تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٩٥

تخصيصه أجري على خصوصه ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ).

يحتمل أن يكون معناه ، أي : لا يفقهون ؛ لأنه طبع على قلوبهم ، وإلا لم يعرضوا عن الحق والآيات ، وذلك بأنهم كانوا يظنون أنهم كانوا على الحق ، فأخبر أنهم لا يفقهون أنه طبع على قلوبهم حتى ظنوا أنهم على الحق ، وجعلوا جميع همتهم في المنافع والمضار الدنيوية ، وإلا لو فقهوا أن لله دارا أخرى يجازون فيه بأعمالهم ، لعلموا أنه لا بد من دين يدينون به ، ولم ينظروا إلى منافعهم ومضارهم ، والله المستعان.

ويحتمل : أي : لا يفقهون عن الله تعالى ، وأن تعبدهم وأمرهم بطاعة رسوله واتباعه ويحتمل أي : لا يفقهون أنهم يتعبدون ، وأن لله دارا أخرى يسألهم عما فعلوا ، ويجازيهم على جميع ذلك.

ثم قال هاهنا : (لا يَفْقَهُونَ) ، ولم يقل : (لا يعلمون) ؛ لأن الفقه إنما هو الذي يعرف به الشيء بالشيء ، فأخبر أنهم لا يعرفون الآخرة بالدنيا. وقال ابن الراوندي : الفقه هو معرفة الشيء بمعناه الدال على نظيره.

وعندنا أن الفقه هو معرفة الشيء بمعناه الدال على غيره كان ذلك نظيرا له أو لم يكن ؛ لأن من عرف الخلق بمعناهم دله ذلك على معرفة الصانع ، ومن عرف الدنيا دله ذلك على معرفة الآخرة ، وليسا بنظيرين.

ثم بين الفقه والعلم فصل من وجه وإن كانا جميعا في الحقيقة يرجعان إلى معنى واحد ؛ لأن العلم إنما يجلي الشيء له ، وظهوره بنفسه ، والفقه يعرف بغيره استدلالا ؛ ولذلك جاز أن يقال : الله تعالى عالم ؛ لتجلي الأشياء له ، ولم يجز أن يقال : إن الله فقيه ؛ لأنه لا يعرف الأشياء بالاستدلال ، والله الموفق.

والحكمة : وضع الأشياء موضعها ، والإيقان : إنما هو يتولد عن ظهور الأسباب ؛ ولذلك جاز أن يقال : إن الله تعالى حكيم ، ولم يجز أن يقال : إنه موقن ، والله المستعان.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ).

في هذا بيان أن الله تعالى قد كان آتاهم حسن الصورة وحسن البيان ، وأنه قد آتاهم العلم ؛ لأن حسن البيان لا يكاد يكون إلا عن علم ؛ فكأن الله تعالى ذكر نعمه التي آتاهم ؛ فإنهم لم يشكروا نعمه وأساءوا صحبتها ، فكأنه يقول : كيف ترجو منهم حسن الصحبة لك ، وإنهم لم يحسنوا صحبة نعمة رب العالمين؟! فيكون [له] بعض التسلي ؛ لما اهتم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من سوء صنيعهم به ، وإعراضهم عن اتباعه وطاعته.

٢١

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ).

يعني : وإن يقولوا تحسب قولهم حقّا ؛ فتسمع لقولهم لتقبله.

ويحتمل (١) : تسمع لقولهم لما يعجبك قولهم ، أو تسمع لقولهم على ما كانت عادته ـ عليه‌السلام ـ في كل من كلمه أنه لا يغير عليه ولا يقطع عليه كلامه حتى يفرغ منه ، ثم قبله إن كان مما يجب قبوله ، وغيره على صاحبه ورده إن كان مستحقّا للتغيير عليه ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ).

يقول : إنهم فيما يكون من جانبهم وناحيتهم من حسن الصورة والبيان بحيث يعجبك ، وفيما يلقى إليهم من الحق والدين والحكمة كأنهم خشب مسندة لا ينجع فيهم الحق ولا يقبلونه كالخشب المسندة.

ويحتمل هذا تمثيلا بالخشب ؛ من حيث إن الخشب المسندة في الظاهر هي الخشب اليابسة التي لا أجواف لها فيوضع فيها شيء ، فكذلك المنافقون كأنهم لا أجواف لهم يوضع فيها الحكمة والدين والحق ، والله أعلم.

وجائز أن يكون معناه : كأنهم خشب مسندة ؛ من حيث إن الخشب المسندة ، ليس لها أسماع ولا أبصار ولا قلوب ، فكذلك المنافقون كأنهم بكم عمي في ناحية الحق وقبوله ، والله المستعان.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) ، يحتمل وجهين :

أحدهما : يحسبون كل صيحة سمعوها كلمة تهتك عليهم سرهم [و] تفضحهم ؛ ألا ترى إلى قوله : (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ) [التوبة : ٦٤] ، فأخبر أنهم كانوا يحسبون فضيحتهم وهتك أستارهم والاطلاع على ما في قلوبهم ، فكذلك يحسبون أن من كلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنما تكلم بما يهتك عليهم أستارهم ويفضحهم ، والله المستعان.

والثاني : يحتمل أن يكون ذلك في الحرب : أنهم كلما سمعوا صيحة في الحرب خافوا أن يكون فيه هلاكهم ، وذلك أنهم كانوا يظهرون الموافقة لكل فريق على حدة ، وإذا وافقوا هذا الفريق صاروا حربا للفريق الآخر ، وإذا وافقوا الآخر صاروا حربا لهؤلاء ، فأخبر الله تعالى أنهم يحسبون من كل صيحة سمعوها أن يكون ذلك سببا لهلاكهم.

ويحتمل أن يكون الله تعالى عاقبهم بالخوف الدائم ؛ لتأميلهم الأمن من وجه لم يؤذنوا فيه ؛ وذلك لما وصفنا أنهم كانوا يظهرون الموافقة لكلّ ؛ رجاء أمنهم ، وكان جميع مقاصدهم في ذلك تحصيل منافع الدنيا دون الديانة بدين من الأديان ، وذلك غير مأذون

__________________

(١) زاد في أ : أو.

٢٢

فيه ، فلما آثروا ذلك واختاروه من غير أن يؤذن لهم ، عاقبهم بالخوف الدائم إما من الافتضاح والاطلاع على ما في قلوبهم أو من الهلاك ، والله أعلم.

وقوله : (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ) ، له أوجه من التأويل :

أحدها : أن يقول : هم العدو ، يعني : أنهم أدنى عدوكم ؛ فاحذرهم في جميع أحوالهم في المطعم والمشرب وغيره ؛ لأن الحذر عمن قرب من الأعداء ودنا أوجب ممن بعد ونأي.

