حميد عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٦٧٠).

(٣) في ب : سمى.

(٤) قاله السدي أخرجه ابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٦٦٩).

(٥) سقط في ب.

(٦) في ب : لأحد.

٦١٤

مؤمن بالله ـ تعالى ـ كافر بالطاغوت ، والكافر يكفر بالرحمن ويؤمن بالطاغوت ويعبده ؛ فثبت أن الإيمان ليس يحسن لنفس اسم الإيمان ، ولا قبح الكفر ؛ لعين اسم الكفر ولكن الإيمان بالله ـ تعالى ـ إنما حسن من حيث أوجبت الحكمة الإيمان به ، وقبح الكفر ؛ لأن الحكمة أوجبت ترك الكفر بالله تعالى ، فالإيمان حسن ؛ لما فيه من المعنى ، والكفر قبح ، لما فيه من معنى الكفر ، وهذان الفعلان قبيحان في أنفسهما ، لا بغيرهما ؛ فكان التعيير الذي يقع بهذين الفعلين أكثر وأبلغ منه في تعييرهم بالكفر ؛ لذلك عيرهم الله ـ تعالى ـ بهذين الفعلين.

ووجه آخر : أن هذا يخرج مخرج الموعظة لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يهمز به ويسخر منه ؛ لما يأمرهم بالمعروف ، ونهيهم عن المنكر ، ولا يحمله (١) ما كانوا يتعاطونه على ترك أمرهم بالمعروف ، ونهيهم (٢) عن المنكر ؛ لئلا يمتنع أحد من أمته عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لما يخشى أن يسخر به أو يستهزأ.

والثالث : أن يكون هذا على وجه المكافأة والانتقام لما كانوا يفعلون [بنبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم](٣) على الزجر والردع عن ذلك ؛ إذ العقلاء يمتنعون عن الأفعال القبيحة ؛ فعلى هذه الوجوه يحتمل معنى تعييرهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ) ، قرئ على التخفيف (جَمَعَ) من الجمع ؛ أي : جمع ماله عنده ولم يفرقه وعدده [وذكره](٤) ـ أي : حفظ عدده ، وذكره على الدوام ـ لئلا ينقصه ، وصفه بالبخل والشح.

ومن قرأه بالتشديد ، فمعناه : أنه جمعه وادخره بممر الزمان ، لم يجمع ذلك في أيام قصيرة.

والأصل (جمعه) بالتخفيف ، لكن شدده لما فيه من زيادة الجمع.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ) يتوجه وجهين :

أحدهما : أن يكون على الحقيقة أنه قدر عند نفسه أنه يبقى لبقاء الأموال له ؛ لما يرى بقاءه من حيث الظاهر بها ؛ فتقرر عنده أن ما آتاه الله ـ تعالى ـ من الأموال هو رزقه ؛ فيعيش إلى أن يستوفي جميع رزقه ؛ فيجمعه ، ويدخره ؛ لكي يزيد في عمره.

والوجه الثاني : أن يكون على الظن والحسبان ، كأنه يقول : جمع مالا وعدده جمع من

__________________

(١) في أ : بجملة.

(٢) في أ : والنهى.

(٣) في ب : بمحمد عليه‌السلام.

(٤) سقط في ب.

٦١٥

يظن أن ماله يزيد في عمره.

فإن كان على التأويل الأول فقوله : (كَلَّا) رد عليه ؛ أي : ليس كما قدره عند نفسه.

وإن كان على التأويل الثاني ، فعلى إيجاب عقوبة مبتدأة.

وقيل : (وَعَدَّدَهُ) أي : أكثر عدده.

وقال الحسن : عدده ، أي : صنفه ؛ فجعل ماله أصنافا ، وأنواعا من الإبل ، والغنم والبقر والدور ، والعقار ، والمنقول ، وغيرها.

وقيل : (وَعَدَّدَهُ) ، أي : استعده ، وأعده ، وهيأه.

وقوله : (لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ) :

قيل : باب من أبواب النار.

وقيل : هي صفة النار.

والحطمة : هو الكسر ؛ فكأنه قال : النار التي يعذب بها الكفرة ، وتكسر عظامهم وتحطمهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ. الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) :

قيل : إن النار تأتي على جلودهم [وعروقهم ولحومهم](١) وعظامهم حتى تأكلها ، وتكسر العظام ، فتطلع على أفئدتهم ؛ فحينئذ يتبدلون جلودا غيرها ؛ ليذوقوا العذاب.

وقيل : إنما تحرق النار منهم كل شيء سوى الفؤاد ؛ لأن الفؤاد إذا احترق ، لم يتألم بعد ذلك ، ولم يشعر بالعذاب ، والمراد من الإحراق (٢) إلحاق الألم والضرر بهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ. فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) ، قرئ : عمد : برفع العين والميم ، وقرئ بالنصب فيهما.

وذكر عن الفراء أنه قال : العمد والعمد : جماعات للعمود ، والعماد.

وقال بعضهم : العمد : جمع العمدة (٣) ؛ نحو : بقرة ، وبقر.

