تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٣٨

١
٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله الذى أنزل القرآن على عبده ليكون للعالمين نذيرا ، وجعله قيما لا عوج فيه مستقيما ، ودعا إلى اتباعه ، والسير على منهاجه.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، القائل : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الإسراء : ٨٢].

وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله ، وصفيه من خلقه وحبيبه ، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ، وعلم الأمة القرآن ، وقال : «خيركم من تعلم القرآن وعلمه» (١) ، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين ، وبعد :

فالتفسير من أجل العلوم قدرا ، وأعلاها شرفا وذكرا ، وأعظمها أجرا ، وأسناها منقبة ، يملأ العيون نورا ، والقلوب سرورا ، والصدور انشراحا ، ويفيد الأمور اتساعا وانفتاحا ، لا يفنى بكثرة الإنفاق كنزه ، ولا يبلى على طول الزمان عزه ، به تتعلق مصالح العباد فى معاشهم ومعادهم ؛ لذا كان أولى بالالتفات إليه ، وأجدر بالاعتماد عليه ؛ وكيف لا؟ وهو يتعلق بتفسير أعظم كتاب ، وأضبط كتاب ، وأهدى كتاب ؛ القرآن الكريم الذى (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت : ٤٢].

ولقد قام سلفنا الصالح من كبار العلماء العاملين بجهود عظيمة فى مجال تفسير القرآن الكريم ، فعبدوا طرقه ، ويسروا صعبه ، وبينوا مسائله ، راجين مرضاة الله ، طالبين رضاه ، ملتمسين عفوه ومغفرته.

ومما لا شك فيه أن دراسة التراث التفسيرى متمثلا فى تحقيق أمهات كتب التفسير ، والعناية بها ، والاطلاع عليها ـ يسهم كل ذلك بحظ وافر فى التعرف على كتاب الله العظيم ، وتفهم آياته ، ومعرفة تعاليمه ؛ مما ييسر العمل به. أضف إلى ذلك : التعرف على هذا التراث الضخم ، والثروة التفسيرية الهائلة الكاشفة عن جهود علمائنا الأجلاء فى خدمة القرآن الكريم.

لكل هذا آثرنا تحقيق كتاب «تأويلات أهل السنة» لأبى منصور الماتريدى ؛ وذلك لأهمية هذا الكتاب فى استخلاص مسائل العقيدة من آى الذكر الحكيم ، وأيضا لأن هذا

__________________

(١) أخرجه البخارى (٨ / ٦٩٢) فى كتاب فضائل القرآن باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه (٥٠٢٧) (٥٠٢٨) ، وأخرجه أبو داود برقم (١٤٥٢) ، والترمذى برقم (٩٠٧ ، ٩٠٨ ، ٩٠٩) ، وابن ماجه برقم (٢١١) ، والدارمى (٢ / ٤٣٧) ، وأحمد فى المسند (١ / ٥٨ ، ٦٩).

٣

الكتاب غير معروف عند كثير من الناس رغم أهميته ، ومؤلفه أيضا عالم فذ يحتاج من المحققين والدارسين الالتفات إليه ، ومن ثمّ حاولنا أن نسهم بجهد متواضع بتحقيق هذا الكتاب ؛ للوصول إلى هدفنا المنشود

ويشتمل تحقيق الكتاب على : مقدمة وتمهيد ، وبابين ، وخاتمة ، وفهارس مفصلة.

فأما المقدمة فتشتمل على : المنهج المتبع فى تحقيق الكتاب.

وأما التمهيد فيشتمل على :

أولا : التعريف بعصر الماتريدى من الناحية : السياسية ، والاجتماعية ، والاقتصادية ، والفكرية ، والعلمية ، والثقافية.

ثانيا : التعريف بالماتريدى : مولده ونشأته ، ونسبه ، ووفاته.

ثالثا : التعريف بشيوخ الماتريدى وتلاميذه.

رابعا : قيمة الماتريدى العلمية من خلال بيان أبرز مصنفاته.

خامسا : منزلة تفسير «تأويلات أهل السنة» بين مصنفات الماتريدى.

الباب الأول : القسم الدراسى ، ويشتمل على عدة فصول :

الفصل الأول : نشأة التفسير وتطوره.

الفصل الثانى : المدارس التفسيرية.

الفصل الثالث : المناهج التفسيرية القديمة والحديثة.

الفصل الرابع : انتماء الماتريدى التفسيرى.

الفصل الخامس : بذور التجديد فى تفسير الماتريدى.

الفصل السادس : منهج الماتريدى فى التفسير.

الفصل السابع : تأثر الماتريدي بمن سبقوه من خلال تفسيره :

ـ في التفسير.

ـ في العقيدة.

ـ في الفقه.

ـ في علوم اللغة.

الفصل الثامن : تأثير الماتريدي فيمن جاءوا بعده إلى العصر الحاضر من خلال تفسيره.

٤

ـ في التفسير.

ـ في العقيدة.

ـ في الفقه.

ـ في علوم اللغة.

الفصل التاسع : القضايا العلمية التى تناولها الماتريدى فى تفسيره.

ـ القضايا العقدية والكلامية.

ـ القضايا الفقهية.

ـ القضايا اللغوية والبلاغية.

الباب الثانى : القسم التحقيقى.

وعملي فيه على النحو التالي :

١ ـ نسخ المخطوط مع الالتزام بالإملاء والترقيم الحديث.

٢ ـ مقابلة النسخة التي ستكون أصلا بالنسخ الخطية الأخرى للكتاب مع إثبات الفروق في هامش الكتاب.

٣ ـ ضبط النص وسد ما فيه من خلل.

