تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٧

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٧

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٠٧

١
٢

سورة بني إسرائيل مكيّة (١)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(١)

قوله ـ عزوجل ـ : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً).

(سُبْحانَ) : كلمة إجلال الله عن الأكفاء ، وتنزيهه عن الشركاء ، وتبريئه عما قالت المعطّلة فيه وظنت الملاحدة به : من الولد ، والحاجات ، والآفات ، وجميع معاني (٢) الخلق (٣).

وروي في بعض الأخبار عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سئل عن تفسير : (سبحان الله) ؛ قال : هو تنزيه الله عن كل سوء (٤).

ومعنى قوله : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) هو ـ والله أعلم ـ كأنه ذكر أن من قدر على أن يسري بعبده ليلا مسيرة شهر يقدر على إحياء الموتى بعد الموت ، ويملك : حفظ رسوله والنصر له وإظهار آيات نبوته ورسالته ، وقطع جميع حيل المكذبين له والمخالفين.

وقوله : (مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى).

سماه أقصى (٥) ، وهو الأبعد ، من قصا يقصو قصوّا ؛ فهو قاص ، كأنه لم يكن يومئذ إلا المسجد الحرام ومسجده بالمدينة ومسجد بيت المقدس ؛ فسمّاه لذلك ـ والله أعلم ـ المسجد الأقصى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ)

سميّ : مباركا ؛ لكثرة أنزاله وخيراته وسعته.

وقيل : سميّ : مباركا ؛ لأنه مكان الأنبياء ومقامهم ؛ فبورك فيه ببركتهم منافع (٦) ، والله أعلم.

__________________

(١) ينظر : اللباب (١٢ / ١٩٣).

(٢) في ب : منافع.

(٣) ينظر الكلام على هذا في سبل الهدى والرشاد (٣ / ٤ ، ٥).

(٤) أخرجه ابن جرير والديلمي والخطيب في الكفاية وابن مردويه من طرق عن طلحة بن عبيد الله ، كما في الدر المنثور (١ / ٢٠٧).

(٥) ينظر الكلام على هذا في سبل الهدى والرشاد (٣ / ١٦ ـ ١٨).

(٦) ينظر الكلام على هذا في سبل الهدى والرشاد (٣ / ١٩) ، وهنا طمس لا يضر بالمعنى.

٣

وقوله ـ عزوجل ـ : (لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا).

أي : لنريه من آياتنا الحسية بعد ما أراه الآيات العقليّة ؛ لأن الآيات الحسيّة أكبر في قطع الشبه ودفع الوساوس من العقلية ؛ إذ لا يشك أحد فيما كان سبيل معرفته الحسّ والعيان. وقد يعترض ربما الشبه والوساوس في العقليات ؛ لأنه لا يشك أحد في نفسه أنه هو ؛ فأحبّ ـ عزوجل ـ أن يري رسوله آيات حسّية تضطر المنصفين على قبولها ، والإيمان بها ، والإقرار له أنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لما يعلمون أن ما كان يخبرهم من أخبار ـ حيث قال : إنه رأى عير فلان ، وأمورا ـ يعلمون أنه لا يقول إلا عن مشاهدة وعيان ؛ لأنه كان ما أتى من الآيات العقليات قالوا : إنه سحر ، وما ذكر من الأشياء التي كانت في كتبهم المتقدمة ـ قالوا : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [النحل : ٢٤] ، و (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) [النحل : ١٠٣].

ليس ذلك عمل سحر ولا إفكا ولا افتراء ولا أساطير الأوّلين ؛ على ما نسبوه إلى السحر مرة وإلى الإفك والافتراء ثانيا ، ونحوه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).

أي : من قدر على ما ذكر لا يحتمل أن يخفى عليه شيء من قول أو عمل ، ثم ما روي من الأخبار أنه عرج به إلى السماء حتى رأى إخوانه الأنبياء الماضين قبله ، وما ذكر فيها ـ فنحن نقول ما قال الصديق ـ رضوان الله عليه ـ : «إن كان قال ذلك فأنا أشهد على ذلك» ، وإلا نقل [على مقدار](١) ما في الآية : إنه أسرى به إلى بيت المقدس المسجد الأقصى ، ولا نزيد عليه ؛ لأنّه من أخبار الآحاد فلا تسع الشهادة له.

قوله تعالى : (وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (٢) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (٣) وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (٤) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (٥) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (٦) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (٧) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً)(٨)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ).

يعني : التوراة.

__________________

(١) في ب : بمقدار.

٤

(وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ).

كل كتب الله : هدى لمن استهدى ، ورشد لمن استرشد ، وبيان لمن استوضح ؛ لأنها دعت إلى ثلاث خصال : دعت إلى معالي الأمور ، ومكارم الأخلاق ، وصالح الأعمال. ونهت عن ثلاث : عن مساوي الأعمال ، وعن سفاسف الأمور ، ودناءة الأخلاق ورداءتها.

ذكر أنه جعل الكتاب هدى لبنى إسرائيل ؛ لأن منفعة الكتاب حصلت لهم : أنهم هم الذين استهدوا به ؛ فعلى ذلك هو هدى لمن استهدى ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً).

أي : معتمدا ، أي : قلنا لهم فيه ، أو ذكرنا لهم فيه ، أو أمرناهم فيه : ألا تتخذوا من دوني وكيلا ، أي : معتمدا موكولا ، الوكيل : هو موكول الأمر إليه ، معتمد في الأحوال عليه ، قائم في جميع ما وكل إليه بالتبرع والتفضل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ).

قال بعضهم : يعني بالذرية الأنبياء الذين كانوا من قبل ، أي : كانوا من ذرية نوح ومن حمل معه ، وهم بشر ؛ قال : ذكر [هذا لإنكارهم](١) بعث الرسل من البشر ؛ حيث قالوا : (أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) [الإسراء : ٩٤].

