تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٩٥

وقيل (١) : إن العرب كانت تغير بعضهم على بعض ، ويسبي بعضهم بعضا ، وأهل مكة كانوا آمنين في حرم الله ـ تعالى ـ كقوله ـ تعالى ـ : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنكبوت : ٦٧] ، فذكر عظيم نعمه عليهم ومننه ؛ ليعلموا ذلك أنه منه.

وأصله أن الله ـ تعالى ـ لما كان من حكمته وإرادته جعل الرسالة في قريش وإبقاؤها إلى الوقت الذي أراد أن يبقى ، جعل لهم من الأمن في ذلك المكان والأرزاق التي تجبى إليهم ، وما يتعيشون به في ذلك ؛ ليبقوا إلى الوقت الذي أراد بقاءهم إليه ؛ فيكون ما أراد على ما أراد ، فكما أنشأ هذا العالم للبقاء إلى الوقت الذي أراد أن يبقوا فيه جعل لهم من الأرزاق ما يبقون إلى الوقت الذي أراد ؛ ليكون ما أراد ؛ فعلى ذلك الأول.

قال القتبي : الإيلاف : مصدر آلفت فلانا إيلافا ؛ كما تقول : ألزمته إلزاما.

وقال الكسائي : آلفت المكان ، وألفته ؛ لغتان.

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) ، أي : كصنع قريش (إِيلافِهِمْ) ، أي : صنيعهم ، (رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ. فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ. الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ) السنين الذي أصابهم ، (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) العدو ، والله أعلم.

* * *

__________________

(١) قاله قتادة أخرجه ابن جرير عنه (٣٨٠٢٢).

٦٢١

سورة الماعون

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (١) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (٢) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (٥) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (٦) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ)(٧)

قوله ـ عزوجل ـ : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) ، اختلف في نزوله :

قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ هي مدنية.

وقال مقاتل ومجاهد وجماعة (١) : هي مكية.

وجائز أن يكون أولها نزل بمكة ؛ لأن الذي ذكر أنها نزلت في شأنه كان مكيا ، وهو العاص بن وائل السهمي مع ما أنهم هم الذين يكذبون بيوم الدين ، وآخرها نزل بالمدينة ؛ لأن في أواخرها وصف المنافقين ، وهو ما ذكر من المراءاة في الصلاة ، ومنع ما ذكر.

ثم إن كان نزولها في الكفرة ، فالجهة فيه والمعنى غير الجهة والسبب لو كانت نزلت في المنافقين.

ثم قوله ـ عزوجل ـ : (أَرَأَيْتَ) حرف يستعمل في موضع السؤال والاستفهام.

ويجوز أن يكون استعماله على وجه التقرير عند السائل ؛ لما يراد به إعلامه ؛ على سبيل ما روي في الخبر : «أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أما قبل منك؟» (٢) ، وكان ذلك في موضع التقرير ؛ فكذلك قوله : (أَرَأَيْتَ) ، معناه ـ والله أعلم ـ : أن اعلم أن الذي يدع اليتيم ، ولا يحض على طعام المسكين هو الذي يكذب بالدين.

قال أهل التأويل جميعا : (يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) ، أي : بالحساب ، والبعث.

وجائز أن يكون يكذب بالدين الذي يظهر ، أي : يكذب بالدين الذي أظهر لك.

ولا نحقق أن كان في المنافقين ؛ لأن أهل النفاق كانوا يكذبون ما يظهرون (٣) من الموافقة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين.

وإن كان في أهل الكفر ، فهو على الرؤساء منهم ؛ فتكذيبهم بالدين هو ما كانوا يظهرون لأتباعهم من الجهد والشدة ، يموهون بذلك على أتباعهم ؛ ليقع عندهم أن الذي هم عليه

__________________

(١) وهو قول ابن عباس ، وابن الزبير أخرجه ابن مردويه عنهما كما في الدر المنثور (٦ / ٦٨٢).

(٢) أخرجه البخاري (٤ / ٢٢٧) كتاب الصوم ، باب : من مات وعليه صوم (١٩٥٣) ، ومسلم (٢ / ٨٠٤) كتاب الصيام ، باب : قضاء الصيام عن الميت (١٥٦ ـ ١١٤٨) عن ابن عباس بنحوه.

(٣) في أ : يظهر.

٦٢٢

حق ، وأن الذي عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم باطل ؛ فيكذبون بالدين الذي يرون من أنفسهم ، ويظهرون بالتمويهات التي يموهون بها عليهم.

فكيفما كان إن كانت نزلت في المنافقين ، أو في أهل الكفر ، أو في الذي كذب بالحساب والبعث ، أو بالذي ذكرنا أنه يظهر خلاف ما يضمر ـ ففيها (١) عظة وتنبيه للمؤمنين وزجر لهم عن مثل صنيعهم ؛ لأنه نعت الذي كذب بالدين إن كان المراد به الحساب ، أو الدين نفسه ؛ حيث قال : (فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ. وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) ، كأنه قال : الذي يكذب بالدين هو الذي يدع اليتيم ؛ أي : يظلم اليتيم ، ويمنع حقه.

(وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) ، يقول ـ والله أعلم ـ للمؤمنين : لا تظلموا اليتيم ، ولا تمنعوا حقه ، ولا تسيئوا صحبة اليتيم ، كما فعل من كذب بالدين وحضوا على طعام المسكين ؛ يصف بخلهم واستهانتهم باليتيم والمساكين ، وسوء معاملتهم التي عاملوهم ، يعظ المؤمنين ويزجرهم عن ذلك.

وجائز أن يكون قوله : (وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) ؛ لما عندهم أن من أعطي المال ، ووسع عليه الدنيا إنما أعطي ذلك لكرامة له (٢) عند الله ـ تعالى ـ ومن ضيق عليه ، ومنع ذلك عنه ؛ لهوان له عنده وحقارة ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ. وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ) [الفجر : ١٥ ، ١٦].