٤ ـ تشكيل الأحاديث النبوية تشكيلا حرفيا.

٥ ـ تشكيل الكلمات الغريبة في النص.

٦ ـ وضع الآيات التي يفسرها المؤلف وضعا إجماليا في بداية التفسير مع ترقيمها هكذا : قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢) وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) (٣) [الأنعام].

٧ ـ ترقيم الآيات القرآنية المستشهد بها في تفسير الآية مع تخريجها.

٨ ـ تخريج الأحاديث النبوية واتبعنا فيها المنهج التالي :

أولا : إذا كان الحديث في الكتب التسعة قمت بتخريجه منها ، مع بيان الحكم على الحديث.

٥

ثانيا : إذا لم يكن الحديث في البخاري ومسلم أشرت إلى الحديث من حيث الصحة والضعف نقلا عن أئمة هذا الفن.

ثالثا : إذا لم يكن الحديث في الكتب التسعة خرجته من باقي كتب السنة مع بيان الصحة والضعف.

٩ ـ تخريج الآثار وعزوها إلى مظانها مع بيان الراجح منها.

١٠ ـ توثيق الأقوال والنقول الواردة في الكتاب.

١١ ـ توضيح الغريب بالرجوع إلى كتب اللغة وغريب الحديث وغريب القرآن.

١٢ ـ تراجم الأعلام الواردة في الكتاب مع توثيق الترجمة بمصدرين أو أكثر.

١٣ ـ التعريف بالأماكن والقبائل والبلدان.

١٤ ـ شرح المصطلحات الفقهية والأصولية الواردة في الكتاب ، مع بيان الاصطلاحات المشهورة فى كل فن.

١٥ ـ الرجوع إلى كتب الناسخ والمنسوخ وتوثيق ما يحتاج إلى توثيق.

١٦ ـ الرجوع إلى كتب معاني القرآن.

١٧ ـ الرجوع إلى كتب البلاغة.

١٨ ـ الرجوع إلى كتب القراءات المتواترة والشاذة وتوثيق القراءات الواردة في النص مع ضبطها.

١٩ ـ التعليق على بعض المسائل الفقهية ، مع بيان الراجح من المرجوح ، وأدلة كل فريق مع الترجيح.

٢٠ ـ التعليق على بعض المسائل الأصولية ، وبيان أدلة كل فريق ، مع التوثيق.

٢١ ـ التعليق على بعض المسائل العقائدية وبيان مذهب السلف الصالح.

٢٢ ـ تتبع الدخيل الموج ود في تفسير المؤلف ، مع بيان وجه ضعفه.

وبهذا نكون قد وضعنا القارئ على بينة من المنهج المتبع فى تحقيق الكتاب.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

* * *

٦

الباب الأول

عصر الماتريدي

ويشتمل على الفصول الآتية :

الفصل الأول : قيام الدولة العباسية.

الفصل الثاني : أبرز الأحداث السياسية في الدولة العباسية.

الفصل الثالث : ظاهرة الدولة المستقلة في الشرق الإسلامي.

الفصل الرابع : نظام الحكم في الدولة العباسية.

الفصل الخامس : الحالة الاجتماعية في عصر الماتريدي.

الفصل السادس : الحياة الفكرية والعلمية في عصر الماتريدي.

٧
٨

الفصل الأول

قيام الدولة العباسية

تمخضت الأحداث المتلاحقة التي اعتورت المسلمين منذ عهد الشهيد عثمان ـ رضى الله عنه ـ عن مذاهب سياسية عدة ، كان أعظمها خطرا في التاريخ السياسي للدولتين الأموية والعباسية الحزب الشيعي ، فهو أقدم الأحزاب الإسلامية على الإطلاق ، حيث ظهر في آخر عصر عثمان ، ونما واشتد عوده منذ عهد علي بن أبي طالب ، وغدا ذا أثر كبير في توجيه مسار الحياة السياسية في الدولة الإسلامية.

وقد أجمع الشيعة على أن علي بن أبي طالب هو الخليفة المختار من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنه أفضل الصحابة ، رضي الله عنهم أجمعين (١).

كما رأى الشيعة في مبايعة أبي بكر وعمر وعثمان بالخلافة افتئاتا على حق علي في الخلافة ، كما ساءهم جدّا أن يستوي معاوية على كرسيها ، وعدّوا ذلك جورا وظلما حاق بعلي وآله ولا بد من رفعه.

وتباينت مواقف الشيعة من علي ، واختلفت آراؤهم فيه ، فالمقتصدون منهم قدّموه على جميع الصحابة دون تكفير أحد منهم ، ودون السمو به إلى مرتبة النبوة ، أما المغالون فرفعوه إلى درجة النبوة والتقديس.

على أن المغالين والمقتصدين جمع بينهم الإيمان بحق علي وبنيه في الخلافة ، وعملوا منذ بداية العصر الأموي على تحويل الخلافة إلى البيت العلوي.

وبعد أن استشهد الحسين في كربلاء (٢) ، انتشر التشيع في أنحاء الدولة الإسلامية ونادى فريق الشيعة بعلي زين العابدين بن الحسين بن علي إماما ، وعرف هؤلاء بالشيعة الإمامية ، بينما قام فريق آخر يتزعمه المختار بن عبيد الثقفي ، وقائد حرسه أبو عمرو بن كيسان ـ وكان من موالي الفرس ـ بالدعوة لمحمد بن أبي طالب المعروف بابن الحنفية ـ نسبة إلى أمه خولة بنت قيس بن جعفر الحنفي ـ مؤلفا فرقة من غلاة الشيعة نسبت إلى المختار بن عبيد الثقفي مرة وعرفت بالمختارية ، وإلى صاحب شرطته وحرسه مرة ثانية

__________________

(١) ينظر : الفرق بين الفرق ص (٤٣) أصول الدين للبزدوي (٢٤٧) الفصل في الملل والنحل (٤ / ١٣٧) ، الملل والنحل (١ / ١٩٠) المواقف للإيجي (٣ / ٦٧١) أصل الشيعة ص (٢٤٦).