أو احذرهم أن تطلعهم على سر فيما تراه وتضمره من الجهاد والحرب ؛ فيحتالون به على هلاكك ، أو يطلعون الكفرة على سرك.

أو احذرهم أن تقبل منهم قولا يقولونه عن أصحابك ؛ لأنهم يغرون أصحابك عليك ، فاحذرهم أن تقبل قولهم على أصحابك.

وقوله : (قاتَلَهُمُ اللهُ) يعني : لعنهم.

وقوله : (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) ، له تأويلان :

أحدهما : أن يقول : أي سبب يمنعهم عن الإيمان بك وطاعتك ، وقد أتيتهم بالآيات والحجج في اطلاعك على سرائرهم ، وذلك لا يكون إلا عن الوحي.

أو يقول : (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) يعني : أنى يكذبون ؛ تقليدا لأولئك الكفرة من غير أن يظهر لهم في ذلك آية وحجة ، ولا يقلدون البرهان والحجة فيتبعونك ، والله أعلم.

وقوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ).

ظاهر هذه الآية أن هذا القول منه إنما كان لجملة المنافقين ، وكذلك قوله تعالى : (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ).

وروى في الخبر أن هذه الآية نزلت في عبد الله بن أبيّ ابن سلول المنافق ؛ لأنه روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان كلما قام يوم الجمعة قام عبد الله بن أبيّ [ابن] سلول في ناحية المسجد ، وقال : هذا رسول الله ، فوقروه ، وعظموه ، حتى نزلت هذه السورة ، فقال بمثل مقالته ، فقال له عمر ـ رضي الله عنه ـ : «اجلس يا كافر ؛ فإن الله تعالى قد فضحك» ، قال : فخرج من المسجد قبل أن يصلي الجمعة ، فاستقبله بعض القوم فسألوه عن خروجه من المسجد قبل أداء الجمعة ، فأخبرهم عن القصة ، فقالوا : ارجع إلى رسول الله وسله أن يستغفر لك ، فلوى رأسه وقال : ما لي إلى استغفاره حاجة (١).

وروي أنه لما قال : (لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) ، ثم أراد دخول المدينة من بعد هذه المقالة ، فحبسه ابنه وقال : لا أدعك تدخلها ما لم تقر أنك الأذل وأن

__________________

(١) أخرجه البيهقي في الدلائل عن الزهري مرسلا كما في الدر المنثور (٦ / ٣٣٧).

٢٣

رسول [الله] هو الأعز ، فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمره أن يخلي عن أبيه ، ثم قال له : «إنك أولى أن تسمى : عبد الله بن أبيك» (١) ، فسمى من بعد ذلك : عبد الله ، وكان يسمى حبابا.

فهذان الخبران يدلان على أن هذه الآية إنما نزلت في واحد منهم ، وظاهرها يدل على [أن] ذلك كان في جملة المنافقين.

ولكن الوجه في ذلك عندنا ـ والله أعلم ـ أنه يجوز أن يكون اعتقاد جملتهم على ذلك ، فذكرهم الله تعالى ؛ لاعتقادهم عليه ، وذلك أنهم كانوا أقواما لا يؤمنون بالآخرة.

والاستغفار إنما هو طلب المغفرة ، وذلك إنما يتحقق في الآخرة ، فإذا كان على هذا أصل اعتقادهم جملة ذكرهم الله تعالى على ذلك ؛ وكذلك قوله : (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) كان عندهم أن الله تعالى إنما آتاهم العز والغناء والشرف ؛ لفضيلة لهم على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فكانوا ينكرون عليه من ذلك الوجه ، ثم إن الله قد ذكر في هذه الآية أنباء أنه قد كان آتاهم جميع ما به العز والشرف في الدنيا ؛ ليمتحنهم بحقوق هذه النعم وتعظيمها وشكرها ، وأنهم بلغوا في كل ذلك غاية ما عليه عمل الكفرة في سوء الصحبة بالنعم ، وذلك أنه لما قال : (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) ، دل أنه كان آتاهم حسن الصورة وحسن البيان ، ولما قال : (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) ؛ دل أنه قد كان آتاهم الغناء ، ولما قال : (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) دل أنه قد كان آتاهم العز والشرف ، ومعلوم أن هذه الأسباب التي وصفنا هي أسباب العز والشرف في الظاهر ، ثم أخبر أنهم تركوا شكر ما أنعم عليهم في تعظيم الحق ولم يؤدوا شكره ، وأنهم بلغوا في الباطن في كل شيء من ذلك غايته في سوء الصنع ؛ لأنه دل بقوله تعالى : (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا) على غاية البخل ؛ حيث امتنع عن الإنفاق بنفسه ، وأمر غيره ألا ينفق أيضا وذلك في غاية البخل ، ولما قال : (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) ، فكأنهم كانوا في الغفلة عن ذكر الله وقبول الموعظة غايته ، ولما قال : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ) دل أنهم كانوا في الاستخفاف به ـ حيث تركوا الإنصاف ، وأخذوا سبيل الاعتساف والاستكبار عليه ـ غايته ، ولما قال : (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ) [التوبة : ٦٤] دل أنهم كانوا في سوء السريرة غايته.

قال : ويجوز أن يقع ذلك منهم لوجهين :

__________________

(١) أخرجه عبد بن حميد عن عكرمة مرسلا والحميدي عن أبي هارون المدني مرسلا والطبراني عن أسامة بن زيد وابن المنذر عن ابن جريج مرسلا كما في الدر المنثور (٦ / ٣٣٩) دون قوله : «إنك أولى ...» الحديث.

٢٤

أحدهما : أنهم رأوا ذلك حقّا لهم على الله تعالى.

أو يروا أن الله تعالى آتاهم ذلك ؛ تفضيلا لهم على غيرهم ، فكانوا يتكبرون ويستعظمون على غيرهم ، ويستخفون برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لذلك الوجه ، ولم يتأملوا ولم يتفكروا فيتبين لهم أن الله تعالى آتاهم جميع تلك النعم محنة عليهم ، تعبدهم بأداء شكرها وتعظيم حقها ، وذلك معنى (لا يَفْقَهُونَ) أي : لا يستعملون النظر في هذه النعم ، وذلك أنه لو لم يكن رسول الله ، كان يلزمهم أن يتأملوا فيما أوتوا من النعم وينظروا ، فإذا تفكروا في ذلك ، ولم يجدوا لهم عند الله صنعا استوجبوا به عنده مكافأة لذلك ، ولا لهم فضل يفضلهم الله به على غيرهم ؛ فكان يتبين لهم أن الله تعالى إنما أعطاهم هذه النعم محنة ؛ ليتعبدهم بأداء شكرها ؛ ولذلك وقع الفصل فيما بين العلم والفقه : أن ما كان حقه التأمل والنظر ، فحق اللفظ فيه أن يقال : يفقهون ، ولا يفقهون ، وما كان حق العلم به السماع والخبر ، أطلق فيه لفظ (العلم) ؛ ولذلك قال عند العزة والغلبة والنصر : (لا يَعْلَمُونَ) ؛ لأنهم لم يكونوا يعلمون النصر والغلبة لو لم يكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله : (وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) ، له وجهان :

أحدهما : رأيتهم يصدون عن طاعتك واتباعك.

