تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٩٥

وقال أهل العربية : (لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ) ، أي : نقبض ، وسفعت ناصيته ، أي : قبضت ، ويقال : سفعه (١) بالعصا ، أي : ضربه بها ، ويقال : أسفع (٢) بيده ، أي : خذ بيده.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ) :

يحتمل ما ذكر (٣) من قوله : (كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ) كناية عن النفس.

ويحتمل أن يكون كناية عن الناصية التي تقدم ذكرها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ) : أي : أبو جهل ، (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ) ، أي : أهل مجلسه في الإعانة له بما يهم برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) نحن في الدفع عنه ؛ لنرى هل يقدر أن يفعل به ما هم به.

ثم يحتمل ذلك في الدنيا ، وقد ذكر أنه قتل يوم بدر.

وجائز أن يكون ذلك الدفع من الزبانية في الآخرة ، وسموا : زبانية للدفع ، أي : يدفعون أهل النار في النار.

وقيل : الزبانية : الشرط ، والواحد : زبينة ، والنادى : المجلس ، يريد به : قومه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (كَلَّا لا تُطِعْهُ) ، أي : لا تطع ذلك الكافر ، وكان ما ذكر ، لم يطعه حتى مات ؛ فكان فيه إثبات الرسالة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) :

يحتمل قوله : (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ)(٤) أن يكون هذا خطابا للنبى ـ عليه‌السلام ـ أي : صل ، واقترب إلى الله عزوجل.

ويحتمل أن يكون قوله : (وَاسْجُدْ) خطابا للنبى ـ عليه‌السلام ـ أي : صل ، وقوله : (وَاقْتَرِبْ) خطابا لأبي جهل ، أي : اقترب إلى محمد ؛ حتى ترى على سبيل الوعيد ؛ لما كان يقصد المكر بالنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حال الصلاة.

ثم على التأويل الظاهر الآية حجة لنا على أهل التشبيه ؛ فإنه لم يفهم من قوله : (وَاقْتَرِبْ) : القرب من حيث المكان ، وقرب الذات ، ولكن قرب المنزلة والقدر ، وكذلك ما ذكر في بعض الأخبار : «ومن تقرّب إليّ شبرا ، تقربت إليه ذراعا» (٥) ، ونحو ذلك ، لا

__________________

(١) في ب : شفعه.

(٢) في ب : أشفع.

(٣) في ب : ذكرنا.

(٤) زاد في ب : يحتمل.

(٥) أخرجه البخاري في التوحيد (١٣ / ٣٩٥) باب قول الله تعالى : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) (٧٤٠٥) ، وانظر (٧٥٠٥) (٧٥٣٦) وكذا (٧٥٣٧) ، ومسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (٤ / ٢٠٦١) باب : الحث على ذكر الله تعالى (٢٦٧٥).

٥٨١

يفهم منه قرب الذات ، ولكن قرب المنزلة والقدر بالإجابة ، وكذلك جميع ما ذكر في القرآن من القرب : قرب المنزلة والقدر.

ثم في هذه السورة السجدة ؛ لما روي عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سجد فيها.

وروي عن ابن سيرين عن أبي هريرة أنه قال : «سجد في (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) ، و (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) ـ أبو بكر ، وعمر ، ومن هو خير منهما».

وروي عن علي ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : «في اقرأ : من عزائم السجود».

و [روى] أبو عبيدة (١) عن عبد الله أنه سجد فيها ، والله أعلم.

* * *

__________________

(١) في ب : أبو عبيد الله.

٥٨٢

[سورة القدر ، وهي مكية](١)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) (٥)

قوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) : قال أهل التأويل : إن قوله : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) ، يعني : القرآن.

ويحتمل أن يكون [قوله](٢) : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) ، يعني : السلام الذي ذكره في آخر السورة ، حيث قال : (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ. سَلامٌ) :

فمن قال : أنزل القرآن في ليلة القدر ، فهم مختلفون فيه :

قال بعضهم (٣) : أنزل القرآن جملة إلى السماء الدنيا من اللوح المحفوظ في تلك الليلة ، وهي في شهر رمضان ؛ لقوله : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ..). [البقرة : ١٨٥] ، أي : أنزل من اللوح المحفوظ ، ثم أنزل من السماء الدنيا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتفاريق على قدر الحاجة من الأمر والنهي ، والحلال والحرام ، والمواعظ ، وكل ما يحتاج إليه.

وقال بعضهم : إنما (٤) أنزل من اللوح المحفوظ في تلك الليلة المقدار الذي يحتاج إليه إلى العام القابل جملة ، ثم ينزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نجوما بالتفاريق ، والله أعلم.

ثم لا ندري أن تلك الفضيلة التي جعلت لهذه الليلة ؛ لفضل عبادة جعلت فيها ، امتحن الخلق بأدائها على الترغيب والأدب ، أو فضلت لمكان ما امتحن الملائكة وكلفهم بالنزول فيها والعبادة لله في الأرض ، وإنزال القرآن ، ونحو ذلك ؛ أو لحكمة (٥) ومعنى فضلت لم يطلع على ذلك المعنى أحد ، وقد جعلت لبعض الأمكنة الفضيلة لعبادات جعلت فيها ، نحو ما ذكر : «صلاة واحدة في المسجد الحرام تعدل مائة ألف صلاة في غيره ، [وصلاة واحدة في مسجدي هذا تعدل ألف صلاة في غيره](٦) سوى المسجد (٧) الحرام» (٨).

__________________

(١) في ب : ذكر أن سورة (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) مدنية.

(٢) سقط في ب.