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ ..). [الآية](٣) [يس : ٤٧] ، يظنون أن الله ـ تعالى ـ منع من منع ذلك ؛ لهوان له عنده ، ومن وسع عليه ، وسع لكرامة له عنده ؛ فيقول : كيف أكرم من أهانه الله تعالى ؛ فيحتمل أن يكون ما ذكر أنه لا يحض على طعام المسكين.

ويحتمل أن يكون الذي حمله على ظلمه اليتيم ، وتركه إطعامه تكذيبه بالبعث ؛ لأنه ليس لليتيم من ينصره ، ويقوم بدفع من يقصد ظلمه ، ويمنع حقه ، وكان لا يخاف عقوبة البعث ؛ إذ لا يؤمن به.

ثم يحتمل قوله : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ. فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ. وَلا

__________________

(١) في أ : وفيه.

(٢) في ب : منزلة.

(٣) سقط في ب.

٦٢٣

يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ ..). الآية ؛ أن يكون في الاعتقاد والرؤية.

ويحتمل أن يكون في حق الفعل نفسه ؛ فإن كان في الاعتقاد والرؤية ، فأهل الإسلام لا يعتقدون [ذلك] ، وإن كان في حق الفعل فإنهم ربما يفعلون ذلك.

وحمله عندنا على الاعتقاد أوجب وأقرب ؛ لما وصفنا أن اليتيم لا ناصر له ، وليس للكافر خوف العاقبة ؛ لما لا يؤمن بذلك ، وإنما يمتنع المرء في الغالب من سوء الصحبة ؛ لهذين : إما رغبة في جزاء الآخرة ، أو خوف المكافأة في الدنيا ، والمساكين ليس لهم في الدنيا ما يكافئهم ويجازيهم ، وليس لليتيم ناصر ؛ ليخاف منه ، ولم يكن للكافر رغبة في ثواب الآخرة ، ولا خوف من (١) العقاب ؛ لعدم تصديقه بذلك.

ثم قوله ـ عزوجل ـ : (وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) هو النهاية في وصفه بالبخل ؛ لأن الحث على الصدقة أن يرجيه ويطمعه في ثوابه ، فإذا لم يرج هو نفسه ، فكيف يرجي غيره؟ مع ما أن الحكمة عند هؤلاء الكفرة أن من جر إلى نفسه نفعا فهو الحكيم ، ومن ضر نفسه فهو جائر غير حكيم ، وهو إذا منع الصدقة نفع نفسه ، وإذا أوفى اليتيم حقه ضرها ؛ فلذلك لا يرغب فيها ؛ فهذا المعنى الذي وصفناه ، دعانا إلى توجيه التأويل إلى الاعتقاد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) : إن كان هذا في أهل النفاق ، فأهل النفاق كذلك كانوا لا يفعلون شيئا من الطاعات إلا وكانوا عنها لاهين ساهين ، وإذا فعلوا شيئا منها ، فعلوا مراءاة ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً) [النساء : ١٤٢] ، وقوله : (وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ) [التوبة : ٥٤] ، فذكر كسلهم وبخلهم ؛ فعلى ذلك جائز أن يكون قوله : (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ..). إلى آخر ما ذكر في المنافقين على ما ذكرنا من نعتهم.

وجائز أن يكون في أهل الكفر ، وأهل الكفر كانوا يصلون ، كقوله : (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً ..). [الأنفال : ٣٥] ، أخبر أن صلاتهم في الحقيقة ليست بصلاة ؛ فجائز أن تكون على صورة [الصلاة الحقيقة](٢) ، وقد ذكر أنهم كانوا يصلون مستقبلين نحو أصنامهم ، يرون (٣) الناس كثرة اجتهادهم في طاعة الأصنام ، حتى إذا رآهم (٤) من نأى عنهم ظن [أن ذلك](٥) حق ، فيكون في ذلك صد عن إجابة الرسول ،

__________________

(١) في ب : عن.

(٢) في أ : الحقيقة.

(٣) في ب : يراءون.

(٤) في أ : رأوهم.

(٥) في أ : أنه.

٦٢٤

ودفع وجوه القوم عنه (١) ، وذلك قوله : (إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً) [الأنفال : ٣٥].

ويحتمل أن يكون كناية عن الخضوع والتذلل ؛ فيكون معناه : ويل للذين لا يخضعون ولا يخشعون.

وقوله ـ عزوجل ـ : (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) يحتمل وجهين :

أحدهما : أي : سهوا عن صلاتهم لأنفسهم ، وصلاتهم التي هي لأنفسهم هي أن تكون الصلاة لله ـ تعالى ـ ويجعلوها له ، ولا يصلوا لغير الله من الأصنام وغيرها ؛ لأن من صلى لله ـ تعالى ـ يرجع منفعتها في الحقيقة إليه ؛ لما تعلق بها من الجزاء الجميل ، فهم بالسهو عن تلك الصلاة وتركها [يلحقون الضرر](٢) بأنفسهم ويجعلونها (٣) للأصنام التي لا تضر ولا تنفع.

والثاني : سهوهم [عن](٤) الصلاة حين أضاعوها ، وهو ما ذكر في حرف ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ في قوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ..). [العنكبوت : ٤٥] ؛ فيقول : سهيتم [عن](٥) الصلاة فلم تمنعهم عما ذكر.

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ مرفوعا : «هم الذين يؤخرونها (٦) عن وقتها».

وقال مجاهد : الساهي : الذي لا يبالى صلى أم لا ؛ ألا ترى أنه قال : (الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ).

وقال الحسن : هم المنافقون ، يؤخرونها عن وقتها ، ويراءون إذا صلوا.

وقال سعد : الترك عن الوقت.