(٢) ينظر : تاريخ الطبري (٥ / ٤٠٠ ـ ٤٧٠) الطبقات الكبرى (٥ / ١٤٥) الكامل في التاريخ (٤ / ٥٠) تاريخ الإسلام حوادث سنة إحدى وستين ، البداية والنهاية (٨ / ١٨٦ ، ١٨٧) ومروج الذهب (٣ / ٦٤ ـ ٧٢) أنساب الأشراف (٣ / ٣٧٣ ـ ٤٢٦).

٩

وعرفت بالكيسانية ، وإلى أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية مرة ثالثة ، وعرفت بالهاشمية (١).

وإذا كان محمد بن الحنفية زاهدا في الخلافة معرضا عنها ، بدليل أنه بايع عبد الملك ابن مروان راضيا ، فإن ولده أبا هاشم عبد الله رأى أن لآل علي حقّا فيها ؛ فجعل يسعى للدعوة سرّا إلى الخلافة.

وأحس سليمان بن عبد الملك بما يدبره أبو هاشم ، وبتطلعه إلى الخلافة لا سيما بعد أن آنس منه علما واسعا وذكاء متقدا ، فأرسل من دس له السم عند عودته من الشام (٢) ، فلما أحس أبو هاشم بدنو أجله آثر أن يتوجه إلى الحميمة (٣) للإقامة لدى علي بن عبد الله ابن عباس ، فعرفه حاله وأعلمه أن الخلافة صائرة إلى ولده ، وأعلمه كيف يصنع ثم مات عنده (٤).

ولا ريب أن أبا هاشم قد أبلغ شيعته ودعاته قبل وفاته أن أمر الخلافة مصروف إلى محمد بن علي العباسي ، وأمرهم بطاعته والإذعان له.

وكذلك فإن أبا هاشم قد أمد محمد بن علي بأسماء الدعاة للشيعة في الكوفة وخراسان وسلمه كتبا إليهم حتى يطمئنوا له.

«وعلى أساس هذه الوصية ورث محمد بن علي العباسي حق الكيسانية في الإمامة ، فما كاد أبو هاشم يموت حتى قصده الشيعة وبايعوه ثم عادوا إلى مراكزهم ، وبدءوا في نشر الدعوة لمحمد بن علي العباسي عن طريق الدعاة» (٥).

وخليق بنا أن نتساءل : لما ذا عدل أبو هاشم عن أهل بيته من العلويين ، وحوّل حقهم في الخلافة إلى بني عمه من العباسيين؟

يقول د / حسن إبراهيم حسن : «لكي نجيب على هذا السؤال نرجع إلى الوراء قليلا فنقول : إنه منذ وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لم يرشح المسلمون للخلافة أحدا من بني هاشم إلا علي بن أبي طالب وأولاده ، ولم تتجه الأنظار إلى العباس عم النبي بعد وفاته ؛ لأنه لم يكن من السابقين إلى الإسلام ؛ ومن ثم لم يرشّح للخلافة هو ولا أولاده من بعده ، وقد

__________________

(١) د / السيد عبد العزيز سالم ، العصر العباسي الأول ، الإسكندرية مطبعة شباب الجامعة ص ١٨ ، ١٩.

(٢) مقاتل الطالبين ٩١ ، شذرات الذهب (١ / ١١٣) ، الكامل لابن الأثير (٥ / ٥٣ ، ٥٤).

(٣) ينظر : مراصد الاطلاع (١ / ٤٢٨).

(٤) انظر : ابن الأثير ، الكامل في التاريخ (٥ / ٥٣ ، ٥٤).

(٥) د / السيد عبد العزيز سالم ، العصر العباسي الأول ص ٢٠.

١٠

قيل : إن أبا سفيان جاء العباس بعد بيعة أبي بكر فقال له : ابسط يدك أبايعك ، فأبى العباس. وكانت العلاقة بين بني ـ هاشم علويين وعباسيين ـ تقوم على الود والصفاء ، وكان البيتان متحدين على العدو المشترك من بني أمية ، إلى أن انتقل حق الإمامة من العلويين إلى العباسيين بنزول أبي هاشم بن محمد ابن الحنفية.

ويظهر أن العباسيين كانوا في أواخر القرن الأول الهجري أكثر كفاية ونشاطا في الناحية السياسية من العلويين ، وأكثر تطلعا منهم إلى النفوذ والسلطان.

وقد قيل : إن أبا هاشم إنما فعل ذلك ؛ لأنه لم يجد بين أفراد البيت العلوي من يستطيع النهوض بأعباء إمامة المسلمين ، أضف إلى ذلك اختلاف اعتقاد الشيعة الكيسانية (أنصار أبي هاشم) عن اعتقاد الشيعة الإمامية (أنصار أولاد فاطمة).

على أن هناك مسألة جديرة بالملاحظة ، وهي أن نزول أبي هاشم بن محمد ابن الحنفية عن حقه في الخلافة لا يمكن أن يعتبر نزولا من العلويين جميعا ؛ لأن فريقا كبيرا منهم ظل متمسكا بعقائد الشيعة الإمامية بدليل قيامهم في وجه العباسيين بعد قيام دولتهم» (١).