(٣) قاله ابن عباس أخرجه ابن الضريس ، وابن جرير (٣٧٦٩٧) ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٦٢٨).

(٤) في ب : أي.

(٥) في ب : بحكمة.

(٦) سقط في ب.

(٧) في ب : مسجد.

(٨) تقدم.

٥٨٣

وقال ـ تعالى ـ : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ ..). [الجن : ١٨] ، خصت هذه البقاع بالفضيلة على غيرها ؛ لعبادات جعلت فيها ؛ فعلى ذلك جائز أن يخص بعض الأوقات دون بعض بالفضيلة ؛ لمكان عبادات جعلت فيها ، لكن بيّن تلك الأماكن ، ولم يبين تلك الأوقات المفضلة ، وجعلها مطلوبة من بين غيرها من الأوقات ؛ فهو ـ والله أعلم ـ : أن لو بين ، وأشير إليها ؛ لكان لا مئونة تلزم لطالبه في ذلك ؛ لأنه يحفظ ذلك الوقت وتلك الليلة خاصة ، وأما المكان تلزم المؤنة في إتيان ذلك [المكان](١) ، وعلى ذلك يخرج ما (٢) لم يبين وقت خروج روح الإنسان من بدنه ؛ لأنه لو بين ، وأعلم نهاية عمره ، لتعاطى الفسق ، وارتكب المعاصي ؛ آمنا إلى آخر أجزاء حياته ، ثم يتوب ؛ فلم يبين ؛ ليكون أبدا على خوف وحذر ورجاء ؛ فعلى ذلك لم يبين تلك الليلة ؛ لتطلب من بين الليالى جميعا ؛ ليحيوا ليالي غيرها ، والله أعلم.

ثم إن كان السؤال عن القرآن هو (٣) المنزل في تلك الليلة ، يكون دليله قوله : (حم. وَالْكِتابِ الْمُبِينِ. إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ..). [الدخان : ١ ، ٣].

وإن كان السؤال عن ليلة القدر ؛ فيكون البيان عنها.

ثم قوله : (وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ) هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : يقول : ما كنت تدري حتى أدراك ؛ كقوله : (ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا ..). [هود : ٤٩].

ويحتمل قوله : (وَما أَدْراكَ) على التعظيم لها والتعجيب ، والله أعلم.

وقيل : نزول هذه الآية يكون على معنى التسلي ، أعطاه فضل هذه الليلة ، والعمل فيها ، ثم بين فضلها حيث قال : (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) ، اختلف فيه :

قال بعضهم (٤) : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أري بني أمية على منبره ؛ فساءه ذلك ؛ فنزل قوله : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ. لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ..). ، أي : [من](٥) ألف شهر يملكها بعدك بنو أمية يا محمد ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : حيث.

(٣) في ب : فهو.

(٤) قاله الحسن بن علي أخرجه ابن جرير (٣٧٧١٤) ، والترمذي وضعفه ، والطبراني ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٦٥٣) ، وهو قول ابن عباس ، وسعيد بن المسيب.

(٥) سقط في ب.

٥٨٤

وقال بعضهم (١) : (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) ، أي : العمل فيها خير من العمل في ألف شهر سواها.

وقيل ـ أيضا (٢) ـ : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر لأصحابه أن رجلا من بني إسرائيل جاهد ألف شهر في سبيل الله ؛ فعظم ذلك عليهم ؛ فنزل قوله ـ تعالى ـ : (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) ، أي : العمل فيها خير من جهاد ذلك الرجل [في](٣) ألف شهر.

ويحتمل أن يكون ذكر ألف شهر على سبيل التمثيل ، لا على التوقيت ، أي : خير من ألف شهر وأكثر ؛ إذ التقدير قد يكون لبيان العدد نفسه (٤) ، وقد يكون لبيان شرف ذلك الشيء وعظمته ؛ فلا يكون الغرض هو القصر على العدد ، وهو كقوله : (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) [التوبة : ٨٠] ، ونحو ذلك.

ثم اختلف في تسمية ليلة القدر :

قال بعضهم (٥) : هي ليلة الحكم والقضاء ، فيها يحكم ويقضي ما يريد أن يكون في ذلك العام المقبل ؛ لقوله ـ تعالى ـ : (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) [الدخان : ٤].

أو سميت : ليلة القدر (٦) ؛ لأنها ليلة لها قدر ومنزلة عند الله تعالى ؛ لما يوصف الشيء العظيم بالقدر والمنزلة.

وسميت : ليلة مباركة ؛ لأنه تنزل فيها البركات والرحمة من الله ـ تعالى ـ على خلقه.

أو سميت : مباركة ؛ لكثرة ما يعمل فيها من العبادات.

وقوله ـ عزوجل ـ : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ. سَلامٌ ...) : قال بعضهم (٧) : الروح هاهنا : جبريل ـ عليه‌السلام ـ كقوله ـ تعالى ـ : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) [الشعراء : ١٩٣].

وقال [بعضهم](٨) : خلق موكلون بالملائكة ، كما أن الملائكة موكلون ببني آدم.

وجائز أن يكون الروح هاهنا هو الرحمة ، أي : تنزل الملائكة بالرحمة فيها ، على ما

__________________

(١) قاله مجاهد ، وعمرو بن قيس أخرجه ابن جرير عنهما (٣٧٧١٠ ، ٣٧٧١١).

(٢) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير (٣٧٧١٣) ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه من طرق عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٦٢٩).

(٣) سقط في ب.

(٤) في ب : نفسها.

