تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٩٥

واختيار (١) الأيسر والألذ ، ولكنه بفضله ولطفه ثبتك وعصمك ، ولم يكلك على ما طبعت وأنشئت في أصل الخلقة ؛ فعلى ذلك نقول في قوله : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) ، أي : لو لا أنه هداك ؛ وإلا وجدك ضالا لو لم يهدك ، ففيه أنه هداه ولم يجده ضالا.

والثاني : يقول : ووجدك ضالا لا ضلال كسب واختيار ، ولكن ضلال الخلقة التي أنشئ عليها الخلق ، والضلال بمعنى الجهل ؛ لأن الخلق في ابتداء أحوالهم يكونون جهالا ، لا جهل كسب يذمون عليه ، أو يكون لهم علم يحمدون عليه ، ولكن جهل خلقة وضلال خلقة ؛ لما ليس معهم آلة درك العلم ؛ فلا صنع له في كسب الجهل ، فأما بعد الظفر بآلة العلم يكون الجهل مكتسبا ؛ فيذم عليه ، وكذا العلم ؛ فيترتب عليه الحمد والذم ؛ فعلى هذا يكون قوله ـ تعالى ـ : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) ، أي : وجدك جاهلا على ما يكون في أصل الخلقة وحالة الصغر فهداك ، أي : علمك ، وهو كقوله ـ تعالى ـ : (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً ..). [الشورى : ٥٢] ، وقوله ـ تعالى ـ : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ ..). [العنكبوت : ٤٨] ، يذكر أنه لم يكن يدري شيئا حتى أدراه وعلّمه.

والثالث : يقول : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا) ، أي : غافلا عن الأنباء المتقدمة وأخبارهم حتى أطلعك الله ـ تعالى ـ على ذلك ، كقوله : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) [يوسف : ٣].

أو يقول : ووجدك في أمر القرآن أو ما فيه جاهلا غافلا عن علم ذلك ، فأعلمك.

وقال بعضهم (٢) : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا) ، أي : وجدك بين قوم ضلال فهداك ، أي : أخرجك من بينهم ما لو لم يخرجك من بين أظهرهم ، لدعوك إلى ما هم عليه ، ويجبرونك على ذلك ، ولم يرضوا منك إلا ذلك ، والله أعلم.

وقال بعضهم : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا) من طريق مكة فهداك الطريق.

وقال بعضهم : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا) حقيقة الضلال ، فهداك للتوحيد.

لكن هذا وحش من القول ؛ إذ لا يليق به أن ينسب إلى ذلك.

وقال بعضهم : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا) عن النبوة أي : جاهلا ، فهداك للنبوة ، وهو قريب [مما ذكرناه](٣).

__________________

(١) في ب : واختيار.

(٢) قاله ابن عباس أخرجه ابن مردويه عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٦١١).

(٣) في ب : بما ذكرنا.

٥٦١

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى) ، أي : فقيرا فأغناك بما أراك من أمر الآخرة ، وما يسوق إليك من نعيمها ، أي : بما أعد له في الآخرة ، وما وعد له من النعيم والكرامات هانت (١) عليه الدنيا ، حتى ذكر أن الدنيا لم تكن تعدل عنده ـ عليه‌السلام ـ جناح بعوضة ؛ ولذلك روى أن الغنى غنى القلب.

ويحتمل أنه جعل فيه حالا بلطفه أغناه ؛ كما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه نهى عن الوصال ، فقيل : أنت تواصل ، يا رسول الله؟ فقال ـ عليه‌السلام ـ : «أنا لست كأحدكم ؛ إن ربي يطعمني ويسقيني» ؛ فجائز أن يكون لله ـ عزوجل ـ فيه لطف أغناه به ، وإن لم يطلعنا عليه ، والله أعلم.

وقال بعضهم : أغناك بمال خديجة ، رضي الله عنها.

وقال بعضهم : فأغناك ، أي : فأرضاك بما أعطاك من الرزق ، وأقنعك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) ، وفي حرف ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : «فأما اليتيم فلا تكهر» ، فالكهر : الزجر (٢) ، كأنه قال : فلا تزجر.

[و] جائز أن يكون قوله : (فَلا تَقْهَرْ) ، أي : لا تمنع حقه ، وادفع إليه حقه وماله.

أو يكون ذكر هذا ، يقول : كنت يتيما ورأيت حال اليتيم ؛ فلا تقهر اليتيم ؛ فيكون على الصلة لقوله : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى) ، فلا تقهر اليتيم بعد ذلك.

(وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) :

أي : كنت محتاجا فقيرا ، فعرفت محل الفقر والحاجة وشدة حاله ؛ فلا تنهر السائل ـ أي : لا تزجره ـ ولكن أعطه.

وجائز أن يكون الأمر لا على النهي ، ولكن على الأمر بالبر لهؤلاء والإعطاء لهم.

وجائز أن يراد من نفي شيء إثبات ضده ، كقوله ـ تعالى ـ : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) [البقرة : ١٦] ، أي : خسرت ، وعلى هذا الحديث ، وهو ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إذا أتاكم السائل فلا تقطعوا عليه مسألته ، حتى يفرغ منها ، ثم ردوا عليه برفق ولين ، إما ببذل يسير ، أو برد جميل ؛ فإنه قد يأتيكم من ليس بإنس ولا جن ؛ يرى كيف صنيعكم فيما خولكم الله تعالى».

وقال قوم : تزويج اليتيم قهره ؛ لما فيه من الاستذلال والإضرار ؛ فلم يجوزوه من غير

__________________

(١) في ب : فهانت.

(٢) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير (٣٧٥٢١) ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٦١٢).

٥٦٢

الأب والجد ، وأجازوا بيع ماله من وصيه إن كان وصي الأب أو وصي أمه في تركتها ؛ فدل أن تزويج اليتيم ليس من قهره في شيء ، وقد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه زوج بنت حمزة سلمة بن أبي سلمة ، وهو صغير يتيم ، وزوج ابن عمر بنت أخيه وهي صغيرة ، وزوج عروة ابنته من مصعب وهي صغيرة.