وقال أبو العالية : الساهي : [هو](٧) الذي لا يدري على شفع انصرف (٨) أو على وتر؟

وروي عن [عطاء بن يسار](٩) أنه قال : الحمد لله حيث لم يقل : «فى صلاتهم ساهون» ، ولكنه قال : (عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ).

__________________

(١) في ب : عنده.

(٢) في ب : ملحقون الضرب.

(٣) في ب : وجعلوها.

(٤) سقط في ب.

(٥) سقط في ب.

(٦) في ب : يؤخرون.

(٧) سقط في ب.

(٨) في ب : أبصرني.

(٩) في ب : سليمان.

٦٢٥

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) ، قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : هو الزكاة ، رواه ابن الزبير ، وعكرمة ، ومجاهد عنه.

وروي عن على ـ رضي الله عنه ـ : هو الزكاة.

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ في رواية أخرى هو العارية.

وعن ابن عمر قال : هو الذي لا يعطي حقه ، وهو الزكاة.

وروي عن على ـ رضي الله عنه ـ في رواية : (الْماعُونَ) : منع القدر ، [والدلو ، والفأس](١).

وعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ مثله ، وكذا عن ابن عباس في رواية [أخرى](٢).

وقال أبو عبيدة : كل ما فيه نفعه فهو الماعون.

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : ما جاء أهلها بعد.

فإن كان ذلك على العواري ، فالمعنى منها ذم البخل ، وأشده منع الفرض.

وجائز أن يكون الماعون كل معروف وكل ما يعار (٣) ، يدخل في ذلك الزكاة وغيرها ؛ ففيه ذكر بخلهم وشحهم ومنع الحق من المستحق.

قال أبو عوسجة : (يَدُعُّ الْيَتِيمَ) ، أي : يضرب ، ويدفع في قفاه ؛ يقال : دع يدع دعا ، فهو داع ، ومدعوع.

وقال القتبي : (يَدُعُّ الْيَتِيمَ) ، أي : يدفعه ، وكذلك في قوله : (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) [الطور : ١٣] ، أي : يدفعون.

وقال أبو عوسجة : (وَلا يَحُضُ) : لا يحرض ، ولا يحث ، (ساهُونَ) غافلون.

وفي حرف ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : لاهون ، وأ رايتك (٤) بالكاف ، وكذلك في حرف أبي رضي الله عنه ، [والله أعلم بحقيقة ما أراد](٥).

* * *

__________________

(١) في ب : والفأس والدلو.

(٢) سقط في ب.

(٣) في أ : يعان.

(٤) في أ : رأيتك.

(٥) سقط في ب.

٦٢٦

[سورة «إنا أعطيناك الكوثر»](١)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)(٣)

قوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) هذا خرج مخرج الامتنان على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والإنعام عليه والإفضال ؛ ليستأدي بذلك شكره والخضوع له.

ثم اختلفوا (٢) في (الْكَوْثَرَ) :

[فقيل] : هو الخير الكثير ، والخير الكثير : ما أعطي من النبوة والرسالة وما لا ينجو أحد من سخط الله ـ تعالى ـ إلا به ، وهو الإيمان به والتصديق له ، وما صيره معروفا مذكورا في الملائكة ، وما قرن ذكره بذكره ، ورفع قدره ومنزلته في جميع الخلائق ، وغير ذلك مما لا يحصى ، وهو ما قال : (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) [الشرح : ٤].

وقال بعضهم (٣) : (الْكَوْثَرَ) : نهر في الجنة ، وعلى ذلك جاءت الأخبار عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سئل عن (الْكَوْثَرَ) فقال : «نهر في الجنة» ، أو قال ذلك من غير سؤال.

فإن ثبتت الأخبار فهو ذاك كفينا عن ذكره ، وإن لم تثبت الأخبار فالوجه الأول أقرب عندنا ؛ لأنه ليس في إعطائه النهر تخصيص في التشريف والعطية ؛ لأن الله ـ تعالى ـ وعد لأمته ما هو أكثر من هذا ؛ لما روي في الأخبار عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن لأهل الجنة في الجنة ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر» ، ونحن نعلم أن هذا في الإنعام أكثر من النهر الذي وصف.

وقال بعضهم : (الْكَوْثَرَ) : شيء أعطاه الله ـ تعالى ـ رسوله لا يعرف.

وأصله : أنه شيء خاطب به رسوله ، وهو قد عرفه ؛ فلا يجب أن يتكلف معرفته وتفسيره ؛ لأنه إن أخطأ لحقه الضرر ، وإن أصابه لم ينفع كثير نفع.

وقيل : (الْكَوْثَرَ) : هو حرف أخذ من الكتب المتقدمة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) ، اختلف فيه :

قال بعضهم : حقيقة الصلاة هي الخضوع والخشوع والدعاء ، أمره بجميع ما يعبده في نفسه ، وأمره أن يأتي بما تعبده من القرابين ، والذبائح ، والضحايا التي فيها نفار الطباع ؛

__________________

(١) في ب : ذكر أن سورة : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ) مكية.

(٢) في ب : اختلف.

(٣) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير عنه (٣٨١٣٦) وهو قول ابن عمر ، وعائشة ، وأنس ، وغيرهم.

٦٢٧

حتى أن من الكفرة من يحرم الذبائح والنحر ؛ للآلام التي فيها ، والطباع تنفر عن ذلك ؛ فتعبده بالذي فيه مناقضة طبعه ونفاره عنه.

وجائز أن يكون لا على الأمر بالصلاة والنحر ، ولكن معناه : إذا فعلت ذلك فافعل لله ؛ لأن أولئك الكفرة كانوا يصلون للأصنام ، ويذبحون لها ؛ كقوله : (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) [المائدة : ٣] ، أي : للنصب ، فأمره أن يجعل ذلك لله تعالى.