(٥) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير (٣٧٧٠٥ ، ٣٧٧٠٦) ، وعبد الرزاق ، والفريابي ، وعبد بن حميد ، ومحمد بن نصر ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الشعب عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٦٢٨).

(٦) زاد في ب : ذلك.

(٧) قاله الضحاك أخرجه ابن المنذر عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٦٣٠).

(٨) في ب : الروح.

٥٨٥

سميت : مباركة بما ينزل فيها من البركات.

ثم اختلفوا في قوله : (فِيها) :

قال بعضهم : أي : في تلك الليلة تنزل الملائكة والروح.

وقيل : (فِيها)(١) : أي : في الملائكة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) ، أي : ينزلون بأمر ربهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) :

قال بعضهم : أي : بكل أمر تقدر في تلك السنة على الأرض ، وكذا قال القتبي : (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ. سَلامٌ) ، أي : بكل أمر سلام.

وقيل : من كل أمر يدبره الله تعالى ، أي : الملائكة لا علم لهم فيما يقدر الله ـ تعالى ـ إلا أن يطلعهم الله عليه ؛ فكأنهم يطلعون على ما يقدر في تلك السنة من الأمور ؛ فينزلون بها بأمر الله تعالى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (سَلامٌ هِيَ) :

قيل (٢) : تنزل الملائكة تخفق بأجنحتها بالسلام من الله تعالى والرحمة والمغفرة.

وقال (٣) [بعضهم] : أي : هي ليلة سالمة ، لا يحدث فيها شر ، ولا يرسل فيها شيطان إلى مطلع الفجر.

وقال بعضهم (٤) : هو سلام الملائكة ، أي : تسلم الملائكة على كل مؤمن ومؤمنة.

وقال بعضهم : (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ. سَلامٌ) ، أي : من كل آفة وبلاء سلام.

وكذلك ذكر في قوله ـ تعالى ـ : (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) [الرعد : ١١] : قال بعضهم : يحفظونه من عذاب الله.

وقال بعضهم : يحفظونه بأمر الله تعالى ؛ فكذلك يحتمل قوله : (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ. سَلامٌ) هذين الوجهين.

وقوله : (هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) يحتمل : أي تلك البركات التي ذكرت إلى مطلع الفجر.

ويحتمل ذلك السلام الذي ذكر إلى مطلع الفجر.

ويحتمل الملائكة يكونون في الأرض إلى مطلع الفجر ، وروي عن ابن عباس ـ رضي

__________________

(١) في ب : الروح فيها.

(٢) قاله الحسن أخرجه ابن المنذر عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٦٣٠).

(٣) قاله مجاهد أخرجه سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، ومحمد بن نصر ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الشعب عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٦٣٠).

(٤) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير عنه (٣٧٧١٦).

٥٨٦

الله عنهما ـ أنه قرأ : من كل امرئ سلام ، وقال : يعني : الملائكة (١).

ثم قال بعضهم : اختلفت الروايات عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ليلة القدر متى تكون؟ واختلفت الصحابة ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ فيها : روى عبد الله بن أنيس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «التمسوها في العشر الأواخر ، واطلبوها في كل وتر».

وروى عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليلة تسع عشرة من رمضان ، وليلة إحدى وعشرين ، وليلة ثلاث وعشرين».

وروى ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «تحروا ليلة القدر في السبع الأواخر» (٢).

وروي أنها في سبع وعشرين.

وعن عبد الله بن عمر أنه : سئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ليلة القدر ـ وأنا أسمع ـ قال : «هى في كل رمضان».

وعن زر (٣) قال : قلت لأبي بن كعب : أخبرنى عن ليلة القدر ، يا أبا المنذر ؛ فإن صاحبنا عبد الله بن مسعود سئل عنها ، فقال : من يقم الحول يصبها فقال : نعم ، رحم الله أبا عبد الرحمن ، والله لقد علم أنها في رمضان ، كره أن تتكلوا ، والله إنها في رمضان ، ليلة سبع وعشرين.

ثم ليس لنا ، ولا لأحد أن يشير إلى تلك الليلة ، فيقول : هي ليلة كذا : ليلة سبع وعشرين ، أو تسع وعشرين ، إلا أن يثبت بالتواتر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك خبر بالإشارة إليها ؛ فعند ذلك يسع ، وإلا كانت مطلوبة في الليالي.

وعلى هذا الوجه تخرج الأخبار المروية على التوافق دون المناقضة ، وتكون كلها صحيحة ؛ فتكون في سنة (٤) بعض الليالي ، وفي سنة أخرى في غيرها ، وفي سنة في العشر الأواخر من رمضان ، وفي سنة العشر الأوسط من رمضان ، وفي سنة في العشر الأول ، وفي سنة في غير رمضان ، والله أعلم بالصواب (٥).

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٣٧٧١٦).

(٢) أخرجه البخاري (٤ / ٣٠١) كتاب فضل ليلة القدر ، باب : التماس ليلة القدر في السبع الأواخر رقم (٢٠١٥) ، ومسلم (٢ / ٨٢٢ ، ٨٢٣) كتاب الصيام ، باب : فضل ليلة القدر والحث على طلبها ... رقم (٢٠٥ ـ ١١٦٥).

(٣) في أ : زبير.

(٤) في أ : فيكون في سمة.

(٥) في ب : بذلك.