تنظيم الدعوة العباسية :

أدرك محمد بن علي بن عبد الله العباسي أن تحويل الدعوة إلى الخلافة من البيت العلوي إلى البيت العباسي على هذا النحو المفاجئ قد يقضي على الدعوة قضاء لا قيام لها بعده ، فآثر أن يمهد لذلك بتهيئة النفوس والعقول ، بأن اختار لدعوته شعارا تتستر وراءه ، ويضمن انضمام العباسيين والعلويين جميعا إليه ، وهو «الرضا من آل محمد» ، ويقصد به أي شخص من آل البيت النبوي يتفق عليه في الوقت المناسب ؛ درءا وتقية لما قد يصيب الدعوة من أخطار إذا ما اكتشفت السلطات الأموية سرها ، وفي الوقت نفسه كسبا لأنصار جدد من شيعة فارس الذين كانوا يميلون ـ سواء عن إيمان عقائدي راسخ أو بدافع من الشعور القومي ـ للعلويين ، وزيادة في تعمية الأمر على الأمويين والعلويين وتجنبا لإثارة الشبهات في نواياه الحقيقية (٢).

مراكز الدعوة العباسية :

اتخذ محمد بن علي العباسي الكوفة وخراسان مركزين لنشر الدعوة العباسية وبث مبادئها وأهدافها ، أما الكوفة فلأنها مهد التشيع ومستقر أنصار آل البيت ، وأما خراسان

__________________

(١) د / حسن إبراهيم حسن ، تاريخ الإسلام (٢ / ١٠ ، ١١).

(٢) د / السيد عبد العزيز سالم ، العصر العباسي الأول ، ص ٢٢.

١١

فلما كان يعانيه الموالي الفرس من عسف الأمويين وجورهم ، بالإضافة إلى اعتقادهم في نظرية الحق الملكي المقدس التي سادت الفكر الفارسي منذ أمد بعيد.

يقول الإمام محمد بن علي العباسي مصورا طبيعة الأمصار الإسلامية ونوع الأهواء والأفكار السائدة بها آنذاك : «أما الكوفة فشيعة علي ، وأما البصرة فعثمانية تدين بالكف ، وأما الجزيرة فحرورية ، وأعراب لأعلاج ، ومسلمون في أخلاق النصارى ، وأما أهل الشام فلا يعرفون غير معاوية وطاعة بني أمية ، وأما مكة والمدينة فقد غلب عليهم أبو بكر وعمر ، ولكن عليكم بخراسان فإن هناك العدد الكثير والجلد الظاهر ، وهناك صدور سليمة وقلوب فارغة لم تتقسمها الأهواء ، ولم تتوزعها النحل ، ولم يقدح فيها فساد ، وهم جند لهم أبدان وأجسام ومناكب وكواهل وهامات ولحى وشوارب وأصوات هائلة ولغات فخمة تخرج من أجسام منكرة ، وبعد فإني أتفاءل إلى المشرق وإلى مطلع سراج الدنيا ومصباح الخلق (١).

ولم يكد القرن الهجري الأول ينتهي حتى انطلقت الدعوة السرية للبيت العباسي من الحميمة وأخذ محمد بن علي العباسي يوجه الدعاة في الآفاق فكان للعراق دعاة على التوالي هم : ميسرة العبدي (١٠٢ ـ ١٠٥ ه‍) ، وبكير بن ماهان (١٠٥ ـ ١٢٧ ه‍) ثم أبو سلمة الخلال (١٢٧ ـ ١٣٢ ه‍). كما وجه الدعاة إلى خراسان وكان أولهم أبو عكرمة السراج.

«ويلي طبقة الدعاة في المرتبة طائفة النقباء الذين يأتمرون بأمرهم ، ويجهلون إمام الوقت ، وكان لكل داعية اثنا عشر نقيبا ، ولكل نقيب سبعون عاملا يديرون الوحدات المتفرعة ، ويشرفون على الخلايا السرية المنبثة في مختلف الأقاليم ، وكان الدعاة والنقباء يتميزون بإخلاصهم الشديد للدعوة وتفانيهم في خدمتها ، كما كانوا يتصفون ببعد النظر والقدرة على فهم تقسيمات الناس ، وتمييز عناصرهم ؛ تمهيدا لاجتذابهم إلى دعوتهم ، وبالبراعة في التخفي والتنكر ، مع حظ كبير من الثقافة والعلوم الدينية واللغوية» (٢).

نجاح الدعوة في العراق :

لعب بكير بن ماهان الذي ولي أمر الدعوة العباسية في العراق دورا كبيرا في تاريخ الدعوة العباسية على مدار اثنين وعشرين عاما ، وإليه يرجع الفضل في تنظيم الدعوة في

__________________

(١) د / حسن إبراهيم تاريخ الإسلام (٢ / ١٢ ، ١٣).

(٢) د / السيد عبد العزيز سالم ، العصر العباسي الأول ص ٢٥.

١٢

إطار من السرية الشديدة والحيطة الحذرة (١).

ثم خلفه أبو سلمة الخلال وكان سمحا كريما فصيحا عالما بالأخبار والأشعار والسير والجدل والتفسير ، وقد نهض بأمر الدعوة في طورها العسكري العنيف (٢).

ودرج المؤرخون على تقسيم الدعوة العباسية إلى طورين متعاقبين مرت بهما (٣).

أما الأولى : فتبدأ مع مطلع القرن الثاني الهجري وتنتهي بانضمام أبي مسلم الخراساني إليها ، ولم تصطنع الدعوة العباسية في هذا الطور أسلوب العنف والشدة ، وإنما جنحت إلى الدعوة السلمية التي امتازت بشيء غير قليل من السرية والكتمان ؛ إذ كان الدعاة يجوبون البلاد الإسلامية متظاهرين بالتجارة أو أداء فريضة الحج.