وقهر اليتيم في ظلمه والاعتداء عليه ، وليس في التزويج ذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) يحتمل وجهين :

أحدهما : يقول : حدثهم بنعم الله ـ تعالى ـ التي أنعم عليهم ؛ ليعرفوا ويفوا بما فيه شكرها.

أو يقول : حدثهم بما أنعم الله عليك ، وهو هذا القرآن ؛ إذ القرآن من أعظم ما أنعم الله عليه ، فأمر بتحدث ما عليه من النعم ؛ ليعرفوا عظيم ما أنعم الله عليه من الاختصاص لهم ؛ حيث جعلهم من أمته ومن قومه.

أو أمر بأن يقرأه ويحدث بما فيه.

وقد روي عن أبي رجاء العطاردي قال : خرج علينا عمران بن حصين وعليه مطرف خز ، لم نره عليه قبل ، ولا بعد ، فقال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله ـ تعالى ـ إذا أنعم على عبد نعمة يحب أن يرى أثر نعمته عليه».

وعن عطية عن أبي سعيد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن الله ـ تعالى ـ جميل يحب الجمال ، ويحب أن يرى أثر نعمته على عبده ، ويبغض البؤس والتبؤس».

وعن أبي الأحوص عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أعطاه الله ـ تعالى ـ خيرا ؛ فلير عليه ، وابدأ بمن تعول ، وارضخ من الفضل ، ولا تلام على كفاف ، ولا تعجز عن نفسك».

وعن يحيى بن عبد الله عن أبيه عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إذا بسط الله ـ تعالى ـ على عبد نعمة فلتر عليه» يعني به : الصدقة والمعروف ، وقول ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : «وابدأ بمن تعول» دليل عليه.

قال أهل الأدب : عال : افتقر ، وأعال ، أي : كثر عياله ، ويقال : [أسجيته :](١) أسكنته ، وقالوا : الانتهار : الكلام الخشن. [وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين](٢).

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في ب.

٥٦٣

[سورة ألم نشرح ، وهي مكية](١)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (٣) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (٤) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٦) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (٧) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ)(٨)

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ).

المخاطب في هذه السورة من الله ـ تعالى ـ [رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم](٢) خاطبه إياه ؛ حيث قال : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) إلى ما ذكر.

والمخاطبة في سورة الضحى (٣) إنما كانت من غير الله ـ تعالى ـ إياه ، كان جبريل ـ عليه‌السلام ـ خاطبه في ذكر منن الله تعالى إياه ، وذكر نعمه ألا ترى أنه قال : (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ) [الضحى : ٣] ، ولم يقل : ما ودعناك.

[ويجوز أن يكون الخطاب في سورة (وَالضُّحى) من الله على المغايبة ؛ [كما] يقال : إن أمير المؤمنين يقول كذا ، ويريد نفسه](٤).

ثم اختلف في قوله : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) :

قال بعضهم : شرح صدره للإسلام ؛ كقوله : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) [الزمر : ٢٢].

أخبر أن من شرح صدره للإسلام فهو (٥) على نور من ربه.

والشرح ، قيل : هو التليين ، والتوسيع ، والفتح ، أي : ألم نوسع لك صدرك ونفتح ونلين للإسلام.

وقد روي في الخبر أنه لما نزل هذا ، قيل : يا رسول الله ، [وهل لذلك من علامة؟](٦) فقال : «بلى ، التجافي عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود ، والاستعداد للموت قبل نزوله» (٧).

__________________

(١) في ب : ذكر أن سورة (أَلَمْ نَشْرَحْ) مكية.

(٢) في ب : رسوله.

(٣) في ب : والضحى.

(٤) سقط في ب.

(٥) في ب : يكون.

(٦) في ب : هل لذلك علامة.

(٧) أخرجه عبد بن حميد ، وابن المنذر عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٦١٤).

٥٦٤

لكن يعرف ذلك من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطريق الحقيقة ، ويظهر منه ذلك باليقين ، فأما من غيره فإنما يعرف التجافي من دار الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود بالتقارب ، وغالب الظن ؛ لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت له الآخرة لا محالة ، وأمورها كالمشاهدة والمعاينة ، وكذلك جميع الأنبياء والرسل ـ عليهم‌السلام ـ فأما لغيرهم فلا نحكم بذلك ؛ فلا يبلغ ذلك ، وهو كما ذكر أن رؤيا الأنبياء كالعيان ، أي : تعرف بطريق اليقين ، بخلاف رؤيا غيرهم.

وقال بعضهم : شرح صدره ؛ لأنه لما كلف بتبليغ الرسالة إلى الجن والإنس وإلى الفراعنة والجبابرة الذين همتهم إهلاك من يخالفهم ، والإقلاع عن عبادة من يعبد الله ضاق صدره لذلك ، وثقل على قلبه ؛ فوسع الله صدره وشرحه حتى هان ذلك عليه وخف ، وهو قول أبي بكر الأصم ، إلا أنه يقول : فعل ذلك به ، وحقق (١) بالآيات والحجج ، ونحن نقول باللطف منه ، حتى قام بوفاء ما كلف وأمر ، أما هو لا يقول باللطف والاختصاص [للبعض دون البعض ؛ لقوله](٢) بالأصلح.

ويحتمل أن يكون ما ذكر من شرح صدره وتوسيعه هو ما ذكر في قوله : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم : ٤] ، وخلقه كان يجاوز وسعه وطاقته ؛ حتى كادت نفسه تهلك لمكان كفر أولئك ، وما يعلم أنه ينزل بهم ؛ إشفاقا عليهم ، ورحمة ، كقوله : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) الآية [الشعراء : ٣] وقوله : (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ ..). الآية [هود : ١٢] ، وغير ذلك من أمثال هذا ، وذلك ـ والله أعلم ـ ما وصف من خلقه أنه عظيم ، فوسع صدره وشرحه حتى يخفف ذلك عليه ؛ حيث قال له : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ ..). [فاطر : ٨] ، وقال : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) [الآية](٣) [الحجر : ٨٨].

وقال الحسن في قوله : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) : بلى ، قد شرح له صدره ، وملأه علما وحكمة.