٥٨٧

[سورة البينة ، وهي مدنية](١)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١) رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (٢) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤) وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ)(٨)

قوله ـ عزوجل ـ : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) :

ذكر في حق أهل الكتاب : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) بحرف (مِنْ) ، وهو للتبعيض ، ولم يقل : «أهل الكتاب» ، وذكر في حق أهل الشرك (٢) : (وَالْمُشْرِكِينَ) ؛ لأن أهل الكتاب كانوا فرقا : منهم من كان آمن برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قبل أن يبعث ، فلما بعث كفروا به ، ومنهم من كان كافرا به ، فلما بعث آمن به ، فلزم الإيمان به ، ومنهم من كان كافرا به ، فلما بعث ، وأرسل ، لزم الكفر به ، ولم (٣) يؤمن ، فلما كانوا أصنافا وفرقا ؛ لذلك قال : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) بحرف «من».

وأما المشركون : فإنهم كانوا صنفا واحدا ، ثم لم يبين : أنهم إذا أتاهم البينة ينفكون أو لا؟.

وجائز أن يكون قوله ـ عزوجل ـ : (لَمْ يَكُنِ ..). إلى قوله : (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) ، أي : لم يكن بعض أهل الكتاب وبعض المشركين منفكين من الكفر ؛ لأنه عطف المشركين على أهل الكتاب ؛ كأنه قال : من أهل الكتاب ومن المشركين ؛ ولذلك خفض المشركين ، ولم يقل : «والمشركون» ، بل كانوا أهل كفر وشرك إلى آخر عمرهم ، وإن أتتهم البينة ، والبينة : هي ما في خلقة كل أحد مما يدل على ألوهيته ووحدانيته.

ويحتمل أن بعضا من الفريقين على الشرك حتى تأتيهم البينة ، وهي معاينة العذاب عند

__________________

(١) في ب : ذكر أن سورة (لَمْ يَكُنِ) مدنية.

(٢) في أ : الكتاب.

(٣) في ب : ولو لم.

٥٨٨

الموت ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا ..). [غافر : ٨٤] ، ونحو ذلك.

وذكر في حرف ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : لم يكن المشركون وأهل الكتاب منفكين ، وفي حرف أبي : ما كان الذين أشركوا من أهل الكتاب والمشركين.

ثم اختلف في قوله ـ عزوجل ـ : (مُنْفَكِّينَ) :

قال بعضهم : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منتهين ، زائلين عن الكفر والشرك حتى تأتيهم البينة.

وقال بعضهم : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين خارجين من الدنيا حتى تأتيهم البينة.

ثم اختلفوا في البينة التي ذكر أنها تأتيهم :

قال بعضهم (١) : البينة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ حيث قال على أثره : (رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً).

وقال بعضهم : ما جاء به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو القرآن ، وما جاء به محمد [رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم](٢) من الحجج :

فمن جعل قوله : (مُنْفَكِّينَ) : منتهين ، زائلين ، يجعل البينة : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورسول الله ـ عليه‌السلام ـ [سمى](٣) بينة ؛ لأنه به يعرف [كل](٤) خير وكل إحسان ، وبه يتبين الحق من الباطل ، وكل شيء من أمر المعاد والمعاش ، وكذلك القرآن جاء به.

ومن قال : (مُنْفَكِّينَ) : خارجين من الدنيا : يجعل البينة التي ذكر أنها تأتيهم : العذاب معاينة جهارا ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ..). [النساء : ١٥٩] ، أي : خارجين من الدنيا ؛ حتى يعلموا العذاب ؛ فعند ذلك يؤمنون.

وقوله ـ عزوجل ـ : (رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً) :

على التأويل الأول في البينة يكون ما ذكر من قوله : (رَسُولٌ مِنَ اللهِ) تفسيرا للبينة.

وعلى الثاني يخرج على الابتداء ، يقول : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتلو صحفا مطهرة.

ثم جائز أن يكون سمى القرآن وحده : صحفا ؛ على المبالغة ؛ إذ قد يسمى الواحد باسم الجميع على المبالغة.

__________________

(١) قاله ابن جريج وعكرمة أخرجه ابن المنذر عنهما كما في الدر المنثور (٦ / ٦٤٢).

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في ب.

(٤) سقط في ب.

٥٨٩

وجائز أن يكون قوله : (يَتْلُوا صُحُفاً) : القرآن ، وسائر الصحف ؛ لأن سائر الصحف فيه.

وكذلك : (فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) ، جائز أن يكون سمى كتابه المنزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كتبا ؛ على الإبلاغ ، والتأكيد ؛ على ما ذكرنا.

وجائز أن يكون : يتلو صحفا وكتبا عليهم ، وهي التوراة والإنجيل والزبور ، كأن هذا القرآن في تلك الكتب ، وتلك الكتب في هذا ، وهو كقوله ـ تعالى ـ : (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) [الشعراء : ١٩٦] ، وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى. صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) [الأعلى : ١٨ ، ١٩] أخبر أنه في تلك الكتب ، وأن الكتب الأولى فيه ؛ فيصير بتلاوة هذا عليهم كأنه [تلا](١) تلك الكتب عليهم ، وعلى هذا قوله ـ تعالى ـ : (هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي ..). [الأنبياء : ٢٤] ، وقوله ـ تعالى ـ : (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ ...) [البقرة : ٩٧] ، وقوله ـ عزوجل ـ : (مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ ..). [البقرة : ٩١] ففى (٢) هذا ما في تلك الكتب.

وقال بعضهم : (صُحُفاً مُطَهَّرَةً) : التي كانت في أيدي السفرة البررة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (مُطَهَّرَةً) ، يحتمل : مطهرة من أن يكون للباطل فيها حجة أو مدخل.

أو مطهرة من الافتعال والافتراء.

