تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٣

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٣

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٦٢

١
٢

سورة النساء

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (١)

قوله ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ)

في كل ما كان الخطاب للكفرة : ذكر الله ـ سبحانه وتعالى ـ على أثره حجج وحدانيته ، ودلائل ربوبيته ؛ لأنهم لم يعرفوا ربهم ، من نحو ما ذكر : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ...) الآية ، وكقوله ـ تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ...) الآية [البقرة : ٢١] ، وكقوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) [فاطر : ٥] ، ونحوه كثير : ذكر (١) الحجج والدلائل التي بها يوصل إلى معرفة الصانع وتوحيده ؛ لينظروا فيها وليتفكروا ؛ فيعرفوا بها خالقهم وإلههم.

وفي كل ما كان الخطاب للمؤمنين : لم يذكر حجج الوحدانية ، ولا دلائل الربوبية ؛ لأنهم قد عرفوا ربهم قبل الخطاب ، ولكن ذكر على أثره نعمه التي أنعمها عليهم ، وثوابه الذي وعد لهم ، نحو قوله : (ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ. وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً ...) إلى آخر ما ذكر [آل عمران : ١٠٢ ـ ١٠٣] ، ذكر نعمه التي أنعمها عليهم ، وكقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ ...) كذا إلى [آخر] ما ذكر [الحديد : ٢٨] ؛ على هذا يخرج الخطاب في الأغلب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (اتَّقُوا رَبَّكُمُ).

قيل : اتقوا عذابه ونقمته.

وقيل : اتقوا عصيانه في أمره ونهيه.

وقيل اتقوا الله بحقه في أمره ونهيه (٢).

قوله ـ عزوجل ـ : (الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ)

أضاف خلقنا إلى آدم ؛ إذ [صورة] الإنسان في النطفة.

قال : دلت إضافة خلقنا من آدم ـ وإن لم تكن أنفسنا مستخرجة منه ـ على أمرين :

__________________

(١) في ب : ذلك.

(٢) انظر : تفسير الرازي (٩ / ١٢٩) ، اللباب لابن عادل (٦ / ١٤٢) ، قال ابن جرير (٣ / ٥٦٥) : احذروا أيها الناس ربكم في أن تخالفوه فيما أمركم وفيما نهاكم ؛ فيحل بكم من عقوبته ما لا قبل لكم به. وقال القاسمي في محاسن التأويل (٥ / ٦) : أي : اخشوه أن تخالفوه فيما أمركم به ، أو نهاكم عنه.

٣

أحدهما : جواز إضافة الشيء إلى الأصل الذي إليه المرجع ، وإن بعد ذلك عن الراجع إليه ؛ على التوالد والتتابع.

والثاني : أنّا لم نكن بأبداننا فيه ، وإن أضيف خلقنا إليه ؛ إذ لو كنا فيه لكنّا منه بحق الإخراج لا بحق الخلق منه. وذلك يبطل قول من يجعل صورة الإنسان في النطفة مع الإحالة أن يكون معنانا في التراب أو النطفة ؛ إذ هما من الموات الخارج من احتمال الدرك ، ونحن أحياء داركون (١) ، والله أعلم.

وقوله : (وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً)

أي : فرق ، ونشر ، وأظهر منهما أولادا كثيرا : ذكورا وإناثا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ)

قوله : (تَسائَلُونَ بِهِ) ، أي : اتقوا الله الذي تساءلون بعضكم من بعض ، أي : يسأل بعضكم من بعض الحوائج والحقوق به ، يقول : أسألك بوجه الله ، وبحق الله ، وبالله. ويسأل بعضكم من بعض بالرحم ، يقول الرجل لآخر : أسألك بالرّحم وبالقرابة أن تعطيني.

وقوله : (وَالْأَرْحامَ) ، روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ يقول : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ) ، واتقوا في الأرحام وصلوها (٢).

وقرئ بالنصب والخفض (٣) : (وَالْأَرْحامَ) : فمن قرأ بالنصب يقول : اتقوا الله فلا تعصوه ، واتقوه الأرحام فلا تقطعوها (٤).

ومن قرأ بالخفض يقول : اتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام.

وروي في الخبر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اتّقوا الله وصلوا الأرحام ؛ فإنّه أتقى لكم فى الدّنيا ، وخير لكم فى الآخرة» (٥). والآية في الظاهر على العظة والتنبيه.

وكذلك قوله : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)

هو على التنبيه والاتعاظ.

__________________

(١) في ب : دراكون.

(٢) أخرجه ابن جرير (٧ / ٥٢١ ، ٥٢٢) (٨٤٢٣) ، (٨٤٣١) ، (٨٤٣٢) ، وذكره السيوطي في الدر ٢ / ٢٠٦ وزاد نسبته لابن أبي حاتم.

(٣) قرأ بالنصب جمهور القراء سوى حمزة ؛ فإنه قرأ بالجر تنظر القراءة في : حجة القراءات (١٨٨) ، السبعة (ص ٢٢٦) ، إتحاف فضلاء البشر (١ / ٥٠١) ، شرح الطيبة (٤ / ١٨٩).

(٤) في ب : تعصوها.

(٥) ذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٠٦) وعزاه لعبد بن حميد عن ابن عباس مرفوعا.

٤

قوله تعالى : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٢) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا)(٣)

قوله ـ تعالى ـ : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) يحتمل هذا وجهين :

أحدهما : احفظوا أموالهم إلى أن يخرجوا من اليتم (١) ، فإذا خرجوا من اليتم أعطوهم أموالهم.

ويحتمل قوله : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ)(٢) ، أي : أنفقوا عليهم من أموالهم ، ووسعوا عليهم النفقة ولا تضيقوها لينظروا إلى أموال غيرهم.

(وَآتُوا) ، بمعنى : آتوا لوقت الخروج من اليتم ، أي : احفظوا ؛ لتؤتوا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ)

أي : لا تأخذوا الخبيث فتتركوا لهم ما وعد لكم في الآخرة بحفظ أموالهم.

وقيل : لا تأخذوا الجياد من ماله وتعطى الدون من ماله (٣) ؛ فذلك تبديل الخبيث بالطيب.

وقيل : لا تأكلوا الخبيث : وهو أموال اليتامى ، وتذروا الطيب : وهو أموالكم ؛ إشفاقا على أموالكم أن [تفنى](٤).

وقيل : لا تأكلوا الحرام مكان الحلال (٥) ؛ لأن أكل مال اليتيم حرام ، وأكل ماله حلال ؛

__________________

(١) اليتم : الانفراد ، أو فقدان الأب ، وفي البهائم : فقدان الأم ، واليتيم : الفرد وكل شيء يعز نظيره ، واليتيم : ما لم يبلغ الحلم.

ينظر : ترتيب القاموس المحيط (٤ / ٦٧٠) (يتم).

(٢) قال القرطبي (٥ / ٨) : وإيتاء اليتامى أموالهم يكون بوجهين :

أحدهما : إجراء الطعام والكسوة ما دامت الولاية ؛ إذ لا يمكن إلا ذلك لمن لا يستحق الأخذ الكلي والاستبداد كالصغير والسفيه الكبير.

والثاني : الإيتاء بالتمكن وإسلام المال إليه ، وذلك عند الابتلاء والإرشاد ، وتكون التسمية مجازا.

وقال القاسمي (٥ / ١٢) ـ بعد أن ذكر أربعة أقوال ـ قال في الرابع : أن يراد بهم : ما ذكر ، وب (إيتائهم) الأموال ألا يطمع فيها الأولياء والأوصياء ولاة السوء وقضاته ، ويكفوا عنها أيديهم الخاطئة ؛ حتى تؤتى اليتامى إذا بلغوا سالمة غير محذوفة.