وقال الحسن (١) : (فَصَلِّ لِرَبِّكَ) صلاة العيد ، وانحر البدن بعدها.

وقال مجاهد وعطاء (٢) : صل الصبح بجمع ، وانحر بمنى.

وقال بعضهم (٣) : (فَصَلِّ لِرَبِّكَ) حقيقة الصلاة ، وهي الصلاة المعروفة المفروضة ، وهي مخ العبادة ؛ على ما ذكر في الخبر.

وكذلك ما ذكر أن المصلي مناج الرب تعالى ، وهو ـ والله أعلم ـ لأنه ما من عبادة إلا وفيها شيء من اللذة وقضاء شهوة النفس وأمانيها من السير ، والركوب ، والأكل ، والشرب ، والكلام ، والانتقال من موضع إلى موضع ، وغير ذلك من الطاعات مما فيه شيء من اللذة للنفس وقضاء شهوتها ـ وإن قل (٤) ـ من الحج والزكاة والجهاد وغير ذلك ، إلا الصلاة نفسها ؛ فإن فيها قطع النفس عن جميع شهواتها وأمانيها ، وعن جميع ما يتلذذ به من أنواع اللذات ، وعلى ذلك ما سمي موسى ـ عليه‌السلام ـ : كليم الله ، ونجيه ؛ لأنه فارق قومه وجميع ما للنفس فيه لذة وراحة ، وأتى جبلا ليس فيه (٥) أحد ، وكلمه ربه في ذلك ؛ فسمي : نجي الله ، وعلى ذلك سمي المصلي : مناجيا ربه ، وخص بذلك الاسم ؛ لما ذكرنا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَانْحَرْ) : هو ما ذكرنا من نحر البدن الذي تعبده للكل ؛ لما فيه من نفار النفس بالتألم الذي يحصل لغيره بفعل غيره ؛ فالتألم به بفعل نفسه أكثر من التألم بفعل غيره ، وهو مجاهدة النفس وتغير ما امتحنه ـ عليه‌السلام ـ بتحمل المشقة لوجهه تعالى مرة بالتبليغ إلى الكفرة مع الخطر على نفسه ، ومرة بمجاهدة نفسه بالقيام بالليل ، ومرة بإتيان خلاف الطبع ، وهو ذبح البدن ؛ إذ الطبائع تنفر عن إراقة الدماء مع أنه أشفق

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٣٨٢٠٢ ، ٣٨٢٠٣).

(٢) أخرجه عبد الرزاق ، وابن جرير (٣٨٢٠١ ، ٣٨٢٠٦) ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (٦ / ٦٨٩).

(٣) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٣٨١٩٥) وابن المنذر عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٦٨٩).

(٤) في ب : قيل.

(٥) في أ : به.

٦٢٨

الناس وأرحمهم على خلقه ، فبلغ من حسن إجابته له ، وطاعته له أن (١) ساق مائة بدنة ، فنحر ستين منها بيده ، وولى عليا ـ رضي الله عنه ـ نحر أربعين ؛ على ما ذكر في الخبر.

وروى أبو الجوزاء عن ابن عباس (٢) ـ رضي الله عنه ـ قال : (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) : وضع اليمين على الشمال في الصلاة ، وكذا روي عن على ، رضي الله عنه (٣).

وعن عاصم الجحدري ، قال : هو وضع اليمين على الشمال في الصلاة.

ومن قول الثنوية : أنهم لا يرون ذبح شيء من الأشياء ؛ لما فيه من الألم والأذى.

وقولهم هذا ليس بصحيح ؛ لأنا نعلم أن إفاتة الروح بالذبح أهون على المذبوح من موته حتف أنفه ؛ فإذا جاز في الحكمة أن تزهق روحه بغير الذبح فلأن يجوز في الذبح أحق.

وأصله : ما ذكرنا أن هذه السورة نزلت في مخاطبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو المقصود به من بين الناس ، وهو يعلم بالذي خاطبه به من الصلاة ؛ والنحر ، والكوثر ، وغير ذلك ؛ فلا نتكلف نحن تفسيره مخافة الكذب على الله ـ تعالى ـ سوى أن نذكر أقاويل أهل التأويل.

وكذلك قوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) يذكر أهل التأويل : أن فلانا سمى (٤) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أبتر ؛ فنزل : إن الذي سماك أبتر هو الأبتر ـ لا نعرفه حقيقة ؛ لأنه لم يذكر أن أحدا من أولاد الفراعنة وأعداء الرسل ـ عليهم‌السلام ـ افتخر بأبيه أو بأحد (٥) من أوليائه (٦) والمنتمين بهم افتخروا بهم ، وافتخر أولاد أولياء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الناس حتى يتعينوا (٧) بذلك فيما بينهم ؛ يقول : (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) أي : معاديك ومبغضك هو الأبتر دونك.

أو يقول : أعداؤك هم الذين يبتر ذكرهم ، وأولياؤك (٨) مذكورون أبدا على ما قلنا.

__________________

(١) في ب : وإن.

(٢) أخرجه ابن أبي حاتم ، وابن شاهين في السنة وابن مردويه ، والبيهقي كما في الدر المنثور (٦ / ٦٨٩).

(٣) أخرجه ابن جرير (٣٨١٨٤ ، ٣٨١٨٨) ، وابن أبي شيبة في المصنف ، والبخاري في تاريخه ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والدارقطني في الأفراد ، وأبو الشيخ ، والحاكم ، وابن مردويه والبيهقي في سننه عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٦٨٩).

(٤) في ب : يسمي.

(٥) في ب : أحد.

(٦) في ب : أوليائهم.

(٧) في أ : يتعيشوا.

(٨) في أ : وأولئك.

٦٢٩

وأصله ما ذكرنا أنه خاطب به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد عرف ذلك ، ونحن لا نعلم في أي شيء كانت القصة؟ وفيم نزلت الآية؟ والله ورسوله أعلم.