وقال الكلبي : (إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ. فِي عَمَدٍ) ، أي : النار عليهم مطبقة (٤) ؛ يقول : طبقها ممددة في عمد من نار ممددة عليهم من فوقهم ، والعمد كعمد أهل الدنيا ، غير أنها من نار تمد عليهم ، والله أعلم ، [والحمد لله رب العالمين](٥).

__________________

(١) في ب : ولحومهم وعروقهم.

(٢) في ب : الاحتراق.

(٣) في ب : العمد.

(٤) وهو قول ابن عباس ، والضحاك ، وقتادة ، والحسن ، وغيرهم ، انظر : تفسير ابن جرير (١٢ / ٦٨٩).

(٥) سقط في ب.

٦١٦

[سورة الفيل ، وهي مكية](١)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (١) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (٢) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (٣) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (٤) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ)(٥)

قوله ـ عزوجل ـ : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ) ، اختلفوا في السبب الذي به وقع القصد من أصحاب الفيل إلى تهديم البيت وتخريبه :

فمنهم من قال (٢) : إنهم اتخذوا بيتا في بلادهم ، وسموه : كعبة ؛ لكي ينتاب الناس إليه كما ينتابون إلى الكعبة ، فأبى الناس إتيان ذلك البيت ؛ فغاظهم ذلك حتى قصدوا [تهديم البيت](٣).

ومنهم من قال : إن العرب حرقوا بيعة كانت لهم ، وخربوها ؛ فغاظهم ذلك حتى أرادوا تهديم هذا البيت ؛ جزاء بما فعلت العرب بهم.

ومنهم من قال : إنهم كانوا ملوكا وفراعنة ، ومن عادتهم أنهم يعادون من ضادهم في ملكهم وسلطانهم.

وأي ذلك كان ، فلا حاجة إلى معرفته ، وإنما حاجتنا إلى تعريف المعنى الذي به أنزلت السورة وثبتت.

وتأويل ذلك يخرج على أوجه ثلاثة :

أحدها : أن الله ـ تعالى ـ ذكرهم تلك النعمة التي أنعمها عليهم في صرف من أراد إهلاكهم (٤) ؛ فإنهم كانوا قصدوا قتل أهل مكة ، وسبي نسائهم وذراريهم ، وأخذ أموالهم ؛ فذكرهم الله ـ تعالى ـ جميل صنعه بهم ؛ ليشكروا له ، ويعبدوه حق عبادته ، وينزجروا عن عبادة غيره.

والوجه الثاني : أن الله ـ تعالى ـ خوف أهل مكة.

ووجه ذلك : أن الله ـ تعالى ـ لما أهلك أصحاب الفيل بما ضيعوا حرمة بيته ؛ فلا يأمن أهل مكة من إهلاكه إياهم وتعذيبهم بما (٥) ضيعوا حرمة [رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم](٦) مع أن

__________________

(١) في ب : ذكر أن سورة الفيل مكية.

(٢) روي ذلك عن ابن إسحاق أخرجه ابن جرير (٣٧٩٨٩).

(٣) في ب : بهدم هذا البيت.

(٤) في ب : هلاكهم.

(٥) في ب لما.

(٦) في ب : رسوله عليه‌السلام.

٦١٧

حرمة الرسول أعظم من حرمة البيت ، فلما نزل بأولئك ما نزل لما جاء منهم من تضييع حرمة بيته ؛ فلأن تخشى عذابه ونقمته من تضييع حرمة رسوله أولى.

والوجه الثالث : أن الله ـ تعالى ـ أهلك أولئك لما أراهم من آياته فلم ينصرفوا ؛ لأنه ذكر أنهم كانوا إذا وجهوا الفيل نحو البيت امتنع ووقع (١) ، وإذا وجهوه نحو أرضهم هرول وسارع (٢) ، فلما رأوا ذلك ، ولم ينصرفوا أهلكهم الله ـ تعالى ـ فلا يؤمن على أهل مكة ـ أيضا ـ أنهم لما رأوا الآيات المعجزة من الرسول ـ عليه‌السلام ـ فلم يؤمنوا ، أن يهلكهم الله ـ تعالى ـ فينتقم منهم بعقوبته ؛ فعلى ما ذكرنا يخرج معنى نزول السورة.

وقيل : إنه على البشارة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الإشارة أنه لم يكن للبيت ناصر في ذلك الوقت ولا معين ؛ بل كان وحده ، فنصره الله ـ تعالى ـ حتى لم يتمكن أعداؤه من هدمه ؛ فعلى ذلك ينصرك ويعينك ، ويهلك عدوك ، وإن كنت أنت وحدك ؛ إذ كان وقت نزول هذه السورة لم يكن له كثير أعوان ، وقد فعل ذلك يوم بدر.

ثم قوله : (أَلَمْ تَرَ) حرف استعمل في تذاكر أعجوبة قد كانت ، وعرفوها ، ثم غفلوا عنها ، أو فيما لم يكن ؛ فيعجبهم بما فعل بأعدائه ؛ ليحملهم على الزجر والانتهاء عما حرم الله ـ تعالى ـ فكأنه قال : رأيت ربك كيف فعل بأصحاب الفيل؟!.

