تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٩٥

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) :

جائز أن يكون أريد بالثياب نفسه ، وتجعل الثياب كناية عنها ؛ كما ذكر أن العرب كانت تقول إذا كان الرجل ينكث بالعهد (١) ، وليس بذي وفاء : إنه لدنس الثياب ؛ وإذا كان له وفاء قالوا : إنه لطاهر الثياب.

فإن كان الخطاب متوجها إلى النفس ، فتأويله ـ والله أعلم ـ : أن طهر خلقك ، وأفعالك ، وأقوالك عما تذم عليه.

وجائز أن يكون أريد بها الثياب ؛ فيكون قوله : (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) متوجها إلى التطهير من النجاسات (٢) ، وإلى التطهير من الأدناس.

فأما التطهير من الأنجاس ، فقد امتحنا جميعا نحن ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [به].

وأما التطهير من الأدناس ، فجائز أن يؤمر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة ؛ لأنه كان مأمورا بتبليغ الرسالة إلى الخلق ؛ فندب إلى تطهير ثيابه من الدنس ؛ لئلا يستقذر ، بل ينظر إليه بعين التبجيل والعظمة ، وليس هذا على تطهير الثياب خاصة ؛ بل أمر أن يطهر جميع ما يقع (٣) له به التمتع من المأكل والمشرب والملبس وغيرها ، والله أعلم.

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : أي : لا يلبس الثوب على فخر ولا غدر (٤).

قيل : وكان الرجل إذا كان غادرا في الجاهلية يقال : إنه دنس الثياب (٥).

وقال الحسن : خلقك فحسّنه (٦).

وقال بعضهم : أي : قصر ثيابك ولا تطولها ؛ فتقع أطرافها على الأرض ؛ فتصيبها النجاسات ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) :

فالرجز : اسم للمأثم ، واسم لما يعذب عليه ؛ فيكون منصرفا إلى ما تتأذى به النفس وتتألم به كالسبة في أنها اسم لما يتأذى به ولما تتألم عليه النفس ؛ فقال الله تعالى : (لَهُمْ

__________________

(١) في أ : العهد.

(٢) في أ : النجاسة.

(٣) زاد في ب : عليه.

(٤) أخرجه ابن جرير (٣٥٣١٥ ، ٣٥٣١٦) وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن الأنباري في الوقف والابتداء ، وابن مردويه من طريق عكرمة عنه ، كما في الدر المنثور (٦ / ٤٥١).

(٥) قاله سعيد بن جبير أخرجه ابن أبي شيبة وابن المنذر عنه ، كما في الدر المنثور (٦ / ٤٥١).

(٦) أخرجه ابن المنذر عنه ، كما في الدر المنثور (٦ / ٤٥٢).

٣٠١

عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) [سبأ : ٥] ، فالمأثم اسم لما تتأذى به (١) النفس ، فهو اسم للأمرين : [العذاب وما تتألم به](٢) جميعا.

وصرف أهل التأويل الرجز إلى المأثم هاهنا.

وذكر قتادة أنه كان بمكة صنمان : إساف ، ونائلة ، فكان من أتى عليهما من المشركين مسح وجوههما ، فأمر الله ـ عزوجل ـ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعتزلهما بقوله : (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ)(٣).

وقيل ـ أيضا ـ : بأن المشركين قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو مسحت وجوههما ، لكنا نؤمن لك ونتبعك ؛ فأنزل الله تعالى : (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) ، أي : فاهجر عبادة الأوثان.

وقيل : الرجز : العذاب.

فجملته ترجع إلى ما ذكرنا : أنه اسم للعذاب ، ولما يعذب عليه ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) :

قال مجاهد والحسن : تأويله : ألا تستكثر عملك ، فتمن به على ربك (٤) ؛ على التقديم والتأخير.

فإن كان التأويل هذا ، فالمراد من الخطاب غير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن كان هو المذكور في الخطاب ؛ إذ لا يتوهم أن يكون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمن على ربه ، ولا أن يستكثر عمله لله تعالى ؛ لأن هذا النوع من الصنيع لا يفعله واحد من العوام الذي خصّ بأدنى خير ؛ فكيف يتوهم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟!

ولأن الامتنان على الله تعالى من فعل المنافقين ؛ قال الله تعالى : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ) [الحجرات : ١٧].

ويجوز أن يكون الخطاب له ، وإن كان هو معصوما من ذلك ؛ لقوله : (وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) [القصص : ٨٨] ، ونحوه ، وهذا كما ذكرنا أن العصمة لا تمنع وقوع النهي ؛ إذ العصمة [لا](٥) ينتفع بها [إلا] مع ثبات النهي ، فإذا لم يكن فلا فائدة في العصمة.

وقال بعضهم (٦) : (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) ، أي : لا تعطيه عطية تلتمس بها أفضل منها في

__________________

(١) في ب : بها.

(٢) في ب : والعذاب مما نتألم به.

(٣) أخرجه ابن جرير عنه (٣٥٣٤١).

(٤) أخرجه ابن جرير (٣٥٣٦٣ ، ٣٥٣٦٥) عن الحسن ، وأخرجه عبد بن حميد ، وابن المنذر عن مجاهد كما في الدر المنثور (٦ / ٤٥٢).

(٥) سقط في ب.

(٦) قاله ابن عباس (٣٥٣٤٦) ، وابن مردويه ، والطبراني من طرق عنه ، كما في الدر المنثور (٦ / ٤٥٢).

٣٠٢

الدنيا من الثواب ، نهى عن اكتساب الأسباب التي يتوصل بها إلى استكثار المال في الدنيا من التجارة وغيرها ، إلا القدر الذي لا بد له منه ، وتقع إليه الحاجة ؛ ألا ترى إلى قوله : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) [الحجر : ٨٨] ، فإذا نهى عن مد عينيه إلى ما متعوا ؛ ففي اكتساب أسباب المال أحق ؛ ثبت أن الله تعالى نهاه عن اكتساب ذلك وجمعه ، وجعل رزقه ـ عليه‌السلام ـ من الوجه الذي لا يبلغه حيل البشر ، وهو الفيء والغنيمة ، ثم نهى عن إمساكه وادخاره لنفسه ؛ بل أمر أن يصرفه في أمته بقوله ـ عليه‌السلام ـ : «ما لي من هذا المال إلا الخمس ، والخمس مردود فيكم» وقال الله ـ عزوجل ـ : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى ..). الآية [الحشر : ٧] ، وذكر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان لا يدخر لغد ، وقال تعالى : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ. مَتاعٌ قَلِيلٌ) [آل عمران : ١٩٦ ، ١٩٧] ؛ فثبت أنه كان منهيا عن اكتساب الأسباب التي يتوصل بها إلى اكتساب الأموال ، وإلى الجمع ؛ فنهي عن العطايا التي يلتمس بها أفضل منها في الدنيا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) :

في هذا دعاء إلى إخلاص الصبر لله تعالى ، وإلى الصدق فيه.

وفي قوله ـ عزوجل ـ : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) [القلم : ٤٨] دعاء إلى نفس الصبر.