قال أبو عوسجة : الشانئ : المبغض ، يقال : شنئته (١) : أبغضته ، والأبتر : هو الذي لا ولد له ذكر ، ولا عقب [له](٢).

وفي قوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) بشارة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالغلبة عليهم ، والقهر لهم ، والنصرة عليهم ، وإظهار دين الله ـ تعالى ـ في البلاد والآفاق ؛ إذ (٣) أخبر أن الذي عاداه وباغضه هو المنقطع والأبتر لا هو ، والله المستعان.

* * *

__________________

(١) في ب : أشنأته.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : إذا.

٦٣٠

[سورة الكافرون مكية](١)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (١) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (٢) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٣) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (٤) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٥) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)(٦)

قوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ ...) إلى آخرها.

ذكر أنها نزلت في منابذة المتمردين المعاندين منهم ، الذين علم الله ـ تعالى ـ منهم أنهم لا يؤمنون أبدا ، ولا يرجعون عما هم عليه من عبادة الأوثان إلى التوحيد والإسلام ؛ لأنه لا كل كافر يكون على وصف أنه لا يعبد الله ـ تعالى ـ في وقت من الأوقات ؛ إذ قد يجوز أن يكون كافرا في وقت ، ثم يسلم في وقت آخر ؛ فدل ما ذكرنا أنها نزلت في المتمردين المعاندين الذين علم الله ـ تعالى ـ أنهم يثبتون على الكفر ، ولا يؤمنون أبدا ، وكان كما أخبر ، ؛ ففيه دلالة إثبات الرسالة ؛ إذ أخبر أنهم لا يؤمنون ، فلم يؤمنوا ، وماتوا على الكفر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) أنتم الآن ، (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ) اليوم (ما أَعْبُدُ) فيما بعد اليوم.

وقال بعضهم : الأول : فيما مضى من الوقت ، والثاني إخبار عن الحال ، والآخر فيما بقي من الوقت.

ولكن لا يجيء أن يكون هكذا ؛ بل يجيء أن يكون قوله : (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) في حادث الوقت ؛ لأن (٢) حرف «ما» إنما يستعمل في حادث الأوقات ، يقول الرجل : لا أفعل كذا ، يريد به : حادث الوقت.

وقوله : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) كذلك ـ أيضا ـ في حادث الأوقات ، أو إخبار عن الحال.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) إنما هو إخبار عن الماضي من الأوقات ؛ كأنه يقول : لم أكن أنا عابدا قط في وقت من الأوقات ، وهذا يدل على أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن عبد غير الله قط.

وفي هذه السورة وجهان من الدلالة :

أحدهما : ما ذكرنا من إثبات الرسالة.

__________________

(١) في ب : ذكر أن سورة الكافرين مكية.

(٢) في ب : لا.

٦٣١

والثاني : إخبار عن الإياس لهم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أن يرجع إلى دينهم أبدا ، وقطع رجائهم وطمعهم في ذلك.

وفيه ـ أيضا ـ أن من أشرك غيره في عبادة الله ـ سبحانه وتعالى ـ أو عبد غيره دونه على رجاء القربة إلى الله ـ تعالى ـ فهو ليس بعابد لله ـ تعالى ـ ولا موحد له ؛ لأن أولئك إنما عبدوا الأصنام رجاء أن تشفع لهم ، ورجاء أن تقربهم إلى الله ـ تعالى ـ زلفى ؛ أخبر أنها لا تقربهم (١) زلفى ، وأنهم ليسوا بموحدين ، ولا عابدين لله تعالى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) يحتمل وجهين :

أحدهما : لكم جزاء دينكم الذي دنتم ، ولي جزاء ديني الذي دنت.

والثاني : على المنابذة والإياس ، لكم ما اخترتم من الدين ، ولي ما اخترت ، لا يعود واحد منا إلى دين الآخر ، وكان قبل ذلك يطمع كل فريق عود الفريق الآخر إلى دينهم الذي هم عليه.

وقوله ـ تعالى ـ : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) ليس على الأمر ، على ما نذكر في سورة الإخلاص والمعوذتين ؛ إذ لو كان على الأمر فهو يلزم أن يقول كل واحد منا لكل كافر ذلك ، فإذا لم يلزم دل أنه ليس على الأمر.

وفي حرف ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : قل للذين كفروا لا أعبد ما تعبدون ، ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ، ولا أنتم عابدون ما أعبد ، لكم دينكم ولى دين.

وعنه أنه قال : «من قرأ هذه السورة فقد أكثر وأطنب».

وفي حديث مرفوع عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال لرجل : «إذا أويت إلى فراشك فاقرأ : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) ؛ فإنه براءة من الشرك».

وأهل التأويل يقولون (٢) : إن سبب نزول هذه ومنابذته إياهم : أن رهطا من قريش قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هلم فلنعبد ما تعبد ، واعبد أنت ما نعبد نحن ؛ فيكون أمرنا أمرا واحدا ؛ فنزلت هذه السورة.

قال أبو عوسجة : الدين : العادة ، تقول : هذا ديني ، أي : عادتي.

ثم المعنى الذي وقع عليه التكرار لهذه الأحرف عندنا : أن التكرار (٣) حرف جرى

__________________

(١) في ب : تقرب لهم.

(٢) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٣٨٢٢٥) ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن مردويه عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٦٩٢) وعن سعيد بن ميناء مثله.

(٣) في ب : التكرر.

٦٣٢

الاستعمال به في موضع المبالغة والتأكيد لما قصد به من الكلام في أي كلام كان ، رجاء كان ، أو وعيدا أو غيره ، كقولهم (١) : بخ بخ ، والويل الويل ، وهيهات هيهات ، وغير ذلك ، فكذلك في هذا الموضع لما وقع الإياس عن إيمانهم بالله ـ تعالى ـ بما علم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطريق الوحي أنهم لا يؤمنون ، كرر هذا الكلام ؛ تأكيدا للإياس وإبلاغا فيه ، والله أعلم. [وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين](٢).