ثم قوله : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) إلى [آخر] ما ذكر ، إن كان المخاطب به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو المعنى والمراد به ، فتأويل السورة يخرج على ما ذكرنا من تيسير (٤) الأمر عليه ،

__________________

(١) في ب : وخفف.

(٢) في ب : للبعض كقوله.

(٣) سقط في ب.

(٤) في أ : تبيين.

٥٦٥

وتخفيف ما [حمله عليه](١) وأمر به.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ) :

على ابتداء وضع الوزر والإثم على ما نذكر ، وإن كان المخاطب به غيره وهم أمته ، وإن كان الخطاب أضيف إليه ، فالأمر فيه سهل ، وإن كان الخطاب على الاشتراك ، فيحتاج إلى التأويل أيضا.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ. الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) :

قال عامة أهل التأويل : على تحقيق الوزر له والإثم ؛ كقوله (٢) : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ ..). [الفتح : ٢] ، وقوله : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) [محمد : ١٩] ، يقولون : أثبت له الذنب والوزر ، فوضع ذلك عنه ، ولكن هذا وحش من القول ، لكنا نقول : إن قوله : (وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ) : الوزر هو الحمل والثقل ؛ كأنه يقول : قد خففنا [عليك](٣) ما حمل عليك من أمر النبوة والرسالة والأحمال التي حملت (٤) عليك ؛ كأنه يقول : قد خفف ذلك عليك ، ما لو لم يكن تخفيفنا إياها عليك لأنقض ظهرك ، أي : أثقل ، والله أعلم.

والثاني : جائز أن يكون [قوله](٥) : (وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ) ابتداء وضع الوزر ، أي : عصمك وحفظك ، ما لو لم يكن عصمته إياك لكانت لك أوزار وآثام ، كقوله : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) [الضحى : ٧] ، أي : لو لم يهدك لوجدك ضالا ؛ لأنه كان بين قوم ضلال ، ولكن هداه فلم يجده ضالا ؛ فعلى ذلك ما ذكر من وضع (٦) وزره ابتداء ، وهو كقوله : (لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [الأحزاب : ٤٣] ، أي : عصمكم عن أن تدخلوا فيها ، [لا](٧) أن كانوا فيها ، ثم أخرجهم ، ولكن ابتداء إخراج ، [فعلى ذلك](٨) ما ذكر من وضع وزره.

وقوله : (أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) ، أي : أثقل ظهرك.

__________________

(١) في ب : حمل.

(٢) في ب : لقوله.

(٣) سقط في ب.

(٤) في ب : حمل.

(٥) سقط في ب.

(٦) في ب : موضع.

(٧) سقط في ب.

(٨) سقط في ب.

٥٦٦

وقوله (١) : (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) :

جائز أن يكون رفع ذكره ؛ لما ألزم الخلق الإيمان به حتى لا يقبل من أحد الإيمان بالله تعالى ، والتوحيد له ، [والطاعة](٢) والعبادة إلا بالإيمان (٣) به والطاعة له ، قال الله ـ تعالى ـ : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ ..). [النساء : ٨٠] ، وقال : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ ..). [النساء : ٦٥].

وجائز أن يكون ما ذكر من رفع ذكره هو أنه يذكر حيث ذكر الله ، قرن ذكره بذكره في الأذان والإقامة ، وفي الصلاة ، [و](٤) في التشهد ، وفي غيره (٥) من الخطب ، والله أعلم.

والأول عندنا أرفع وأعظم من الثاني.

وجائز أن يكون رفع ذكره ما أضاف اسمه إلى اسمه بما قال : رسول الله ، ونبي الله ، ولم يسمه باسمه على غير إضافة [إلى](٦) الرسالة والنبوة ، فقال : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ ..). [الفتح : ٢٩] ، وقال : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ..). [المائدة : ٦٧] ، وقال : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ..). [التحريم : ١] ، ونحو ذلك ، وهو المخصوص بهذا دون غيره من إخوانه عليه‌السلام ؛ لأنه قلما أضاف اسمهم إلى اسمه ، وقلما قرن أسماءهم باسمه ، بل ذكرهم بأسمائهم ، كقوله : (وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ ..). [ص : ٤٨] ، [وقوله](٧) : (وَيُونُسَ وَلُوطاً) [الأنعام : ٨٦] ، ونحو ذلك.

أو رفع ذكره بما عظّمه وشرفه عند الخلق كله ، حتى إن من استخف به خسر الدنيا والآخرة.

وقوله ـ تعالى ـ : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) :

روي في الخبر أنه قال : «لن يغلب عسر يسرين» (٨).

قال بعضهم : إنما كان عسرا واحدا ، وإن ذكره مرتين ؛ لأن العسر الثاني ذكره بحرف التعريف ؛ فهو والأول واحد ؛ واليسر ذكره بحرف النكرة ؛ فهو غير الأول.

__________________

(١) في ب : وقالوا.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : بإيمانه.

(٤) سقط في ب.

(٥) في ب : غير.

(٦) سقط في ب.

(٧) سقط في ب.

(٨) أخرجه عبد بن حميد ، وابن جرير (٣٧٥٣٣ ، ٣٧٥٣٦) ، والحاكم ، والبيهقي عن الحسن كما في الدر المنثور (٦ / ٦١٧).

٥٦٧

وقال أبو معاذ : كلما كررت المعرفة كان واحدا ، والنكرة على العدد ؛ يقال في الكلام : إن مع الأمير غلاما إن مع الأمير غلاما ، فالأمير واحد ومعه : غلامان ، وإذا قيل : إن مع الأمير الغلام ، إن مع الأمير الغلام ؛ فالأمير واحد والغلام واحد ، وإذا قيل (١) : إن مع أمير غلاما ، إن مع أمير غلاما ، فهما أميران وغلامان ؛ فعلى ذلك ما ذكر هاهنا.

ثم قوله : «يسرين» هو يسر الإسلام والهدى ، ويجوز أن يطلق اسم اليسر على الإسلام والدين ، قال الله ـ تعالى ـ : (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) [الليل : ٧] ، ويسر آخر : ما وعد لهم من السعة في الدنيا. ويحتمل أن يكونا يسرين : أحدهما : رجاء اليسر ، والآخر وجوده ، فهما يسران : الرجاء ، والوجود.