والثاني : يصدون ضعفتهم عن اتباعك.

وقوله : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) ؛ لأنهم لم يعدوا ذلك زلة وذنبا ؛ لأنه كان عندهم أنهم على الحق.

والثاني : ما قلنا : إنهم كانوا لا يؤمنون بالآخرة ، والمغفرة إنما تطلب من الله ، ويتحقق ذلك في الآخرة.

وقوله : (لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ).

على ذلك أيضا أنه لا يغفر أستغفرت أم لم تستغفر.

قال ـ رحمه‌الله ـ : ورسول الله ـ عليه‌السلام ـ كان لا يستغفر للمنافقين بعد ما ظهر عنده نفاقهم ، ولكنه يجوز أن يكون هذا قبل ظهور نفاقهم ، والله أعلم.

ثم قوله : (لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) يحتمل وجهين : أحدهما : يقول : لن يغفر الله لهم ما داموا على النفاق ، ولم يتوبوا عنه.

والثاني : أن يقول : لن يغفر لهم في قوم علم الله منهم : أنهم لا يؤمنون أبدا ، فقال في أولئك : لن يغفر الله لهم ؛ وكذلك هذا في قوله : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [البقرة : ٦].

٢٥

وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ).

فيه أن الله تعالى يملك هداية وراء هداية البيان ؛ لأن من لم يملك شيئا لم يستقم أن يوصف بالتعظيم أنه لا يفعل ؛ لأنه يعلم إذا لم يقدر ولم يملك لا يفعل ، وإنما يوصف بهذا من يملك ذلك ، ولكن لا يفعل ، فلو لم يملك ولم يقدر خلق فعل الاهتداء فيمن أراد ، لم يوصف بأنه لا يهدي الفاسقين ؛ فدل أنه يملك هداية وراء هداية البيان ، وهو خلق الاهتداء فيمن علم منه ذلك ، والله الموفق.

وقال أبو بكر : معنى قوله : (لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) أي : لا يهديهم لفسقهم.

وقالت المعتزلة : أي : لا يسميهم مهتدين إذا فسقوا وضلوا. وأيهما كان فهو محال ؛ لأن من هدى ضالا لضلالته فهو سفيه ، فكأنه يقول : لا يسفه : ومن سمى الضال : مهتديا فهو كاذب ، فكأنه قال : لا يكذب ، وهما جميعا غير مستقيم ؛ لأنا نعلم أنه لا يسفه ولا يكذب ، فثبت أن في ملكه هداية يهدي من يشاء من عباده سوى هداية البيان ، وإذا ثبت ما وصفنا أن في ملكه هداية سوى هداية البيان ، ثبت أن له فيها مشيئة ؛ لأن من ملك سببا لم يجز أن يقطع عنه سببه ؛ فلذلك قلنا : إن الله تعالى يضل من يشاء من عباده لمن علم أنه يؤثر الضلال (١) ويختاره على الهدى ، ويهدي من يشاء لمن علم أنه يؤثر الهدى على الضلالة ؛ فيهديه لذلك ويوفقه ويسدده ، والله المستعان.

وقوله تعالى : (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا).

قد وصفنا أن هذا من غاية بخلهم.

وقوله : (حَتَّى يَنْفَضُّوا) دلالة أنهم أرادوا إطفاء هذا النور وإخفاءه ، فأبى الله تعالى إلا إظهاره.

وقوله : (وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

يبسطها على المنافقين ؛ ليمتحنهم بالإنفاق على المؤمنين

أو (٢) لله خزائن السموات والأرض يضيقها على المؤمنين ؛ ليمتحنهم بالصبر في حال الضيق.

أو يجوز أن يكون هذا بشارة للمؤمنين بأن الله تعالى يوسع عليهم الدنيا بعد ما ضاقت ، وقد جعل حيث فتح لهم الفتوح وآتاهم النصر والغلبة على أعدائهم ، والله أعلم.

وقوله ـ تعالى ـ : (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ).

__________________

(١) في ب : الكفر.

(٢) في ب : و.

٢٦

الأعز قد يحتمل معاني :

أحدها : الأغلب ، وإلا فهو على مثال قوله : (فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) [ص : ٢٣] ، أي : غلبنى في الخصومة.

والثاني : الأقوى والأشد ، على مثال قوله ـ تعالى ـ : (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) [المائدة : ٥٤] يعني : أقوياء وأشداء.

والثالث : الأعلى الأجل ، وكذلك قوله : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [المنافقون : ٨] فإن كان الأعلى والأجل فذلك أن المؤمنين أعلى وأجل ؛ لأنهم اتبعوا الحجة بالحجج ، والكفار اتبعوا أهواءهم.

وإن كان على الأغلب والأقهر فذلك للمؤمنين بالغلبة والنصرة على أعدائهم.

وإن كان على القوة والشدة ، فقد كان ذلك للمؤمنين ؛ لأنه لو لم يوجد ذلك للمؤمنين لم يكن أهل النفاق يظهرون الوفاق للمؤمنين ، ولكنهم لما رأوا القوة والشدة للمؤمنين مرة ، وللكفار (١) أخرى ـ أظهروا الموافقة للفريقين جميعا ؛ ولذلك قال ذلك المنافق : (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) ؛ لأنه لما رأى العزة والشدة للكافرين يوم أحد ، توهم أنهم يغلبونهم أبدا ؛ فأظهر النفاق ، وقال عند ذلك : (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) ، والله أعلم.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٩) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ)(١١)

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) ، واختلف فيه :

فمنهم من قال : هذه الآية في المنافقين.

ومنهم من قال : في المؤمنين.

فإن كانت في المنافقين ، فكأنه يقول : يا أيها الذين أظهرتم بلسانكم الإيمان ، لا تلهكم أموالكم [ولا أولادكم](٢) عن ذكر الله.

وإن كان في المؤمنين ، فكأنه قال : يا أيها الذين حققوا الإيمان ، لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله.

__________________

(١) في ب : والكفار.

(٢) سقط في ب.

٢٧

ثم اختلفوا في معنى ذكر الله :

فمنهم من قال : معناه القرآن على مثال قوله : (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً. رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ ..). [الطلاق : ١٠ ، ١١] يعني : قرآنا ورسولا.