وجائز أن يكون هذا ـ أيضا ـ على الأمر بالصبر ؛ فيكون على التقديم والتأخير ؛ كأنه يقول : فاصبر لربك ، أي : اصبر على ما تؤذى ، ولا تجازهم بصنيعهم ؛ فإن الله تعالى يكفيهم ؛ فيكون في هذا إبانة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد امتحن بالأمور التي تكرهها نفسه ، وتشتد عليها ؛ فدعاه الله تعالى إلى الصبر على تحمل المكاره ، والله أعلم.

قوله تعالى : (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (١٢) وَبَنِينَ شُهُوداً (١٣) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (١٤) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (١٥) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (١٦) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (١٧) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠) ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (٢٦) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (٢٧) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (٢٨) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (٢٩) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (٣٠) وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ

٣٠٣

إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (٣١) كَلاَّ وَالْقَمَرِ (٣٢) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (٣٣) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (٣٤) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (٣٥) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (٣٦) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ)(٣٧)

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) :

(نُقِرَ) : أي : نفخ ، و (النَّاقُورِ) : الصور ، وهي كلمة كتب الأولين ذكرها هنا ، (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) ، وقال في موضع آخر : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) [الحاقة : ١٣] ، وقال في موضع آخر : (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) [يس : ٢٩].

فجائز أن يحمل هذا كله على التحقيق ؛ فتتحقق (١) الصيحة والزجرة والنقرة ، ثم تعقبها الساعة.

وجائز أن يكون هذا على التمثيل ؛ فيكون فيه إخبار عن سهولة ذلك الأمر وهونه على الله تعالى ؛ لأن اللمحة والزجرة والنفخة والنقرة أمر سهل ، لا يشتد على أحد.

أو يكون على تقصير الوقت على الذين ينفخ فيهم الروح ، أي : الأرواح ترد عليهم في قدر النفخة ، والزجرة ، والصيحة ؛ خلافا لأمر النشأة الأولى ؛ لأنه في النشأة الأولى إنما نفخ فيه الروح بعد كونه نطفة في بطن أمه أربعين يوما ، ثم علقة ، ثم مضغة كذلك القدر من المدة ، ثم نفخ فيه الروح بعد مدد وأوقات ، وفي النشأة الأخرى ينفخ [الروح](٢) بالقصر من المدة ، وذلك قدر النفخة والزجرة والصيحة واللمحة ، والله أعلم.

وإنما قلنا بأن التأويل قد يتوجه إلى التمثيل دون التحقيق ، وإن ذكر في بعض الأحاديث تثبيت الصور والناقور ؛ لأنها من أخبار الآحاد ، وخبر الواحد يوجب علم العمل ، ولا يوجب علم الشهادة ، وفي تحقيق الصور والناقور ليس إلا الشهادة ؛ لذلك لم يحصل الأمر على التحقيق والقطع لئلا نقطع الحكم على الشهادة.

ثم قد ذكرنا أن قوله : «إذا» (٣) جواب سؤال واقع عن تبيين وقت ؛ كأنه قيل له : فاصبر إلى أن ينقر في الناقور.

أو يكون جوابا لقوله : (قُمْ فَأَنْذِرْ) [المدثر : ٢] ، أي : أنذرهم عما (٤) يحل بأهل الشر من العذاب بنقر الناقور.

__________________

(١) في أ : فيتحقق.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : إن.

(٤) في ب : عملا.

٣٠٤

أو يكون جوابا لقوله : (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) إذا نقر في الناقور.

أو كان السؤال واقعا عن أمر ، لم يشر إلى ذلك الأمر ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ. عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) ذلك اليوم يوم رحمة للمؤمنين ؛ إذ في ذلك اليوم يكرمون ، وينالون عظيم الدرجات من ربهم ، ولكن الله ـ عزوجل ـ ذكر ذلك اليوم في غير آي من (١) كتابه ، والأحوال التي تكون فيه ، وإن كانت تلك الأحوال تنزل على غير المؤمنين ، فمرة سماه : واقعة ، ومرة : قارعة ، ومرة : حاقة ، وإنما يقع العذاب على الكفرة ، ويحق عليهم ؛ فلذلك سماه : عسيرا ، وإن كان هو عسيرا على فريق ، يسيرا على غيرهم.

وجائز أن يكون عسيرا على الخلائق أجمع ، بعض هول ذلك اليوم يشمل الفرق كلها ، كما قال : (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى) [الحج : ٢] ، ثم إن المؤمنين تفرج عنهم الأهوال بما يأتيهم من البشارات والكرامات عن الله تعالى ، ويبقى عسره على أصحاب النار.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً).

ذكر أن هذه الآية نزلت في شأن الوليد بن المغيرة (٢) ، والأصل أن الأنباء التي ذكرت عن الأنبياء المتقدمة في المخاطبات التي جرت بينهم وبين الفراعنة فيها إبانة أنها جرت بينهم وبين الآحاد منهم ، وذلك أن فرعون كل نبي كان واحدا ، وكان من سواه يصدر عن رأيه ، وينتهي إلى تدبيره ؛ فكان يستغني عن مخاطبة من سواه ، وقد كثرت فراعنة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكان كل واحد منهم يدعي الرئاسة لنفسه ، ويمتنع عن متابعة غيره ، والصدور عن رأيه والانقياد له ، منهم أبو جهل ، ومنهم الوليد بن المغيرة ، ومنهم أبو لهب ، وغيرهم ؛ فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحتاج إلى أن يخاطب كلا في نفسه ، ومن احتاج إلى مخاطبة أقوام ، وإجابة كل واحد بحياله ، كان الأمر عليه أصعب من الذي احتاج إلى مخاطبة واحد ؛ ففي هذا أن المحنة على رسولنا ـ عليه الصلاة والسلام ـ كانت أكبر مما امتحن بها من تقدمه من الرسل ، عليهم‌السلام.

ثم قوله : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) فيه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يمنعه عن شيء حتى يقول له : (ذَرْنِي) ، ولكن هذا الكلام مما يتكلم به على الابتداء من (٣) جهة إظهار القوة ؛ يقول الرجل لآخر : «خل بيني وبين فلان» ، و «دعني وإياه» من غير أن يكون سبق منه المنع ؛

__________________

(١) في ب : في.

(٢) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير عنه (٣٥٣٨٩) ، وهو قول مجاهد وقتادة وابن زيد وغيرهم.

(٣) في ب : على.

٣٠٥

فيريد به إظهار القوة من نفسه : أنه كافيه ، وقادر على دفع شره عن نفسه ؛ فيكون في قوله : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) دعاء من الله تعالى إياه إلى ألا يتعرض له ، ولا يجازيه بصنيعه ؛ فإن الله تعالى يكفيكه ، ويدفع عنك شره.