* * *

__________________

(١) في ب : بقولهم ، وفي أ : لقولهم.

(٢) سقط في ب.

٦٣٣

[سورة النصر ، وهي مدنية](١)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ (١) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً (٢) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً)(٣)

قوله ـ عزوجل ـ : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) :

قال عامة أهل التأويل (٢) : إن قوله ـ تعالى ـ : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) هو مكة ، والنصر الذي نصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أهل مكة.

قال أبو بكر الأصم : هذا لا يحتمل ؛ لأن فتح مكة كان بعد الهجرة بثماني سنين ، ونزول هذه السورة كان بعد الهجرة بعشر سنين ، ولا يقال للذي مضى : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) ، ولكن أراد سائر الفتوح التي فتحها له ، أو كلام نحو هذا ، ولكن يحتمل أن يكون قوله : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ) يعني : إذ جاء.

وجائز ذلك في اللغة ، وفي القرآن كثير «إذا» مكان «إذ» ، فإن كان [على](٣) هذا فيستقيم حمله على فتح مكة ؛ على ما قاله أولئك.

أو يكون قوله ـ تعالى ـ : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ) ، أي : قد جاء نصر الله.

أو أن يكون أراد بما ذكر من النصر والفتح : الفتوح التي كانت له من بعد حين دخل الناس في دين الله أفواجا ؛ على ما ذكرنا (٤).

وقوله ـ عزوجل ـ : (نَصْرُ اللهِ) ، أي : عون الله وخذلانه لأعدائه.

أو أن يكون قوله ـ تعالى ـ : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) : هي فتوح الأمور التي فتحها الله ـ عزوجل ـ عليه من تبليغ الرسالة إلى من أمر بتبليغها إليهم ، والقيام بالأمور التي أمره أن يقوم بها ، فتح تلك الأمور عليه وأتمها ، فإن كان على هذا ، تصير فتوح تلك الأمور له نعيا له ؛ بالدلالة على ما قاله أهل التأويل (٥) : إنه نعى لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نعيه ،

__________________

(١) في ب : ذكر سورة النصر مكية.

(٢) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير (٣٨٢٢٨) ، وابن المنذر عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٦٩٦).

(٣) سقط في ب.

(٤) في ب : ذكر.

(٥) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٣٨٢٤١ ، ٣٨٢٤٢) ، وأحمد ، والطبراني ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل من طرق عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٦٩٨) وهو قول أبي هريرة ، وأبي بكر ، وعمر بن الخطاب.

٦٣٤

وجهة (١) الاستدلال الوجوه التي ذكرنا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً).

ذكر أهل التأويل أنه كان قبل ذلك يدخل واحدا واحدا ، فلما كان فتح مكة ، جعلوا يدخلون دينه أفواجا أفواجا ، وقبيلة قبيلة.

ويحتمل ما ذكرنا من سائر الفتوح ، أي : فتوح الأمور التي ذكرنا ، على ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «نصرت بالرعب مسيرة شهرين ، شهرا أمامى ، وشهرا ورائي» (٢).

ثم [فى](٣) قوله : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً) الآية ، نعي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من وجوه ، وقد ذكر في الأخبار : أنه نعى إليه نفسه بهذه السورة.

أحدها : ما ذكرنا من جهة الاستدلال عرف أنه قد دنا أجله ؛ حيث أتم ما أمر به ، وفرغ منه : من التبليغ والدعاء.

والثاني : عرف ذلك اطلاعا من الله تعالى ، أطلعه (٤) عليه بعلامات جعلها له ؛ ففهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما لا يدرك أفهامنا ذلك.

والثالث : لما كفي مئونة القيام بالتبليغ بنفسه بدخول الناس في الدين جماعة جماعة ، وكان قبل ذلك يقوم بنفسه ، عرف بذلك حضور أجله ، وهو نوع من الدلالة.

ووجه الدلالة : أن القوم لما دخلوا في دين الله فوجا فوجا ؛ دل ذلك على ظهور الإسلام وكثرة أهله ؛ فكانت الغلبة والنصر دليل الأمن من الزوال عما هم عليه من الدين إذا زال الرسول.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) ، قال بعض أهل التأويل : أي : صل بأمر ربك ، وأصله : ما ذكرنا فيما تقدم : أن التسبيح هو التنزيه ، والتبرئة عن جميع معاني الخلق ، والوصف بما يليق به ، قال : نزهه وبرئه بالثناء عليه ، وصفه بالصفات العلى ، وسمه بالأسماء الحسنى التي علمك ربك.

ويحتمل أن يكون معنى قوله : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) ، أي : قل : «سبحان الله وبحمده» على ما جاء في الأخبار أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يكثر في دعائه «سبحان الله وبحمده ، وأستغفر

__________________

(١) في ب : وبجهة.

(٢) أخرجه البخاري (١٣ / ٣٦١) كتاب الاعتصام ، باب : قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بعثت بجوامع الكلم» عن أبي هريرة بنحوه.

(٣) سقط في ب.

(٤) في ب : أطلعت.

٦٣٥

الله وأتوب إليه».

وهذا لأن «سبحان الله» حرف جامع يجمع جميع ما يستحق من الثناء عليه ، والوصف له بالعلو والعظمة والجلال ، والتنزيه عن جميع العيوب والآفات ، وعن جميع معاني الخلق ، جعل لهم هذا الحرف الجامع ؛ لما عرف عجزهم عن القيام بالوصف بجميع ما يستحق من الثناء عليه.