ويحتمل أن يكون يسرا في الدنيا ، ويسرا في الآخرة.

أو أن يكون توسيعا : [توسع](٢) عليهم الدنيا ، ويسرا ثانيا : ما يفتح لهم الفتوح في الدنيا ، ويسوق إليهم المغانم والسبايا ، والله أعلم.

ثم قالوا في قوله : (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) ، أي : بعد العسر يسر. وأصله أن حرف «مع» إذا أضيف إلى الأوقات والأحوال يقع على اختلاف الأوقات في المكان الواحد ، وإذا أضيف إلى المكان يقع على اختلاف المكان في وقت واحد ، وهاهنا أضيف إلى الوقت ؛ فهو على اختلاف الأوقات واحدا بعد واحد ؛ فإذا قيل : فلان مع فلان في مكان ، فالوقت واحد ، والمكان مختلف متفرق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ. وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) :

قال بعضهم (٣) : إذا فرغت من دنياك فانصب لآخرتك ، وهو من النصب ، أي : التعب.

وقال الحسن (٤) : أمره إذا فرغ من غزوة أن يجتهد في العبادة له ، لكن هذا بعيد ؛ لأنه نزل ذلك بمكة ، ولم يكن أمر بالغزو والجهاد بمكة ، إلا أن يكون أمر بالجهاد بمكة في أوقات تأتيه في المستقبل ؛ فيكون الحكم لازما عليه في تلك الأوقات ، لا في حال ورود الأمر.

__________________

(١) في ب : قلت.

(٢) سقط في ب.

(٣) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير (٣٧٥٤٩) ، والفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن نصر ، وابن أبي حاتم من طرق عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٦١٧).

(٤) أخرجه ابن جرير (٣٧٥٤٧).

٥٦٨

وقال بعضهم (١) : فإذا فرغت من الصلاة ، فانصب في الدعاء.

وقال قتادة (٢) : إذا فرغ من الصلاة أن يبالغ في دعائه وسؤاله إياه.

وعن ابن مسعود (٣) ـ رضي الله عنه ـ قال : فإذا فرغت من الفرائض ، فانصب في قيام الليل.

ويحتمل عندنا : إذا فرغت من تبليغ الرسالة إليهم ، فانصب لعبادة ربك والأمور التي بينك وبين ربك ، على ما ذكرنا في أحد التأويلين في قوله : (إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) [المزمل : ٧] : في أمر الرسالة والتبليغ ، واذكر اسم ربك فيما بينك وبين ربك.

ويجب ألا نتكلف تفسير ما ذكر في هذه السورة (٤) من أولها إلى آخرها ؛ لأنه أمر بينه وبين ربه ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلم ما أراد به فيما خاطبه من الجميع ، وأنه فيم كان؟ وقد كان خصوصا له ، وليس شيئا مما يجب علينا العمل به حتى يلزمنا التكلف لاستخراج ذلك سوى الشهادة على الله تعالى ؛ فكان الإمساك عنه أولى ، وترك التكلف فيه والاشتغال به أرفق وأسلم ، [والله الموفق](٥).

* * *

__________________

(١) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٣٧٥٤١ ، ٣٧٥٤٢) ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه من طرق عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٦١٧).

(٢) أخرجه عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير (٣٧٥٤٥) ، وابن المنذر عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٦١٧).

(٣) أخرجه ابن المنذر ، وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (٦ / ٦١٧).

(٤) في ب : السور.

(٥) سقط في ب.

٥٦٩

[سورة والتين ، وهي مكية](١)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (٥) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٦) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (٧) أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ)(٨)

قوله ـ عزوجل ـ : (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) :

قال : هذه السور كلها نزلت في محاجة أهل مكة ، سوى سورة (وَالضُّحى) و (أَلَمْ نَشْرَحْ) ؛ فإنهما جاءتا في تذكير منن الله تعالى لرسوله ـ عليه‌السلام ـ :

إحداهما : خاطبه جبريل ـ عليه‌السلام ـ في تذكر ما من عليه ، والأخرى خاطبه ربه ـ جل جلاله ـ بذلك ، وأما غيرهما (٢) من السور فإنما (٣) جاءت في محاجة أهل مكة.

ثم قوله ـ عزوجل ـ : (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ. وَطُورِ سِينِينَ. وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) : قسم ؛ أقسم تأكيدا للحجج التي أقامها ما لو لا القسم لكان ما ذكر يوجب ذلك ، [لكن في](٤) القسم تأكيد ما ذكر من الحجة.

ثم اختلف أهل التأويل في قوله : (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) :

قال بعضهم (٥) : هو التين الذي [يأكله الناس ، والزيتون الذي يستخرجون منه الزيت](٦) ، كذا روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه سئل عن قوله : (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ)؟ فقال : تينكم وزيتونكم هذا (٧).

وقال بعضهم (٨) : هما جبلان بالشام.

وقال بعضهم (٩) : هما مسجدان في الشام : أحدهما : مسجد دمشق ، والآخر : مسجد بيت المقدس.

__________________

(١) في ب : ذكر أن سورة (وَالتِّينِ) مكية.

(٢) في ب : غيرها.

(٣) في ب : فلما.

(٤) في ب : فمن.

(٥) قاله الحسن ، وعكرمة ، ومجاهد ، وإبراهيم ، والكلبي أخرجه ابن جرير عنهم (٣٧٥٥٥ ، ٣٧٥٦٦).

(٦) في ب : يأكلونه.

(٧) أخرجه ابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، بنحوه كما في الدر المنثور (٦ / ٦٢٠).

(٨) قاله عكرمة أخرجه ابن جرير عنه (٣٧٥٧١).

(٩) قاله كعب الأحبار أخرجه ابن جرير (٣٦٥٦٧) وابن الضريس ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن عساكر عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٦١٩).

٥٧٠

وقيل : التين : مسجد أصحاب الكهف ، والزيتون : مسجد نبينا عليه‌السلام.