أو يكون فيه نهي عن أن يدعو عليه بالهلاك والثبور ، ويصبره [إلى](١) أن يأتيه أمر الله تعالى ؛ فيكون [في](٢) هذا مسلاة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك أن المتنازعين إذا تنازعا في شيء ، وحدث (٣) بينهما شر ، فانتصب ثالث في نصر أحدهما خف الأمر على المنصور ، ويفرح لذلك ، ويسلو به ، فإذا كان الله تعالى هو الذي يقوم بنصر المصطفى ـ عليه الصلاة والسلام ـ ويكفيه عن عدوه ، كان ذلك أكثر (٤) في التسلي والتفرج ؛ فيكون في هذا تمكين من الصبر (٥) الذي دعي إليه بقوله : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف : ٣٥] ، وبقوله : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ..). الآية [القلم : ٤٨].

ثم قوله ـ عزوجل ـ : (خَلَقْتُ وَحِيداً) يحتمل وجهين :

أحدهما : أي : خلقته وحدي ، ولم يكن لي في الخلق ناصر ومعين ولا مشير.

وجائز أن يكون معناه : أي : خلقته وحيدا ، لا مال له ، ولا ولد ؛ فيكون في هذا [وعيد و](٦) تخويف لذلك اللعين ، أي : كيف لا يخاف أن يعاد إلى الحالة التي كان عليها يوم خلق بلا مال ولا ناصر ؛ كقوله : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [الأنعام ٩٤].

وقوله ـ تعالى ـ : (وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً) :

قيل : (مالاً مَمْدُوداً) ، أي : مالا لا ينقطع ، بل يكون له مدد.

وذكر عن مجاهد أنه قال : كان ذلك ألف دينار (٧).

وقال السدي : (مالاً مَمْدُوداً) ثلاثة عشر ألفا.

وقيل : أراد به ما جعل له من الضياع بالطائف ، تثمر (٨) في السنة مرتين.

ولكن عندنا المال الممدود هو المتتابع الذي لا ينقطع مدده ، والذي لا ينقطع مدده لا يقع تحت الإحصاء.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : وجدت.

(٤) في ب : أكبر.

(٥) في أ : البصر. بالباء.

(٦) سقط في ب.

(٧) أخرجه عبد بن حميد ، ومجاهد (٣٥٣٩٥) ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٦ / ٤٥٣).

(٨) في أ : ثم.

٣٠٦

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَبَنِينَ شُهُوداً) :

أي : حضورا ، لا يغيبون ، ويكون فيه وجهان من الحكمة :

أحدهما : أن ماله قد كثر ؛ حتى لم يحتج إلى تفريق أولاده في الجمع والاكتساب ؛ بل كان يأتيه سمحا ، لا يحتاج إلى تكلف أسباب الجمع.

والثاني : أن غاية ما يراد ويتمنى ويلتمس من البنين هو أن يستأنس بالنظر إليهم ، ويستعين بهم ، ويستنصر إذا احتاج إلى ذلك ؛ ففيه أنه قد نال مناه ، ووصل إلى ما ترغب إليه النفوس من كثرة الأموال والأولاد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً) ، أي : بسطت له في (١) الدنيا بسطا.

وقيل : التمهيد : هو التمكين.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ. كَلَّا).

فجائز أن يكون طمعه منصرفا إلى الزيادة في الآخرة ؛ كقوله : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [الجاثية : ٢١] ، فحسبوا أنهم إذا ساووا أهل الإيمان في الدنيا (٢) يساوونهم في الآخرة لو كانت الآخرة حقا ؛ فكذلك هذا اللعين حسب أنه يبسط عليه نعيم الآخرة كما بسط عليه نعيم الدنيا ؛ فكان قوله : (كَلَّا) ردا عليه.

فإن كان على هذا ، ففيه أعظم الدلالة على إثبات رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه أخبر أن ليس له نصيب في الآخرة ؛ وإنما يحرم النصيب إذا ختم على الكفر كما قال ، فكان. وهذا إخبار منه عن أمر الغيب ، فصدق خبره ، وخرج الأمر حقا كما قال ؛ فثبت أنه بالله تعالى علمه.

وجائز أن يكون طمعه الزيادة (٣) في الدنيا ؛ فقطع عليه طمعه بقوله : (كَلَّا).

وذكر أن ماله بعد نزول هذه الآية أخذ في الانتقاص إلى أن أهلكه الله تعالى ، ولم يزد شيئا ؛ فيكون في هذا ـ أيضا ـ ما في الأول من إثبات الرسالة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً) :

في هذا تصبير لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأن الله تعالى أكثر نعمه عليه ، ثم ذلك الملعون مع كثرة نعم الله عليه وإحسانه إليه ، عاند ، ولم يطعه في أوامره ؛ فكيف ترجو أنت منه في معاملته إياك مع معاملتك إياه بما يخالف مراده وهواه؟ فيكون فيه ما يدعوه إلى الصبر.

__________________

(١) في ب : من.

(٢) زاد في ب : إن.

(٣) في ب : للزيادة.

٣٠٧

والعناد : هو مخالفة الحق عن علم بظهور الحق ؛ فيكون قوله : (إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً) : أنه بعد علم وإحاطة ويقين عاند آيات الله ، وخالف أمر رسوله ، واستكبر.

والمكابر هو الذي يكابر عقله ، فيخالف ما يثبته عقله بالأقوال أو (١) بالأفعال.

ثم في قوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ. كَلَّا) إبطال قول من قال : إن الله تعالى لا يفعل بعباده إلا ما هو الأصلح لهم ؛ لأن قوله : (أَنْ أَزِيدَ) لا يخلو إما أن تكون الزيادة التي كان يطمعها خيرا له ، وفي شرط الله ـ تعالى ـ عندهم أن يزيده ، وفي قوله : (كَلَّا) قطع طمعه للزيادة ؛ فيصير بحرمان الزيادة عنه جائرا ؛ فكيف حصل آية رسالته من الوجه الذي هو جور (٢) عندكم.

وإن كان حرمان الزيادة خيرا له وأصلح ؛ فكيف جعل الحرمان ـ أيضا ـ علما لنبوته ، وكان عليه أن يحرمه على زعمكم.

وفي قراءة عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : ثم يطمع أن يزيد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) :

جائز أن يكون على تحقيق الصعود ، وهو العقبة التي يشتد الصعود عليها ؛ كما ذكره بعض أهل التأويل ، فيكلف الصعود عليها (٣).

وجائز أن يكون على التمثيل ؛ وذلك لأن الصعود في الشاهد مما يشق على المرء ، والهبوط مما يسهل على المرء الانحدار عنه.

فإن كان على هذا ، ففيه أنه يصيبه في الآخرة مما يشتد ويشق على نفسه تحمل ذلك.

ثم يقال للمعتزلة في هذه الآية وفي قوله : (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) : إن في هذا وعيدا من الله تعالى بأن يصليه سقر ، وسيرهقه صعودا ، فأراد الله تعالى أن يصدق خبره ، وينجز وعده ، أو أراد أن يكذب خبره ، ويخالف وعده؟

فإن قلتم بالثاني ، فقد نسبتموه إلى الكذب ، وإلى خلف الوعد ؛ ومن هذا وصفه فهو سفيه جاهل ، لا يصلح أن يكون إلها.