أما الطور الثاني : فيبدأ بانضمام أبي مسلم الخراساني إلى الدعوة العباسية (٤) ، وهو الطور الذي نشبت فيه الحروب بين بني أمية وبني عباس ، والتي أفضت إلى زوال السيادة الأموية وقيام الدولة العباسية.

الدعوة في خراسان :

لقيت الدعوة العباسية في خراسان شيئا غير قليل من العنت والمحن إبان ولاية أسد بن عبد الله القسري ، على الرغم مما حرص عليه الدعاة من إضفاء السرية عليها.

ولم يكتب للدعوة في خراسان الذيوع والانتشار إلا بعد وفاة أسد بن عبد الله سنة ١٢٠ ه‍ ، وعمد الدعاة في خراسان إلى جملة مبادئ وشعارات ، وجدوا أن إذاعتها وترديدها جدير بأن يجذب العرب والموالي الفرس جميعا إلى الدعوة العباسية كتحقيق مبدأ المساواة الذي كانت تتستر وراءه نزعات متباينة ، والذي أيده جماعات كبيرة من الشعوبيين العجم ؛ لأنه يحقق لهم مكاسب تهدف إلى إحياء المجد الفارسي القديم ، كما أيده آخرون من العرب على أساس تسوية الموالي بالعرب ؛ استنادا إلى مبدأ الفقهاء في

__________________

(١) ينظر : ابن الأثير الكامل في التاريخ (٥ / ٢٥ ، ١٣٦) ، (١٤٠ ، ١٩٦ ، ٢١٨) ، المنتظم في تاريخ الأمم والملوك (٧ / ١١٧ ، ١٨٦ ، ٢٢٩ ، ٢٥٢) البداية والنهاية (١٠ / ١٨).

(٢) ينظر : تاريخ الطبري حوادث سنة (١٣٢) ه وفيات الأعيان (٢ / ١٩٥ ـ ١٩٧) سير أعلام النبلاء (٦ / ٧١) ، البداية والنهاية (١٠ / ٥٥) شذرات الذهب لابن العماد (١ / ١٩١).

(٣) د / حسن إبراهيم حسن ، تاريخ الإسلام (٢ / ١٣).

(٤) ينظر : ترجمته في : شذرات الذهب (١ / ١٧٩) ، تاريخ بغداد (١٠ / ٢٠٧) ، العبر (١ / ٣٨٦) ، ميزان الاعتدال (٢ / ٥٨٩) ، لسان الميزان (٣ / ٤٣٦) ، سير أعلام النبلاء (٦ / ٤٨) ، تاريخ الطبري (٧ / ٤٧٩) ، المعارف (٣٧٠) ، البدء والتاريخ (٦ / ٧٨) ، تاريخ الإسلام للذهبي الطبقة الرابعة عشرة ص ٥٨١ ، وفيات الأعيان (٣ / ١٤٥) ، الكامل لابن الأثير (٥ / ٣٦٦).

١٣

الإصلاح ومحاربة الظلم والتعسف ، كذلك طالب الدعاة بالدعوة إلى الإصلاح ، ويقصد به الدعوة إلى الكتاب والسنة. وقد أدت هذه الشعارات إلى ازدياد عدد المؤيدين للدعوة في خراسان للرضا من آل محمد ، وانتشارها في بلاد فارس وخراسان وخوارزم وبلاد ما وراء النهر» (١).

سقوط الدولة الأموية :

توفي الإمام محمد بن علي بن عبد الله حامل لواء الدعوة العباسية سنة ١٢٥ ه‍ بعد أن أوصى بالأمر من بعده لابنه إبراهيم.

وفي عهد إبراهيم دخلت الدعوة العباسية طور الصدام الحربي مع الأمويين ، وقيض لها شخصيتان بارزتان يرجع إليهما الفضل الأكبر في نجاح الدعوة العباسية ، هما : أبو سلمة الخلال الذي تولى رئاسة الدعوة خلفا لبكير بن ماهان ، وأبو مسلم الخراساني الذي قاد الجيوش العباسية إلى النصر والقضاء على الدولة الأموية.

إذ لم تدم السرية التي أسبغها العباسيون على دعوتهم ، بل أميط عنها اللثام في عهد مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية (١٢٧ ـ ١٣٢ ه‍) حيث وقع على رسالة لإبراهيم الإمام إلى أبي مسلم الخراساني ، فقبض مروان على إبراهيم وسجنه ثم قتله.

وكان إبراهيم قد عهد إلى أخيه أبي العباس السفاح (٢) وأوصاه بمواصلة الدعوة والمسير إلى الكوفة ، فلما قتل إبراهيم الإمام سار رسوله إلى الحميمة وسلم وصيته إلى أبي العباس الذي توجه إلى الكوفة ومعه كبار بني هاشم من ولد العباس ، وفيهم أخوه أبو جعفر المنصور حيث أنزلهم أبو سلمة الخلال داعي الدعاة في دار لأحد أتباعه وكتم أمرهم نحوا من أربعين ليلة ، وحاول أن يصرف الأمر إلى آل علي بن أبي طالب عند ما بلغه نبأ وفاة إبراهيم الإمام ولكنه أخفق في هذه المحاولة ، واضطر إلى مبايعة أبي العباس السفاح بالخلافة (٣).

ولم يستطع والي الكوفة آنذاك محمد بن خالد بن عبد الله القسري مواجهة العباسيين

__________________

(١) د / السيد عبد العزيز سالم ، العصر العباسي الأول ص ٢٨.