أو مطهرة من أن تحتمل ما ذكره أولئك الكفرة.

وقال قتادة (٣) : سمى كتابه بأحسن الأسماء ، وأثنى عليه بأحسن الثناء ، سماه : نورا ، وهدى ، ورحمة ، وبركة ، وآية شفاء ، ونحوه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قَيِّمَةٌ) : اختلف فيه :

قال بعضهم : فيها كتب صادقة.

وقال بعضهم : عادلة.

قال غيرهم (٤) : مستقيمة على ما توجبه الحكمة.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : وفي.

(٣) أخرجه عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير (٣٧٧٢٦) ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٦٤٢).

(٤) قاله ابن زيد بنحوه أخرجه ابن جرير عنه (٣٧٧٣٠).

٥٩٠

وجائز أن يكون قوله ـ تعالى ـ : (فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) ، أي : أحكام كثيرة مستقيمة ؛ على ما توجبه (١) الشريعة والحكمة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) :

يقول أهل التأويل : إنما تفرقوا من بعد ما جاءتهم البينة ، وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال أبو بكر : هذا التأويل خطأ ؛ لأنهم كانوا متفرقين قبل ذلك ؛ فلا معنى لهذا.

وعندنا : ليس كما توهم هو ، وهو يخرج على وجهين :

أحدهما : وما تفرقوا في محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا من بعد ما جاءهم (٢) العلم به ، عند ذلك تفرقوا فيه ، فأما قبل ذلك ، كانوا مجتمعين (٣) فيه كلهم.

أو ما تفرقوا في الدين والمذهب إلا من بعد ما جاءتهم البينة ، أي : عن بيان وعلم تفرقوا في الدين ، وفيما تفرقوا فيه ، وهو ما جعل في خلقة كل أحد دلالة التوحيد والربوبية له ما لو تفكروا ، لعرفوا بأن الله ـ تعالى ـ واحد ، والبينة تحتمل من هذا الموضع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن ، ونفس الخلقة على ما ذكرنا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) :

أي : ما أمر أوائلهم وأواخرهم في تلك الكتب إلا ليعبدوا الله ـ تعالى ـ ولا يعبدوا من دونه.

أو ما أمروا إلا ليجعلوا الألوهية لله والوحدانية له.

ودل قوله : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ) على أن تأويل قوله ـ تعالى ـ : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] على إضمار الأمر ، أي : إلا ليأمرهم بالعبادة على كل حال ؛ لأنه لو خلقهم للعبادة ما قدروا [على] غيره.

أو (٤) أن يكون قوله : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) على الخصوص ، خلق من علم أنه يعبده للعبادة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) : إخلاص الدين له يخرج على وجهين :

أحدهما : أن يخلص له الدين ، ويصفي ، لا يشرك فيه غيره ، ويكون من خلوصه وصفائه.

والثاني : الدين الخالص هو الدائم ، كقوله : (وَلَهُ الدِّينُ واصِباً ..). [النحل : ٥٢] ،

__________________

(١) في أ : يوجب.

(٢) في ب : جاءتهم.

(٣) زاد في أ : به.

(٤) في ب : و.

٥٩١

أي : دائما.

وكذلك يحتمل قوله : (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ ..). [الزمر : ٢].

وقوله : (حُنَفاءَ) :

قال أهل التأويل : المسلمون.

وقال بعضهم : حنفاء : متبعين ، والحنف : الميل ، كأنه قال : مائلين إلى الإسلام.

وقيل : (حُنَفاءَ) : الحجاج.

وقيل : الحنف : المستقيم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ) :

يحتمل القبول ، أي : قبلوا إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ؛ كقوله : (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ) [التوبة : ٥] ، أي : تابوا ، وقبلوا ذلك ، ليس على حقيقة الإقامة.

ويحتمل [أن يكون](١) حقيقة الإقامة والإيتاء ، وأيهما كان ، ففيه أن أوائلهم كانوا مأمورين بالصلاة والزكاة.

ثم المعنى الذي في الصلاة والزكاة لا يحتمل النسخ في وقت من الأوقات ؛ لأن الصلاة معناها : هو الاستسلام ، والخضوع له ، والزكاة : هي تزكية النفس وطهارتها ، وذلك لا يحتمل النسخ أصلا.

ثم قال : (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) والدين مذكر ، والقيمة مؤنث ؛ فجائز أن يكون الذي ذكر هو الملة القيمة ، ويحتمل دين الأمة القيمة ، وهو قول الزجاج.

أو يقول : ذلك الذي (٢) قومته الحجج والبراهين ، أضيف إلى الحجج.

وجائز أن يكون ذكر القيّمة ، على التسوية بين ما سبق وما تقدم من أواخر الآي ، من قوله ـ عزوجل ـ : (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) ، و (مُطَهَّرَةً) ، و (كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) ، ثم قال على ذلك : (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) ، تسوية بين ما تقدم وما تأخر من قوله : (خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) ، و (شَرُّ الْبَرِيَّةِ).

وفي حرف أبي : (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) بغير هاء.

وفي قوله ـ تعالى ـ : (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) ـ وجهان :

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في أ : الذين.

٥٩٢

أحدهما : تحذير لهذه الأمة ؛ لئلا (١) يتفرقوا كما تفرق أولئك في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفيما جاء به.

والثاني : يكونون أبدا فزعين إلى الله ـ تعالى ـ في كل وقت ، خائفين منه ، وألا يكلوا إلى البيان الذي جاءهم ؛ فيتفرقوا كما تفرق أولئك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ).