وإن قلتم : بلى ، أراد أن يصدق خبره ، وينجز وعده ، قلنا لكم : أراد أن ينجز وعده مع دوامهم على الكفر ، أو عند انقلاعهم عنه؟

فإن زعمتم أنه إنما أراد أن يصليهم سقر على الخروج من الكفر ، فهذا منه جور ؛ لأنه

__________________

(١) في أ : و.

(٢) في ب : يجوز.

(٣) في ب : عليه.

٣٠٨

يصليهم سقر بشيء لا إرادة لهم فيه.

وإن (١) سلمتم أنه أراد إصلاءهم سقر إذا داموا على الكفر واستقروا عليه ، فقد لزمكم أن تقولوا : إن الله تعالى أراد من كل أحد ما علم أنه يختاره ، ويكون منه.

ويقال لهم : إن الله تعالى يقول : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِ) [الإسراء : ١١١] ، ولو كان الأمر على ما زعمتم : أنه يريد من كل كافر أن يسلم ، ويؤمن به ، ويريد الكافر أن يكفر به ، ويعاديه (٢) ، فإذن قد أراد أن يكون له ولي من الذل ؛ لأنه يريد أن يواليه مع اختيار الكافر في معاداته ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوّا كبيرا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ).

قال الفقيه [ـ رحمه‌الله ـ](٣) : إن فراعنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اعتقدوا (٤) معاندة الحق ، واعتقدوا صد الناس عن سبيل الله وأن يطفئوا نوره ، فأرادوا أن يجمعوا على أمر ينسبونه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على وجه ينفون عن أنفسهم سمة الجهل وتهمة الكذب في ذلك ، على ما ذكروا أن الوليد جمع أصحابه ، فقال : إن هذه أيام الموسم ، وإن (٥) الناس سائلوكم عن هذا الرجل ؛ فما ذا تقولون؟

فقال بعضهم : نقول : هو شاعر ؛ قال : إنهم قد سمعوا الشعر ، وما قوله بقول شعر.

وقال بعضهم : نقول : هو كاهن ؛ فقال : إن الكهانة معروفة عند العرب ، وإذا سمعوا قوله عرفوا أنه ليس بكاهن ؛ فيكذبونكم.

وقال بعضهم : نقول : هو كذاب ؛ فقال : إنا قد اختبرناه فما أخذنا عليه كذبة قط.

فقال بعضهم : نقول : هو مجنون. فقال : إذا نظروا إليه علموا أنه ليس بمجنون ، فأعيا عليهم ، ففكر في نفسه وقدر ، فقال : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ)(٦) : ما هذا الذي أتى به إلا سحر يؤثره عن غيره ـ أي : يرويه ـ فاتفقت كلمتهم على تسميته : ساحرا ، وقالوا : الساحر يفرق بين اثنين ، وقد وجد منه التفريق بين الآباء والأولاد وبين ذوي الأرحام ؛ رجاء أن يصلوا إلى مرادهم من صد الناس عن سبيل الله تعالى وإطفاء نوره ؛ مكرا منهم ،

__________________

(١) في ب : فإن.

(٢) في ب : وبعبادته.

(٣) في ب : رضي الله عنه.

(٤) في ب : عقدوا.

(٥) في ب : فإن.

(٦) أخرجه أبو نعيم في الدلائل من طريق مجاهد عن ابن عباس ، كما في الدر المنثور (٦ / ٤٥٤) وله طرق أخرى ذكرها السيوطي في المصدر السابق.

٣٠٩

وهو كقوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ) [الأنعام : ١٢٣].

ووجه رجوع المكر إلى أنفسهم ذكروا فيه أوجها :

أحدها : رجوع المكر إلى أنفسهم : أن الله تعالى أظهر سوء صنيعهم برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجعله آية تتلى إلى يوم القيامة ؛ فيكون فيه ظهور كذبهم ، وإلحاق العار بهم إلى يوم التناد ، وتوارد (١) اللعن.

والثاني : أن الكبراء إذا اجتمعوا في مكان للتدبير ، اتصل بهم أوساطهم واختلط بهم صغارهم فيقع لجملتهم العلم بالذي وقع عليه التدبير واتفقت عليه الكلمة ، وإذا وقفوا على تدبيرهم جملة ، انتشر علم (٢) ذلك في الآفاق ، فيقف الناس على كذبهم وافتعالهم ، فيتحقق عند ذلك جهلهم بحال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويصير كذبهم شائعا في الخلق ظاهرا من الوجه الذي أرادوا نفي سمة الجهل عن أنفسهم ؛ ويتحقق عند الناس كذبهم ؛ فلا يركنوا إلى قولهم ولا يلتفتوا إلى إخبارهم عن حاله ؛ إذ قد تبين جهلهم بحاله ؛ فيكون ذلك سببا لترغيب الناس إلى الإسلام ودعائهم إليه ، لا أن يكون سببا للصد عن سبيل الله ؛ فصار المكر راجعا إليهم.

ثم قوله : (إِنَّهُ فَكَّرَ) ، أي : فكر في الأمر الذي أراد إحكامه ، أو فكر في الكلمات التي ألقوها فيما بينهم ، أيها أليق برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فينسب إليه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقَدَّرَ) يخرج على هذا أيضا.

وقوله : (فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) ، قيل : لعن ، واللعن هو الإبعاد عن رحمة الله تعالى ، وقد ظهر الإبعاد ؛ لأن مادة ماله قد انقطعت في الدنيا ، وأخذ ما كان اجتمع عنده في الانتقاص إلى أن أهلكه الله تعالى ، ثم ساقه إلى النار خالدا فيها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (كَيْفَ قَدَّرَ) ، أي : كيف لم يستح عن تقديره الذي قدر من تسمية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ساحرا ، وقد علم أنه في إنشاء ذلك الاسم كاذب؟

أو كيف اجترأ على الله تعالى ، وتجاسر وهو يعلم أنه رسول حق ، فعاند آياته ، واجترأ على ذلك ، ولم يخف نقمة الله تعالى؟!.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) فلعنه مرتين ، وقد ظهر أثر اللعن فيه في الدنيا والآخرة جميعا ؛ لأن الله تعالى فضحه بما أظهر كذبه للخلائق ، فبقي ذلك العار إلى آخر

__________________

(١) في ب : وبوار.

(٢) في أ : انتشروا على.

٣١٠

الأبد وأبعده من رحمته ؛ حيث أخذ ماله في الانتقاص ، وانقطعت مادة ماله ، فهذا أثر اللعن في الدنيا ، ووعد أن يصليه سقر ، وأن سيرهقه صعودا ، وذلك خزيه ولعنه في الآخرة ، فظهرت (١) ، إحدى اللعنتين في الدنيا وتلحقه الثانية في الآخرة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ نَظَرَ) جائز أن يكون نظر في كلمات القوم التي ألقوها فيما بينهم.

وقوله : (ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ) جائز أن يكون الذي حمله على العبوس والبسور هو ما ألقوا إليه المختلف (٢) من الكلمات ، فعبس وجهه عليهم ؛ لما في اختلافهم ظهور كذبهم.