والثاني : يحتمل غيره ، أي : من ذرية من حملنا مع نوح ، أي : هؤلاء من ذرية من حملنا مع نوح ؛ فكيف خالفوا آباءهم الذين كانوا على الهدى ، وتابعوا غيرهم؟!

أو يذكر أن هؤلاء الرسل من ذرية من حملنا مع نوح ، [وهم بشر ، فكيف أنكروا الرسول من بشر؟!

ثم قال بعضهم : هو على النداء والدعاء : يا ذرّية من حملنا مع نوح](٢) في السفينة ـ في أصلاب الرجال وأرحام النساء زمان الطوفان ـ لا تتخذوا من دوني وكيلا ، قيل : ربّا وإلها ، وقيل : شريكا. وأصله ما ذكرنا أن الوكيل : هو المعتمد.

(إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً).

يعنى : نوحا ، قال بعضهم : سمّاه شكورا ؛ لأنه كان يذكر ربّه في كل أحواله ، وقال بعضهم : الشكور هو الذي يبتغي مرضات منعمه ، ويجتنب مساخطه ، وقال بعضهم : الشكور هو المطيع لله.

__________________

(١) في ب : بذلك إنكارهم.

(٢) ما بين المعقوفين سقط في ب.

٥

وقد ذكرنا معنى الشكر : أنه اسم المكافأة ، أو يقال : كانت عبادته لله عبادة شكر لا عبادة استغفار ، أي : كان شكورا في عبادته لا مستغفرا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ).

اختلف في قوله : (وَقَضَيْنا) :

قال الحسن وغيره : أوحينا إليهم وأخبرناهم وأعلمناهم في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين.

وقال بعضهم : قضينا عليهم.

وقال بعضهم : كتبنا عليهم فكيفما كان ، ففيه نقض قول المعتزلة ؛ لأنه أخبر : أنه أخبرهم وأعلمهم ؛ على تأويل من زعم أن القضاء ـ هاهنا ـ هو الإعلام والإخبار لهم ؛ فيقال لهم : كان أخبرهم وأعلمهم ؛ ليصدق في خبره أولا : فإن كان أخبرهم ليصدق في خبره ـ فذلك منه حكم أنهم : ليفسدن في الأرض مرّتين ؛ فإن كان تأويل القضاء : الكتاب والحكم ، فهو ظاهر ، وهو ما نقول : إن كل فاعل فعلا طاعة كانت أو معصية ـ كان بحكمه.

[ثم من](١) سأل آخر عن المعصية أنها كانت بقضاء الله ؛ فلا يجب أن يجاب له على الإطلاق : ب (نعم) أو ب (لا) ، إلا أن يبين أنه ما يريد بالقضاء وما يفهم منه ؛ لأن القضاء يتوجه إلى وجوه :

يرجع إلى الخلق ؛ كقوله : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) [فصلت : ١٢] أي : خلقهن.

والقضاء : الأمر ؛ كقوله : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٢٣] ، أي : أمر ربك.

والقضاء : الحكم ؛ كقوله : (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ) [طه : ٧٢] ، أي : احكم ما أنت حاكم.

ولم يعرف القضاء : الحمل والدفع ؛ على ما يقوله المعتزلة ، ونحوه ، فلا يجاب على الإطلاق إلا أن يبيّن أنه ما أراد بالقضاء؟ فإن أراد بالقضاء : الحكم : فعند ذلك يقال : نعم ، كان بقضائه وحكمه ، وليس فيما قضى وحكم دفعه في المعصية.

ثم اختلف في قوله : مرتين :

قال بعضهم من أهل التأويل (٢) : إن بني إسرائيل عصوا ربهم ؛ فسلط الله عليهم

__________________

(١) في أ : عمن.

(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٢٠٦٥) وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٤ / ٢٩٦ ، ٢٩٧) ، وهو قول قتادة.

٦

جالوت ؛ فقتلهم ، وسبى ذراريهم وأموالهم ، فكانوا كذلك زمانا ، ثم تابوا ورجعوا عن ذلك ، ثم بعث الله داود ؛ فقتل جالوت ، واستنقذهم من يديه ، وردهم إلى مكانهم ، ثم عادوا إلى ما كانوا من قبل ؛ ثم سلط عليهم بختنصر ؛ ففعل بهم ما فعل جالوت ، ثم تابوا ، فبعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال بعضهم (١) : بعث ـ أولا ـ بختنصر ، ثم فلانا وفلانا ، وهو ما قال : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ) إلى قوله : (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا) [الإسراء : ٨] ، أي : عدتم إلى العصيان عدنا إلى العقوبة ، ولكن ليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة سوى ما فيه من وجوه الحكمة والدلالة :

أحدها : فيه دلالة إثبات رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه أخبر عما كان في كتبهم من غير أن علم ما في كتبهم ، ولا اختلف إلى أحد منهم ؛ فكان ـ على ما أخبر ـ دل أنه إنما عرف ذلك بالله بما أخبره في كتابه.

وفيه أنه لم يهلك قوم بنفس الكفر إهلاك استئصال ، حتى كان منهم مع الكفر السّعي في الأرض بالفساد ، والعناد للآيات.

وفيه أن ليس على الله حفظ الأصلح لهم وإعطاؤه في الدين ؛ حيث لم يمتهم على الإيمان ، ولكن تركهم حتى عصوا ربهم ، ثم سلّط عليهم من قتلهم على تلك الحال ، ودعاهم إلى دينه وهو كفر ؛ فلو كان عليه إعطاء الأصلح لأماتهم على الإسلام ؛ فذلك أصلح لهم في الدين.