(٢) انظر : الكامل لابن الأثير (٥ / ٤٠٨ ـ ٤١٧) ، (٥ / ٤٢٢ ، ٤٢٣).

(٣) ينظر : ترجمته في : شذرات الذهب (١ / ١٨٣ ، ١٩٥) فوات الوفيات (٢ / ٢١٥ ـ ٢١٦) ، البداية والنهاية (١٠ / ٥٢ ، ٥٨) ، تاريخ الطبري (٧ / ٤٢١) ، تاريخ خليفة (٤٠٩) ، تاريخ بغداد (١٠ / ٥٣) ، تاريخ الكامل لابن الأثير (٥ / ٤٠٨) ، سير أعلام النبلاء (٦ / ٧٧) ، مروج الذهب (٣ / ٢٦٦) ، المعارف (٣٧٧) ، أنساب الأشراف (٣ / ١٨٣) ، تاريخ الموصل (١٦١) ، تاريخ بغداد (١٠ / ٥٣) ، الوافي بالوفيات (١٧ / ٤٣٣) ، تاريخ الخلفاء (٢٠٦) ، الذهب المسبوك للمقريزي (٣٦).

١٤

والقضاء على دعوتهم في الكوفة ؛ فاضطر إلى تسليمها والإذعان لأصحاب الدولة الجديدة.

وفي الجامع الأموي بويع لأبي العباس بالخلافة في الثاني عشر من شهر ربيع الأول سنة ١٣٢ ه‍ (١).

ثم خطب خطبة مدح فيها آل البيت وقرر حق العباسيين في الخلافة ، ثم سب الأمويين الذين استأثروا بالأمر دون أهله وذويه ، ثم أثنى على أهل الكوفة قائلا : «يا أهل الكوفة ، أنتم محل محبتنا ومنزل مودتنا ، أنتم الذين لم تتغيروا عن ذلك ، ولم يثنكم عنه تحامل أهل الجور عليكم ، حتى أدركتم زماننا ، وأتاكم الله بدولتنا ، فأنتم أسعد الناس بنا ، وأكرمهم علينا ، وقد زدتكم في أعطياتكم مائة درهم ، فاستعدوا فأنا السفاح المبيح والثائر المبير» (٢).

ثم خرج العباس بعد الخطبة إلى معسكر أبي سلمة حيث أقام شهرا ، ثم ارتحل من هناك ، فنزل المدينة الهاشمية بقصر الإمارة (٣).

وعلى هذا النحو خرجت الدولة العباسية إلى الوجود السياسي الإسلامي ، وقضي على الأمويين قضاء سوف نعرف طرفا منه في الفصل القادم.

* * *

__________________

(١) ينظر المراجع السابقة.

(٢) انظر : الكامل لابن الأثير (٥ / ٤١١) ، سير أعلام النبلاء (٦ / ٧٨) ، تاريخ الطبري (٧ / ٤٢١) ، سمط النجوم العوالي (٣ / ٣٦٥).

(٣) السيد عبد العزيز سالم ، العصر العباسي الأول ص. ٤٧

١٥

الفصل الثاني

أبرز الأحداث السياسية في الدولة العباسية

حتى دخول البويهيين بغداد

إن الناظر في تاريخ الدولة العباسية منذ قيامها وحتى سقوطها يجده مشحونا بأحداث جسام يحتاج درسها واستيعابها مجلدات تند عن الحصر.

لذلك آثرنا أن نجتزئ في هذا الفصل ببعض هذه الأحداث التي نرى أنها تهب القارئ الكريم تصورا عامّا عن الدولة العباسية من الناحية السياسية.

القضاء على الأمويين واستئصال شأفتهم :

لم يكد لواء الخلافة يتحول إلى أبي العباس السفاح حتى عمد إلى الانتقام من بني أمية جزاء ابتزازهم الخلافة ، واستئثارهم بها دون أهلها من آل البيت ، وعقابا لهم على إيذاء العلويين والعباسيين جميعا.

وذهب نفر من المؤرخين إلى أن سياسة العباسيين تلك إن هي إلا امتداد للعداء المستحكمة حلقاته بين بني أمية وبني هاشم منذ الجاهلية ، وهو عداء لم تنجح مبادئ الإسلام في العدل والإخاء والمساواة في استئصال جذوره من النفوس والضمائر ، بل لعل الإسلام زاده شدة وضراوة ؛ نظرا لما كان بينهما من منافسة قوية على الظفر بمنصب الخلافة (١).

ومهما يكن من أمر فقد بالغ أبو العباس السفاح في التنكيل ببني أمية وافتن في إنزال ألوان الأذى وضروب القتل بهم ، فقتل عبد الله بن علي عم السفاح ثلاثمائة من بني أمية منهم : إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك ، ويزيد بن عبد الملك ، وعبد الجبار بن يزيد ابن عبد الملك ، ومروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية.

وروي عن أبي العباس السفاح أنه لما أتي برأس مروان بن محمد ووضع بين يديه ، سجد فأطال السجود ، ثم رفع رأسه فقال : الحمد لله الذي لم يبق ثأري قبلك وقبل رهطك ، الحمد لله الذي أظفرني بك وأظهرني عليك ، ثم قال : ما أبالي متى طرقني الموت ؛ فقد قتلت بالحسين وبني أبيه من بني أمية مائتين ، وأحرقت شلو هشام بابن عمي زيد بن علي ، وقتلت مروان بأخي إبراهيم ، وتمثل بقول الشاعر :

__________________

(١) حسن إبراهيم حسن ، تاريخ الإسلام (٢ / ٨٤).