وعن قتادة (١) : أنه قال : التين : الجبل الذي عليه دمشق ، والزيتون : [الجبل](٢) الذي عليه [مسجد](٣) بيت المقدس.

وقال القتبي : التين والزيتون : جبلان بالشام ، يقال لهما : طورتيناء ، وطورزيتاء ؛ بالسريانية ، سميا بالتين والزيتون ؛ لأنهما ينبتان فيهما.

وقوله : (وَطُورِ سِينِينَ) ، قال بعضهم : هو جبل بسينين ، والسينين : اسم موضع ، والطور الجبل ، وكذا قال أبو عوسجة.

وقال بعضهم : جبل حسن ، و «السينين» : الحسن بالحبشة.

وقال بعضهم : كل جبل مشجر ، له الثمر ، فهو سينين.

وقال بعضهم (٤) : هو الجبل الذي أوحي عليه إلى موسى ـ عليه‌السلام ـ وهو طور سيناء.

وقيل (٥) : هو الجبل المبارك.

ثم تخرج جهة القسم بالجبل (٦) ، وبما ذكر على وجوه :

أحدها : بما عظم شأن الجبال في قلوب الخلق حيث وصل إليهم أخبار السماء من جهة تلك الجبال ، وجميع ما يرجع إلى منافع أنفسهم ودينهم ، على ما ذكر أنه أوحي إلى موسى ـ عليه‌السلام ـ على جبل طور سيناء ، وأوحي إلى عيسى ـ عليه‌السلام ـ على جبل ساعورا ، وأوحي إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على جبل فاران ، على ما ذكر في الخبر أن موسى ـ عليه‌السلام ـ قال : «أتاني ربي من [جبل](٧) طور سيناء ، وسيأتي من طور ساعورا ، وسيطلع من جبل فاران» ، أي : أتاني وحي ربي من جبل طور سيناء ، وسيأتي وحي عيسى ـ عليه‌السلام ـ من جبل ساعورا ، ويأتي الوحي إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من فاران».

__________________

(١) أخرجه عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير (٣٧٥٦٨ ، ٣٧٥٦٩) ، وابن أبي حاتم ، وابن عساكر عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٦١٩).

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في ب.

(٤) قاله ابن عباس أخرجه ابن مردويه عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٦١٩) وهو قول ابن عمر ، والحسن ، وكعب ، وغيرهم.

(٥) قاله قتادة أخرجه عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير (٣٧٥٨٩ ، ٣٧٥٩٠) ، وابن أبي حاتم ، وابن عساكر عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٦١٩).

(٦) في ب : بالجبال.

(٧) سقط في ب.

٥٧١

والثاني : أقسم بالجبال ؛ لما أرساها في الأرض ، وجعلها أوتادا لها ؛ لئلا تميد بأهلها ، ولا تميل ، على ما ذكر في غير آي من القرآن عظم شأن الجبال من هذه الجهة في قلوب الخلق.

والثالث : لما أخرج منها مع شدتها وصلابتها وغلظها وارتفاعها المياه [الجارية وغير الجارية](١) الصافية الباردة ، وهي من ألين الأشياء وأخرج منها الأشجار الكثيرة المثمرة وغير المثمرة من غير إنبات أحد ، ولا غرسها ، وغير ذلك من المنافع التي جعل في الجبال مما لا يمكن للخلق استخراج ذلك منها بحيلهم وتكلفهم ، فأقسم بها لعظم ما جعل في الجبال من المنافع والبركات.

وكذلك إن كان القسم بالتين الذي يؤكل والزيتون الذي يخرج منه (٢) الزيت ؛ لما جعل لهم في ذلك من المنافع العظام ، كقوله ـ تعالى ـ : (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) [المؤمنون : ٢٠] ، فمن هذه الوجوه التي ذكرنا يحتمل القسم بالجبال والتين والزيتون.

أو (٣) ذكر التين والزيتون والمراد بهما (٤) : الجبل ؛ لما في الجبل يكونان عندهم ، على ما ذكرنا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) : هو مكة ؛ سماه : أمينا ؛ لما يأمن من دخله ، أو يؤمن من دخله ويحفظه ؛ لأن الأمين عند الناس هو الذي يحفظ من ائتمن عليه وفيه ، وهو المأمون به.

ثم جائز أن يكون القسم بالبلد لأهل مكة ولأهل الشرك ؛ لما عظم شأنه وأمره عندهم وفي قلوبهم ، وأقسم بالجبال ؛ لعظم قدرها ومنزلتها ومحلها في قلوب أهل الكتاب ؛ لما كانوا يؤمنون ببعض الوحي ، وأهل مكة لا يؤمنون بالرسل وبالوحي ؛ ولكن يعظمون ذلك (٥) البلد.

وجائز أن يكون القسم بما ذكر كله لهم جميعا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) : قال أهل التأويل : على هذا وقع القسم ، لكن القسم بغيره أولى وأقرب ؛ لأنهم قد شاهدوا وعرفوا أنه خلق الإنسان على

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : منها.

(٣) في ب : و.

(٤) في ب : منهما.

(٥) في ب : تلك.

٥٧٢

أحسن تقويم ؛ إذ لم يتمن أحد أن يكون على غير هذا التقويم وعلى غير هذه الصورة التي أنشأه عليها ؛ فالأشبه أن يكون القسم واقعا على قوله : (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) ؛ لما فيه وقع الإنكار والتكذيب وهو نار جهنم ؛ فأكد ذلك بالقسم كأنه قال : مع أنا خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ، نردهم (١) إلى أسفل السافلين ؛ لكفرهم وعنادهم سوى المؤمنين.

ثم قوله : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) يخرج على وجوه :

أحدها : أحسن صورة يشاهدون ويعاينون ؛ لأن الملائكة لعلهم (٢) أحسن صورة وأحكم تقويما في الخلقة من البشر ، ولكن يرجع إلى سائر الخلائق دونهم ؛ وذلك لأنه خلق البشر على صورة لا يتمنى أحد منهم أن يكون على غير صورة البشر ؛ دل أنه خلقهم على أحسن صورة.