وقوله ـ عزوجل ـ : و (وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً).

قيل : لتجترءون جراءة عظيمة ، وقيل : لتقهرنّ ولتعلن غلبة ؛ كقوله : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ) [القصص : ٤] ، أي : قهر وغلب ، ألا ترى أنه قال : (وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ) [القصص : ٤] ثبت أنه على الغلبة والقهر.

وقيل : العلو هو العتوّ والجراءة والتكبّر ، وهو ما ذكرنا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما).

أي : جاء وعد هلاك من عصى منهم أولا ، وخالف أمر الله وكفر به.

(بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ).

قال الحسن : قوله : (بَعَثْنا عَلَيْكُمْ) ليس على بعث الوحي إليهم ؛ ولكن على التخلية ، أي : خلينا بينهم وبين عباد أولي بأس شديد ، أي : أولي بطش شديد وقوة ؛

__________________

(١) قاله سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب ، أخرجه ابن جرير عنهما (٢٢٠٩٦) ، (٢٢٠٧٠).

٧

كقوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ) [مريم : ٨٣] ، أي : [خلينا بينهم وبين الشياطين.

وقال بعضهم : (بَعَثْنا عَلَيْكُمْ) أي :](١) سلطنا عليكم.

وقوله : (بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) رد على المعتزلة ؛ لأنه ذكر [أنه](٢) بعث عليهم عبادا أولي بأس شديد ، وإنما بعثهم لجزاء إساءتهم ولسوء صنيعهم ، وذلك شر يفعل بهم ؛ دلّ أن لله صنعا في جميع فعل العباد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ).

قال بعضهم (٣) : جاسوا ـ من التجسّس ، أي : يتجسّسون أخبارهم ويسمعون أحاديثهم ، وهم جنود جاءوا من فارس.

وقال بعضهم (٤) : (فَجاسُوا) ، أي : قتلوا الناس في الأزقّة ، وقيل : في الطرق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً).

أي : الذين قالوا : (لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ) وعدا كائنا مفعولا ، أي : كان وعدا موعودا مفعولا كائنا ، وإلا الوعد لا يأتى ، وكذلك قوله : (إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) [مريم : ٦١] ، أي : موعودا مأتيّا ، وكذلك ما أشبه هذا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ).

أي : الغلبة والهلاك عليهم.

(وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً).

أي : أكثر رجالا منكم ـ قبل ذلك ـ وعددا ، ثم إذا عصوا ثانيا ، وكفروا بربهم سلط الله عليهم قوما آخرين ؛ فدمروا عليهم ، فذلك قوله :

(فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ).

الهلاك والتدمير ، أي : موعود الآخرة.

(لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ).

ثم وعد لهم الرحمة إن تابوا ورجعوا عن ذلك بقوله : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ). ثم أوعدهم العود إليهم بالعقوبة بقوله : (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا) ، أي : وإن عدتم إلى المعاصي عدنا

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

(٣) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير (٢٢٠٧١) و (٢٢٠٧٣) ، وابن أبي شيبة ، وابن المنذر وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٤ / ٢٩٩).

(٤) قاله البغوي بنحوه (٣ / ١٠٦).

٨

عليكم بالعقوبة.

ثم قول أهل التأويل : إنه سلّط عليهم بختنصر وجالوت ثم فلانا وفلانا ـ فذلك لا يعلم إلا بالخبر عن رسول الله ، وليس في الآية سوى أنه بعث عليهم (عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) ؛ فلا يزاد على ذلك إلا بالخبر ، سوى أنه ذكر هذا لنا ، وفيه وجوه من الحكمة : أحدها : ما ذكرنا من إثبات نبوة محمد ومن صدق رسولهم ؛ حيث حذرهم العقوبة بعصيانهم ، فكان كما قال.

وفيه تحذيرنا عن مثل صنيعهم ؛ لأنهم ليسوا بذلك أولى من غيرهم.

وقال القتبي (١) : (فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ) ، أي : عاثوا بين الديار ، وأفسدوا. ويقال : جاسوا ، وحاسوا.

(ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ).

أي : الدولة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَكْثَرَ نَفِيراً).

أي : عددا ، وقال أبو عوسجة : (أَكْثَرَ نَفِيراً) : هو من الخروج والنفر ، ومعناه : أكثر عددا ، وقال أبو عبيدة (٢) : (فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ) : معناه ، أي : فقتلوا في ديارهم.

وقال قتادة : النفير : المقاتلة الذين يستنفرون للقتال ، أي : لو استنفرتم أنتم ، واستنفر أولئك كنتم أكثر منهم. ثم جاء قوله : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما) إلى قوله : (فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ) ، معلوم أنه لم يكن في كتابهم هذا اللفظ : (بَعَثْنا عَلَيْكُمْ) ؛ (فَجاسُوا) ـ على الابتداء ، ولكن كان ـ والله أعلم ـ : إذا جاء وعد أولاهما لنبعثن عبادا أولي بأس شديد يتجسسون أو يجوسون ، لكنه خاطب بهذا ـ [والله أعلم] ـ الذين كانوا بحضرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن كانوا هم لم يفعلوا ما ذكر ؛ لكن لما فعل أوائلهم خاطب هؤلاء ؛ لما كانوا يفتخرون بأوائلهم ويقولون : هم أبناء الله وأحباؤه ، فيذكّر هؤلاء نعمه التي أنعم على أولئك ، ويحذرهم صنيعهم ، وهو ما خاطبهم بقوله : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ ...) الآية [البقرة : ٥٥] ، وقوله : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) [البقرة : ٦١] ، ونحوه : خاطب هؤلاء الذين كانوا بحضرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعاتبهم على صنيع أولئك وفعلهم ؛ وإن كان هؤلاء لم يقولوا ذلك لما رضوا بصنيع أولئك وفعلهم ؛ استئداء منهم

__________________

(١) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٢٥١).