ومنهم من قال : معنى الذكر التوحيد.

فإن كان تأويله القرآن ، فهو يتوجه إلى المنافقين والمؤمنين جميعا ، فإن كان في المنافقين فكأنه قال : لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن النظر والتأمل في القرآن ؛ لأن الله تعالى بين [في القرآن](١) أمورا تطهر سرائرهم وما يظهر عندهم أن الرسول لا يختلقه من تلقاء نفسه ، وأنه إنما يقوله بالوحي ، فكأنه يقول : إذا تأملتم النظر في القرآن ، حملكم ذلك على التحقيق في الإيمان ، فلا يحملكم حب المال والولد على ترك التأمل في القرآن ؛ لأنكم إذا نظرتم فيه ، وتأملتم ، حصلتم منه على تحقيق الإيمان ، والله أعلم.

وإن كان في المؤمنين ، فمعناه : ألا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن النظر في القرآن ؛ فإنكم إذا نظرتم فيه ، صرتم من أهله ، وجل قدركم.

وإن كان المراد من الذكر التوحيد ، فهو راجع إلى الناس كافة : فأما المؤمنون ، فكأنه حذرهم عن حب المال والولد أن يحملهم غاية حبهما على أن ينسوا وحدانية الله تعالى والإيمان بالرسل والبعث ، فكأنه يقول : لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم كما ألهى الكفرة ، فيحذرهم عن أن يقعوا في الهلاك من حبه كما قال : (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) [آل عمران : ١٣١] يعني : اتقوا السبب الذي يفضي بكم إلى النار المعدة للكافرين ، فكذلك الأول.

وإن كان في المنافقين فكأنه قال : لا يحملكم حب المال والولد أن تتركوا حقيقة الإيمان به والتوحيد له والطاعة لرسوله ، عليه‌السلام.

وقوله تعالى : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ).

فعلى ما ذكرنا من التأويلين في إنكار البعث والتوحيد ظاهر ، وإن كان في المؤمنين فمعنى الخسار : هو الخوف من أن يقع به الوعيد.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ).

يجوز أن يكون صلة قوله : (لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) فيمنعكم ذلك عن الإنفاق ؛ فإنكم إذا امتنعتم عن الإنفاق ازداد حبكم ، فتنسون وحدانية الله تعالى وطاعة رسوله ، عليه‌السلام.

__________________

(١) سقط في أ.

٢٨

وقوله ـ تعالى ـ : (لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ).

قال بعضهم : تمنى الرجعة ؛ لما رأى من الهلاك والعذاب حيث ترك (١) الحقوق.

وروي عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : «لو كان ثمة خير لما تمنى الكرّة».

ولكن المعنى في ذلك عندنا ـ والله أعلم ـ أنه يتمنى الرجوع ؛ ليتصدق ليس الإنفاق خاصة ، ولكن ليتصدق ، وليكون من الصالحين ، أي : من الموحدين ، وذلك مستقيم أن يقال إذا ترك التوحيد فنزل به الموت : إنه يتمنى الرجوع ؛ لما يرى (٢) من الهلاك والعقوبة.

ويجوز أن يكون المعنى في هذا إن كانت الآية في المؤمنين الموحدين : أنهم يتمنون الرجوع ؛ حياء من ربهم ؛ لما ارتكبوا (٣) من الزلات وتركوا ما يستوجبون (٤) به الحسنات ، وقصروا فيما فرض الله عليهم من العبادات ، وحق على كل مؤمن أن يستحي من ربه إذا لقيه بما ترك من حقوقه التي ألزمها عليه والأسباب الواجبة.

وقوله : (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها ..). الآية.

ليس يحتمل تأخير الله تعالى أجله إذا جاء ؛ لأنه لو أخره ، دل على أنه بدا له في أجله ، ومن بدا له في أمر فذلك دليل الجهل بالعواقب ، ولا يوصف [رب](٥) العالمين بذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ).

أي : لا يخفى عليه شيء من أعمالكم : سركم وعلانيتكم ، والله أعلم [بحقيقة ما أراد ، والحمد لله رب العالمين](٦).

* * *

__________________

(١) في أ : تركوا.

(٢) في ب : أرى.

(٣) في أ : لم يرتكب.

(٤) في أ : وترك ما يستوجب.

(٥) سقط في ب.

(٦) سقط في ب.

٢٩

سورة التغابن مدنية

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)(٤)

قوله ـ عزوجل ـ : (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) الآية.

والتسبيح يحتمل أوجها ثلاثة ، وقد سبق ذكره.

وقوله : (لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ) يحتمل وجهين :

أحدهما : يحتمل الملك : الولاية والسلطان.

والثاني : يقول : (لَهُ الْمُلْكُ) يعني : ملك كل الملوك ، كما قال في آيات أخرى : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ ..). الآية [آل عمران : ٢٦] ، فأخبر أن ملك الملوك كلها له ، وأن من استفاد الملك إنما يستفيده بالله تعالى ، وبامتنانه عليه ، والله أعلم.

وقوله : (وَلَهُ الْحَمْدُ).

يحتمل أوجها ثلاثة من التأويل :

أحدها : أن يقول : (وَلَهُ الْحَمْدُ) يعني : له الثناء الحسن بصفاته العلى وأسمائه الحسنى.

والوجه الثاني : أن يقول : (وَلَهُ الْحَمْدُ) يعني : حمد كل من يحمد ، فحقيقة ذلك الحمد له بما أحسن إلى عباده وأنعم عليهم ، وذلك معنى قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) [الفاتحة : ٢] أي : الحمد والثناء الحسن لله تعالى على إحسانه إلينا وإنعامه علينا.

والثالث : أن يجعل معنى الحمد معنى الشكر ؛ لأن الحمد قد يستعمل في موضع الشكر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

يحتمل أن يكون معناه : وهو على كل شيء أراده قدير ، وهو [حجة](١) على المعتزلة ؛ لأن الله ـ تعالى ـ لا يزال يمدح نفسه بأنه بصير عليم وأنه على كل شيء قدير ، وأقرت المعتزلة بأنه بصير عليم ، وأبت عن الإقرار بأنه قدير على أفعال (٢) العباد ، أو على إصلاح

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في أ : فعل.