(٣) أخرجه ابن جرير (٧ / ٥٢٥) (٨٤٣٩) عن إبراهيم ، وبرقم (٨٤٤١) عن الضحاك ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٠٨) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٤) في الأصول : تبقى.

(٥) أخرجه ابن جرير (٧ / ٥٢٥) (٨٤٣٦ ، ٨٤٣٧ ، ٨٤٣٨) عن مجاهد ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٠٧) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر.

٥

فنهي أن يبدلوا الخبيث بالطيب.

ويحتمل : لا تأخذ ماله ـ وهو خبيث ـ ليؤخذ منك الذي لك وهو طيب.

ويحتمل : لا تأكلوا ذلك ؛ إبقاء لأموالكم التي طيبها الله ـ تعالى ـ لكم ، بما جعل الله لكم خبيثا.

ويحتمل : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ) في الدنيا ؛ فتكون هي نارا تأكلونها ؛ فتتركون الموعود لكم في إبقاء الخبيث ؛ كقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً ...) [الآية](١) [النساء : ١٠].

وقوله : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ)

يحتمل هذا ـ والله أعلم ـ وجهين :

يحتمل قوله : (أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) ، أي : مع أموالكم ، أي : لا تخلطوا أموالهم مع أموالكم فتأكلوها ؛ ففيه نهي عن الخلط والجمع.

ويحتمل : (أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) ، أي : بأموالكم ؛ ففيه النهي عن أكل أموالهم بأموال أنفسهم تبعا ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [الإسراء : ٣٤].

وقوله ـ تعالى ـ : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) ، بمعنى : لا تجمعوها إليها فتأكلونهما معا.

ويحتمل : مع أموالكم ، والله أعلم.

وقوله ـ جل وعزّ ـ : (إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً)(٢)

قيل : جورا.

وقيل : الحوب : الإثم ، وهو واحد.

وقيل : خطأ.

وقيل : ذنبا كبيرا (٣).

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) أخرجه ابن جرير (٣ / ٥٧٣) (٨٤٥٥) عن ابن زيد ، وذكره القاسمي في محاسن التأويل (٥ / ١٣ ـ ١٤).

(٣) قال القرطبي (٥ / ٩) : يقال : حاب الرجل يحوب حوبا : إذا أثم. وأصله الزجر للإبل ، فسمي الإثم حوبا ؛ لأنه يزجر عنه وبه ، ويقال في الدعاء : اللهم اغفر حوبتي ، أي : إثمي ، والحوبة أيضا : الحاجة ومنه في الدعاء : إليك أرفع حوبتي ، أي : حاجتي ، والحوب : الوحشة ، ومنه قوله ـ عليه‌السلام ـ لأبي أيوب : (إن طلاق أم أيوب لحوب).

٦

وقيل إثما ؛ وكذلك روي عن ابن عباس ، رضي الله عنه (١).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ).

اختلف في تأويله :

فقيل : إنهم كانوا يخافون من أموال اليتامى ويتحرجون منها ؛ لكثرة ما جاء من الوعيد فيها ؛ فنزل هذا : (وَإِنْ خِفْتُمْ) وتحرجتم من أموال اليتامى ؛ فكذا فتحرجوا من الزنا : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ...) الآية.

عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت : نزلت في يتامى [من يتامى](٢) النساء كنّ عند الرجال ؛ فتكون اليتيمة الشوهاء (٣) عند الرجل ـ وهي ذات مال ـ فلا ينكحها ؛ لشوهتها ، ولا ينكحها ؛ ضنّا بمالها ؛ لتموت فيرثها ، وإن نكحها أمسكها على غير عدل منه في أداء حقها إليها ، ولا ولى (٤) لها سواه يطالبه بحقها ؛ فأنزل الله ـ تعالى ـ : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) فذروهن ، ولا تنكحوهن (٥) ، (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ).

وروي عنها ـ أيضا ـ أنها سئلت عن هذه الآية؟ فقالت : نزلت في اليتيمة تكون في حجر وليها ، فيرغب في جمالها ومالها ، وينقص من صداقها ؛ فنهوا عن نكاحهن ، إلا أن يقسطوا في إكمال الصداق ، وأمروا بنكاح من سواهن من النساء (٦).

قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ : واستفتى الناس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [بعد ذلك](٧) ؛ فأنزل الله : (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ ...) [إلى قوله : (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) [النساء : ١٢٧] فأنزل الله ـ تعالى ـ لهم في هذه الآية : أن اليتيمة إذا كانت ذات جمال ومال رغبوا فيها ـ في نكاحها ـ وسنتها (٨) في إكمال الصداق ، وإذا كانت مرغوبا عنها في شوهتها (٩) ، وقلة

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٧ / ٥٣٠) (٨٤٥٠) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٠٨) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٢) ما بين المعقوفين سقط من ب.

(٣) الشوهاء : العابسة ، والمشئومة. والمشوه : القبيح الشكل.

ينظر : ترتيب القاموس (٢ / ٧٨٠) (شوه).

(٤) الولي : الوصي ، والسلطان ، ومن له ولاية على اليتيم كالعم وابن العم وابن الأخت ، وغيرهم.

ينظر : ترتيب القاموس المحيط (٤ / ٦٥٨) (ولى).

(٥) أخرجه ابن جرير (٧ / ٥٣١ ـ ٥٣٣) (٨٤٥٦ ـ ٨٤٦٠) وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٠٩).

(٦) رواه ابن جرير في تفسيره (٧ / ٥٣٢) رقم (٨٤٥٨) ، وذكره بنحوه السيوطي في الدر المنثور (٢ / ٢٠٩) ، وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، عن عائشة.

(٧) ما بين المعقوفين سقط من ب.

(٨) في أ : ونسبتها.

(٩) في ب : شهوتها.

٧

مالها ؛ تركوها وأخذوا غيرها من النساء.

قالت : فكما تتركونها حين ترغبون عنها ؛ فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها إلا أن يقسطوا لها ويعطوها حقها الأوفى من الصداق (١).

وقيل : لما أنزل الله ـ تعالى ـ : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً ...) الآية [النساء : ١٠] ، ترك المؤمنون مخالطة اليتامى ، وتنزهوا عنها ؛ فشق ذلك عليهم ؛ فاستفتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مخالطتهم (٢) ، وكان يكون عند الرجل عدد من النساء ثم لا يعدل بينهن ؛ فأنزل الله ـ تعالى ـ : (فَإِنْ خِفْتُمْ) الجور في مخالطة اليتامى ؛ فكذلك خافوا جمع النساء وترك التسوية بينهن في النفقة والجماع.

ثم من الناس من يبيح نكاح التسع (٣) بقوله تعالى : (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) فذلك تسع.

وأما عندنا : فإنه لا يحتمل ذلك ؛ لأن معنى قوله ـ تعالى ـ : (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) : مثنى أو ثلاث أو رباع ؛ لأنه قال : (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً) : استثنى الواحدة إذا خاف ألا يعدل بينهن ، فلو كان ما ذكر ؛ لكان لا معنى لاستثناء واحدة منهن ، ولكن يقول : «وإن خفتم ألا تعدلوا» بين التسع ؛ فثمان ، أو سبع ، أو ست ؛ فلمّا لم يستثن إلا واحدة دل أن التأويل ما ذكرنا : مثنى أو ثلاث أو رباع ، على الانفراد (٤).