(٢) ينظر : مجاز القرآن (١ / ٣٧٠).

٩

الشكر ؛ لما أنعم على أولئك ، وتحذيرا لهم عن مثل صنيعهم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ).

لا لله ؛ إذ إليكم يرجع منفعة ذلك ، وأنتم تجزون (١) على ذلك :

(وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها).

أي : فعليها ؛ كقوله : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ ...) الآية [فصلت : ٤٦] ، أي : عليها ضرر ذلك ، وعلى ذلك جميع ما أمر الله عباده من الأعمال أو نهاهم عنها إنما أمر ونهى ؛ لمنفعة أنفسهم ولحاجتهم ؛ لا لمنفعة له أو لحاجة له.

وقال بعضهم : (وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) ، أي : إليها ، أي : إلى أنفسكم تسيئون.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ).

أي : إذا جاء وعد موعود الآخرة ، وهو العقوبة بعصيانهم وتكذيبهم رسل الله ، وقوله : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) ؛ بالتغيير وتبديل الدين.

(لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ).

بواوين : على الجماعة ، وبواو واحدة : على الواحد : لنسوء وجوهكم ، ولم يبين من يسوء وجوههم ؛ فيشبه أن يكون يبعث قوما يسوءون وجوههم ، كما ذكر في الوعد الأول : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) ؛ فهم يسوءون وجوهكم.

ومن قرأ بالنون (٢) : لنسوء وجوهكم : أضاف إلى نفسه ؛ لما بأمره ما كان يفعل وبتسليطه إياهم عليهم.

وقال بعضهم : ذكر الوجه ـ هاهنا ـ كناية عن الحزن والهمّ والإهانة لهم ؛ كما يقال في السرور : أكرم وجهه ، أي : أدخل فيه سرورا ، أو ذكر الوجه ؛ لما بالوجه يظهر ذلك التغير والقبح ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ).

في ظاهر الآية أن يدخل الأولون المسجد في المرة الثانية كما دخلوا في المرة الأولى ؛ لأنه قال : (كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ) ، لكن يحتمل ليدخل عباد آخرون المسجد في المرة الثانية كما دخل الأوّلون في المرة الأولى.

__________________

(١) في أ : تحزنون.

(٢) ينظر : اللباب (١٢ / ٢١٥ ، ٢١٦).

١٠

وقال بعضهم : المسجد ـ هاهنا ـ الكنيسة أو البيعة (١).

وقوله : (وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً).

أى (٢) : ليهلكوا ما علوا به ، أي : ما غلبوا به وقهروا ، أي : الأسباب التي بها عصوا.

وقال أبو عوسجة : (ما عَلَوْا) ، أي : ليفسدوا ما أهلكوا ، والتّبار : الفساد ، يقال : علوت الشيء ، أي : ملكت :

وقوله ـ عزوجل ـ : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ).

يحتمل : أن يكون ذلك لأولئك الذين تقدم ذكرهم ، وفيهم نزل ما نزل ، يرحمهم إن تابوا ، ويشبه أن يكون على الابتداء : عسى ربكم أن يرحمكم بمحمد.

(وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا).

أي : وإن عدتم إلى التكذيب والعصيان عدنا إلى العقوبة والقتال إلى يوم القيامة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً).

قيل (٣) : سجنا لا يخرجون منها ، وقيل (٤) : محبسا ، وحصيرا يحصرون فيها ، والله أعلم.

قوله تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٠) وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (١١) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (١٢) وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (١٣) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً)(١٤)

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ).

معنى : التأنيث في قوله (لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) قيل بوجوه :

قيل : إن هذا القرآن يهدى للملة التي هي أقوم الملل وأعدلها ، والملة هي الدين ، دين الله.

__________________

(١) والمسجد : بيت المقدس ونواحيه.

(٢) ينظر : اللباب (١٢ / ٢١٦).

(٣) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٢١٠٨) ، وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٣٠٠) ، وهو قول أبي عمران الجوني وابن زيد.

(٤) قاله قتادة أخرجه ابن جرير عنه (٢٢١٠٣).

١١

وقال بعضهم : يهدى إلى الأمور التي هي أعدل الأمور وأصوبها (١).

وقيل : يهدى إلى السبيل التي هي أقوم السبل وأعدلها.

يحتمل هذه الوجوه الثلاثة التي ذكرناها.

وجائز أن يكون قوله : (يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) ، أي : للأعمال الصالحات وللخيرات ، لأن الأعمال الصالحات قوامها به.

ثمّ قوله : (يَهْدِي) : يحتمل وجهين : يحتمل : يبين ، والثاني : يدعو ؛ فهو يهدى الكل لو استهدوا ، لكن خص هؤلاء لما منفعة تكون لمن ذكر ، وقد ذكرنا أن هذا القرآن وغيره من كتب الله هدى ورحمة يدعو إلى ثلاث خصال : إلى معالي الأمور ، ومكارم الأخلاق ، ومحاسن الأعمال ومصالحها. وينهى عن مساوي الأعمال ، ودانى الأمور ، وسوء الأخلاق ودناءتها ؛ فهو هدى ورحمة على ما أخبر لمن استهدى به ، ورشد لمن استرشد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ).

البشارة المطلقة إنما جعلت للمؤمنين الذين عملوا الصالحات ، لم يذكر للمؤمنين خاصّة على غير العمل الصالح ؛ فالمسألة فيهم غير المسألة في هؤلاء.

وفيه دلالة أنه يقع اسم المؤمنين بدون العمل الصالح ؛ لأنه قال : (الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ) ؛ دلّ أن ذلك الاسم يقع بدون ذلك الاسم.