ظاهر هذا أن يكون تأويل قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ) ، أي : بعض المشركين في النار ، لا كل المشركين ، ولكن من كفر من المشركين ، كان كمن كفر من أهل الكتاب في نار جهنم ، لكن الكفر هو الشرك ، والشرك هو الكفر ؛ كقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ..). [النساء : ٤٨] ؛ فدل أن الكفر والشرك واحد ؛ فكل كافر مشرك ؛ فكأنه قال : إن الذين أشركوا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية.

ثم جاء كل هذا التشديد لهؤلاء ؛ لأن أهل الكتاب ادعوا أنهم من نسل الأنبياء ، ثم تركوا اتباعهم ، والمشركون قد (... وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ ..). [فاطر : ٤٢] ، [ثم](٢) نقضوا ذلك العهد.

وأهل الكتاب قالوا : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) [الزخرف : ٢٣] ، فتركوا اتباع الصالحين من آبائهم.

والعرب ـ أيضا ـ كانوا أقرب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غيرهم ؛ فحقه عليهم ألزم وأوجب ؛ فشدد على هؤلاء لهذا (٣) المعنى.

ثم إن كان البرية مأخوذا مقدرا من البري وهو التراب ، ويرجع تأويل الآية إلى البشر ؛ كأنه قال : أولئك هم شر ما أنشئ (٤) من الأرض.

وإن كان مأخوذا مقدرا من البرا وهو الخلق ؛ فيصير كأنه قال : أولئك هم شر ما خلقوا ؛ فيدخل (٥) في ذلك الملائكة والجن والبشر ، وفي الأول لا يدخل إلا البشر خاصة.

__________________

(١) في ب : أن لا.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : بهذا.

(٤) في ب : أنشئوا.

(٥) في ب : فدخل.

٥٩٣

وكذلك (١) ما ذكر من أهل الإيمان ؛ حيث قال : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) :

فإن كان البرية مأخوذا من البرى ، فهو يرجع إلى الأصناف جميعا ، وإن كان (٢) من البري (٣) ـ وهو التراب ـ فهو يرجع إلى البشر خاصة ؛ فيصير كأنه قال : شر أهل البشر من جنسهم ، وخير أهل الخير من جنسهم ؛ لأنهم صاروا قادة في الهدى والخير.

وقوله ـ عزوجل ـ : (جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ) :

فإن كان العدن هو المقام ، فجميع الجنان عدن ، وجميع الجنان نعيم.

ثم قد قسم الخلق صنفين : صنفا جعله شر البرية ، وصنفا جعله خير البرية ، ثم يكون [من](٤) كل صنف شر من شر ، وخير من خير ، وسوى بين من نشأ على الكفر ، وداوم (٥) عليه في التأبيد والتخليد وبين من أحدث الكفر في آخر عمره ، وكذلك من دام على الإيمان ، ومن أحدث سوى بينهما ، ولم يجعل لما مضى من الكفر والإيمان جزاء ولا عقابا ؛ وذلك ـ والله أعلم ـ هو أن من اعتقد إيمانا إنما يعتقده للأبد (٦) ، وكذلك من يعتقد الكفر ، إنما يعتقده للأبد ، فإذا أحدث الإيمان بعد الكفر اعتقد قبح ما عمل في حال كفره وشره ، وحسن ما أحدث من الإيمان والتوحيد ، وكذلك من أحدث الكفر بعد الإيمان ، اعتقد فساد ما عمل في حال إيمانه ؛ لذلك سوى بين من أحدث ، وبين من دام عليه ، وليس [كمن يذنب](٧) في وقت ، ويتوب في وقت ؛ لأنه ليس يعتقد حسن ذلك ، ولا قبحه في الأبد ، والله الموفق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) يحتمل وجهين :

أحدهما : يقول : رضي الله عنهم ، بعملهم الذي عملوا لأنفسهم ، وسعيهم الذي سعوا في الدنيا لهم ؛ رضي سعيهم لهم ، (وَرَضُوا عَنْهُ) ، أي : رضوا هم عنه بما أكرمهم ، ووفقهم للأعمال التي عملوا لأنفسهم في الدنيا ، وهو كقوله ـ تعالى ـ : (وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) [الزمر : ٧] ، أي : إن قبلوا ما أحسن إليهم ، وأحسنوا صحبة إحسانه إليهم يرضى ذلك لهم.

__________________

(١) في ب : ولذلك.

(٢) زاد في ب : جميعا.

(٣) في ب : الثرى.

(٤) سقط في ب.

(٥) في ب : ودام.

(٦) في ب : الأبد.

(٧) في ب : لم يتب.

٥٩٤

وهذا يدل أن ما يعملون من خير أو شر إنما يعملون لأنفسهم ، ولمنفعة ترجع إليهم ، أو مضرة تندفع عنهم.

والثاني : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) بما أكرمهم من الثواب لأعمالهم التي عملوا لأنفسهم ، ورضوا عنه بكرامته التي أكرمهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) هذا منه إفضال وإنعام ؛ حيث ذكر رضاه عنهم ، وإن ذكر العفو والتجاوز كان حقا ، ولكن هذا كما ذكر من لطيف معاملته عباده ؛ حيث سمى ما ادخروا في وقت حاجتهم إليه : قرضا ؛ حيث قال : (... وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً ..). [المزمل : ٢٠] ، وسمى بذلهم أنفسهم وأموالهم سرّا ، وما يعملون لأنفسهم ـ جزاء وشكرا ، وأموالهم وأنفسهم في الحقيقة له ، ولكن سمى بالذي ذكرنا ؛ لطفا منه وفضلا ؛ فعلى ذلك ما ذكر من رضاه عنهم به ، وكذلك قوله : (وَرَضُوا عَنْهُ) ذكر رضاهم عنه بفضله ولطفه ، وإلا من هم حتى يذكر منهم الرضا عن الله تعالى؟!.