__________________

(١) أخرجه البخاري (٨ / ٨٦ ، ٨٧) : كتاب التفسير ، رقم (٤٥٧٣ ، ٤٥٧٤) ، ومسلم (٤ / ٢٣١٢) : كتاب التفسير ، رقم (٣٠١٨) ، والطبري في تفسيره (٧ / ٥٣٢) (٨٤٥٦) ، والبيهقي في سننه (٧ / ١٤١ ، ١٤٢) ، وذكره السيوطي في الدر المنثور (٢ / ٢٠٩) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٢) في ب : مخالطتهن.

(٣) أخرجه ابن جرير (٧ / ٥٣٦) رقم (٨٤٦٦) ، وذكره السيوطي في الدر المنثور (٢ / ٢٠٩) ، وعزاه لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير.

(٤) ذهبت طائفة إلى أنه : يجوز التزويج بأي عدد شاء ، واحتجوا بالقرآن والخبر. أما القرآن فتمسكوا بهذه الآية من ثلاثة أوجه :

الأول : أن قوله (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ)[النساء : ٣] ـ إطلاق في جميع الأعداد ؛ بدليل أنه لا عدد إلا ويصح استثناؤه منه.

وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل.

الثاني : أن قوله : «مثنى وثلاث ورباع» ـ لا يصلح مخصصا لذلك العموم ؛ لأن تخصيص بعض الأعداد يدخل على رفع الحرج والحجر مطلقا ؛ فإن الإنسان إذا قال لولده : افعل ما شئت : اذهب إلى السوق وإلى المدرسة ، وإلى البستان ـ لم يكن تنصيصا للإذن بتلك الأشياء المذكورة فقط ؛ بل يكون ذلك إذنا في المذكور ، وغيره ، وهكذا هنا.

الثالث : أن الواو للجمع المطلق ؛ فقوله تعالى : (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) ـ لا يدخل هذا المجموع ، وهو تسعة ؛ بل يفيد ثمانية عشر ؛ لأن قوله «مثنى» ليس عبارة عن اثنين فقط ؛ بل عن اثنين اثنين ، وكذا البقية. ـ

٨

__________________

وأما الخبر : فمن وجهين :

الأول : أنه ثبت بالتواتر أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ مات عن تسع ، وأمرنا الله باتباعه ؛ بقوله تعالى : (فَاتَّبِعُوهُ)[الأنعام : ١٥٣] ، وأقل مراتب الأمر ـ الإباحة.

الثاني : أن التزويج بأكثر من أربع طريقه ، عليه الصلاة والسلام ؛ فيكون سنة له.

وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «النكاح سنتي وسنة الأنبياء من قبلي ؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني» ، وهذا يقتضي الذم لمن ترك التزويج بأكثر من أربع ؛ فلا أقل من أن يثبت أصل الجواز.

أجاب القدماء بما روي أن غيلان أسلم ـ وتحته عشر نسوة ـ فقال له ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «أمسك أربعا وفارق باقيهن». وهذا ضعيف من وجهين :

الأول : أن هذا نسخ للقرآن بخبر الواحد ، وذلك لا يجوز.

الثاني : أن هذه واقعة حال ؛ فلعله ـ عليه الصلاة والسلام ـ إنما أمره بإرسال أربع ومفارقة البواقي ؛ لأن الجمع بين الأربع وبين البواقي غير جائز ، إما لنسب أو رضاع ، أو اختلاف دين محرم ، وإذا قام الاحتمال ؛ فلا يمكن نسخ القرآن إلا بمثله.

واستدلوا أيضا بإجماع فقهاء الأمصار على أنه لا يجوز الزيادة على الأربع ، وهذا أيضا فيه نظر من وجهين :

أحدهما : أن الإجماع لا ينسخ به ؛ فكيف يقال : الإجماع نسخ هذه الآية؟

الثاني : أن هؤلاء الذين قالوا بجواز الزيادة على الأربع من جملة فقهاء الأمصار ، والإجماع لا ينعقد مع مخالفة الواحد والاثنين.

وأجيب عن الأول بأن الإجماع يكشف عن حصول النسخ في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعن الثاني : أن هذا المخالف من أهل البدعة ؛ فلا عبرة بمخالفته.

فإن قيل : إذا كان الأمر على ما قلتم ؛ فكان الأولى أن يقال : «مثنى أو ثلاث أو رباع» ؛ فلم جاء بواو العطف دون «أو»؟!

فالجواب : أنه لو جاء بالعطف ب «أو» ـ لكان يقتضي أنه يجوز ذلك إلا أحد هذه الأقسام ، وألا يجوز لهم أن يجمعوا بين هذه الأقسام ، بمعنى أن بعضهم يأتي بالتثنية ، وبعضهم بالتثليث ، والفريق الثالث بالتربيع ؛ فلما ذكره بحرف الواو ـ أفاد ذلك أنه يجوز لكل طائفة أن يختاروا قسما من هذه الأقسام ، ونظيره أن يقال للجماعة : اقتسموا هذا المال وهو ألف : در همين در همين ، وثلاثة ثلاثة ، ولطائفة ثالثة أن يأخذوا أربعة أربعة ؛ فكذا هاهنا في ترك «أو» وذكر الواو.

وأجيب عن هذه الأقوال السابقة بأن الآية مسوقة لبيان الحل المقيد بعدد ، لا لبيان أصل الحل في ذاته ؛ لأنه معلوم من غيرها ، فذكر هذه الأعداد إنما هو لبيان الذي يحل منه ، والعدد وإن كان لا مفهوم له فذكره لا ينفي الحكم عما عداه ، إلا أنهم لم يستدلوا بالعدد من حيث هو عدد وإنما من جهة كونه حالا من مفعول «انكحوا» ؛ لأن الحال قيد في عاملها ، وعلى ذلك يكون الإحلال المفهوم من «أنكحوا» مفيدا بهذا العدد ، ويكون الحكم عن غيره منتفيا.

ثم إن السنة الصحيحة والإجماع من السلف على قصر الحل على أربع.

ولم ينقل أن أحدا من المسلمين همّ أو تزوج بأكثر من أربع ، كذلك لم ينقل أن أحدا من الصحابة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال بجواز الزيادة ، فكان ذلك إجماعا من الصحابة رضوان الله عليهم ، على وجوب الاقتصار على أربع. ولذلك قال مالك والشافعي ـ رحمهما‌الله تعالى ـ : «إذا تزوج خامسة ـ وعنده أربع ـ عليه الحد إن كان عالما».

وقال الزهري : «يرجم إذا كان عالما ، وإذا كان جاهلا عليه أدنى الحدين ، الذي هو الجلد وهو ـ

٩

والثاني : ما ذكر في القصة : أنه كان عند الرجل عدد من النساء عشر أو أكثر أو أقل ، فخرج ذلك على بيان ما يحل من العدد ، وذلك أربعة.

وروي أن رجلا أسلم وتحته ثمانى نسوة ، فأسلمن ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اختر منهنّ أربعا ، وفارق البواقى» (١).

والخبر في بيان منتهى ما يحل من العدد دون وجه الحل ؛ فاحتمل أن يختار أربعا على استقبال النكاح.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى ...)(٢) الآية : قيل فيه بوجوه :

أحدها : أنه قال : إذا خفتم الجور في كفالة اليتامى فانقيتموها ؛ فخافوا في كفالة النساء ؛ فلا تكثروا منهن (٣).

والثاني : أنكم (٤) إذا خفتم في أموال اليتامى ؛ فتحرجتم ضم أموالهم إليكم ؛ إشفاقا على أنفسكم أن تأكلوا منها ـ فخافوا النساء مواقعتهن من وجه يحرم عليكم ؛ فانكحوهن (٥).