وفيه دلالة أن اسم الإيمان قد يستحق بدون العمل الصالح ؛ حيث يشرط فيه العمل الصالح.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً).

سماه كبيرا ؛ لكبير خطره عند الله ، كما سمى عذاب النار عظيما ؛ لعظم خطره عنده ، أو سماه كبيرا ؛ لأنه أكبر ما يقصد إليه ويرغب فيه ، وهو ثواب الجنة ، والنار أعظم ما يحذر بها ويرهب عنها.

وقوله ـ عزوجل ـ (وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً).

إنكارهم البعث ، وكفرهم به ـ هو الذي حملهم على تكذيبهم الرسل وكفرهم بالله ، ليسلم لهم شهواتهم في الدنيا ؛ لأن الرسل جميعا دعوهم إلى ترك شهواتهم في الدنيا ، ورغبوهم بما يوجب لهم الثواب في الآخرة وحذروهم عما يوجب العقاب ، فأنكروا

__________________

(١) ينظر : اللباب (١٢ / ٢١٨).

١٢

الآخرة والبعث (١) رأسا ليسلم لهم الدنيا فذلك الذي حملهم على إنكار الرسل وتكذيبهم إياهم ؛ ألا ترى أنه قال : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ) [الانعام : ٩٢] أي : بالقرآن أو بمحمّد ، إيمانهم بالبعث حملهم على الإيمان بالقرآن والرسول ، وتكذيبهم الآخرة حملهم على تكذيب الرسل ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ).

قال بعضهم (٢) : إذا غضب الإنسان يدعو على نفسه وولده وأهله ، ويلعن ، كدعائه عليهم بالخير ؛ لذلك انتصب قوله : (دُعاءَهُ).

وقال الحسن (٣) : إن الإنسان يتضايق صدره وقلبه بأدنى شيء يكره ؛ فيلعن على نفسه وأهله ؛ فلا يجيبه الله ، ثم يدعو بالخير ؛ فيعطيه ، أو نحوه من الكلام.

وقوله : (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ) : هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : ويدعو الإنسان بالشرّ على العلم منه بذلك كدعائه بالخير على العلم منه بذلك.

والثاني : يدعو الإنسان بالشر لو أجيب فيه على الجهل منه والغفلة ، كدعائه بالخير لو أجيب في ذلك. ثم إن كان ذلك الإنسان هو الكافر فهو يدعو على الاستهزاء ؛ كقوله : (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) الآية [الأنفال : ٣٢] ، وكذلك قوله : (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ) [المعارج : ١] ، ونحوه. وإن كان مسلما فهو يدعو بالشر على نفسه وأهله عند الغضب على علم منه به ، ويدعو أيضا بالشرّ على السهو والغفلة منه ، نحو ما يسأل الأموال والنكاح ، ولعل ذلك شرّ له.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً).

قال بعضهم (٤) : هذا لازم ؛ لأنه لما خلقه الله فنفخ الروح في بعض جسده ـ همّ أن يقوم ؛ فسمّاه عجولا ، لكن كل الإنسان خلق في الطبع من الأصل عجولا ؛ ألا ترى أنه لا يصبر على أمر واحد ولا على شيء واحد ، وإن كان نعمة لم يصبر عليها ؛ ولكن يمل عنها؟! وكذلك في أدنى شدّة وبلاء إذا بلي به لم يصبر عليه ، فأبدا يريد الانتقال من حال إلى حال ؛ ألا ترى أن قوم موسى قد أكرمهم الله بكرامات : من إنزال المنّ والسلوى

__________________

(١) زاد في ب : جميعا.

(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٢١١٢) ، وهو قول قتادة ومجاهد.

(٣) أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر وأبي أبي حاتم كما في الدر المنثور (٤ / ٣٠١).

(٤) ينظر : اللباب (١٢ / ٢٢٠).

١٣

عليهم من غير كد ولا جهد ولا مئونة ، وكذلك اللباس ؛ ثم لم يصبروا على ذلك حتى قالوا : (لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) [البقرة : ٦١] فسألوا ربهم ـ الفوم ، والبصل ، ونحوه؟! على هذا طبع الإنسان ملولا عجولا ؛ ألا ترى أن الله مكن في باطنه ، وجعل في سعة رياضة نفسه ، وصرفها إلى أحد الوجهين اللذين يجهد عليه ولا يذم ، وهو أن يروضها ويعودها على الصبر والحكم والوقار ، ويصرف تلك العجلة إلى الخيرات والطاعات التي يحمد عليها المرء بالعجلة ، وإلا : ففي ظاهر الخلقة والطبع منشأ على العجلة وما ذكر ؛ ألا ترى أنه قال : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً. إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً. وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) [المعارج : ١٩ ـ ٢١] إلا كذا ، وهو ما ذكرنا ـ والله أعلم ـ لكن بما امتحنه من الأمر والنهي والترغيب في الموعود والترهيب صيره بحيث يملك إخراجه عما طبع وأنشئ إلى حال أخرى بالرياضة التي ذكرنا ؛ ألا ترى أنه ذكر الهلع والجزع ، ثم استثنى إلا كذا؟! وعلى ذلك خلق الله الخلق على همم مختلفة وأطوار متشتتة ، لم يخلقهم جميعا على همة واحدة ، بحيث يرغبون جميعا في معالي الأمور ومعاظم الحرف وأرفع الأسماء ؛ بل طبعهم على أطباع مختلفة : فمنهم من يرغب في معالي الأمور ومعاظم الأمور والحرف ، ومنهم من كانت همته الرغبة في الدون من الأمور والحرف في الحجامة والدباغة والحياكة ونحوها ، وكذلك في الأسماء ، [ومنهم بخلاف ذلك](١) ، ولو كانت همتهم همة واحدة ـ لذهب المنافع والمعارف جميعا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ).