وكذلك حرف «الحمد لله» ، هو حرف جامع يجمع شكر جميع ما أنعم الله عليهم ، جعل لهم ذلك ؛ لما عرف من عجزهم ، وقلة شكر ما أنعم عليهم واحدا بعد واحد.

وعلى ذلك يخرج قوله : «اللهم صل على محمد» ، أمرهم أن يجعلوا الصلاة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب : ٥٦] ولما لم يجعل في وسعهم القيام بما يستحقه أمروا أن يقولوا : «اللهم صل على محمد» ؛ ليكون هو المتولي ذلك بنفسه ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاسْتَغْفِرْهُ) :

قال أبو بكر الأصم : دل قوله ـ عزوجل ـ : (وَاسْتَغْفِرْهُ) على أن كان منه تقصير وتفريط في أمره حتى أمره بالاستغفار عن ذلك.

لكن هذا كلام وحش ؛ لا يصف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتقصير في شيء ، ولا بالتفريط في أمر قط ، ولكن قد جعل الله ـ تعالى ـ على كل أحد من نعمه وفضله وإحسانه في طرفة عين ولحظة بصر ما ليس في وسعه وطاقته القيام بشكر واحد منها ، وإن لطف ، وإن طال عمره ؛ فأمره بالاستغفار ؛ لما يتوهم منه التقصير في أداء شكر نعمه عن القيام بذلك.

أو أن يكون لأمته لا لنفسه.

فإن قال قائل : ما معنى أمره بالاستغفار ، وقد ذكر أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟

فالجواب عنه من وجهين :

أحدهما : أنه يجوز أن يكون أمر بالاستغفار لأمته ، نحو قوله ـ تعالى ـ : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) [محمد : ١٩].

أو أن يكون الله ـ تعالى ـ وعد له المغفرة إذا لزم الاستغفار ، ودام عليه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) :

أي : كان لم يزل توابا ، ليس أن صار توابا بأمر اكتسبه وأحدثه ، على ما تقول المعتزلة : إنه صار توابا.

٦٣٦

ثم قوله : (تَوَّاباً) ، على التكثير ، أي : يقبل توبة بعد توبة ، أي : إذا تاب مرة ، ثم ارتكب الجرم (١) وعصاه ؛ ثم تاب ثانيا ، وثالثا ، وإن كثر ؛ فإنه يقبل توبته.

والثاني : (تَوَّاباً) ، أي : رجاعا يرجعهم ويردهم عن المعاصي ، إلى أن يتوبوا ، أي : هو الذي يوفقهم على التوبة.

ثم قال : (تَوَّاباً) ، ولم يقل : «غفارا» ، وحق مثله من الكلام أن يقال : «إنه كان غفار» ؛ كما قال في آية أخرى : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) [نوح : ١٠] ، ولكن المعنى فيه عندنا : أن المراد من الاستغفار ليس قوله : «أستغفر الله» ، ولكن أن يتوب إليه ، ويطلب منه المغفرة بالتوبة ؛ (إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً).

ويجوز أن يكون فيه إضمار ؛ كأنه قال : «واستغفره ، وتب إليه ؛ إنه كان توابا».

ويجوز [أن يستغنى] بذكر الاستغفار في (٢) السؤال عن ذكره في الجواب ، وأحرى (٣) [أن يستغنى] بذكر التوبة في الجواب عن ذكرها في السؤال ، وقد يجوز مثل هذا في الكلام.

ثم الدين اسم يقع على ما يدين به الإنسان ، حقا كان أو باطلا ، وعلى ذلك أضاف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما كان يدين به إلى نفسه ، وما دان به الكفرة إليهم ، حيث قال : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) [الكافرون : ٦] ، وأما إضافته إلى الله ـ تعالى ـ حيث قال : (يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً) [الآية] ؛ لأنه الدين الذي أمرهم به ، ودعاهم إليه ؛ لذلك خرجت الإضافة والنسبة إليه ، والله أعلم [بالصواب](٤).

* * *

__________________

(١) في أ : المجرم.

(٢) في ب : عن.

(٣) في ب : وأجرى.

(٤) سقط في ب.

٦٣٧

[سورة «تبت يدا أبي لهب»](١)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (١) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (٢) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (٣) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (٤) فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ)(٥)

قوله ـ عزوجل ـ : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَ) :

أي : خسرت ، وخابت ، كذلك قال أبو عوسجة ، يقال : تب يتب تبا وتبابا.

ثم ما ذكر من قوله : (يَدا أَبِي لَهَبٍ) يحتمل حقيقة اليد.

ويحتمل أن يكون ذكر اليد على الصلة.

فإن كان على إرادة حقيقة اليد ، فهو يخرج على وجوه :

أحدها : ما ذكر : أنه [كان](٢) كثير الإحسان إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والإنفاق عليه ، والصنائع إليه ، وكان يقول : إن كان الأمر لمحمد يومئذ ؛ فيكون لي عنده يد ، وإن كان لقريش فلي عندها يد ؛ فأخبر ـ والله أعلم ـ أنه خسر فيما طمع ورجا من اليد التي له عنده والإحسان الذي أحسن إليه ؛ إذ لم يصدقه ، ولم يؤمن به ، وخسر ـ أيضا ـ ما ادعى من اليد له عند قريش.

والثاني : يحتمل أن يكون من أبي لهب تخويف لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالبطش والأخذ باليد ؛ فأمن الله ـ تعالى ـ رسوله عما خوفه [به](٣) ، حيث قال : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) ، أي : خسرت يداه ، ولا يقدر على البطش.

والثالث : يحتمل أن يكون اليد كناية عن القوة في نفسه وماله في دفع العذاب عن نفسه ، وكذلك كانوا يدعون دفع العذاب عن أنفسهم ؛ بقولهم : (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) [سبأ : ٣٥].