أو يكون الذي دخل عليه من شدة الغيظ في أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهمه وأحزنه ، حتى أثر ذلك في وجهه ، فعبس لذلك وجهه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ) :

يحتمل أن يكون أدبر عن أولئك القوم الذين اجتمعوا للتدبير ، واستكبر عليهم.

أو أدبر عن طاعة الله تعالى ، واستكبر على رسوله ؛ حيث أعرض عنه ، ولم يجبه إلى ما دعاه إليه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) :

أي : هذا الذي أتى به محمد مما يؤثر من أفعال السحر.

أو هذا الذي يخبر (٣) أنه أتى به من عند الله هو سحر يؤثر عمن تقدمه ، ولكن قال هذا على علم منه أنه ليس بسحر.

قال الفقيه ـ رحمه‌الله ـ : ولو كان الذي أتى به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم سحرا كما قرفوه به ، فهو لا يخرج من أن يكون حجة له في صدق مقالته وإثبات رسالته ؛ لأنه لا وجه لمعرفة السحر من طريق الرأي والتدبير ، وإنما سبيل الوصول إليه الإتقان والتلقن عن الغير ، وقد علموا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يلقنه أحد ، ولا وجد منه الاختلاف إلى من عنده علم ذلك ، فوقع لهم الإيقان (٤) : أنه بالله تعالى علم لا بأحد من الخلائق ؛ فيصير الذي قرفوه به من أعظم الحجة ، ولكن الله تعالى طهره عن السحر ، ونزهه عن ذلك ، وأمره بمعاداة السحرة حتى قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اقتلوا كل ساحر وساحرة» (٥) ، وقال : «توبة الساحر ضربة

__________________

(١) زاد في ب : من.

(٢) في ب : التخلف.

(٣) في ب : يخبرنا.

(٤) في ب : الإتقان.

(٥) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (١ / ١٤٥).

٣١١

بالسيف» (١).

ثم الأصل أن الساحر يفرق بين الاثنين ، ويعمل سحره في التفريق على وجه لا يوقف على سبب التفريق ، وكان سبب تفريق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ظاهرا ؛ لأنه كان يأتيهم بالحجج ؛ فيعلم من أمعن النظر فيها صدّقه فيما يدعي من الرسالة فيؤمن به ، ومن ترك النظر فيها ، ولم يعط من نفسه النصفة ترك الإيمان به ؛ فبطل أن يكون تفريقه كتفريق السحر.

ولأن كلّا منهم لو تفكر فيما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأمعن النظر فيه ، حمله ذلك على الإيمان به ، والتصديق لرسالته ؛ فيصير الذي جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبب [الاجتماع والألفة](٢) ، لا أن يكون سبب التفريق بين الأحبة.

ثم الأصل أن الساحر بغيته وقصده من سحره نيل الجاه عند العظماء والرؤساء واستفادة السعة في الدنيا ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لم يكن يطلب بما أتى به الجاه عند الرؤساء ، بل عاداهم ، وأظهر الخلاف لهم ، فدعا الخلق إلى الزهادة في الدنيا لا إلى الاستكثار منها ، فكيف يجوز أن ينسب إلى السحر ، وقد أتى بما يضاد فعل السحرة؟.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) :

قد علم أنه ليس بقول البشر ؛ لما عجز البشر عن إتيان مثله ، وقال : (إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً) ؛ فثبت أنه على العلم منه بأنها آيات عاند.

وقوله ـ عزوجل ـ : (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ).

السقر : لون من العذاب.

وقيل : السقر : هي الدركة الخامسة.

وقيل (٣) : السقر : من أبواب جهنم ، ومعناه (٤) : سأدخله جهنم من باب السقر ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ) :

يحتمل : أي : لا تبقي [له] حياة يتلذذ بها ، ولا تذره يهلك فيستريح ، بل يبقى أبدا في الهلاك ، كما قال تعالى : (فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) [طه : ٧٤].

ويحتمل : لا تبقي له جلدا ولا لحما ولا عظما ، بل تنضج جلده وتأكل لحمه ، وتكسر عظمه ، ولا تذره على تلك الحال كسير العظم ، مأكول اللحم ، نضيج الجلد ، بل يعاد

__________________

(١) ذكره ابن حجر في فتح الباري (١٠ / ٢٣٦) بلفظ : حد الساحر.

(٢) في ب : للاجتماع وللألفة.

(٣) انظر : تفسير ابن جرير (١٢ / ٣١٠).

(٤) في ب : فمعناه.

٣١٢

جلده ولحمه وعظمه فتحرقها كذلك (١) أبدا ، ولا تبقي له روحا ولا تذره فيهرب منها ؛ فيتخلص من عذابها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) :

قيل (٢) فيه بوجوه :

قيل (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) ، أي : محرقة للجلد ، فالبشر : الجلد ، فجائز أن خص الجلد بالتلويح ؛ لأن الجلد من الإنسان هو الظاهر ؛ فيكون ظاهر الإحراق مؤثرا فيه ؛ فخصه بالذكر لهذا ؛ كما سمي الإنسان : إنسانا ؛ لظهوره لكل من هو من أهل الروية ، وسمي الجن جنا : لاستتاره عمن ليس من جنسه ، وهو كقوله ـ عزوجل ـ : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ) [النساء : ٥٦].

وقيل : (لَوَّاحَةٌ) ، أي : ظاهرة للبشر ؛ كقوله تعالى : (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ) [الشعراء : ٩١].

وقوله : (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى) [النازعات : ٣٦] ، أي : [تظهر لهم](٣) وتلوح ، فينظرون إليها ، ويتيقنون بالعذاب.

ويحتمل أن يكون قوله : (لَوَّاحَةٌ) ؛ لأن النار تأكل جلودهم ولحومهم ؛ فتظهر عظامهم وتلوح عند ذلك ، ثم تبدل جلودا ولحوما ، [أبدا](٤) على هذا مدار أمرهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) :

روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنها ـ أنهم خزنة جهنم مع كل واحد من الأعوان ما لا يحصى ، وذكر أن ستة منهم يقودون الكفرة إلى النار ، وستة يسوقونهم ، وستة يضربونهم بمقامع من الحديد والنيران ، والآخر هو الخازن الأكبر ، وهو مالك يأمرهم بما أمر هو به.

ويحتمل : أن يكون في السقر تسعة عشر دركا (٥) ، وقد سلط على كل درك ملك ؛ وذلك لأن جهنم ذات حد في نفسها ؛ لأن الله تعالى وعد أن يملأها من الجنة والناس ، ولو لم ترجع إلى حد ، لكان لا يتحقق امتلاؤها بالقدر الذي ذكر.

ويحتمل : أن يعذب فيها بتسعة عشر لونا من العذاب ، قد وكل واحد منهم أن يعذب بنوع من ذلك ، والأصل : أن الله تعالى حكيم يعلم أن في كل فعل من أفعاله حكمة

__________________

(١) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٣٥٤٣٤) ، وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عنه ، كما في الدر المنثور (٦ / ٤٥٦) وهو قول قتادة ومجاهد وأبي رزين.