والثاني : على أحسن تقويم ، أي : على أحكم تقويم وأتقنه ؛ لأنه خلقهم (٣) وأنشأهم على هيئة يتهيأ لهم استعمال الأشياء كلها في منافعهم والانتفاع بها بحيل وأسباب علمهم وجعل فيهم ، ومكن لهم ذلك.

ويحتمل (أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) ، أي : أحكم وأتقن على الدلالة على وحدانية الله ـ تعالى ـ وألوهيته.

أو جعلهم أهل تمييز ومعرفة ، وبحيث يكون منهم الخيرات وأنواع الطاعات التي يثابون عليها ، وينالون بها الثواب الجزيل ، والكرامة العظيمة ما لا يكون لغيرهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) [هو يحتمل وجوها :

أحدها : رددناه إلى أسفل السافلين](٤) وهو جهنم ، نرد الكافر إلى جهنم وهي أسفل السافلين ، والمؤمن رددناه إلى الجنة وهي أعلى العليين ، وهو ما استثنى بقوله : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) في الجنة.

والثاني : رددناه إلى أسفل ما اختار من الأعمال والأفعال ، وهو [ما اختار](٥) من فعل الشرك والكفر ، ورددنا المؤمن إلى أعلى ما اختار من الأعمال العالية الرفيعة ، [والله أعلم](٦).

__________________

(١) في ب : بردهم.

(٢) في أ : جعلهم.

(٣) في أ : جبلهم.

(٤) سقط في ب.

(٥) في ب : من أخبار.

(٦) سقط في ب.

٥٧٣

والثالث : ما قاله أهل التأويل : ثم رددناه [إلى](١) أرذل العمر وأسفله (٢) ، [ثم استثنى (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ..). إلى آخره](٣) ، أي : يجري عليهم ثواب أعمالهم التي عملوا بها في حال صحتهم وشبابهم ، فأمّا أولئك فإنهم إذا ردوا إلى ما ذكر ، لم يجر لهم ذلك ؛ وهذا التأويل إنما يصح ، أن لو استثنى المحسنين من المؤمنين منهم ، فأما إذا استثنى أهل الإيمان من أهل الكفر فإنه لا يحتمل ، والأول أشبه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ) :

إن كان الخطاب [به](٤) لكل إنسان كذب بالدين ، يقول : ما الذي دعاك إلى تكذيبك بالدين؟ وقد عرفت أن الله ـ تعالى ـ أحكم الحاكمين ، لا يفعل إلا ما هو حكمه ، ولو لم يكن يوم الدين كان فعله عبثا باطلا ؛ لأنه أنشأكم ، ثم رباكم إلى أن بلغتم إلى الحال التي بلغتم ، فلو لم يكن بعث ، لكان يخرج فعله عبثا باطلا.

أو يقول : لما سوى بين من اختار ولايته وبين من اختار العداوة في هذه الدنيا ، وفي الحكمة التفريق بينهما ؛ فلا بد من مكان يفرق بينهما هنالك.

وإن كان الخطاب في قوله : (فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ) لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : أي حجة له في تكذيبك بما تخبره من (٥) الدين؟ أي : لا حجة له في ذلك.

أو يقول : ما الذي دعاه إلى تكذيبه بالدين بعد ما عرف أني (٦) أحكم الحاكمين؟!.

ثم اختلف في قوله : (بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) :

قال بعضهم : أحكم القاضين ، أي : أعدلهم.

وقال بعضهم : أحكم الحكماء ، والإفناء بلا بعث فعل السفهاء ، لا فعل الحكماء ، وهو أحكم الحاكمين ، أي : أعدل القاضين في التفريق بين [الأولياء والأعداء](٧) ، وقد اجتمعوا في الدنيا ؛ فلا بد من دار يفرق بينهما فيها ، والله الموفق.

* * *

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : أسفلها.

(٣) في ب : ثم استثنى (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ).

(٤) سقط في ب.

(٥) في ب : في.

(٦) في ب : أنه.

(٧) في ب : الأعداء والأولياء.

٥٧٤

[سورة اقرأ ، وهي مكية](١)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (٥) كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٧) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى)(٨)

قوله ـ عزوجل ـ : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) :

ذكر أهل التأويل أن هذه أول سورة نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأول وحي أوحي إليه (٢).

وقيل : غير هذه هي الأولى.

ثم الإشكال أنه أمره بأن يقرأ باسم ربك الذي خلق ، وحق هذا ونحوه إذا قيل له : اقرأ ، أو افعل : ألا يقول مثل ما قيل له : اقرأ أو افعل ؛ لأنه أمر في الظاهر إنما يكون عليه الائتمار بذلك ، وكذلك قوله : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) [الكافرون : ١] ، و [(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) [الإخلاص : ١] ، و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) [الفلق : ١] ، و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) [الناس : ١]](٣) وكذلك على هذا قوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ ..). [الأحزاب : ٥٩] وأمثال ذلك ، يجب ألا يقول هو مثل ما قيل له : (قل) ، أو : (اقرأ) ، ولكن يقول : «يا أيها الكافرون» ، ويقول : «هو الله أحد» ، «أعوذ برب الفلق» ، «أعوذ برب الناس» ، هذا هو وجه الكلام ومعناه.

وجوابه أنه يحتمل وجوها :

أحدها : [أنه](٤) أريد بهذا أن يكون قرآنا يقرأ هكذا في حق القراءة يبقى (٥) ، ويثبت في المصاحف إلى آخر الدهر ؛ ليعلم كيف قيل لرسول الله؟ وكيف أوحي إليه؟ وأنه لم يترك مما قيل له حرفا واحدا ؛ ليكون حجة لرسالته وآية لنبوته ، والله أعلم.

ويحتمل أن يكون كذلك على خلاف المفهوم من كلام الناس ؛ لئلا (٦) يكون المفهوم

__________________

(١) في ب : وذكر أن سورة (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) مكية.

(٢) هو قول عائشة أخرجه ابن جرير (٣٧٦٦٨) ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، وصححه عنها كما في الدر المنثور (٦ / ٦٢٣).

(٣) سقط في ب.

(٤) سقط في ب.