والثالث : أنه إذا خفتم الجور في يتامى النساء لو تزوجتموهن من حيث ليس معهن من يمنعكم من ظلمهن ، فانكحوهن من غيرهن ممن إذا جرتم فيهن منعتم من ذلك.

__________________

 ـ مهرها ، ويفرق بينهما ولا يجتمعان أبدا».

وقال النعمان : «لا حد عليه في شيء من ذلك».

وقالت طائفة : «يحد في ذات المحرم ، ولا يحد في غير ذلك من النكاح ، مثل أن يتزوج مجوسية ، أو خمسا في عقد ، أو تزوج معتدة ، أو بغير شهود ، أو تزوج أمة بغير إذن مولاها».

ينظر : الأم للشافعي (٥ / ١٦٨) ، مختصر المزني (٨ / ٢٧٢) ، التمهيد لابن عبد البر (١٢ / ٥٥) ، المبسوط (٥ / ١١٧) ، روضة الطالبين (٧ / ١٥٦) ، اللباب لابن عادل (٦ / ١٦٤ ـ ١٦٦).

(١) أخرجه أحمد (٢ / ١٤ ، ٤٤ ، ٨٣) ، والترمذي (٢ / ٤٢١ ، ٤٢٢) ، في النكاح : باب ما جاء في الرجل يسلم وعنده عشرة نسوة (١١٢٨) ، وابن ماجة (٣ / ٣٧٨ ، ٣٧٩) في النكاح : باب الرجل يسلم وعنده أكثر من أربع نسوة (١٩٥٣) ، والدارقطني (٣ / ٢٧٠) ، والحاكم (٢ / ١٩٢ ـ ١٩٣) ، والبيهقي (٧ / ١٤٩ و ١٨١).

(٢) قال أبو عبيدة في مجاز القرآن (١ / ١١٦) : (فَإِنْ خِفْتُمْ ...) الآية مجازه : أيقنتم.

وقال القرطبي (٥ / ١٠) : قال أبو عبيدة : (خفتم) بمعنى أيقنتم. وقال آخرون (خفتم) ظننتم ؛ قال ابن عطية : وهذا الذي اختاره الحذاق ، وأنه على بابه من الظن لا من اليقين ، والتقدير من غلب على ظنه التقصير في القسط لليتيمة فليعدل عنها.

(٣) أخرجه ابن جرير (٧ / ٥٣٦ ، ٥٣٨) (٨٤٦٨) عن قتادة ، وبرقم (٨٤٧٤) عن الربيع بن أنس ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٠٩).

(٤) في ب : أنه.

(٥) أخرجه ابن جرير (٧ / ٥٣٦ ، ٥٣٧) (٨٤٦٦) ، (٨٤٦٩) ، (٨٤٧٠) ، (٨٤٧١) عن سعيد بن جبير.

وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٠٩) وزاد نسبته لابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وعبد بن حميد.

١٠

لكنه معلوم أن الحد في عدد النساء ؛ لخوف الجور ، وبما علم الله من عجز البشر على ما جبل عليه ، أخبر أنه لا يقوم بوفاء الحق في أكثر [من] ما ذكر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً)

ليس على الحكم والحتم ؛ ولكنه أدب ؛ لأنه وإن خاف ألا يعدل فتزوج أربعا ـ جاز ، وهو مثل الذي نهى ـ في الإصرار ـ المراجعة ، وأمر بالقصد فيها والعدل ، فإن فعل ذلك أثم ورجعته صحيحة ، وكذلك كالأمر بالطلاق في العدة (١) ، والنهي [عنه](٢) في غير العدة ، ثم إذا طلق في غير العدة وقع ؛ فكذلك [الأول.

وقوله : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا) : في القسم (٣) والجماع والنفقة (٤).

(فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ)](٥) إن خفتم ألا تعدلوا في واحدة ؛ لأنه ليس للإماء قبل سادتهن حقّ الجماع والقسم ؛ ينكح ما شاء ؛ كأنه قال هذا ؛ لما ليس لأكثرهن غاية ؛ فله أن يجمع ما شاء من الإماء في ملكه ، وليس له أن يجمع بالنكاح أكثر من أربع ، ولو كان التأويل ما ذهب إليه لم يكن لقوله : (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) وجه.

وفيه إذن بتكثير العيال ، مع ما أن كثرة العيال معدودة من الكرم ؛ إذا أحسن إليهم لم يحتمل أن يزهد فيه.

__________________

(١) وذلك لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ .....) الآية [الطلاق : ١].

(٢) سقط من ب.

(٣) القسم بفتح القاف مع سكون السين ، بمعنى : العدل بين الزوجات في المبيت. ينظر : لسان العرب [قسم]. وفي الآية التي معنا دليل على القسم ؛ إذ نهي جل شأنه عن الجمع بين اثنتين أو أكثر ؛ عند خوف عدم العدل فيما إذا اجتمعتا أو اجتمعن ؛ علم أن العدل واجب ، ومن العشرة ـ أيضا ـ بالمعروف : تأدية حقها ، والعدل بينها وبين غيرها في المبيت.

(٤) قال القرطبي (٥ / ١٥) : قال الضحاك وغيره : في الميل والمحبة والجماع والعشرة والقسم بين الزوجات الأربع والثلاث والاثنين ، (فواحدة) فمنع من الزيادة التي تؤدي إلى ترك العدل في القسم وحسن العشرة وذلك دليل على وجوب ذلك.

(٥) ما بين المعقوفين سقط من ب.

قال القرطبي في تفسيره (٥ / ١٥) : يريد الإماء ، وهو عطف على «فواحدة» أي : إن خاف ألا يعدل في واحدة فمما ملكت يمينه. وفي هذا دليل على أن لا حق لملك اليمين في الوطء ولا القسم ؛ لأن المعنى «فإن خفتم ألا تعدلوا» في القسم «فواحدة أو ما ملكت أيمانكم» فجعل ملك اليمين كله بمنزلة واحدة ؛ فانتفى بذلك أن يكون للإماء حق في الوطء أو في القسم. إلا أن ملك اليمين في العدل قائم بوجوب حسن الملكة والرفق بالرقيق. وأسند ـ تعالى ـ الملك إلى اليمين ؛ إذ هي صفة مدح ، واليمين مخصوصة بالمحاسن لتمكنها ؛ ألا ترى أنها المنفقة؟! كما قال ـ عليه‌السلام ـ : (حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) وهي المعاهدة المبايعة ، وبها سميت الألية يمينا ، وهي المتلقية لرايات المجد.

١١

وقوله ـ عزوجل ـ : (ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا)(١) :

قال بعض أهل العلم : إن قوله ـ تعالى ـ : (أَلَّا تَعْدِلُوا) : من كثرة العيال ، وهو قول الشافعي ـ رحمه‌الله تعالى ـ ولكن (٢) هذا لا يستقيم في اللغة ؛ لأنه يقال من كثرة العيال : أعال يعيل إعالة ؛ فهو معيل ، ولا يقال : عال يعول ، وإنما يقال (٣) ذلك في الجور.

فإن قيل : روي في الخبر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ابدأ بمن تعول» (٤) لكن تأويله ـ والله أعلم ـ : ابدأ بمن يلزمك نفقته ، أي : ابدأ بمن تصير جائرا بترك النفقة عليه ، وكذلك يقال : عال يعول عولا ؛ إذا أنفق على عياله ، وليس من كثرة العيال في شيء ، ألا ترى أن على الرجل أن يبدأ بمن يعول ؛ فلو كان قوله : (ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا)(٥) من العيال ؛ لكان المتزوج واحدة ذا عيال ، وإن قول الله ـ تعالى ـ : (أَلَّا تَعُولُوا) ، والمتزوج واحدة يعولها ؛ فدل بما ذكرنا أن قوله : (أَلَّا تَعُولُوا) ، أي : لا تجوروا ولا تميلوا ؛ على ما قيل.

وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ : (أَلَّا تَعُولُوا) : ألا تميلوا (٦).

__________________

(١) قال القاسمي في محاسن التأويل (٥ / ٣٠) : تنبيهان :

الأول : قال بعض المفسرين : دلت الآية على أنه يجب بالنكاح حقوق ، وتدل على أن من خشي الوقوع فيما لا يجوز قبح منه ما دعا إلى ذلك القبيح ؛ فلا يجوز لمن عرف أنه يخون مال اليتيم إذا تزوج أكثر من واحدة أن يتزوج أكثر ، وكذا إذا عرف أنه يخون الوديعة ولا يحفظها ؛ فإنه لا يجوز له قبول الوديعة. وتدل على أن العدل واجب بين الزوجات ، وأن من عرف أنه لا يعدل فإنه لا تحل له الزيادة على واحدة. وتدل على أن زواجه الصغيرة من غير أبيها وجدها جائز ، وللفقهاء مذاهب في ذلك معروفة.

الثاني : في سر ما ترشد إليه الآية من إصلاح النسل.

(٢) في ب : لكن.

(٣) في ب : القول.

(٤) أخرجه البخاري (٤ / ٤٦) في الزكاة : باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى ، (١٤٢٧) ومسلم (٢ / ٧١٧) في كتاب الزكاة باب بيان أن اليد العليا خير من السفلى ، وأن اليد العليا هي المنفقة ، وأن السفلى هي الآخذة (١٠٣٤) ، والنسائي (٨ / ٥٥) في القسامة : باب هل يؤخذ أحد بجريرة أحد ، والحاكم (٢ / ٦١١ ـ ٦١٢) ، وعنه البيهقي في الدلائل (٥ / ٣٨١) ، والدارقطني (٣ / ٤٤ ـ ٤٥) ، والطبراني في الكبير (٨١٧٥) ، وابن أبي شيبة في مصنفه (١٤ / ٣٠٠) مختصرا.

(٥) قال القرطبي (٥ / ١٦) : وهو عائل ، وقوم عيلة ، والعيلة والعالة الفاقة ، وعالني الشيء ، يعولني إذا غلبني وثقل عليّ ، وعال الأمر : اشتد وتفاقم. قال الثعلبي : وما قال هذا غيره ؛ وإنما يقال : أعال يعيل إذا كثر عياله. وزعم ابن العربي أن «عال» على سبعة معان لا ثامن لها ، يقال : عال مال ، الثاني : زاد ، الثالث : جار ، والرابع : افتقر ، الخامس : أثقل ، حكاه ابن دريد ؛ قالت الخنساء : ويكفي العشيرة ما عالها. السادس : عال قوم بمئونة العيال ، ومنه قوله ـ عليه‌السلام ـ (وابدأ بمن تعول). السابع : عال : غلب ، ومنه : عيل صبره : أي غلب ، ويقال : أعال الرجل : كثر عياله. وأما «عال» بمعنى : كثر عياله ، فلا يصح.

(٦) أخرجه ابن جرير عن مجاهد (٧ / ٥٤٩ ـ ٥٥٢) (٨٤٨٧) ، (٨٤٩٠) ، (٨٥٠٤) ، وعن عكرمة ـ

١٢

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ مثله (١).

والعول : هو المجاوزة عن الحد ؛ ولذلك سمى الحساب الذي ازداد على أصله عولا ؛ لمجاوزته الحد ؛ فعلى ذلك العول هاهنا هو : المجاوزة عن الحد الذي جعل له ، وهو الجور.

وقوله : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً) : ليس بشرط ؛ ليتفق القول ، ولأنه لا وجه لمعرفة حد الخوف الذي يجعل شرطا للجواز ، وكل عدل يخاف أدنى خوف ، بل جميع أمور الدين هي على الخوف والرجاء.

ولأنه يوجب جهل النساء بمن يحل لهن النكاح ويحرم ؛ إذ لا يعرفن ذلك ، ومتى حرم عليه حرم عليها ، ولا يحتمل أن يجعل للحل شرطا لا يوصل إلى حقيقته ، ولظهور الجور في الأمة على الإبقاء على النكاح ؛ فضلا عن خوفه ؛ [كذا](٢) مع ما في قوله : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا ...) الآية [النساء : ١٢٩] دلالة ظاهرة ، وكذلك في قوله : (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها) الآية [النساء : ١٢٨] ، وقوله ـ تعالى ـ : (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما) [النساء : ٣٥] ، (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) [البقرة : ٢٢٩].

قوله تعالى : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (٤) وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً)(٥)

وقوله ـ تعالى ـ : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً)(٣).

__________________

 ـ (٨٤٩١) ، وعن إبراهيم النخعى (٨٤٩٢) (٨٤٩٣) ، وعن قتادة (٨٤٩٦) (٨٤٩٧) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢١١).

(١) أخرجه ابن جرير (٧ / ٥٥١) (٨٥٠٠) (٨٥٠١) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢١١).

(٢) سقط من ب.

(٣) قال القرطبي (٥ / ١٧) : هذه الآية تدل على وجوب الصداق للمرأة ، وهو مجمع عليه ولا خلاف فيه ، إلا ما روي عن بعض أهل العلم من أهل العراق أن السيد إذا زوج عبده من أمته أنه لا يجب فيه صداق ، وليس بشيء ؛ لقوله تعالى : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) ، فعم.

وقال القاسمي في محاسن التأويل (٥ / ٣٤ ـ ٣٥) : فائدتان :

الأولى ـ هذا الخطاب إما للأزواج ، كما روي عن علقمة والنخعي وقتادة ، واختاره الزجاج ؛ فإن ما قبله خطاب للناكحين وهم الأزواج. وإما لأولياء النساء ؛ وذلك لأن العرب كانت في الجاهلية لا تعطي النساء من مهورهن شيئا ؛ ولذلك كانوا يقولون لمن ولدت له بنت : هنيئا لك النافجة ، ومعناه : أنك تأخذ مهرها إبلا فتضمها إلى إبلك ؛ فتنفج مالك أي : تعظمه. وقال ابن الأعرابي : النافجة ما يأخذه الرجل من الحلوان إذا زوج ابنته. فنهى الله ـ تعالى ـ عن ذلك ، وأمر بدفع الحق إلى أهله. وهذا قول الكلبي وأبي صالح ، واختيار الفراء وابن قتيبة.

الثانية ـ قال القفال ـ رحمه‌الله تعالى ـ : يحتمل أن يكون المراد من الإيتاء المناولة ، ويحتمل أن يكون المراد : الالتزام ؛ قال تعالى : (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) [التوبة : ٢٩] ، ـ

١٣

عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : نحلة ـ قال ـ : المهر (١).

وقيل : النحلة : الفريضة (٢) ، أي : آتوهن فريضتهن.

وقيل : نحلة ؛ أي : عطية (٣) ، أي : تعطى هي لا وليها ؛ وهو من النّحلى.

وقيل : نحلة : من نحلة الدّين ، أي : من الدين أن تؤتوا النساء صدقاتهن ؛ ليس على ما كانوا يفعلون في الجاهلية : يتزوجون النساء بغير مهورهن ؛ ففيه أن لأهل الكفر النكاح بغير مهر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً).