اختلف فيه : قال بعضهم : المراد بالليل والنهار : الشمس والقمر ، أي : جعلنا في الشمس والقمر ؛ ألا ترى أنه أضاف الآية إلى الليل والنهار حيث قال : (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) ، وحيث قال ـ أيضا ـ : و (وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) [يونس : ٥] ، وإنما يعلم ذلك بالقمر ؛ ألا ترى أنه قال ـ أيضا ـ : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً ...) الآية [يونس : ٥] ، إنما أضاف معرفة عدد السنين والحساب إلى القمر ؛ دلّ أنه بالقمر يعلم ذلك ، وهو قول علي (٢) وابن عبّاس (٣) ـ رضي الله عنهم ـ وغيرهم من أهل التأويل ؛ ويكون تأويل المحو الذي ذكر في قوله : (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) ـ

__________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في ب : ومنهم من كانت همته معالي الأمور ومعاظم الأعمال.

(٢) أخرجه ابن جرير (٢٢١١٨) و (٢٢١٢١) ، وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف ، كما في الدر المنثور (٤ / ٣٠٢).

(٣) أخرجه ابن جرير (٢٢١٢٣) ، و (٢٢١٢٤) ، وابن المنذر ، كما في الدر المنثور (٤ / ٣٠٢).

١٤

ما قالوا في محوه ، وهو السواد الذي يرى فيه والنقصان الذي يكون فيه في آخره.

وقال بعضهم (١) : محي منه تسعة وستون جزءا من سبعين جزءا ، إلى هذا يذهب هؤلاء.

وأما الحسن وأبو بكر وهؤلاء ، فهم يقولون : ليس في الآية ذكر الشمس والقمر ، إنما ذكر الليل والنهار وأخبر أنه جعل آيتين ؛ فهما كذلك آيتان ، وبهما يعلم عدد السنين والحساب ؛ لأنه بالأيام يعرف ذلك ، فأمّا الشهور فإنه إنما تعرف بالقمر لا تعرف بالأيام ؛ ويكون قوله تأويل (٢) : (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) ، أي : جعلنا آية الليل في الابتداء ممحوة مظلمة ، وجعلنا آية النهار مبصرة مضيئة في الابتداء ليس أن كانا جميعا مبصرتين مضيئتين ثم محي آية الليل وأبقيت آية النهار مضيئة ؛ ولكن إنشاء آية الليل في الابتداء [مظلمة ، وإنشاء آية النهار في الابتداء](٣) مبصرة ، وهو كقوله : (وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ. وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ) [الغاشية : ١٨ ، ١٩] ، أي : إنشاؤها في الابتداء كذلك ، لا أن السماء كانت موضوعة فرفعها ، و [لا] كذلك الجبال [كانت](٤) مبسوطة ثمّ نصبها ؛ ولكن إنشاءهما في الابتداء كذلك ؛ فعلى ذلك قوله : (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) ، أي : جعلهما في الابتداء : هذا مظلما ممحوّا ، وهذا مبصرا مضيئا.

(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) : هما آيتان مختلفتان ، بل متضادتان تضاد كل واحدة منهما صاحبتها ؛ إذ كل واحدة تنسخ الأخرى حتى لا يبقى لها أثر ، وهما آيتان دالتان على وحدانية الله تعالى ؛ لأنه لو كانا فعل عدد ـ لكان إذا أتى هذا على هذا وغلب عليه ـ منع من أن يكون للآخر سلطان أو أمر ؛ فإذ لم يكن دلّ أنه صنع واحد ، وفيهما دلالة تدبيره ؛ حيث جريا على سنن واحد ومقدار واحد ، على غير تفاوت يكون فيهما وتفاضل ، أو تغير على ما كان ومضى ؛ دل أنه عن تدبير خرجا وكانا كذلك.

وفيه دلالة علمه وحكمته لما جعل فيهما من المنافع ما لو كان اللّيل سرمدا ذهب منفعة الليل نفسه ، ولو كان النهار سرمدا لذهب منفعة النهار رأسا.

وفيه دلالة البعث ؛ لأنه يتلف أحدهما إذا جاء الآخر حتى لا يبقى [له](٥) أثر بتة ، ثم يعيده على ما كان من غير أن يعلم أنه غير الأوّل.

__________________

(١) قاله عكرمة ، أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٣٠٢).

(٢) في ب : تأويل قوله.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في ب.

(٥) سقط في أ.

١٥

ثم قول (آيَتَيْنِ) ، والآية علامة ، وعلامتهما لا تعرف إلا بالتأمل والنظر فيهما ؛ فعلى ذلك [لا يفهم](١) مراد ما في القرآن والمعنى المودع فيه ـ إلا بالتأمّل والنظر فيه.

وفيهما دلالة نقض قول أصحاب الطبائع وأصحاب النجوم والدهرية وجميع الملاحدة :

أمّا نقض قول أصحاب الطبائع : لما ذكرنا من اتساق مجراها على سنن واحد وأمر واحد ، دلّ أنه بالتدبير صار كذلك لا بالطبع. وأمّا نقض قول أصحاب النجوم [لما جعل النجوم](٢) مسخرة لمنافع الخلق ومغلوبة يغلبها ضوء الشمس ونور القمر حتى لا ترى ؛ دلّ أنه لا تدبير لها وأن التدبير لغيرها. وعلى غيرهم من الملاحدة ما ذكرنا من اتصال منافع هذا بهذا ومنافع هذا بهذا ، دلّ أنه ما ذكرنا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ).

يحتمل الفضل الذي ذكر : الرزق والمعاش الذي ذكر في آية أخرى : (وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) [النبأ : ١١] ، ويحتمل أنواع فضل تكون في الدّين.

(وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ).