(٥) في أ : يتلى.

(٦) في ب : كيلا.

٥٧٥

من وحي السماء والمنزل منها (١) كخطاب بعض بعضا ، ولكن خلاف [المفهوم] منه.

والثاني : أن يكون الخطاب منه لكل أحد ، ومن كل أحد لآخر ، خاطب جبريل ـ عليه‌السلام ـ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم به ، وأمره أن يقرأ ، ثم يأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غيره بذلك ، وذلك الغير يقول لآخر كذلك ؛ فيكون الخطاب منه لكل أحد ، ومن كل أحد لآخر ، والله أعلم.

وقوله ـ تعالى ـ : (بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) يحتمل أن يريد به [أي](٢) : افتتح القراءة باسم ربك على ما جعل افتتاح كل شيء باسم الرب ـ تعالى ـ لينال بركة ذلك فيه.

والثاني : أن يكون ما ذكر على أثر اسم ربه ، هو تفسير اسم ربه ؛ حيث قال : (الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ) ؛ فيكون هذا (٣) تفسيرا لما ذكر من اسم ربه.

أو يكون قوله : (بِاسْمِ رَبِّكَ) كما يقال : «أسألك باسمك الذي إذا دعيت به أجبت ، وإذا سئلت به أعطيت» ، وذلك الاسم مكتوم بين أسمائه.

ثم قوله : (بِاسْمِ رَبِّكَ) يخرج إضافته إليه مخرج التعظيم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وخصوصيته (٤) له ؛ على ما ذكرنا أن إضافة خاصية الأشياء إلى الله ـ تعالى ـ تخرج مخرج تعظيم ذلك الخاص ، من ذلك قوله : [(أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ) [البقرة : ١٢٥](٥) و (ناقَةُ اللهِ) [الأعراف : ٧٣] ، (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) [الجن : ١٨] ، ونحو ذلك من إضافة خاصية الأشياء إليه ، وإضافة كلية الأشياء إلى الله ـ تعالى ـ تخرج مخرج تعظيم الرب والمحمدة له ، نحو قوله : (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [البروج : ٩] ، و (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الرعد : ١٦] ، و (رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) [الأنعام : ١٦٤].

ثم لا يجوز إضافة الخاص الذي لا خصوصية ظهرت له إلى الله ـ تعالى ـ لا يجوز أن يقال : يا رب زيد ، ويا رب عمرو ، ونحو ذلك ؛ إنما يجوز ذلك فيمن ظهرت له خصوصية [و](٦) فضل من الأنبياء والرسل والملائكة ، عليهم‌السلام ، والبقاع والأمكنة التي ظهرت لها خصوصية وفضل ؛ ليكون ذلك تعظيما لها ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ) :

__________________

(١) في ب : فيها.

(٢) سقط في ب.

(٣) زاد في ب : على.

(٤) في ب : خصوصية.

(٥) في ب : بيت الله.

(٦) سقط في ب.

٥٧٦

العلق : الدم الجامد ، [ثم قوله : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ)](١) أراد به كل إنسان ، و (عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) كذلك ؛ ليعلم أن الاسم الفرد [إذا دخله](٢) لام التعريف أريد به العموم ، وهو كقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) [العصر : ٢].

ثم في الآية دلالة على إبطال قول من يدعي طهارة النطفة ؛ بعلة أن الإنسان خلق منها ؛ فإنه أخبر أنه خلق الإنسان من علق ، نسب خلق الإنسان إليه ، ولا شك أن العلق نجس ، ثم أخبر أنه خلق الإنسان منه ؛ فعلى ذلك جائز أن تكون النطفة التي منها يخلق الإنسان نجسة ، وذلك غير مستحيل.

ثم أضاف [خلقه مرة أخرى إلى](٣) الأحوال التي قلب (٤) منها ، حيث قال : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ..). [غافر : ٦٧] إلى آخر ما ذكر ، وأضاف هاهنا إلى حالة واحدة ، وهي (٥) العلقة التي ذكر (٦) ، وإن لم يكن الإنسان في الحقيقة مخلوقا من العلقة والنطفة والتراب الذي ذكر ؛ لأن هذه [الأسماء](٧) أسامي هذه الأشياء باعتبار خاصيات فيها ، وتلك الخاصيات تنعدم (٨) باعتراض (٩) حال أخرى عليها ، وإنما يخلق الإنسان من المضغة وإنما ذكر خلق الإنسان منه ، ونسبه إلى ما ذكر ؛ لما أن الإنسان هو المقصود من [خلق ذلك ، وهو النهاية التي ينتهي إليها ، فذكر بالذى ينتهي إليه من](١٠) الغاية ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) :

ذكر (الْأَكْرَمُ) ؛ ليعلم أن اختياره واصطفاءه لرسالته ونبوته ، وتعليم القرآن ابتداء إحسان منه [إليه](١١) وتفضل عليه ، لا بحق له عليه ؛ إذ ذكر في موضع المنة والفضل

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : أو أدخله.

(٣) في ب : مرة خلقه إلى.

(٤) في ب : حيث.

(٥) في ب : وهو.

(٦) في ب : ذكروا.

(٧) سقط في ب.

(٨) في ب : يتقدم.

(٩) في ب : بإعراض.

(١٠) سقط في ب.

(١١) سقط في ب.

٥٧٧

والكرم ؛ إذ الأكرم هو الوصف بغاية الكرم ؛ كالأعلم وصف بإحاطة العلم وكماله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ)

جعل الله ـ تعالى ـ القلم سببا به يحفظ ، وبه يثبت ، وبه يوصل إلى حفظ ما يخاف فوته ونسيانه من أمر دينهم ودنياهم ، ما لو لم يكن القلم ، لم يستقم أمر دينهم ولا دنياهم.

ثم قوله : (عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) ، أي : علم الخط والكتابة بالقلم.

وكذا ذكر في حرف ابن مسعود وأبي وحفصة ـ رضي الله عنهم ـ : علم الخط بالقلم.

ثم أضاف التعليم بالقلم إلى نفسه.