وفي الآية دلالة جواز هبة المرأة من زوجها ، وفساد قول من لا يجيز هبة المرأة بمالها حتى تلد أو تبقى في بيته سنة ؛ فيجوز أمرها.

وفي الآية ـ أيضا ـ : دليل أن المهر لها ؛ حيث أضاف الإحلال والهبة إليهن بقوله : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً)(٤).

__________________

 ـ والمعنى : حتى يضمنوها ويلتزموها. فعلى هذا الوجه الأول : كان المراد أنهم أمروا بدفع المهور التي قد سموها لهن. وعلى التقدير الثاني كان المراد أن الفروج لا تستباح إلا بعوض يلزم ، سواء سمي ذلك أو لم يسم ، إلا ما خص به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الموهوبة. ثم قال ـ رحمه‌الله ـ :

ويجوز أن يكون الكلام جامعا للوجهين معا.

(١) أخرجه ابن جرير (٧ / ٥٥٣) (٨٥٠٧) ، وذكره السيوطي (٢ / ٢١٢) وزاد نسبته لابن أبي حاتم عن ابن عباس.

(٢) أخرجه ابن جرير (٧ / ٥٥٣) (٨٥٠٨) ، عن ابن جريج ، و (٨٥٠٦) عن قتادة ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢١٢) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن جريج وقتادة.

(٣) انظر : اللباب لابن عادل (٦ / ١٧١ ، ١٧٢) ، والرازي في تفسيره (٩ / ١٤٧).

(٤) قال القاسمي (٥ / ٣٦) : قال بعض المفسرين : للآية ثمرات.

منها : أنه لا بد في النكاح من صداق.

ومنها : أنه حق واجب للمرأة كسائر الديون.

ومنها : أن لها أن تتصرف فيها بما شاءت. ولم تفصل الآية بين أن تقبضه أم لا ؛ ولذا قال بعض الفقهاء : لها بيع مهرها قبل قبضه. ولبعضهم : لا تبيعه حتى تقبضه ، كالملك بالشراء.

ومنها : أنه يسقط عن الزوج بإسقاطها مع طيب نفسها. وقد رأى شريح إقالتها إذا رجعت ، واحتج بالآية.

روى الشعبي أن امرأة جاءت مع زوجها شريحا في عطية أعطتها إياه ، وهي تطلب الرجوع. فقال شريح : رد عليها ؛ فقال الرجل : أليس قد قال الله ـ تعالى ـ : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ)؟! فقال : لو طابت نفسها عنه لما رجعت فيه. وروي عنه أيضا أقيلها فيما وهبت ولا أقيله ؛ لأنّهن يخدعن. وعن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أنه كتب إلى قضاته : أن النساء يعطين رغبة ورهبة ؛ فأيما امرأة أعطته ثم أرادت أن ترجع فذلك لها. نقله الرازي.

أقول : ما رآه شريح وروي عن عمر ، هو الفقه الصحيح والاستنباط البديع ؛ إذ الآية دلت على ضيق المسلك في ذلك ووجوب الاحتياط ؛ حيث بنى الشرط على طيب النفس. ولم يقل : فإن ـ

١٤

وفيه دليل ـ أيضا ـ : أن هبة الديون والبراءة منها جائزة ؛ كما جازت هبة المرأة مهرها وهو دين.

وقيل : فيه وجه (١) آخر ، وهو أن الآباء في الجاهلية والأولياء كانوا يأخذون مهور نسائهم ؛ فأمرهم ـ عزوجل ـ ألّا يأخذوا ذلك ، وحكم بأن المهر للمرأة دون وليها ، إلا أن تهبه لوليها ؛ فيحل حينئذ (٢).

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَكُلُوهُ هَنِيئاً) : لا داء فيه ، و (مَرِيئاً) : لا إثم فيه.

وقيل : الهنىء : هو اللذيذ الشهي (٣) ، الذي يلذ عند تناوله ويسر.

والمرىء : الذي عاقبته.

ثم الحكمة في ذكر الهنىء والمرىء هنا وجهان :

أحدهما : ما ذكر في الآيات من الوعيد بأخذه منها : يقول ـ عزوجل ـ : (فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً ...) إلى قوله : (بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ) [النساء : ٢٠ ـ ٢١] ؛ لئلا يمتنعوا (٤) عن قبول ذلك للوعيد الذي ذكر في الآيات.

والثاني : إن الامتناع عن قبول ما بذلت الزوجة يحمل على حدوث المكروه ، ويورث الضغائن ؛ وذلك يسبب (٥) قطع الزوجية فيما بينهما.

وقيل : قوله ـ عزوجل ـ : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) ، يعنى : بطيبة أنفسكم (٦) : يقول : لا تعطوهن مهورهن وأنتم كارهون ، ولكن آتوهن وأنفسكم بها طيبة ؛ إذ كان المهور لهن دونكم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ) ، أي : ما طابت به أنفسهن من غير كره فهو حلال.

__________________

 ـ وهبن لكم ؛ إعلاما بأن المراعى هو تجافي نفسها عن الموهوب طيبة ، وبرجوعها يظهر عدم طيب نفسها ، وذلك بيّن.

(١) في ب : بوجه.

(٢) أخرجه ابن جرير (٧ / ٥٥٣) (٨٥١٠) عن أبي صالح ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢١٢) وزاد نسبته لابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وعبد بن حميد عن أبي صالح.

(٣) ذكره بنحوه السيوطي في الدر (٢ / ٢١٣) وعزاه لابن أبي حاتم وابن المنذر وعبد بن حميد عن على ابن أبي طالب.

(٤) في ب : يمنعوا.

(٥) في ب : سبب.

(٦) ذكره بنحوه ابن عادل في اللباب (٦ / ١٧١ ـ ١٧٢) والرازي في تفسيره (٩ / ١٤٧).

١٥

وعن علقمة (١) أنه قال لامرأته : أطعميني من الهنىء المرىء (٢).

وعن علي ـ رضي الله عنه ـ قال : إذا اشتكى أحدكم شيئا فليسأل امرأته ثلاثة دراهم من صداقها ، ثم يشتري بها عسلا ، ثم يشربه بماء السماء ، فيجمع الله ـ تعالى ـ الهنىء المرىء والشفاء والماء المبارك (٣).

وفي قوله ـ أيضا ، عزوجل ـ : (فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) أن النفقة ـ وإن كانت عليه ـ فهي إذا قامت بها في نفسها لا يحرج هو ؛ لأن نفقتها عليها ليست بأعظم من نفقته من مالها إذا تطيبت ، ووصف بالهنىء المرىء بما ربما يستثقل الطبع عن مالها ؛ كراهة الامتنان ، أو بما كان عليه كفايتها ، أو بما جرى من الوعيد الشديد في منع مهرها ، أو بما قد تحتشمه فتبذل له ، أو بما يوهم الطمع في مالها ، والرغبة في النكاح لذلك ؛ فطيبه الله ـ تعالى ـ حتى وصفه بغاية ما يحتمل المال من الطيب.

وفيه بيان جواز معروفها ، وترغيب في حسن المعاشرة بينهما حتى أبقى ذلك بعد الفراق بقوله ـ عزوجل ـ : (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ ...) الآية [البقرة : ٢٣٧] ، وذلك أحد ما يورث المحبة والمودة ، أو يديمها ؛ إذ جعل الله بينهما بقوله : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها) [الروم : ٢١].