٣٠

أحد من العباد ، وهذا خلاف ما مدح الله [تعالى نفسه به](١) ، والله الموفق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) ، يحتمل أن يكون تأويله :

فمنكم من يدين بدين الكفر ، ومنكم من يدين بدين الإسلام (٢) ، ودل هذا على أن المعصية والطاعة يجتمعان في دين واحد ، وأن المعصية لا تخرجه من دينه ؛ لأن المعصية ، لم يرتكبها تدينا بها ، ولكن لغلبة شهوة أو غضب عليه ، وأما الكفر والإيمان فإنه يأتي بهما المرء اختيارا ويتدين بالكفر والإيمان ؛ لما عنده أنه حق ، وفي هذه الآية دلالة (٣) أنه ليس بين الكفر والإيمان منزلة ثالثة ، وليس كما قالت المعتزلة : إن صاحب الكبيرة بين منزلتين بين الكفر والإيمان ، والله تعالى قسم الناس [صنفين](٤) : فمنهم من خلقه كافرا ، ومنهم من خلقه مؤمنا ، ولم يجعل فيما بينهما منزلة ثالثة ، فلا يجب أن نجعل ، والله الموفق.

وفيه أيضا وجه لطيف سوى ما ذكرنا ، وهو أن كل أحد في الدنيا مؤمن وكافر في الحقيقة ؛ لأن من كان مؤمنا بالله فهو كافر بالطاغوت ، ومن كان كافرا بالله فهو مؤمن بالطاغوت ، وإذا كان كذلك ، وجب أن يبحث عن معنى قوله : (فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) ومعناه عندنا : أن الحقيقة وإن كانت كذلك فالإيمان إذا ذكر مطلقا لم يفهم منه إلا الإيمان بالله تعالى ، والكفر إذا أطلق أيضا لم يفهم منه إلا الكفر بالله تعالى ، وإذا كان كذلك ، جاز أن يكون لفظ الكتاب خارجا على ما عليه المعهود من المتعارف المعتاد ، والله أعلم.

وقوله : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) في الأزل بما يعمله العباد ، وأنه (٥) ليس كما قال بعض الناس : ألا يعلم فعل العبد إلا وقت فعله ، واحتجوا في ذلك أنا لو قلنا إن الله تعالى بصير في الأزل بما نفعله ، لكان قولا بما لا يستقيم في المعقول ؛ ألا ترى أنا لا نرى في الشاهد من يبني بناء يعلم أنه يضره أو يشتري عبدا يعلم أنه يعاديه ، فكذا لا يستقيم أن يقال [إن الله](٦) تعالى خلق عبدا قد كان يعلم من قبل أنه إذا خلقه عاداه.

__________________

(١) في ب : به نفسه.

(٢) في أ : الإيمان.

(٣) في ب : دليل.

(٤) سقط في ب.

(٥) في أ : والله.

(٦) في أ : أنه.

٣١

والجواب عن هذا : أن هذا الذي وصفه غير مستقيم في الشاهد ؛ لأن منافع ما يفعله العباد ومضاره ترجع (١) إلى أنفسهم ، وليس من العقل أن يفعل المرء فعلا يعلم أنه يضره ، وأما رب العالمين فإنه لا يرجع شيء من المنافع والمضار إليه ؛ فجاز أن يخلق خلقا يعلم أنه يختار عداوته ؛ ليظهر عند الخلق أنه لا يرجع شيء من المنافع والمضار إليه بعد أن يكون في الحكمة ذلك ، والله أعلم.

ثم في قوله : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) و (عَلِيمٌ) [البقرة : ٢٩] و (الْوَكِيلُ) [آل عمران : ١٧٣] و (بِحَفِيظٍ) [الأنعام : ١٠٤] إلزام المراقبة والتحفظ والتيقظ وبيان الترغيب والترهيب ؛ لأنه إذا علم المرء أن عليه في كل ما يفعله رقيبا يتيقظ ، ولم يفعل إلا ما يرضي به ربه ، والله المستعان.

وقوله ـ عزوجل ـ : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ).

قد وصفنا أن الحق إذا جرى ذكره يصرف في كل شيء إلى ما هو أليق به ؛ فإذا ذكر في الأخبار أريد به : الصدق ، وإذا ذكر في الأحكام أريد به : العدل ، وإذا ذكر في الأقوال أريد به : الإصابة ، فلما قال : (بِالْحَقِ) هاهنا [فكأنه](٢) أراد به : الحكمة ، كأنه يقول : خلق السموات والأرض بالحكمة.

وقال بعضهم : (بِالْحَقِ) يعني : للحق ، وهو البعث ، فكأنهم عنوا به : أن الله تعالى لم يخلقهما عبثا بل خلقهما للعبادة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) يحتمل هذا وجهين :

أحدهما : (فَأَحْسَنَ) ، أي : أتقن ، وأحكم ، ومعنى ذلك : أن الله تعالى خص صور بني آدم في الاستدلال بوحدانيته وربوبيته في أن جعل في أنفسهم حقيقة المعرفة والاستدلال بأنفسهم على [وحدانية الله](٣) تعالى ، وأما غيرهم من الصور فإنما يقع الاستدلال لغيرها بما ليس لنفس تلك الصور حقيقة المعرفة والاستدلال بوحدانية الله تعالى ؛ ولذلك كان خلق صور بني آدم أتقن وأحكم ، والله أعلم.

والثاني : أن يصرف الحسن إلى حسن المنظر ، ومعنى ذلك : أن الله تعالى خلق بني آدم على صورة لا يودون أن يكون صورتهم مثل صورة غيرهم من الخلائق ، فثبت أن صورتهم في المنظر أحسن صورة ، فذلك معنى قوله تعالى : (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) ، والله أعلم.

__________________

(١) في أ : ومضارهم يرجع.

(٢) سقط في ب.

(٣) في أ : وحدانيته.

٣٢

وقوله : (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) يعني : البعث ، وأضاف ذلك إلى نفسه ؛ لأنه هو النهاية (١) والمقصود في خلقهم ، ولما لم يفهم أحد من قوله : (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) معنى الانتقال والتحول من مكان إلى مكان من حيث إنه يضاف إلى الله تعالى ؛ لأن هذا فعل يكون باثنين ، فإن من صار إلى شيء صار ذلك إليه ، مثل الملاقاة والإتيان ونحو ذلك ، فلما لم يفهم منه الانتقال لم ينبغ أن يفهم من قوله : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) [الفجر : ٢٢] معنى الانتقال ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ).

في إخباره عن علمه بذلك كله إيجاب المراقبة والتيقظ والتبصر ، والمحافظة على ما أمره الله تعالى ونهاه ، وفي هذا إخبار أن الله تعالى مطلع على ما يضمرون ، محص عليكم جميع ما تظهرون ، فاحذروا أن ترتكبوا ما فيه سخطه في الحالين جميعا ، والله المستعان.

وقوله ـ عزوجل ـ : (بِذاتِ الصُّدُورِ) قال أهل التفسير : أي : بما في الصدور.

ويحتمل أن يكون المراد منه بالأنفس التي لها الصدور ، وكل من كان ذا فكرة وتدبير فإنه يسمى : ذات الصدور ، ومعناه : أن التدبير إنما يصدر عن ذلك الموضع ، ويرجع إليه ، وكل بنو آدم خصوا بهذا المعنى ؛ فلذلك ذكر هذا فيهم ، والله أعلم.