وكذلك قوله : (عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) ؛ فهو يخرج على وجهين :

أحدهما : أن يكون أضاف ذلك إلى نفسه ؛ لما يخلق منهم فعل تعلمهم.

ويحتمل إضافته إليه ؛ للأسباب (١) التي جعلها لهم في التعليم ، [والله أعلم](٢).

ثم ذلك التعليم بالقلم لأمته ، لا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه علمه إياه بلا كتابة ولا خط ؛ حيث قال : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) [العنكبوت : ٤٨] ، ثم في تعليم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلا قلم ولا كتابة آية عظيمة لرسالته ، حيث جعله بحال يحفظ بقلبه بلا إثبات ، ولا كتابة ، ولا خط يخطه.

ثم قوله : (عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) يحتمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لقوله (٣) : (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) [النساء : ١١٣] ، وكقوله : (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا) [هود : ٤٩] ، وقوله : (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) [الشورى : ٥٢].

ويحتمل [قوله](٤) : (عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) : كل إنسان ؛ كقوله : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) [النحل : ٧٨].

وقوله ـ عزوجل ـ : (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى. أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) :

طغى بالغنى ، أي : تكبر ، وافتخر بما رأى نفسه غنية (٥) ، وعلى هذا ما روي في الخبر

__________________

(١) في ب : للأنساب.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : بقوله.

(٤) سقط في ب.

(٥) في ب : عينه.

٥٧٨

[من](١) التعوذ من غنى يطغي ، وفقر ينسي ؛ لأن الغنى يحمل على التكبر والافتخار ، والطغيان (٢) هو المجاوزة عن الحد والتعدي فيه ، والفقر المنسي : هو المجهد الذي ينسي غيره من النعم ، أعني : ينسي غير المال من صحة البدن والعقل والعلم ونحو ذلك.

وقوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى. أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) ، ليس هذا وصف ذلك الكافر بعينه على ما ذكره أهل التأويل ـ : أبي جهل لعنه الله ـ ولكن كل كافر يطغى ؛ إن رأى نفسه غنية.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى) :

أي : المرجع كذا قال أبو عبيد.

وقال غيره : الرجوع (٣).

ثم يحتمل قوله : (إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى) ، أي : المرجع للكل إلى ما أعد لهم : أعد للكافر النار ، وللمؤمن الجنة ؛ على ما ذكر في الآية.

وجائز أن يكون إخبارا عن رجوع الكل إليه.

ثم قوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى) ، أريد به إنسان دون إنسان ؛ إذ لم يطغ كل إنسان ، ولا خلف يقع في خبر الله تعالى ؛ فكأن المراد منه : البعض ؛ ليعلم أن الفهم (٤) بظاهر الخطاب والعموم ليس بواجب ، ولكن على حسب قيام الدليل على المراد منه.

وفيه أن المراد منه قد يكون مبينا مقرونا به ، وقد يكون مطلوبا غير مقرون به.

قوله تعالى : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩) عَبْداً إِذا صَلَّى (١٠) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (١٢) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى (١٤) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (١٥) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (١٦) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (١٨) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ)(١٩)

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى. عَبْداً إِذا صَلَّى) :

ذكر أهل التأويل أن الذي ينهى : أبو جهل ـ لعنه الله ـ (عَبْداً إِذا صَلَّى) : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك أنه كان يصلي في الحجر ، فكان ينهاه أبو جهل ؛ فنزل : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى. عَبْداً إِذا صَلَّى. أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى. أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى. أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى. أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى).

[و] جائز أن يجمع هذا كله في الوعيد الذي ذكره على أثر ذلك ، وهو قوله : (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَ

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : والطغيان والطغيان.

(٣) في ب : الرجع.

(٤) في ب : القيم.

٥٧٩

اللهَ يَرى) ، كأنه قال : أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى ، أرأيت الذي ينهى من كان على الهدى ، أو أمر بالتقوى ، وهو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان ينهاه ذلك الكافر إذا صلى ، وينهاه عن الهدى (١) ، وعن الأمر بالتقوى ، أرأيت الذي كذب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتولى عن طاعة الله تعالى ، ألم يعلم بأن الله يرى؟!

يدخل جميع ما ذكر في هذا الوعيد ؛ فيكون [ذلك](٢) جوابا لما تقدم من قوله : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى. عَبْداً إِذا صَلَّى ..). إلى آخر ما ذكر.

وجائز أن يكون جواب قوله : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى. عَبْداً إِذا صَلَّى) مسكوتا عنه ؛ ترك للفهم.

ثم قوله : (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) ، أي : ألم يعلم بأن الله يرى ؛ فينتقم [منه](٣) لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

أو : ألم (٤) يعلم بأن الله يرى ؛ فيدفعه عما هم برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو وعيد.

ثم قوله : (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) يحتمل وجهين :

أحدهما : قد علم بأن الله يرى جميع ما يقوله ، ويفعله ، ويهم به ، لكنه فعل ذلك على المكابرة والعناد.

والثاني : (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) على نفي العلم له بذلك ؛ إذ لو علم بأن الله يرى ، ويعلم ما يفعله من النهي عن الصلاة والمكر به ، لكان لا يفعل ذلك به.

وقوله ـ عزوجل ـ : (كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ. ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ) :

أي : حقا لئن لم ينته عن صنيعه الذي يصنع برسول الله (لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ) ، أي : لنأخذن بالناصية ؛ كأنه عبارة عن الأخذ الشديد ، والجر الشديد على الناصية.

ثم يحتمل أن يكون ذلك الوعيد له في الدنيا : أنه لو لم ينته عما ذكر :

فإن كان في الدنيا فتكون السفع (٥) كناية عن العذاب ، أي : لنعذبن.

وقيل : قد أخذ بناصيته يوم بدر ، فألقي بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قتيلا.

وإن كان في الآخرة ، فهو عن حقيقة أخذ الناصية ؛ كقوله : (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا ..). [الإسراء : ٩٧] ، وقوله : (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ..). [القمر : ٤٨].

__________________

(١) في ب : الهوى.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في ب.

(٤) في ب : لم.

(٥) في ب : الناصية.

٥٨٠