مسألة : في العبد لا يتزوج أكثر من اثنتين :

روي عن عبد الله بن عتبة (٤) ـ رضي الله عنه ـ [أنه](٥) قال : قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ : «ينكح العبد اثنتين ، ويطلق اثنتين ، وتعتد الأمة بحيضتين ، فإن لم تحض فشهر ونصف» (٦).

__________________

(١) هو علقمة بن قيس بن عبد الله بن سلامان بن كهيل الكوفي ، أحد الأعلام ، روى عن أبي بكر وعمر وعلى وابن مسعود وطائفة من الصحابة ، وروى عنه إبراهيم النخعي والشعبي ، وسلمة بن كهيل وغيرهم. مات سنة ٦٢ ه‍. تنظر ترجمته في : خلاصة الخزرجي (٢ / ٢٤١) ، تقريب التهذيب ترجمة (٤٧١٥).

(٢) أخرجه ابن جرير (٧ / ٥٥٥) (٨٥١٦) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢١٣) وعزاه لابن سعد عن علقمة.

(٣) ذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢١٣) وعزاه لعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب ..

(٤) هو عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلى ، روى عن عمر وعمار ، وروى عنه ابناه : عبيد الله وعون ، كان ثقة فقيها ، مات سنة ٧٤ ه‍.

تنظر ترجمته في : الخلاصة (٢ / ٧٧) ، التقريب : ترجمة (٣٤٨٤).

(٥) سقط من ب.

(٦) ذكر نحوه السيوطي في الدر (٢ / ٢١٠) ، وعزاه لابن أبي شيبة عن عمر.

١٦

وعن علي ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : «لا يحل للعبد أن ينكح فوق اثنتين».

وعن عبد الرحمن بن عوف أنه قال : «يتزوج العبد اثنتين».

وعن عمر ـ رضي الله عنه ـ أنه قال لابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : «ما يحل للعبد من النساء؟» قال : «اثنتين» ، قال عمر ـ رضي الله عنه ـ : «ذلك أرى» (١).

وعن الحكم (٢) قال : اجتمع أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أن العبد لا يجمع من النساء فوق اثنتين (٣) ؛ فهؤلاء ستة نفر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، منهم : عمر بن الخطاب ، وعبد الرحمن بن عوف ، وعلي ، وابن مسعود ، والفضل بن العباس ، والأنصاري ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ اتفقوا على أن العبد يتزوج اثنتين ، ولا يتزوج أكثر من ذلك.

وأيضا عن ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «طلاق الأمة تطليقتان ، وعدّتها حيضتان» (٤).

وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الأمة تطلّق تطليقتين ، وتعتدّ حيضتين» (٥).

فإن احتج محتج بعموم الآية أن الله ـ تعالى ـ قال : (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) ، ولم يذكر عبدا ولا حرّا ؛ فهو على عمومه.

قيل : في الآية دليل أن الخطاب للأحرار ، وهو قوله ـ تعالى ـ : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) ؛ فهو على من له النكاح بنفسه ، والعبد يكون له النكاح بغيره بقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) [النور : ٣٢] : فكان المخاطب بنكاح العبيد مواليهم ، ليس له أن ينكح المرأة إلا بإذن مولاه ؛ ومولاه يزوجه إذا شاء بغير أمره ، فإنما الخطاب لمن له أن يتزوج إذا شاء ؛ والعبد من ذلك خارج ؛ ألا ترى أنه قال ـ عز

__________________

(١) ذكره بنحوه السيوطي في الدر المنثور (٢ / ٢١٠).

(٢) هو الحكم بن عتيبة أبو عبد الله الكوفي ، أحد الأعلام ، ثقة ثبت من فقهاء أصحاب إبراهيم النخعي ، مات سنة ١١٥ ه‍.

تنظر ترجمته في : الخلاصة (١ / ٢٤٥) ، تقريب التهذيب ، ترجمة (١٤٦١).

(٣) ذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢١٠) وعزاه لابن أبي شيبة والبيهقي.

(٤) أخرجه ابن ماجه (٣ / ٤٦٧ ، ٤٦٨) في كتاب الطلاق : باب طلاق الأمة وعدتها (٢٠٧٩) ، والحديث ضعفه الألباني في ضعيف ابن ماجه (٤٥١).

(٥) أخرجه أبو داود (٢ / ٢٥٧ ، ٢٥٨) كتاب الطلاق : باب سنة طلاق العبد (٢١٨٩) ، والترمذي (٢ / ٤٧٤) (١١٨٢) : باب طلاق الأمة تطليقتان ، وقال : حديث عائشة غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث مظاهر بن أسلم ، وابن ماجه (٣ / ٤٦٨) كتاب الطلاق باب طلاق الأمة وعدتها (٢٠٨٠) ، وانظر ضعيف ابن ماجه (٤٥٢) ، الإرواء (٧ / ١٤٨) (٢٠٦٦).

١٧

وجل ـ : (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ)؟! والعبد لا يملك ملك اليمين ؛ فدل أن الخطاب راجع إلى الأحرار دون العبيد (١).

فإن قيل : قد جعلتم للعبد أن يطلق الحرة ثلاثا ، فجعلتم له من الطلاق مثل الذي جعلتموه للحر ؛ فيجب أن تجعلوا له من تزوج النساء مثل الذي يجوز للحر.

قيل : الفرق بينهما أن الطلاق عندنا بالنساء ؛ لأن الحر يطلق امرأته الأمة تطليقتين ؛ فتحرم عليه ؛ والتزويج بالرجال لا ينظر فيه إلى النساء ، فللعبد أن يتزوج النصف من تزويج الحر ، كما أن عدة الأمة وطلاقها على النصف من عدة الحرة ، على ما روينا من الخبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حتّى يكون للعبد في امرأتين شيء نصف ما للحرّ من الأربع» ؛ وروى عن الحسن أنه قال في قوله ـ تعالى ـ : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ)(٢) [يعني : الكفار.

وقيل : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ)](٣) ؛ فيكونوا قياما عليكم ، ولكن كونوا أنتم قياما عليهم (٤).

وقيل : لا تؤتوهم أموالكم ؛ فيكونوا أربابا عليكم ، وكونوا أربابا بأموالكم عليهم.

ومن صرف التأويل إلى اليتامى جعل معنى قوله ـ عزوجل ـ : (أَمْوالَكُمُ) ـ كقوله : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء : ٢٩] ، وكقوله : (فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) [النور : ٦١] : يريد من ترونه في البيوت ؛ فعلى ذلك إضافة أموال اليتامى إلى الأولياء.

__________________

(١) ينظر : اللباب لابن عادل (٦ / ١٦٤ ، ١٦٥) ، والرازي في تفسيره (٩ / ١٤١ ، ١٤٢).

(٢) قال القرطبي (٥ / ٢١) : ودلت الآية على جواز الحجر على السفيه ؛ لأمر الله ـ عزوجل ـ بذلك في قوله : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ ، وقال : فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً) [البقرة : ٢٨٢] الآية ؛ فأثبت الولاية على السفيه كما أثبتها للضعيف. وكان معنى الضعيف راجعا إلى الصغير ، ومعنى السفيه إلى الكبير البالغ ؛ لأن السفيه اسم ذم ، ولا يذم الإنسان على ما لم يكتسبه ، والقلم مرفوع عن غير البالغ ؛ فالذم والحرج منفيان عنه ، قاله الخطابي.

قال القاسمي في محاسن التأويل (٥ / ٣٨) بعد أن ساق وجهين للآية :

الوجه الثالث : أن يراد بالسفهاء كل من لم يكن له عقل يفي بحفظ المال ؛ فيدخل فيه النساء والصبيان والأيتام ، وكل من كان موصوفا بهذه الصفة.