قوله تعالى : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٥) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٦) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧) فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٨) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(١٠)

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ).

فتأويله عندنا ـ والله أعلم ـ أي : قد أتاكم نبأ الذين كفروا من قبل ، وما ذا نزل بهم حين كفروا وعاندوا ، ومعنى ذلك أن الله تعالى [قد](٢) حذرهم بما يكون في الآخرة من ألوان العذاب ، فلم يتعظوا ، لما لم يكونوا يؤمنون (٣) بالبعث ، فلما لم ينجع (٤) فيهم

__________________

(١) في أ : الهداية.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : مؤمنين.

(٤) في أ : ينجح.

٣٣

ذلك ، حذرهم بعقوبات تنزل بهم لو لم ينتهوا عما هم فيه من الطغيان.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) ، أي : شدة أمرهم ، ويحتمل أن يكون عاقبة أمرهم.

وقوله : (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) فيه إخبار أن ما نزل بهم من العذاب في الدنيا ، لم يكفر عنهم الذنب ، أعني : ذنب الكفر ، وأن عذاب الدنيا إنما كان جزاء شرهم في الكفر ، وأنه يعذبهم في الآخرة عذاب [الكفر والشرك](١) ، والله أعلم.

وقوله ـ تعالى ـ : (ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا).

فكأنه يريد بقوله : (ذلِكَ) أي : تلك العقوبات التي نزلت بالأمم الماضية ، إنما كان سببها : أن رسلهم كانت تأتيهم بالبينات ، (فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) ، وكان قولهم : (أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) تلقين إبليس ؛ حيث لقنهم مخالفة الرسول وتكذيبه ، وأنكم لو احتجتم إلى طاعته ففيكم من هو أعظم منه درجة وأكثر منزلة ، فإذا لم تطيعوه فكيف تطيعون بشرا مثلكم؟! وهذا كله عناد وخطأ ، وذلك أنهم قد كانوا يعبدون الأصنام ؛ تقليدا منهم لبشر ؛ ألا ترى إلى قوله : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) [الزخرف : ٢٣] ، ومعلوم أن جعل الأصنام معبودا يعبدونه بقول البشر ؛ تقليدا له ـ أكثر وأعظم من تصديق البشر : أنه رسول من عند الله ـ تعالى ـ عند قيام الدليل المعجز ، فإذا استجازوا تقليد البشر في ذلك ، فكيف لا استجازوا تصديق الرسول فيما يدعوهم إلى توحيد الله وطاعته فيما يرجع إليهم من المنافع والمضار ، ولكنهم كانوا قوما سفهاء ، فاتبعوا سفههم وعنادهم ، والله أعلم.

وكذلك قولهم : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) [المائدة : ١١٠] ، وكيف يكون سحرا ، وقد أتاهم بآيات أعجزتهم وأعجزت السحرة أن يأتوا بمثلها؟! ولكنهم عاندوا ، ولم يجدوا حيلة سوى أن قالوا : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) [المائدة : ١١٠].

وقوله : (فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ).

أي : كفروا بالرسل (وَتَوَلَّوْا) : أعرضوا عن طاعته ، وطاعة رسوله.

وقوله : (وَاسْتَغْنَى اللهُ) لم يسمع من أحد من المتكلمين يقول : (وَاسْتَغْنَى اللهُ) على الابتداء إلا ما ذكر في ظاهر هذه الآية ، والقول [في الاستغناء فيما يريد به الإخبار جائز ؛ نحو قولك : الله مستغن ، فأما أن تبتدئ ، فتقول : الله مستغن ، فيما فيه شك وريب ، فإنه لا يجوز البداية به](٢).

__________________

(١) في ب : الشرك والكفر.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في أ : بذاته به.

٣٤

وقد غلط بعض المفسرين حيث قالوا : استغنى الله : بطاعة من أطاعه عن معصية من عصاه (١) ؛ لأن الله تعالى لم يمتحن عباده بالطاعة والمعصية لمنافع يأملها أو مضرة يخشاها ويخافها ، بل هو مستغن بذاته عن ذلك في الأزل ، والله أعلم.

ويجوز أن يكون في هذا إضمار ، يعني : واستغنى الرسول عن طاعتهم بالله تعالى ، أو يصرف الاستغناء إلى الإخبار عن ذاته : أنه مستغن بذاته في الأزل ، لا تمسه حاجة ، وأنه لا يضره كفر من كفر ، ولا ينفعه إيمان من آمن ، بل إنما يحصل (٢) ذلك كله للممتحن بهما ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ).

قد وصفنا معنى الغني ، وأما الحميد يحتمل وجهين :

أحدهما : يعني : المحمود ، أي : المستحق للحمد بذاته ؛ إذ يستحق من كل أحد الحمد على ما يحسن إليه ، أو يحمل معنى الحميد على معنى الحامد ، ووجه ذلك أن الله تعالى يحمد محاسن الخلق وآثار أفعالهم ، وأن حقيقة تلك الأفعال من جهة التوفيق والتسديد إنما كانت به ، وذلك غاية الكرم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَ).

قوله : (قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَ) يحتمل وجهين :

أحدهما : أنه يجوز أن يكون هذا تعليما [لرسول الله](٣) صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعلمه القسم تأكيدا ؛ لما كان يخبر عن البعث ، وكذلك جميع ما ذكر من القسم في القرآن يجوز أن يكون على هذا المعنى ؛ لأن القسم إنما هو لنفي تهمة تمكنت ، والله تعالى لا يتهم في خبره ، والرسول هو الذي كانوا يتهمونه فيما يخبر ؛ لما لم يثبت عندهم رسالته لعدم تأملهم في دلائله ، فعلمه القسم ؛ تأكيدا لما يخبر ونفيا للتهمة عما يقوله ، والله أعلم.

ويجوز أن يكون هذا قسما مقابلا لما أقسم به الكفرة في أمر البعث ؛ ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا) [النحل : ٣٨].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) يحتمل وجهين :

أحدهما : أن أمر البعث على الله يسير هين لأنهم أنكروا البعث بعد ما صاروا ترابا ؛

__________________

(١) في ب : يعصيه.

(٢) في أ : يحصوا.

(٣) في ب : لرسوله.

٣٥

فأخبر أن بعثهم وإعادتهم [أهون في عقولهم من إنشائهم ، ولم يكونوا شيئا ؛ فكيف أنكروا قدرته على إعادتهم](١) بعد أن صاروا ترابا ، فأخبر ـ جل وعلا ـ أن ذلك على الله يسير.