(٢) في ب : لذلك.

(٣) في ب : تطهرهم.

(٤) سقط في ب.

(٥) في أ : دركات.

٣١٣

عجيبة ، ولكن لا كل حكمة يوصل إليها بالعقل ، وينتهى إلى معرفتها بالتدبير ؛ ألا ترى أن الله تعالى جعل في الماء معنى يحيا به كل شيء ، ولو أراد أحد أن يتكلف استخراج المعنى الذي به صلح أن يكون طبيعة موافقا لإحياء كل شيء لا يمكنه ذلك ، وجعل في الطعام ما يغذي وينمي ، ولو أراد أحد أن يتعرف المعنى الذي يقع به الاغتذاء والإنماء لم يتدارك ؛ وكذلك جعل في العدد الذين سماهم حكمة ، ولكنا لا نصل إلى تعرفها (١) بعقولنا وتدبرنا.

وزعمت الباطنية أن في ذكر الأعداد التي عليها تركيب العالم تعريف الأعداد المجعولة في الروحانيات. فيقال لهم : من جعل الأعداد التي عليها تركيب العالم أولى بأن يتعرف بها الأعداد المجعولة في الروحانيات من أن تجعل الأعداد التي في الروحانيات [علما لاستدراك](٢) المجعولة في الجسدانيات؟

ثم يسألون عن الأعداد المجعولة في الروحانيات لأي معنى جعلت؟ وأي حكمة فيها؟ فليس جوابهم بعد هذا إلا العجز والاعتراف بالجهل ، فليقروا بالجهل من الابتداء من غير أن يتكلفوا استخراج ما يوجب عن حقيقة كان فيه ظهور عجزهم ، والله أعلم.

والأصل عندنا ما ذكرنا : أن أهل التوحيد (٣) اعتقدوا أن الله تعالى حكيم ، وأنه لا يجوز أن يخرج فعله عن حد الحكمة ؛ لأن الذي يحمل الإنسان على الخروج عن حد الحكمة في الشاهد أحد معان ثلاثة :

إما الجهل.

وإما العجز.

وإما الحاجة.

والله تعالى عالم لا يجهل ، وقوي لا يلحقه عجز عن وفاء ما وعد ، وغني لا تمسه حاجة ؛ فانتفت عنه الأسباب التي لديها يقع الخروج عن حد الحكمة ، فثبت أنه لا يجوز أن يخرج فعله عن حد الحكمة ، لكنهم إذا لم يعرفوا الحكمة بعقولهم ، ولم يتداركوها بتدبيرهم ، ظنوا أنه لا حكمة فيه ، وأنكروا أن يضاف ذلك إلى الله تعالى ، فأهل الدهر أنكروا البعث ، وأنكروا الصانع ؛ لما رأوا أشياء في الشاهد هي في الظاهر خارجة مخرج العبث ؛ وفعل الحكمة لا يخرج مخرج العبث ، فنفوا بهذا أن يكون للأشياء صانع ، ومن بني بناء ، ثم نقضه ، ثم أعاده إلى الحالة التي كان عليها قبل النقض ، لم يكن حكيما ، بل كان جاهلا سفيها ، فقاسوا أمر البعث على ذلك ، وظنوا أنه خارج مخرج العبث ؛ إذ ليس

__________________

(١) في ب : تعريفها.

(٢) في أ : على الاستدراك.

(٣) في ب : التوحد.

٣١٤

فيه إلا الإعادة إلى الحالة التي كان عليها قبل الموت.

وما ذكرنا من الاعتبار هو الذي حمل الثنوية على القول بإلهين اثنين : أنهم رأوا في الشاهد خيرا وشرا ، وصلاحا وفسادا ، وظلمة ونورا ، ولا يجوز أن يكون جوهر الظلمة والنور واحدا ، ولا يجوز ـ أيضا ـ أن يكون فعل الحكيم يخرج على الاختلاف والتناقض ، فقد بنوا بهذا أن خالق الشر والخير مختلف.

وبهذا أنكرت المعتزلة خلق أفعال العباد ؛ لأن الفعل يكون مرة خيرا ومرة شرا ، ومرة صلاحا ومرة فسادا ، ولا يجوز أن يكون الشر مضافا إلى الله تعالى ، ولا أن يكون الفساد منسوبا إليه ؛ فأنكروا أن يكون لله ـ تعالى ـ في أفعال العباد صنع.

وأهل التوحيد سلموا الأمر إلى الله تعالى ، وفوضوا العلم إليه في كل ما جاء عنه ـ جل وعزّ ـ وإن لم يتداركوا ما فيه من الحكمة بعقولهم ؛ لوجودهم أشياء هي خارجة أن يتداركوها بعقولهم ، ويقفوا عليها بعلومهم ، كما ذكرنا من أمر الماء : أنه قد جعل فيه معنى ، ذلك المعنى يحيي الأشياء ، ولو أرادوا أن يعرفوا ذلك المعنى بالعقول والآراء ، لم يمكنهم ذلك ؛ وكذلك في هذا الطعام ، وفي الأشياء المشروبة موجود ، ثم لم يجب بهذا إنكار المياه وسائر الأطعمة والأشربة ؛ فكذلك لا يجب إنكار العدد الذين سماهم الله تعالى من الملائكة ، ولا إنكار البعث ، ولا إنكار كل شيء لم يقفوا على حكمته بعقولهم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً) :

فلقائل أن يقول في هذا : إنه لم يجعل أصحاب النار إلا ملائكة ، لم يوجد فيها إنسي ولا جني ، فكيف قال : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) [هود : ١١٩] ، وهو لم يجعل أصحاب النار إلا ملائكة؟

[والجواب : أن تأويله :] أي : ما جعلنا على أصحاب النار إلا ملائكة يعذبون أهلها بها ، لا أن يكون الملائكة تمسهم النار ، ويتأذون بها.

وفي هذا دلالة على أن من قرأ مكان قوله تعالى : (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ) [البقرة : ٨٢] : «أصحاب النار» في صلاته لا تفسد ؛ لأنه ليس في نسبة أصحاب الجنة [إلى] أصحاب النار إيجاب عذاب عليهم ؛ كما لم يكن في قوله : (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً) إيجاب عذاب على الملائكة واستحقاقهم ، والله أعلم.

وإنما خصهم بذلك ـ والله أعلم ـ لأنهم خلقوا يسخطون ويغضبون لله تعالى ، ولا يعصون الله ما أمرهم ، ويفعلون ما يؤمرون ، لم يميلوا إلى أحد ، ولم يرحموا بما رأوا

٣١٥

عليه من العذاب في معصية الله وخلافه ، ليسوا على طباع الإنس والجن أن قلوبهم ربما تميل وترحم من لا يستحق الرحمة.