ثم هو يخرج على وجهين سوى ما ذكرنا :

أحدهما : رضوا عنه بما امتحنهم في الدنيا بالمحن الشديدة العظيمة ، وإن اشتدت تلك ، وثقلت على أنفسهم إذا رأوا إحسان الله ـ تعالى ـ وفضله في الآخرة.

والثاني : رضوا عنه بالنعم التي أكرمهم في الجنة ، (... لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً) [الكهف : ١٠٨] ، ولا يريدون غيرها ، ولا يملون على ما يملون في الدنيا.

قال أبو عوسجة : (مُنْفَكِّينَ) ، أي : لا يزالون على هذه الحال ، يقول الرجل : ما انفككت أفعل كذا وكذا ، أي : ما زلت أفعل كذا وكذا.

وقال القتبي وأبو عبيد وغيرهما : المنفكين : زائلين.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) :

أي : الذي ذكر من الجزاء لمن خشي نقمته ، أو خشي سوء صحبة نعمه ، وأصله أن من اجتنب المعاصي وعمل بالطاعات ، فإنما يفعل ذلك ؛ لخشية ربه ـ تعالى ـ وكل من [كان] أعلم بربه فهو أخشى لربه تعالى ، ومن [كان] أجهل به فهو أجرأ ؛ قال الله ـ تعالى ـ : (... إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ..). [فاطر : ٢٩].

وقال الحسن : الخشية : هي الخوف اللازم في القلب الدائم فيه ، أو خشي خلافه وكفران نعمه ، والله أعلم ، [والحمد لله رب العالمين](١).

__________________

(١) سقط في ب.

٥٩٥

[سورة إذا زلزلت ، وهي مكية](١)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (١) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (٢) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (٣) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (٤) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (٥) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (٦) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)(٨)

قوله ـ عزوجل ـ : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) :

قد ذكرنا أن حرف (إِذا) إنما يذكر عن سؤال سبق منهم ؛ كأنهم سألوا عن الوقت الذي كانوا يوعدون فيه ، وإن لم يذكر السؤال ؛ لأنه قد يكون في الجواب بيان السؤال ، وفي السؤال بيان الجواب ، وإن لم يذكر ، فعند ذلك قال : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) ، أخبرهم عن أحوال يوم القيامة والحساب ، ولم يخبرهم عن وقتها ، وقد ذكرناه في غير موضع.

ثم قوله ـ عزوجل ـ : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) ، أي : حركت الأرض تحريكا شديدا ؛ لهول ذلك اليوم ، وهو يخرج على وجهين :

أحدهما : جائز أن تكون تتزلزل وتتحرك ؛ حتى تلقي ما ارتفع منها من الجبال الرواسي في الأودية ، حتى تستوى الأرض ، لا يبقى فيها هبوط ولا صعود ، كقوله ـ تعالى ـ : (لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) [طه : ١٠٧].

وجائز أن يكون قوله : (زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ) ، أي : تتزلزل ، وتتحرك ؛ لتغير (٢) الجبال الرواسي حتى تصير كما ذكر : (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ. وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) [القارعة : ٤ ، ٥]. وقوله ـ عزوجل ـ : (فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) [الفرقان : ٢٣] وإذا فنيت وتلاشت بقيت الأرض مستوية على ما ذكر.

ويحتمل أن تكون تتزلزل وتتحرك ؛ حتى تصير غير تلك ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ ..). الآية [إبراهيم : ٤٨].

ويحتمل أن يكون تبديلها وتحريكها ومدها هو تغير صفاتها ؛ على ما ذكرنا في الوجهين الأولين.

قال الزجاج : لا تصح هذه القراءة ؛ لأن الزلزال من المضاعف ، والمضاعف إنما يكون بالخفض مصادرها ، أما من الأسماء قد يكون نصبا (٣) ؛ كقوله تعالى : (مِنْ صَلْصالٍ)

__________________

(١) في ب : ذكر أن سورة (إِذا زُلْزِلَتِ مكية).

(٢) في ب : الغير.

(٣) في أ : نعتا.

٥٩٦

[الحجر : ٢٦] ، ونحوه ، والزلزال : مصدر ؛ فيكون الأصل المطرد فيه هو الكسر ، والنصب يكون نادرا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها).

أي : أحمالها ؛ لهول ذلك اليوم ، وقال في آية أخرى : (وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ) [الانشقاق : ٤] ، ثم يحتمل (وَأَخْرَجَتِ وَأَلْقَتْ) ما فيها من الموتى من أول ما دفن فيها من كل شيء من الحيوان وغيرها ، إلى آخر ما يجعل فيها من الكنوز وغيرها (١) مما يحتمل الحساب ، ومما لا يحتمل من البشر ، وجميع الممتحنين وغيرهم.

ويحتمل : أخرجت أثقالها : الممتحنين خاصة : ممن (٢) يحاسبون ، ويثابون ، ويجزون.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها).

أي : قال الكافر : ما لها تتحرك؟ فقال بعضهم : أحمق في الدنيا ، وأحمق في الآخرة ؛ حيث يسأل الأرض ما لها تتزلزل وتتحرك؟ يظن أنها بنفسها تفعل ذلك لا لفزعة ما ترى من أهوال ذلك اليوم وتغيير أحوالها ؛ على ما لم ينظر في الدنيا في الآيات والحجج حتى يقبلها (٣) ، ويخضع لها.