هو ما ذكرنا أنه بهما يعرف [عدد السنين والحساب](٣).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً).

يحتمل التفصيل تفصيل آية من أخرى ، أي : لم يجعلهما آية واحدة ؛ على ما ذكر.

وقال الحسن : أي فصل بين ما أمر عباده ونهاهم ، أي : بين وفصل ما يؤتى ممّا يتّقى ، و (فَصَّلْناهُ) : أي : فصله تفصيلا لم يتركه مبهما ؛ بل بين غاية البيان.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ).

اختلف في قوله : (طائِرَهُ) :

قال بعضهم (٤) : (طائِرَهُ) : شقاوته وسعادته ، ورزقه وعيشه.

وقال بعضهم (٥) : عمله الذي عمل من خير أو شر.

وقال بعضهم : حظه ونصيبه من عمله ، وهو جزاؤه ونحو ذلك ، فذلك كله يرجع إلى

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في أ.

(٤) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٢١٣٧) ، وعن قتادة (٢٢١٣٨).

(٥) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٢١٣٢) و (٢٢١٣٣) وابن المنذر وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٤ / ٣٠٣) ، وهو قول مجاهد وقتادة.

١٦

معنى واحد ؛ لأنه إنما يسعد ويشقى بعمله الذي يعمله ، وكذلك جزاء عمله ؛ ولذلك قال الحسن في تأويل قوله : (قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا) [المؤمنون : ١٠٦] ، أي : بأعمالنا التي عملناها ، ثم يخرج تسمية العمل وما ذكروا طائرا ؛ لوجهين :

أحدهما : على وجه التفاؤل والطيرة ؛ كانوا يتفاءلون ويتطيرون بأشياء : بالطائر وغيره (١) ، ويقولون جرى له الطائر بكذا من الخير ، وجرى له بكذا من الشر ؛ على طريق الفأل والطيرة ؛ فخاطبهم على ما يستعملون ، وأخبر أن ذلك يلزم أعناقهم ، وهو ما قال الله ـ تعالى ـ : (يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) [الأعراف : ١٣١] ، وكقوله : (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ) [الأعراف : ١٣١] ، وقوله ـ أيضا ـ : (قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ ...) الآية [النمل : ٤٧] ، ونحوه.

والثاني : سمى الأعمال التي عملوها طائرا ؛ لما أن الذي يتولّد منه تلك الأعمال كالطائر ، وهو الهمة ، أو لا يخطر بباله شيء ؛ ففي الأخطار لا صنع له فيه ، ثم يهمّ ، ثم تبعث الهمّة على الإرادة ، ثم الإرادة تبعث على الطلب والعمل ، فالهمة التي في النفس التي يتولد منها الأعمال كالطائر ؛ فسماه لذلك باسمه ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فِي عُنُقِهِ).

يحتمل أن يكون العنق كناية عن النفس ، أي : ألزمناه نفسه ، وذلك جائز ؛ يقال : هذا لك عليّ وفي عنقي.

والثاني : ذكر العنق ؛ كما يقول الرجل لآخر إذا أراد التخلص من (٢) عمل : قلّدتك هذا العمل وجعلته في عنقك ، أي : تكون أنت المأخوذ به إثما إن كان في ذلك شر ، وأنت المأجور به المثاب إن كان فيه خير.

والمعنى في قوله : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) ، أي : لا يؤخذ غيره بعمله وشقائه ؛ ولكن هو المأخوذ به ، وهو ما قال : (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) [الإسراء : ١٥] ، وقوله : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [الإسراء : ١٥] ؛ هذه الآيات الثلاثة معناها واحد ، وهو ما ذكرنا ألا يؤخذ غيره بعمل آخر ، ولا تحمل نفس خطيئة أخرى ولا وزرها ، ولكن كل نفس هي تحمل خطيئة نفسها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً).

هذا يحتمل وجهين :

__________________

(١) في ب : ونحوه.

(٢) في أ : عن.

١٧

أحدهما : أي : يجعل ما لزم عنقه كتابا يلقاه منشورا.

والثاني : أي : يجعل بما ألزم عنقه كتابا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً).

قيل : شهيدا ، وقيل : كافيا وحاسبا ، وهو واحد : أن المؤمن بما سبق من صالحاته يقف فيها لا يقطع القول لرجائه في رحمته ولخوفه عن مساويه ؛ فلا يشهد على نفسه بالعقوبة.

وأما الكافر فإنه يشهد على نفسه بالنار ؛ لما لم يكن له ما يطمع رحمته.

وقوله : (اقْرَأْ كِتابَكَ) ، أي : (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) ؛ فيقال له : (اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً).

وفي ذلك لطف عظيم بقراءة كتابه بأي لسان كان ؛ لأنه لم يبين بأي لسان يكتب ، ثم يتذكر جميع ما عمل في عمره ، وقد ينسى الرجل عملا يعمل في أدنى مدة ، لكن هذا يتذكر في ساعة ووهلة ما كان عاملا منه.

قوله تعالى : (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (١٥) وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (١٦) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً)(١٧)

وقوله ـ عزوجل ـ : (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ).

أي : من اهتدى إلى ما جعل الله عليه من أنواع النعم ، وقام بأداء شكرها فإنما فعل ذلك لنفسه ؛ لأنه هو المنتفع به.

أو يقول : من اختار الهدى وأجابه إلى ما دعاه مولاه فإنّما يهتدي لنفسه ، أي : فإنّما اختار ذلك لنفسه ؛ لأنه هو المنتفع به وهو الساعي في فكاك رقبته.

وقوله ـ عزوجل ـ (وَمَنْ ضَلَ).

أي : من ضلّ ، أي : من اختار الضلال (فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) ، أي : فإنما يرجع عليها ضرره ، وهو ما ذكر : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) [فصلت : ٤٦].