وذكر أهل التأويل أن قوله : (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً) رد على أولئك الكفرة الذين قالوا : «إنا لنكفي هؤلاء العدة ـ حين سمعوا (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) ـ فنغلب عليهم ، ونخرج من النار» ، فأخبر أنهم ليسوا برجال أمثالكم ، إنما هم ملائكة ، ووصف الملائكة ، وقد روى في الأخبار من هول خلقهم ، وعظمهم ، وشدة بأسهم وبطشهم ، وأن لهب النيران يخرج من أفواههم ، وأن بنيتهم لا تحتمل الحرق والآلام ، وليس على ما عليه بنية البشر ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) :

الفتنة : قد يتكلم بها على وجهين :

فتذكر الفتنة ويراد بها المحنة التي فيها الشدة.

وتذكر ويراد بها العذاب.

فإن كان يراد بها العذاب ، فمعناه : أنه جعل العدد الذي ذكر فتنة للكفرة ؛ وهو كقوله : (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) [الذاريات : ١٣] ، أي : يعذبون.

وإن كان يراد بها المحنة ، فتخرج على وجوه :

أحدها : أي : ما جعلنا ذكر عددهم إلا لافتتان الذين كفروا ، أي : من علم الله تعالى منه أنه يكفر بآيات الله تعالى ، جعل ذلك سببا لفتنته إذا كان في علم الله تعالى أنه ممن يبتغي الفتنة ، فأما من علم أنه ينظر في آيات الله مسترشدا ، فلم يزده ذلك إلا إيمانا وتصديقا](١) ؛ إذ علموا أن لله تعالى أن يمتحنهم بأنواع المحن ، فآمنوا به ، وسلموا ذلك لله تعالى ؛ فيكون في جعل عدتهم تسعة عشر شدة على الكفرة ، إذ كان سبب كفرهم ؛ فلذلك سمى المحنة على هذا الوجه فتنة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) بمعنى : على الذين كفروا.

ثم جائز أن يكون ذلك على حدوث الكفر ، وهو في قوم قد آمنوا به ، فلما سمعوا هذا زعموا أن لا حكمة في هذا العدد ، وليس هذا العدد بأولى [من] أن يجعلوا أصحاب النار من العشرين أو من الثمانية عشر ، فكفروا به ؛ وهو كقول موسى ـ عليه‌السلام ـ : (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ) [الأعراف : ١٥٥] ، وذلك على حدوث إضلال لهم لم يكن

__________________

(١) من أول قوله : «وفاء ما وعد» إلى هنا سقط في ب.

٣١٦

من السامري موجود ، لا أن الإضلال متقدم بغيرها.

وجائز أن تكون فتنتهم هي أنهم ازدادوا بذكر هذا العدد كفرا إلى كفرهم ؛ لأنهم نظروا إليه بعين الاستخفاف والاستهزاء ، ولم ينظروا إليه بعين التبجيل والتعظيم ، فازدادوا بذلك كفرا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً) :

الاستيقان والزيادة واحد ؛ لأن في الاستيقان زيادة إيمان ، وفي الزيادة استيقان ، فمعناه : ليستيقن الذين أوتوا الكتاب [و] الذين آمنوا.

ووجه استيقانهم : أنهم يجدون هذا العدد موافقا للعدد الذي في كتابهم ؛ فيحملهم ذلك على الاستيقان أنه من عند الله تعالى.

ويحتمل أنه يراد به أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا إذا وجدوا ذلك موافقا لما في كتبهم ؛ فيستيقنون : أنه إنما يخبر عن الله تعالى ، ويرتفع عنهم الارتياب ؛ ليكون أدعى لهم إلى الإيمان به ، إن أراد منهم الإيمان ، وأقرب إلى إلزام الحجة عليهم ، إن لم يرد منهم الإيمان ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً) ، [أي :] تصديقا على ما سبق منهم من التصديق بالجملة ، وكذلك روي عن أبي حنيفة ـ رحمه‌الله ـ في قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً) [التوبة : ١٢٤] ، وفي كل موضع ذكر فيه الزيادة في الإيمان : أن معنى الزيادة فيه : أنهم زادوا بالتفسير تصديقا على تصديقهم بالجملة ؛ لأنهم إذا وحدوا الله تعالى ، وآمنوا به ، فقد أقروا بأن له الخلق والأمر كله ، وفي الإقرار بأن له الخلق إيمان بالرسل وتصديق منه إياهم بجميع ما أنزل عليهم من الكتب عن الله تعالى ؛ فصار بإيمانه معتقدا للتصديق بكل رسول على الإشارة إليه ، فإذا آمن بالرسول والكتاب المنزل إليه ، فقد أتى بزيادة تصديق على ما وجد منه من التصديق بالجملة.

وجائز أن تكون الزيادة منصرفة إلى الثبات والاستقامة ؛ لأن الإيمان له حكم التجدد في كل وقت ؛ إذ المؤمن في كل وقت مأمور باجتناب الكفر ، وإذا اجتنب الكفر ، فقد أتى بضده ، وهو الإيمان ؛ فثبت أن الإيمان له حكم التجدد في كل وقت ، وإذا كان كذلك ، استقام صرف الزيادة إلى الثبات والقرار عليه ، فإن (١) شئت فسم الدوام على الإيمان : زيادة ، وإن شئت فسمه : إيمانا ، وإن شئت فسمه : ثباتا ، وفي الكتاب ما يطلق (٢) جواز

__________________

(١) في ب : بأن.

(٢) في ب : نطق.

٣١٧

هذا كله ؛ قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) [النساء : ١٣٦] فندبهم إلى الإيمان بعد ما آمنوا ، وما ذلك إلا الثبات على ما هم عليه ، وقال : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) [إبراهيم : ٢٧] وهو الإيمان ، وقال في آية أخرى : (لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا) [النحل : ١٠٢] فجعل دوامهم على الإيمان واستقامتهم عليه إيمانا.

وقال تعالى : (زادَتْهُمْ إِيماناً) [الأنفال : ٢] قال أبو داود : إيمانا مع إيمانهم فأطلق فيه اسم الزيادة ، واسم الثبات ، واسم الإيمان.

وإن كانت الزيادة منصرفة إلى الأعمال ، فهو عندنا على الزيادة من جهة (١) الفضيلة والكمال ، لا إلى الزيادة في عينه ؛ لأن الشيء إذا استحق الزيادة بغيره فاستحقاقه يقع من جهة الفضيلة والكمال ؛ ألا ترى إلى قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صلاة في مسجدي هذا تعدل ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام» (٢) ومعلوم أنه لم يرد به التفاضل من جهة العدد ؛ إذ هو يأتي بأعين الأفعال التي يلزمه إتيانها في غير ذلك ؛ فكانت الزيادة منصرفة إلى الكمال والفضل ، لا إلى الزيادة من جهة العدد.