١٦

لو يشربون دمي لم يرو شاربهم

ولا دماؤهم للغيظ ترويني

ثم حول وجهه إلى القبلة فأطال السجود ، ثم جلس وقد أسفر وجهه ، وتمثل بقول العباس بن عبد المطلب من أبيات له :

أبى قومنا أن ينصفونا فأنصفت

قواطع في أيماننا تقطر الدما

تورثن من أشياخ صدق تقربوا

بهن إلى يوم الوغى فتقدما

إذا خالطت هام الرجال تركتها

كبيض نعام في الوغى متحطما (١)

والحق أن الشعراء قد أذكوا لدى بني العباس نيران العداوة ضد بني أمية ، وزادوها اشتعالا ، فروي أن السفاح كان جالسا في مجلس الخلافة ، وعنده سليمان بن هشام بن عبد الملك ، وقد أكرمه السفاح ، فدخل عليه سديف الشاعر فأنشده :

لا يغرنك ما ترى من رجال

إن تحت الضلوع داء دويّا

فضع السيف وارفع السوط حتى

لا ترى فوق ظهرها أمويّا

فالتفت سليمان وقال : قتلتني يا شيخ ، ثم دخل السفاح وأخذ سليمان فقتل (٢).

وقد أسرف العباسيون في التنكيل بالأمويين إسرافا لا يراعي للموت حقّا ولا يعرف له جلاله وحرمته ، فنبشوا قبر معاوية بن أبي سفيان ، فلم يجدوا فيه إلا خيطا مثل الهباء ، ونبشوا قبر يزيد بن معاوية ، فوجدوا فيه حطاما كأنه الرماد (٣).

ولم تكن سياسة الانتقام التي اصطنعها أبو العباس السفاح ضرورة طارئة ألجأه إليها إشباع روحه النزاعة إلى الانتقام ، أو تثبيت أركان دولته الناشئة ، بل كانت سياسة مضطردة توشك أن تسم العصر العباسي الأول كله بميسمها ؛ يقول ابن دأب ـ وقد كان من خواص الخليفة الهادي : «دعاني الخليفة الهادي في وقت من الليل لم تجر العادة أنه يدعوني في مثله ، فدخلت إليه ، فإذا هو جالس في بيت صغير شتوي وقدامه جزء ينظر فيه ، فقال لي : يا عيسى ، قلت : لبيك يا أمير المؤمنين ، قال : إني أرقت في هذه الليلة وتداعت إليّ الخواطر واشتملت عليّ الهموم وهاج لي ما جرت إليه بني أمية من بني حرب وبني مروان في سفك دمائنا ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، هذا عبد الله بن علي قد قتل منهم على نهر أبي فطرس فلانا وفلانا ، حتى أتيت على تسمية من قتل منهم ، وهذا عبد الصمد بن علي قد

__________________

(١) ابن الأثير ، الكامل (٥ / ٤٢٧ ، ٤٢٨) ، المسعودي ، مروج الذهب (٣ / ٢٧١ ، ٢٧٢).

(٢) ابن الأثير ، الكامل (٥ / ٤٢٩).

(٣) ابن الأثير الكامل (٥ / ٤٣٠) ، سمط النجوم العوالي (٣ / ٣٥٠ ، ٣٥١).

١٧

قتل منهم بالحجاز في وقت واحد نحو ما قتل عبد الله بن علي ...».

قال ابن دأب : فسر والله الهادي (١).

الصعوبات التي واجهت أبا جعفر المنصور في سبيل إرساء دعائم الدولة العباسية وتثبيت أركانها :

توفي أبو العباس السفاح سنة ١٣٦ ه‍ بعد أن عهد بالخلافة إلى أخيه أبي جعفر المنصور على أن يليه في ولاية العهد عيسى بن موسى بن محمد العباسي.

وقد أنفق أبو جعفر سني خلافته في تثبيت دعائم الملك العباسي وتوطيد أركان الخلافة الجديدة ، وأبدى من الحزم والفطنة والكفاية ما هو خليق بعظماء الرجال ، حتى عده المؤرخون بحق المؤسس الحقيقي للدولة العباسية ؛ إذ استطاع أبو جعفر بفضل ما أتيح له من مواهب سياسية جماعها الحزم والشجاعة وسداد الرأي أن يقضي على الأخطار المحدقة بالدولة العباسية في طورها الباكر ، ولا غرو فهو على حد قول السيوطي :

«فحل بني عباس هيبة وشجاعة وحزما ، ورأيا وجبروتا ، جمّاعا للمال تاركا اللهو واللعب ، كامل العقل جيد المشاركة في العلم والأدب ، فقيه النفس قتل خلقا كثيرا حتى استقام ملكه» (٢).

وقد تمثلت هذه الأخطار التي واجهت أبا جعفر فيما يلي :

١ ـ ثورة عبد الله بن علي العباسي.

٢ ـ تضخم نفوذ أبي مسلم الخراساني وإدلاله على الخلفاء العباسيين.

٣ ـ ثورات العلويين.

أولا : ثورة عبد الله بن علي العباسي :

أبى عبد الله بن علي العباسي أن يبايع أبا جعفر المنصور ، ورأى أنه أحق بالخلافة من ابن أخيه ، فادعى أن أبا العباس لما أراد توجيه الجند لقتال مروان بن محمد قال لهم : «من انتدب منكم للمسير إليه فهو ولي عهدي ، وإنه لم ينتدب لهذا الأمر أحدا غيري» (٣) ، فبايعه الجند والقواد بالخلافة. ولم تكد هذه الأخبار تنتهي إلى مسامع أبي جعفر حتى وجه إليه أبا مسلم الخراساني الذي قال له : لا تخفه فأنا أكفيكه إن شاء الله ، فإن عامة جنده من

__________________

(١) مروج الذهب ، المسعودي (٣ / ٣٣٨).