وقوله : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها).

وقوله : (وَمَنْ ضَلَ) عن ذلك (فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها).

أي : إلى نفسه يرجع ضرر ضلاله على نفسه ؛ كقوله : (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) [النمل : ٤٠].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى).

١٨

هو ما ذكرنا ، أي : لا تحمل نفس خطيئة أخرى ، ولا تأثم بوزر أخرى ، والله أعلم ؛ ذكر هذا ليعلم أن أمر الآخرة خلاف أمر الدنيا ؛ لأن في الدنيا قد يؤخذ نفس مكان أخرى ، ويحتمل نفس مؤمنة أخرى ، وفي الآخرة لا تؤخذ [نفس](١) بدل أخرى.

والثاني : قد يتبرع (٢) بعض عن بعض بتحمل المؤمنات والقيام في فكاكها ، وأمّا في الآخرة فلا يتبرع بذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً).

يحتمل : ما كنا معذّبين تعذيب استئصال في الدنيا إلا بعد دفع الشبه ـ ودفعها عن الحجج ـ من كل وجه ، وبعد تمامها ، وإن كانت الحجة قد لزمتهم بدون بعث الرسل ؛ ليدفع عنهم عذرهم من كل وجه ، أو أن يكون قوله : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) إفضالا منه ورحمة ، وإن كان العذاب قد يلزمهم ، والحجة قد قامت عليهم ، والعذاب الذي كانوا [يعذبونهم فى](٣) الدنيا ليس هو عذاب الكفر ؛ لأن عذاب الكفر دائم أبدا لا انقطاع له ، وهذا مما ينقطع وينفصل ، لكن يعذبون بأشياء كانت منهم من العناد ودفع الآيات ، وأما عذاب الكفر فهو في الآخرة أبدا لا ينقطع.

وفي الآية دلالة أن حجة التوحيد قد لزمتهم وقامت عليهم بالعقل ، حيث قال : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) ؛ فلو لم تلزمهم لكان الرسل إذا دعوهم إلى ذلك يقولون : من أنتم ومن بعثكم إلينا؟ فإذا لم يكن لهم هذا الاحتجاج دل أن الحجة قد قامت عليهم ، لكن الله بفضله أراد أن يدفع الشبه عنهم ويقطع عنهم عذرهم برسول يبعث إليهم ؛ لما أن أسباب العلم بالأمور ثلاثة :

فمنها ما يعلم بظاهر الحواس بالبديهة ، ومنها ما يفهم [ويعلم](٤) بالتأمل والنظر ، ومنها ما لا يعلم إلا بالتعليم والتنبيه.

وقال القتبي (٥) : (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) وهو ما ذكرنا ، أي : نخرج بذلك العمل كتابا.

وقال أبو عوسجة : أي نكتب ما عمل ثم نقلده في عنقه فيجيء به يوم القيامة.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : تبرع.

(٣) في ب : يعذبون ثم.

(٤) سقط في أ.

(٥) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٢٥٢).

١٩

وقال أبو عبيدة (١) : طائره حظه.

وقال غيره من المفسّرين : ما عمل من خير وشر ألزمناه عنقه.

قال القتبي (٢) : وهذان المعنيان يحتاجان إلى بيان.

والمعنى فيما أرى ـ والله أعلم ـ أن لكل امرئ حظّا من الخير والشر قد قضاه الله ؛ فهو لازم عنقه ، والعرب تقول : إن كل ما لزم الإنسان قد لزم عنقه ، وهو لازم طائر في عنقه ، وهذا لك عليّ وفي عنقي حتى أخرج منه ؛ وإنما قيل للحظ من الخير والشر : طائر ؛ لقول العرب ما ذكرنا : جرى له الطائر بكذا من الخير ، وجرى له الطائر بكذا من الشر ؛ على وجه الفأل والطيرة على مذهبهم في تسمية الشيء بما كان له سببا ، وهو ما ذكر (٣).

وقوله : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً).

التعذيب يكون على وجوه ثلاثة :

أحدها : يعذبهم في الدنيا ابتداء بتعذيب (٤) ؛ امتحانا وابتلاء بلا جريمة كانت منهم ؛ كقوله : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء : ٣٥] ، وقوله : (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ) [الأعراف : ١٨٦] ، ونحوه ؛ فيكون تنبيها وتذكيرا لهم لا تكفيرا.

والثاني : يعذب تعذيب العناد والمكابرة ، وهو تعذيب إهلاك استئصال ؛ فهو عقوبة لهم ، وموعظة للمتقين ، وعبرة لغيره ، وهو الذي يأتي على أثر وعيد.

والثالث : عذاب الموعود في الآخرة ؛ يقول : وما كنا معذّبين في الآخرة حتى نبعث رسولا في الدنيا.

والأشبه أن يكون ما ذكر من التعذيب هو تعذيب استئصال ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها).

بالتخفيف ، والتثقيل (٥) : (أَمَرْنا مُتْرَفِيها) ، ثم من قال (أَمَرْنا) بالتثقيل يحتمل وجهين :

أحدهما : (أَمَرْنا مُتْرَفِيها) من الإمارة والتسليط عليهم ، أي : أمرنا عليهم وسلطنا

__________________

(١) ينظر : مجاز القرآن (١ / ٣٧٢).

(٢) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٢٥٢).

(٣) في ب : ذكرنا.

(٤) في ب : تعذيب.

(٥) ينظر اللباب (٢٣٤ ، ٢٣٦ ، ٢٣٧) السبعة (٣٧٩) ، الشواذ (٧٩) ، الإتحاف (٢ / ١٩٥) ، المحتسب (٢ / ١٥) ، النشر (٢ / ٣٠٦).

٢٠