قال الرازي : وهذا القول أولى ؛ لأن التخصيص بغير دليل لا يجوز.

قال السيوطي في (الإكليل) : وفي هذه الآية الحجر على السفيه ، وأنه لا يمكن من ماله ، وأنه ينفق عليه منه ويكسى ، ولا ينفق في التبرعات ، وأنه يقال له معروف ك : (إن رشدت دفعنا إليك مالك ، وإنما يحتاط لنفعك). واستدل بعموم الآية من قال بالحجر على السفيه البالغ سواء طرأ عليه أم لا كان من حين البلوغ ، ومن قال بالحجر على من يخدع في البيوع ، ومن قال بأن من يتصدق على محجور ـ وشرط أن يترك في يده ـ لا يسمع منه ذلك.

(٣) ما بين المعقوفين سقط من ب.

(٤) أخرجه ابن جرير (٧ / ٥٦٧ ، ٥٦٩) (٨٥٥٤ ، ٨٥٥٩) ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢١٤) وعزاه لابن أبي حاتم عن الضحاك.

١٨

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ ...) الآية [النساء : ٥].

فالسفيه ـ في الحقيقة ـ من يعمل عمل الجهال ، كان جاهلا في الحقيقة أو لا ؛ لما قد يلقب العالم به ؛ إذا ضيع الحدود ، وتعاطي الأفعال الذميمة ؛ وعلى ذلك ما جاء [من](١) الكتاب بتسفيه علماء أهل الكتاب. ثم قد يسمى الجهال به ؛ لما [أن](٢) الجهل هو السبب الباعث على فعل السفه ؛ فقوله ـ تعالى ـ : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) يحتمل ذلك الوجهين.

وأي الأمرين كان فقيه التحذير للمعنى الذي بين من قوله : (الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) : فإما إذا كانت قياما للمعاش أو للمعاد أو لهما ، وطريق الإنفاق في الوجهين والإمساك لهما التدبر ، ومراعاة الشرع ، وتعاهد الأسباب ، والوجهان جميعا يمنعان الوفاء بما جعلت له الأموال ؛ فحذر من أنعم بها عن تضييع ذلك بالتسليم إلى من ذكر ، مع ما يكون في ذلك أن اتباع من يستحق أن يكون متبوعا لمن حقه أن يجعل تابعا ، وذلك خارج عن حد الحكمة ، وما يحمده العقل.

ثم قد صرفت الآية إلى النساء بما جعل من إليه التدبير وهو الذي أنشأهن تحت أيدي الرجال في الأمور ، مع وصف الرجال أنهم قوامون على النساء.

وصرفت ـ أيضا ـ إلى الصغار بما ضمن حفظ أموال مثلهم الكبار ، وجعلوا مكفولين عند البالغين ؛ فأموال البالغين أحق بذلك ، وحقيقة السفه (٣) ما ذكرت (٤).

وجائز أن يكون المقصود بالذكر ـ من ذكر الصغار والنساء بما خاطب من حذر بالدفع إلى من ذكر ـ رزق أولئك وكسوتهم ، ولا يجب رزق الجهال والسفهاء في الأفعال على غيرهم ؛ فيكون ما ذكروا أولى بمراد الآية ، وإن كان للمعنى الذي قصد بالآية التي ذكرتهم ـ قد استحقوا.

ولما غلبت تلك الأحوال على هؤلاء جعل من ذكرت قواما عليهم ، وقد ذكرت عن الحسن : أنه صرف الآية إلى الكفار ؛ فكأنه تأول في القيام ـ القيام بأمر الدين ؛ والكفار لا

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) سقط من ب.

(٣) السفه : خفة الحلم ، وأصله : الخفة والحركة ، وقيل : هو الجهل.

والسفيه : خفيف العقل ، والجاهل ، والضعيف الأحمق ، وفي اصطلاح الفقهاء يراد من السفه : السرف والتبذير وعدم حفظ المال.

ينظر : لسان العرب (٣ / ٢٠٣٢ ، ٢٠٣٣) (سفه).

(٤) في ب : ذكر.

١٩

يجوز الاستعانة بهم فيه ؛ وله جعل المال عنده مع ما كره العلماء تسليط الكفار العقوبة ؛ لجهلهم بحق شرع الإسلام فيها ؛ فمثله دفع الأموال إليهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً)

عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : (الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً)(١) ، يعنى : قوام أمركم ومعيشتكم (٢) ، وهو هكذا جعل الله هذه الأموال أغذية للخلق ، بها يقوم دينهم وأبدانهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ)(٣)

يقول : لا تؤتوهم ، ولكن ارزقوهم أنتم واكسوهم.

وقيل : يقول : أنفقوا عليهم منها ، وأطعموهم (٤).

وقيل : لما أضاف الأموال إلى الدافعين لا إلى المدفوعة إليهم ؛ دل على وجوب نفقة الولد وكسوته على الرجل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً)

__________________

(١) قال القاسمي (٥ / ٣٨) : في قوله تعالى : (الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) حث على حفظ الأموال وعدم تضييعها.

قال الزمخشري : كان السلف يقولون : المال سلاح المؤمن ، ولأن أترك مالا يحاسبني الله عليه ، خير من أن أحتاج إلى الناس. وعن سفيان ـ وكانت له بضاعة يقلبها ـ لولاها لتمندل بي بنو العباس. وعن غيره (وقيل له : إنها تدنيك من الدنيا) : لأن أدنتني من الدنيا لقد صانتني عنها. وكانوا يقولون : اتجروا واكتسبوا ؛ فإنكم في زمان إذا احتاج أحدكم كان أول ما يأكل دينه. وربما رأوا رجلا في جنازة ، فقالوا له : اذهب إلى دكانك. انتهى.

(٢) أخرجه الطبري في تفسيره (٧ / ٥٧٥) رقم (٨٥٦٠) ، عن ابن عباس.

(٣) قال القرطبي (٥ / ٢٢) : معناه اجعلوا لهم فيها ، أو افرضوا لهم فيها ، وهذا فيمن يلزم الرجل نفقته وكسوته من زوجته وبنيه الأصاغر ؛ فكان هذا دليلا على وجوب نفقة الولد على الوالد والزوجة على زوجها ، وفي البخاري عن أبي هريرة قال قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (أفضل الصدقة ما ترك غنى ، واليد العليا خير من السيد السفلى ، وابدأ بمن تعول ، تقول المرأة : إما أن تطعمني وإما أن تطلقني ، ويقول العبد : أطعمني واستعملني ، ويقول الابن : أطعمني إلى من تدعني؟ فقالوا يا أبا هريرة ، سمعت هذا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قال : لا ، هذا من كيس أبي هريرة).

أخرجه البخاري (٩ / ٤١٠) في كتاب النفقات : باب وجوب النفقة على الأهل والعيال (٥٣٥٥).

قال المهلب : النفقة على الأهل والعيال واجبة بالإجماع ، وهذا الحديث حجة في ذلك. قال ابن المنذر : اختلفوا في نفقة من بلغ من الأبناء ولا مال له ولا كسب : فقالت طائفة : على الأب أن ينفق على ولده الذكور حتى يحتملوا وعلى النساء حتى يتزوجن ويدخل بهن ، فإن طلقها بعد البناء أو مات عنها فلا نفقة لها على أبيها ، وإن طلقها قبل البناء فهي على نفقتها.

(٤) أخرجه الطبري (٧ / ٥٧١) (٨٥٦٦) عن ابن عباس ، وبرقم (٨٥٦٧) عن السدي ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢١٤) وزاد نسبته لابن المنذر.

٢٠