وذكر بعض أهل التأويل : أنه لما نزل قوله ـ تعالى ـ : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء : ٢١٤] ، جمع عشائره الأقرب فالأقرب منهم ، وقال : «إني لا أملك لكم من الله نفعا في الدنيا والآخرة إلا بعد أن تقولوا شهادة أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله» فقال أبو لهب عند ذلك : «تبا لك يا محمد ، ألهذا دعوتنا؟!» فنزل عند ذلك : (تَبَّتْ يَدا

__________________

(١) في ب : سورة تبت.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في ب.

٦٣٨

أَبِي لَهَبٍ وَتَبَ) مجازاة له.

فهذا وإن لم يكن في فعله في القصة استعمال اليدين ، فيجوز أنه كان يصرف الناس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده ، أو حين دعى إلى الإيمان بالله ـ تعالى ـ مد يديه على التعجب من ذلك ، وقال : «ألهذا دعوتنا؟» فرد الله ـ تعالى ـ عليه ذلك ، وعيره به.

وقد يجوز أن يظهر في الجواب مقدمة السؤال وإن لم يذكر ذلك في السؤال ؛ ألا ترى إلى قوله ـ تعالى ـ : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) [البقرة : ٢٢٢] ؛ فعلم بذلك أن السؤال إنما كان عن قربانهن في المحيض ؛ فكذلك الأول.

وإن كان ذكر اليد على الصلة ، فهو يخرج على وجهين :

أحدهما : ذكر اليد كناية عن العمل والفعل ، إلا أنه ذكر اليد ؛ لما باليد يقوم ويعمل ؛ كقوله تعالى : (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) [آل عمران : ١٨٢] ، و (فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشورى : ٣٠] ، وذلك على الكناية عما كان منه من الصنيع ، أي (١) : خسرت أعماله (٢) وبطلت.

والثاني : يذكر اليد على إرادة : قدام وأمام ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) [فصلت : ٤٢] ، أي : أمامه وخلفه ؛ فيكون معناه : ما قدم من الأعمال ، والله أعلم.

ثم تخصيص أبي لهب بالذكر من بين سائر الكفرة يحتمل وجوها :

أحدها : خصه بالاسم ؛ لأنه كان من الفراعنة والأكابر ، وهو المقصود به ، والفراعنة قد يذكرون بأسمائهم ؛ لما هم المقصودون به ، وإن كان من دونهم يشاركونهم في ذلك ؛ كذكر فرعون ، وعاد ، وثمود ، وغيرهم.

والثاني : كان شديد الهيبة والخوف ؛ فذكره باسمه ، وخصه به ؛ ليعلم أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يهابه ، ولا يخافه ، والله أعلم.

والثالث : أنه كثير الأيادي والصنائع بحق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلو كان الخطاب بهذا يعم الكفرة ، لكان يظن بما سبق منه من الأيادي أنه غير داخل تحت الخطاب ؛ فخصه بالذكر ؛ ليعلم أنه لا يغنيه من الله شيء.

ثم ذكره بالكنية يخرج على وجوه :

__________________

(١) في أ : أو.

(٢) في ب : أعمالهم.

٦٣٩

أحدها : يحتمل أن يكون بالكنية عرف عند الناس ، وبها كان معروفا دون اسمه ؛ فذكره بالذي كان معروفا به.

والثاني : ما ذكر أن اسمه كان عبد العزى ؛ فلم يرد أن ينسبه إلى غيره ، وهو العزى ؛ فذكره (١) بالكنية لهذا.

والثالث : أنه عيره بأشياء ، وخوفه بمواعيد ؛ فلو ذكره باسمه ، فلعله يصرف ذلك الخطاب والوعيد الذي كان له إلى غيره ؛ لما شرك غيره في الاسم ؛ إذ كانوا يسمون أولادهم وينسبونهم إلى أصنامهم ، ولم يكن أحد شركه في كنيته ؛ فلا يمكنه التحويل إلى غيره.

وقيل : ذكره بالكنية يخرج مخرج الوعيد له ، أي : تصير النار له كالابن ، وهو كالأب لها ؛ وذلك لأن هذه الكنى إنما تذكر في المتعارف على وجه التفاؤل ، كما يقال : أبو منصور ؛ على رجاء أن يولد له ابن يسمى : منصورا.

ثم إن الله ـ تعالى ـ سمى النار في بعض الآيات : أما للكافر ، كقوله : (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) [القارعة : ٩] ، وفي بعضها : مولى ؛ حيث قال : (هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [الحديد : ١٥] ؛ فجاز ـ أيضا ـ أن تكون النار إذا قربت منه ، وانضمت إلى حجره أن تصير في التمثيل كالولد ، ويصير هو أبا لها ؛ فقال : (أَبِي لَهَبٍ) ؛ على هذا الوجه من التأويل.

ووجه آخر : وهو أن ذكر الكنية وإن كان يراد بها التعظيم ، فعند ذكر المواعيد والعقوبات يراد بها الاستخفاف والإهانة ، وهو على ما ذكرنا فى (٢) البشارة : أنها وإن كانت تذكر عند ما يسر ويبهج في الأغلب ، فعند ذكر العقوبة نذارة ، كقوله ـ تعالى ـ : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [آل عمران : ٢١] ؛ فعلى ذلك الكنية ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ) ، هذا يخرج على وجهين :

أحدهما : أي : لم يغن ماله وقوته وما كسب من عذاب الله شيئا ؛ على ما يقولون : (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) [سبأ : ٣٥].

والثاني : أي شيء أغنى عنه ماله وما كسب؟!.

ثم قوله ـ عزوجل ـ : (وَما كَسَبَ) يحتمل الولد ، أي : ما أغنى عنه ما جمع من ماله وما كسب من الولد ؛ على ما ذكر في الخبر ، روى أبو الأسود عن عائشة ـ رضي الله

__________________

(١) في ب : فذكر.

(٢) في ب : عن.

٦٤٠