ويجوز أن يكون الخطاب منه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد غيره.

ويجوز أن يكون هذا خطابا لكل واحد منهم.

ثم تسميتهم : أصحاب الفيل ، ونسبة (٣) الفيل إليهم يحتمل وجهين :

أحدهما : أي : الذي صحبوا الفيل.

والثاني : (بِأَصْحابِ الْفِيلِ) ، أي : أرباب الفيل ؛ كما يقال : رب الدار ، وصاحب الدار.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ) ، أي : أبطل ما قدروه عند أنفسهم من تخريب البيت وتهديمه ؛ فالكيد : ما ذكرنا بدءا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ) : جماعات متفرقة ، جماعة جماعة ، وهكذا السنة في الخروج لمحاربة أعداء الله ـ تعالى ـ أن (٤) يخرجوا جماعة جماعة.

وقيل : هي طير لم ير قبلها ولا بعدها مثلها ، لها رءوس كالسباع.

__________________

(١) في ب : وقف.

(٢) في ب : ويسارع.

(٣) في ب : وتشبيه.

(٤) في ب : إلى أن.

٦١٨

وقيل : شبيهة برجال الهند.

وقوله ـ عزوجل ـ : (تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ) ، اختلفوا في السجيل :

قال بعضهم : هو اسم موضع ، خلقت حجارته ؛ لتعذيب الفراعنة ، وإهلاكهم.

وقال بعضهم (١) : فارسية معربة ، وهي «سنك وكل» ، وهو الآجر في التقدير.

وقال بعضهم : هذه عبارة عن شدة الحجارة وقوتها.

وقوله : (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) ، قالوا (٢) : العصف : هو ورق الزرع ، أو ورق كل نابت.

وقوله : (مَأْكُولٍ) ينحو نحوين (٣) ، ويتوجه وجهين : إلى ما قد أكل وإلى ما لم يؤكل ؛ إذ ما يؤكل إذا ما كان معدا للأكل ، سمي : مأكولا ، فإن كان غير المأكول ، فكأنه قال : جعلهم في الضعف والرخاوة ـ مع قوتهم وسلطانهم ـ كعلف الدواب ؛ حتى لا يخاف منهم بعد ذلك أبدا.

وإن كان على المأكول فهو [أنه تعالى](٤) جعلهم كالمأكول التي أكلتها الدواب (٥) ؛ فيكون فيها ثقب ، والله أعلم [بالصواب](٦).

* * *

__________________

(١) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير عنه (٣٧٩٧٤ ، ٣٧٩٨١).

(٢) قاله ابن زيد أخرجه ابن جرير عنه (٣٧٩٩٦).

(٣) في ب : النحويين.

(٤) في ب : أنهم.

(٥) في ب : الدود.

(٦) سقط في ب.

٦١٩

سورة لإيلاف [قريش](١)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (١) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (٢) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (٣) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)(٤)

قوله ـ عزوجل ـ : (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ. إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ) ، هذا يخرج على وجوه :

أحدها : ما قال الفراء : إن اللام لام الاعتدال ؛ لأن السورة صلة لسورة (أَلَمْ تَرَ) ، قال : (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) [الفيل : ٥] ، (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) ؛ كأنه يقول : أهلكت أصحاب الفيل ، وفعلت بهم ما فعلت لتألف قريش بذلك المكان كما ألفوا به الرحلتين اللتين جعلتا لهم في الشتاء والصيف.

والثاني : يحتمل أن يقول : ألزمت الخلق عبادة رب هذا (٢) البيت حتى ألفوا ذلك البيت ، وحملوا ما تحتاج إليه قريش ، وأهل ذلك المكان من الطعام ، وما يتعيشون به ؛ لتألف (٣) قريش بعبادة رب ذلك البيت ما لو لا ذلك لم يتهيأ لهم المقام بذلك المكان ؛ لأنه لا زرع فيه ، ولا نبات ، ولا ما يتعيش به ، وهو كما قال إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ : (بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) [إبراهيم : ٣٧] ، وإنما تعيشهم في ذلك المكان بما (٤) يحمل إليهم من الآفاق والأمكنة النائية ؛ كقوله : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا ...) الآية [القصص : ٥٧].

وقال بعضهم : أمرت (٥) قريش بأن يألفوا عبادة رب هذا البيت كإيلافهم رحلة الشتاء والصيف ؛ يقول : كما ألفتم هاتين الرحلتين ، فألفوا عبادة رب هذا البيت.

وقال بعضهم : إن أهل مكة كانوا يرتحلون تجارا آمنين في البلدان ، لا يخافون شيئا ؛ لحرمتهم ؛ لأن الناس يحترمونهم لمكان الحرم ، حتى لا يتعرض لهم بشيء ، ولا يؤذيهم أحد حتى إن كان الرجل منهم ليصاب في حيّ من الأحياء ؛ يقال : هذا حرمي ؛ فيخلى عنه ، وعن ماله ؛ تعظيما لذلك المكان ، وهو ما قال : (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ).

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : هذه.

(٣) في ب : لتأليف.

(٤) في ب : لما.

(٥) في ب : أقرت.

٦٢٠