(٢) تاريخ الخلفاء ، السيوطي ، ص ٢٠٨ ، دار الكتب العلمية ، بيروت لبنان.

(٣) ابن الأثير (٥ / ٤٦٤).

١٨

أهل خراسان وهم لا يعصونني.

وتمكن أبو مسلم الخراساني من إلحاق الهزيمة بجند عبد الله بن علي في بلاد الشام ، وفر عبد الله من ميدان القتال حتى وصل إلى البصرة ، واختفى عند أخيه سليمان بن علي ، وكان قد وليها من قبل المنصور ، واستولى أبو مسلم على ما في معسكر عبد الله من مال وعتاد.

وثمة خطئان وقع فيهما عبد الله بن علي تسببا في هزيمته :

أولهما : احتياله على قتل حميد بن قحطبة ، والذي كان يعد من أعظم قواد الدولة العباسية ، وكان قد انضم إلى عبد الله ، فلما وقف على مؤامرته للفتك به انضم إلى أبي مسلم الخراساني.

ثانيهما : قتله من كان في جيشه من الخراسانيين ، مما أضعف قوته وأثار حفيظة من بقي معه من الجند ، فلم يخلصوا له ولدعوته (١).

وذكر الطبري أن عبد الله بن علي بايع أبا جعفر المنصور سنة ١٣٨ ه‍ حين كان أخوه سليمان لا يزال على ولاية البصرة ، وأن سليمان لما عزل اختفى عبد الله خوفا على حياته ، ثم ألح المنصور على سليمان بن علي وعيسى بن موسى بإحضار عبد الله وأعطاهما الأمان على ألا يسيء إليه ، ولكنه أمر بحبسه ، وقتل بعض أصحابه ، ثم قتله سنة ١٤٩ ه‍ بعد أن حبسه تسع سنوات (٢).

وهكذا قضى أبو جعفر على فتنة كانت خليقة أن تعصف بالدولة العباسية في مهدها ، أو على أقل تقدير تفرق بين أفراد البيت العباسي وتشتت شمله.

القضاء على أبي مسلم الخراساني :

لعل من نافلة القول أن نذكر ما أنفقه أبو مسلم الخراساني من مجهود كبير في سبيل الدعوة العباسية ، وإخراجها من رحم الظلم والاضطهاد إلى نور الخلافة والملك ، وحسن بلائه في الحروب التي خاضها العباسيون ضد الأمويين ، فذاك أمر يحتاج بسط القول فيه وإقامة الأدلة والشواهد عليه صفحات كثيرة تضيق عنها هذه الدراسة الموجزة.

وأحسب أن أبا جعفر المنصور قد أدرك أن رسوخ قدمه في الملك والحكم منوط بالقضاء على أبي مسلم الخراساني الذي مثل نفوذه المتزايد وإعجابه بما قدم للدولة

__________________

(١) حسن إبراهيم حسن ، تاريخ الإسلام ، (٢ / ٩٦) ، ابن الأثير (٥ / ٤٦٥).

(٢) الطبري (٧ / ٥٠١ ، ٥٠٢).

١٩

العباسية وإدلاله على رجالها خطرا كبيرا جديرا بأن يحيل الخلافة العباسية ألعوبة في يد أبي مسلم يحولها كيف شاء.

والحق أن روح العداء بين أبي جعفر المنصور وأبي مسلم الخراساني قديمة ، تسبق من غير شك ولاية المنصور للخلافة العباسية.

وهو عداء قد تلون في أكثر جوانبه بالمنافسة والتسابق في مضمار السياسة ، ثم غدا حقدا خالصا وكرها مستحكما.

ولا مراء في أن تصرفات أبي مسلم الخراساني قد أوغرت صدر المنصور عليه ، وحملته على أن يتربص به الدوائر ويغتنم الفرصة تسنح كي يتخلص منه. ولا بأس أن نذكر طرفا من العداوة بين الرجلين حتى يتبين القارئ صدق كلامنا :

ـ تقدم أبي مسلم الخراساني على المنصور في طريق الحج ، وعدم انتظاره إياه في طريق العودة عند ما بلغه نبأ وفاة أبي العباس السفاح (١).

ـ بعد وفاة السفاح أرسل أبو مسلم إلى المنصور رسالة يعزيه فيها دون أن يهنئه بالخلافة (٢).

ـ كان المنصور قد أمر الحسن بن قحطبة ، والي الجزيرة ، أن يلحق بأبي مسلم عند توجهه لمقاتلة عبد الله بن علي في الشام ، فكتب ابن قحطبة إلى وزير المنصور يقول : «إني قد رأيت بأبي مسلم أنه يأتيه كتاب أمير المؤمنين فيقرأه ثم يلقي الكتاب من يده إلى مالك بن الهيثم ، فيقرأه ويضحكان استهزاء» (٣).

ـ تجرأ أبو مسلم وقتل سليمان بن كثير الخزاعي أحد شيوخ الدعوة العباسية دون استشارة الخليفة.

ـ تحديه لأمر المنصور عند ما صرفه عن ولاية خراسان وولاه الشام ومصر وقوله : «هو يوليني الشام ومصر ، وخراسان لي» ، واستمراره في السير إلى خراسان (٤).

ـ تقديمه لاسمه على اسم الخليفة في رسائله (٥).

__________________

(١) ابن الأثير (٥ / ٤٦٨).

(٢) السابق (٥ / ٤٦٨).

(٣) ابن الأثير (٥ / ٤٦٩).

(٤) السابق (٥ / ٤٦٩).

(٥) السابق (٥ / ٤٧٥).

٢٠