والوجه الثاني من التأويل : أن يذكر ما عملوا من خير أو شر أحصاه عليهم [كل](٢) سر وعلانية وكل صغير وكبير ؛ ليعاينوا ذلك في كتبهم ، ويعلموا تحقيقا : أنها على الله يسير.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ).

يجوز أن يكون هذا صلة ما تقدم ، وذلك أن الله تعالى ذكر ما نزل من العقوبة بالأمم الماضية ، وأن ذلك إنما نزل بهم ؛ لكفرهم بالله تعالى ، وتكذيبهم الرسل ، فآمنوا [أنتم بالله ورسوله](٣) لئلا ينزل بكم ما نزل بهم من البأس والعقوبة ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا) النور : هو القرآن ، ويجوز أن يكون سماه : نورا ؛ لأنه يبصر به حقيقة المذاهب في الطاعة والمعصية والإحسان والإساءة والإيمان والكفر كما يبصر بنور النهار حقيقة الأشياء من (٤) جيدها ورديئها ، كذلك يبصر بهذا منافع الطاعة ومضار المعصية ، فسمي : نورا من هذا الوجه ، والله أعلم.

وقوله : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).

أي : أن الله خبير بما تسرون وما تعلنون ، فراقبوه وحافظوه في الحالين جميعا ، وفي هذا بيان أن الله تعالى عالم بما يعمله العباد في الأزل ، وبما يكون منهم ، وأنه ليس كما وصفه بعض الجهال ، والله المستعان.

وقوله : (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ).

ذلك اليوم في الحقيقة يوم جمع وتفريق ، وهو أيضا في الحقيقة يوم تغابن وترابح ، وإن ذكر أحدهما ؛ دليل ذلك ما ذكر في غيرها من الآيات ؛ ألا ترى إلى قوله تعالى : (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) [الشورى : ٧] ، وإلى ما ذكر في عقيب قوله : (ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) [من قوله](٥) : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) ، وهذا هو معنى الترابح ، ولكنه ـ جل ثناؤه ـ يجوز أن يكون اكتفى بذكر أحدهما عن الآخر.

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط في أ.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : بالله ورسوله أنتم أيضا.

(٤) في ب : في.

(٥) في ب : وقوله.

٣٦

ثم الغبن يذكر في التجارات ، والأصل في ذلك [عندنا](١) أن كل سليم طبعه لا يخلو من (٢) عمل ، وعمله لا يخلو من (٣) إحدى ثلاثة أوجه : إما أن يكون في مباح أو أمر أو نهي ، ومعلوم أن من استعمل المباح فهو يستعين به في إقامة الأمر ، إذ لا بد من البقاء لإقامة الأمر ؛ وذلك باستعمال المباح والاشتغال بأسبابه ، فكأنه في إقامة ذلك الأمر ؛ فحقيقته ترجع إلى أن الأعمال في الحقيقة تنصرف إلى نوعين : إلى أمر ونهي ، ومعلوم أن من كان في أمر ، فهو تارك لما نهي عنه ، ومن كان في نهي فهو تارك لما أمر به ، والتجارة في الحقيقة هو أن يأخذ شيئا [و] يترك شيئا آخر ، وإذا تحقق معنى التجارة في أعمال بني آدم ، أطلق لها لفظ : التجارة.

قال : والدنيا لها ثلاثة أسماء : المتجر ، والمزرع ، والمسلك ، وقد وصفنا معنى التجارة ، وأما معنى المزرع ؛ فلأجل أن كل من يعمل في الدنيا فإنما يعمل لعاقبة ، ولا بد أن تكون عاقبته خيرا أو شرّا ، فكل من كانت عاقبته الخير فهو زارع للخير ، ومن كانت عاقبته الشر ، فهو زارع للشر ، والله أعلم.

وأما معنى المسلك [والطريق ، فلأجل أن الخلق لم يخلقوا في هذه الدنيا ليقروا فيها ، وإنما خلقوا](٤) لأحد أمرين : [إما للثواب أو للعقاب](٥) فكل من عمل عملا يفضي به إلى الثواب والجنة فكأنه يسلك طريق الجنة ، وكل من عمل عملا يفضي به إلى النار ؛ فكأنه يسلك طريق النار ؛ فلذلك سمي : مسلكا وطريقا ، والله أعلم.

ثم التغابن عندنا يجوز أن يكون معناه : أن أهل الكفر يغبنون في أهلهم وأموالهم في [الدار](٦) الآخرة ؛ لأنهم كانوا يتعاونون بهم في الدنيا ، فحسبوا أنهم يكونون كذلك في الآخرة ، فإذا لم يجدوا وصاروا يلعن بعضهم بعضا ، غبنوا ما كانوا يأملونه منهم.

وقال بعضهم : إن لكل كافر في الجنة قصرا وبيتا وأهلا ، فإذا صاروا إلى النار ، ورث المؤمن أهله وقصره الذي كان له في الجنة ؛ [فهذا هو التغابن ، ولكن هذا](٧) غير صحيح عندنا ؛ لأنه لا يحتمل أن يبني الله تعالى للكافر في الجنة بيتا مع علمه أنه لا يأتيه ؛ لأن

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : عن.

(٣) في ب : عن.

(٤) ما بين المعقوفين سقط في ب.

(٥) في ب : أحدهما : الثواب ، والثاني : العقاب.

(٦) سقط في أ.

(٧) في ب : فهو التغابن ، وهذا.

٣٧

هذا فعل من لا يعلم العواقب ومن هو عابث في فعله ، جل الله تعالى عن مثل هذا الوصف ، إلا أن يحمل على الوعد إن ثبت الخبر ، أي : إن أسلم الكافر كان له ذلك المنزل في الجنة ، وإن ارتد المسلم عن الإسلام ، كان له ذلك المنزل في النار ، وهو عالم أن عاقبة أمره ما ذا : الكفر أو الإسلام؟ وأن مأواه النار أو الجنة وحكمه على ما علم وأراد ، ولكن الله تعالى عالم بما كان وما يكون وبما لا يكون أن لو كان كيف يكون ، فأخبر على ذلك ، وإلا لم يصح ، لما ذكرنا من المعنى ، والله الموفق.

ويحتمل : أنه إنما سماه : يوم التغابن ؛ لأن الدنيا جعلت أسواقا ، والأحوال التي تكون لهم رءوس الأموال ، والأعمال التي يعملون فيها ويكتسبون تجارة ؛ قال الله تعالى : (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) [الصف : ١٠] ، ثم قال : (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ...). الآية [الصف : ١١] ، وقال في آية أخرى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ ...). الآية [التوبة : ١١١] وقال (اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) [البقرة : ١٦] ، وقال : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) [البقرة : ٨٦] ، فإذا كانت الدنيا متجرا فالآخرة هي التي يقسم فيها الأرباح ، وفي ذلك يقع الربح والخسران ، ويظهر الغبن والفضل أو النقصان والزيادة ، والله أعلم.