وكذلك قال : «صلاة في جماعة تفضل على صلاة المرء وحده بخمس وعشرين درجة» (٣) ، ولم يرد به الزيادة (٤) من جهة العدد ؛ وإنما أريد به الزيادة من جهة الفضل والشرف والكمال ، وكذلك الزيادة التي تقع للإيمان من الأعمال الصالحة ، إنما هي من جهة الفضيلة والشرف (٥) ؛ إذ الأعمال ليست من جنس الإيمان ؛ إذ الإيمان هو التصديق ، وذلك غير موجود في الأفعال ؛ فثبت أن زيادته من الوجه الذي ذكرنا دون غيره.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) :

في هذا الفصل كلام بيننا وبين المعتزلة ، فهم يزعمون أن تلك العدة ـ وهي عدة الملائكة ـ جعلت محنة لأهل الإسلام ، وأهل الكتاب ، وأهل الكفر ، وللذين في قلوبهم مرض ؛ ليؤمنوا بها ، ويستسلموا لها (٦) لا ليكفر بها من كفر ، ويقول : (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا

__________________

(١) في ب : حيث.

(٢) أخرجه البخاري (٣ / ٦٣) كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة (١١٩٠) ، ومسلم (٢ / ١٠١٢) كتاب الحج ، باب : فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة (٥٠٥ / ١٣٩٤).

(٣) أخرجه البخاري (٢ / ١٣١) كتاب الأذان ، باب : فضل صلاة الجماعة (٦٤٧) ، ومسلم (١ / ٤٥٩) كتاب المساجد ، باب : فضل صلاة الجماعة وانتظار الصلاة (٢٧٢ / ٦٤٩).

(٤) في أ : التفاضل.

(٥) في أ : والقرب.

(٦) في ب : بها.

٣١٨

مَثَلاً)؟ ولكن لما وجد منهم ذلك القول نسب الجعل إليه ، لا أن خلقوا لذلك الوجه ؛ وهو كقوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : ٨] نسب إليهما الالتقاط وإن كان الالتقاط لغير ذلك الوجه ، وكذلك قال : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) [آل عمران : ١٧٨] ، ومعلوم أن الإملاء لم يكن لازدياد الإثم ، ولكن هم لما ازدادوا إثما ، نسب الإملاء إليه ، وإن لم يكن الإملاء لذلك الوجه ، وكذلك يقال في الكلام السائر :

لدوا للموت وابنوا للخراب

ولا أحد يبني البناء للخراب ؛ ولكن مصيره لما كان إلى الخراب نسب البناء إليه ، وإن لم يكن البناء (١) لذلك الوجه ، ويقال : يسرق السارق لتقطع يده ، ومعلوم أنه ليس يسرق للقطع ، ولكن بسرقته إذن لزمه (٢) القطع ولأجلها ما قطع ، نسب الفعل إليه ، وإن كانت السرقة لغير ذلك الوجه ؛ فكذلك العدة التي ذكرت في الآية جعلت فتنة بجهة واحدة ، وهي التي ذكرناها (٣) ، لكنه لما وجد من الكفرة ما ذكرنا نسب الخلق إلى ذلك الوجه ، لا أن كان الجعل لذلك.

ولكنا نقول : لو كان الأمر على ما زعموا ، أدى ذلك إلى إسقاط الربوبية ؛ إذ في الحكمة : من عمل عملا يريد غير الذي يكون ، أوجب ذلك جهلا بالعواقب ، أو جعل عابثا في فعله ، ومن هذا وصفه ، لم يصلح أن يكون إلها ، بل يكون جاهلا سفيها ؛ ألا ترى أن من بنى شيئا (٤) يعلم أنه لا يكون ـ كان ذلك منه عبثا ، وإذا كان غير الذي يريده كان جاهلا به.

فإذا ثبت هذا فنقول : لو أراد الله من الكافر غير الذي كان منه ، لكان فعله خارجا مخرج الخطأ ، أو العبث ؛ فثبت أن الله ـ عزوجل ـ شاء لكل فريق ما علم أن يكون منهم ؛ فإذا علم من عبده أنه يؤثر الضلال على الهدى ، فقد شاء له الضلال ، وإذا علم أنه يؤثر فعل الخير ، شاء له ذلك ، ووفقه له ، وهداه إليه.

والجواب عن قوله ـ عزوجل ـ : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : ٨] ، فمعناه : ليكون لهم في علم الله عدوا وحزنا ، لا أن كان الالتقاط منهم لذلك الوجه ؛ بل لو علموا أنه يصير لهم عدوا وحزنا لم يلتقطوه ، ولكنهم جهلوا ما ينتهي

__________________

(١) في ب : بنى.

(٢) في ب : لزمته.

(٣) في أ : ذكرنا.

(٤) في ب : بشيء.

٣١٩

إليه العاقبة ؛ فالتقطوه ؛ رجاء أن ينتفعوا به.

ولا يجوز أن تخفى على الله تعالى عواقب الأشياء ؛ فيكون فعله في الابتداء لغير ذلك الوجه.

وقولهم :

لدوا للموت وابنوا للخراب

فهذا يتكلم به في موضع التذكير والدعاء ؛ لئلا يحرص المرء في بناء الأبنية ، بل يزهد عنه ، ولا يجوز أن يخفى على الله تعالى أمر ؛ فيخرج الأمر فيه مخرج التذكير (١) ؛ فثبت أنه على التحقيق ، والله أعلم.

ثم قوله ـ عزوجل ـ : (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) :

فالمثل يذكر بمعنى البيان ؛ كقول القائل : «أمثل لك صورة كذا» يريد أبين لك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) ، فهذا كله تفسير قوله تعالى : (وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً ..). الآية ، أي : يضل به من كان في علمه أنه يختار الضلال ، واختياره الضلال هو أن ينظر في آيات الله تعالى بعين الاستهزاء والاستخفاف ، ومن كان نظره في آيات الله ما ذكرنا ، أضله الله تعالى ، وزاده غواية ، ومن نظر في [آيات الله](٢) بعين الاستهداء والاسترشاد ، واستقبلها بالتبجيل والتعظيم لها ، وفقه الله تعالى ، ومن عليه بالهداية ؛ وهو كقوله تعالى : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) [فصلت : ٤٤] وغير ذلك ، والله الموفق.

وقالت المعتزلة : قوله : (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ) ، أي : يسميه : ضالا ، أو يحكم عليه بالضلال إذا ضل ، لا أن يكون الله ـ تعالى ـ يضله ، ويشاء ضلالته.

فيقال لهم : إذا كان الله يريد أن يؤمن به ، وذلك إرادته في كل أحد عندكم فتسميته إياه : ضالا ، وحكمه بالضلال وهو يريد أن يهتدي ـ جور منه ، وفيه تحقيق كذبه ، جل الله تعالى عن أن يلحقه وصف الجور في فعله ، أو ينسب إلى الكذب.

وقال أبو بكر الأصم : تأويله : أن الله ـ تعالى ـ ينصب طريقا ، من سلكه أفضى به إلى الهداية ، ومن زاغ عنه صار إلى الضلال ، ولا يتهيأ لأحد من الخلائق أن ينصب مثله.

فنقول : لو كان التأويل على ما زعم لكان حقه أن يقال : «كذلك يضل الله ما يشاء ويهدي ما يشاء» ؛ فلما قال : (مَنْ يَشاءُ) ، و «من» يعبر به عن الأشخاص العقلاء [لا] عن

__________________

(١) في ب : التذكر.

(٢) في ب : آياته.

٣٢٠