أو سماه : يوم التغابن ؛ لما يظهر لهم في ذلك أنهم خسروا أو ربحوا ، ولا يظهر لهم ذلك في الدنيا ، ثم بين العمل الذي يربح عليه ، والعمل الذي يخسر به ، والتجارة التي يوصل بها إلى الأرباح ، والتي يلحق بها الخسران ، وهو ما قال : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ...). الآية (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا ...). الآية.

ثم قوله ـ عزوجل ـ (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً).

يعني : ومن يؤمن بالله على ما جاءت به الرسل جملة ، وأن له الخلق والأمر ، ويؤمن بالرسل والبعث ـ فذلك هو الإيمان بالله تعالى.

وقوله : (وَيَعْمَلْ صالِحاً).

[يعني : ومن يؤمن بالله ويعمل](١) في إيمانه صالحا إلى أن يموت.

وقوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا).

يعني : كفروا بوحدانية الله تعالى وبقدرته ، وكذبوا بآياته ، أي : بحججه ، أو كذبوا بالبعث (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).

__________________

(١) في ب : أي : يعمل.

٣٨

قوله تعالى : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٢) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)(١٣)

وقوله ـ عزوجل ـ : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ).

قال بعضهم : (بِإِذْنِ اللهِ) يعني : بأمر الله ، وهو قول الحسن.

وقال بعضهم : (بِإِذْنِ اللهِ) يعني : بعلم الله.

وقال بعضهم : (بِإِذْنِ اللهِ) يعني : بمشيئة الله.

ولكل من ذلك وجه :

فأما من قال : بأمر الله ، فمعناه وحجته : أن هذه المصائب كلها عقوبات ؛ ألا ترى إلى قوله : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشورى : ٣٠].

ومعلوم أن جزاء ما كسبت يده عقوبة له ، والتعذيب والعقوبة إنما يكون بأمر الله ؛ فلذلك قال : معنى قوله : (بِإِذْنِ اللهِ) أي : بأمر الله.

لكن عندنا هذا يرجع إلى ما يصيبهم من أيدي الخلق ، كقوله تعالى : (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ) [التوبة : ١٤] ، وقوله : (هَلْ تَرَبَّصُونَ ...). إلى قوله : (أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا) [التوبة : ٥٢] ونحو ذلك ، وهذه المصائب لا تحتمل [تأويلا للأمر](١) من الله تعالى.

ومن قال : بعلم الله ، فوجه ذلك : أن هذه المصائب فيها إهلاك العبيد ، وفي الشاهد أنه لا يحب أحدا أن يعلم بما فيه هلاك عبيده وخدمه ، فأخبر ـ عزوجل ـ أن هذه المصائب وإن كان فيها هلاك عبيده فإنما يكون ذلك بعلمه ، وأن هلاكهم لا يضره ، ولا ينقص من ملكه ؛ لأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ أنشأ ما أنشأ من الخلائق لحاجة لهم ، ولمنفعة ترجع إليهم ومضرة تلحقهم ؛ فحلول ما يحل بهم من المصائب لا يضره ولا ينفعه [لذلك كان علمها ما ذكر](٢).

ومن قال : بمشيئة الله وإرادته فوجه ذلك : أن الله تعالى وعد وأوعد ، ولا محالة يريد من عبيده ما يكون بوعيده عادلا وأن يضع وعده موضعه ، وإذا كان كذلك ثبت أنه يريد من كل أحد ما يعلم أنه يكون منه ؛ لأنه إذا خلق النار ، وأوعد عليها ، فلو أراد من كل منهم الطاعة ، لكان إذا أحرق بالنار أحرق من أراد منه الطاعة فدخل في حد الجور ، ولو كان

__________________

(١) في أ : الأمر.

(٢) في ب : لذلك على ما ذكر.

٣٩

يريد [من كل منهم](١) المعصية ، لكان إذا أنجز وعده ، وأدخله [الجنة ، كان يضع ثوابه غير موضعه ويخرج عن حد الحكمة ، وإذا كان](٢) كذلك ، ثبت أنه أراد من كل ما علم أنه يختاره ، ويكون منه ليخرج فعله على الحكمة ، والله الموفق.

ونحن نقول : قد ذكر الله تعالى الإذن في مواضع مختلفة ، ولكل من ذلك وجه غير وجه صاحبه ، فالواجب أن يصرف معناه في كل موضع إلى ما يليق (٣) به ، والله أعلم.

وقوله عزوجل : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ).

قال أبو بكر : أي : من آمن بما شاهد (٤) من التدبير ، يهديه الله تعالى ؛ ليعلم أن من دبر هذا التدبير هو الذي ابتلاه بهذه المصيبة.

ويجوز أن يكون تأويله على وجه آخر ، وهو أن يقول : من يؤمن بالله أن له الخلق والأمر ـ يهد قلبه ؛ ليسكن ، ويعلم أن الله أولى به ؛ فيسترجع عند ذلك ، وذلك تأويل من قرأ يهدأ قلبه أي : يسكن ؛ من الهدوء وهو السكون ، والله أعلم.

والثاني : يحتمل أن تكون هذه الهداية وإن خرجت على لفظ الإحداث ، فليس على الإحداث ولكن معناه : أن إيمانه بالله تعالى إنما كان بهدايته منه ؛ لأنه لا يجوز أن يكون الإيمان متقدما والهداية متأخرة ، ولكن حين هداه ، آمن بما هداه ؛ وهذا على ما قال الله تعالى : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [البقرة : ٢٥٧] فهذا خرج في الظاهر على لفظ الإحداث ، ولكنه في الحقيقة ليس عليه ولكن على معنى أنهم لما آمنوا ، أخرجهم بالإيمان من الظلمات إلى النور بعد الإيمان ، فكذلك الأول ، والله أعلم.

ويجوز أن يكون تأويله : أن الله يهدي قلبه ، أي : يتوب عليه من الزلات عند الموت ؛ على ما قال الله تعالى : (وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) [الأحزاب : ٧٣].

وقيل : فيه لغات أربع (يَهْدِ قَلْبَهُ) بنصب الياء والباء جميعا ، و (يَهْدِ قَلْبَهُ) برفع الياء والباء جميعا ، و (يَهْدِ قَلْبَهُ) بفتح الياء وضم الباء ، أي : يهتدي ، و (يَهْدِ قَلْبَهُ) من السكون.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

الأصل في الأسماء المشتركة إذا أضيف شيء منها إلى الله تعالى ، فحق التخصيص في

__________________

(١) في أ : منه.

(٢) سقط في ب.

(٣) في أ : يبني.

(٤) في أ : شهد.

٤٠