وقال بعضهم : هو على التقديم والتأخير ؛ كأنه يقول : (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) ، (وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها) ، تشهد وتخبر بما عمل على ظهرها.

ثم إخبارها يخرج على وجوه :

أحدها : ما قاله أهل التأويل (٤) : إنها تخبر وتحدث بما عمل على ظهرها من خير أو شر ، أو طاعة أو معصية.

لكن لا يحتمل إخبارها الخير ؛ لأنها إنما تشهد عليهم ؛ لإنكار أهل الكفر ما كان منهم من فعل الكفر والمعصية ، وأما أهل الجنة فإنهم يكونون مقرين بالخيرات ، والله ـ تعالى ـ يصدقهم على ذلك ، والله أعلم.

وكذلك ما ذكر من شهادة الجوارح إنما تشهد عليهم على ما ينكرون من الشرك والكفر وغير ذلك من المعاصي ؛ فعلى ذلك التأويل يكون إخبارها على حقيقة النطق والكلام.

وقال بعضهم : إخبارها : ما ذكر من تزلزلها وتحركها ، والأحوال التي تكون فيها هو تحديثها وأخبارها التي تكون منها.

__________________

(١) في ب : وغيرهما.

(٢) في أ : من.

(٣) في ب : نقلها.

(٤) قاله سفيان ، وابن زيد ، ومجاهد بنحوه أخرجه ابن جرير عنهم (٣٧٧٤٠ ، ٣٧٧٤١ ، ٣٧٧٤٢).

٥٩٧

وقال بعضهم يومئذ تبين وتقع أخبارها التي أخبروا في الدنيا فكذبوها ، يومئذ يتبين لهم ذلك ، ويقع لهم مشاهدة عيانا من الحساب والثواب والعقاب ، وفي الخبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أتدرون ما أخبارها؟» قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : «أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها» (١).

وقوله ـ عزوجل ـ : (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) :

من قال بأن أخبارها من شهادتها بما عملوا على ظهرها ، يكون تأويله قوله ـ تعالى ـ : (أَوْحى لَها) ، أي : أذن لها ربها بالشهادة ؛ فتشهد.

ومن قال : إخبارها هو تزلزلها وتحركها والأحوال التي تكون منها يقول على إسقاط (لَها) يقول : (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) ، أي : فعل ذلك بها ، والوحي قد يكون الوحي والإلهام والأمر ، ويستعمل فيما يليق به.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ) : يحتمل صدور الناس من وجهين : أحدهما : يصدرون من قبورهم إلى الحساب ؛ ليروا كتابة أعمالهم ، أي : ليروا ما كتب من أعمالهم التي عملوا في الدنيا ، ويحتمل صدورهم على ما أعد لهم في الآخرة من الثواب والعقاب ؛ فعلى هذا التأويل ؛ ليروا [جزاء أعمالهم](٢) التي عملوا في الدنيا ، كقوله ـ تعالى ـ : (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) [الشورى : ٧] ، وقوله ـ تعالى ـ : (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً ..). [الزمر : ٧١] هذا تفسير قوله : (أَشْتاتاً).

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) :

قال بعضهم (٣) : يرى الكافر ما عمل من خير في الدنيا ، وأما في الآخرة فلا يرى ؛ لأنه لا يؤمن بها ، ولا يعمل لها ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ..). [الإسراء : ١٨] ، والمؤمن يرى ما عمل من شر في الدنيا ، وما عمل في الآخرة ؛ وعلى ذلك روي في الخبر أن أبا بكر [الصديق](٤) ـ رضي الله عنه ـ كان جالسا

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٤ / ٥٣٥) كتاب صفة القيامة ، باب : (٧) (٢٤٢٩) وأخرجه الحاكم (٢ / ٥٣٢) وصححه وتعقبه الذهبي ، وقال : يحيى منكر الحديث.

(٢) في ب : أجرا للأعمال.

(٣) قاله ابن عباس بنحوه أخرجه ابن جرير (٣٧٧٤٤) ، وابن المنذر ، والبيهقي في البعث عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٦٤٧) وهو قول محمد بن كعب القرظي أيضا.

(٤) سقط في ب.

٥٩٨

مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت هذه الآية ؛ فقال أبو بكر [الصديق](١) : يا رسول الله : كل من عمل منا شر يراه؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما يرون في الدنيا مما يكرهون فهو من ذاك ، ويؤخر الخير لأهله في الآخرة».

وجائز أن يكون قوله ـ تعالى ـ : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) و (شَرًّا يَرَهُ) ، على الإحصاء والحفظ ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها ..). [الكهف : ٤٩] أي : لا يذهب عنه شيء قليل ولا كثير حتى الذرة.

ويحتمل وجها آخر ، وهو أن قوله ـ تعالى ـ : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ..). ، أي : من يعمل من المؤمنين مثقال ذرة خيرا يره في الآخرة ، ومن يعمل من الكفار مثقال ذرة شرا يره في الآخرة ؛ لأن الله ـ تعالى ـ قد أخبر في غير آي من القرآن أنه يتقبل حسنات المؤمنين (٢) ، ويتجاوز عن سيئاتهم ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) [العنكبوت : ٧] ، ونحو ذلك من الآيات.

وقوله : (مِثْقالَ ذَرَّةٍ) ليس على إرادة حقيقة الذرة ؛ ولكن على التمثيل.

ثم قيل من إخبار الأرض وما ذكر من شهادة الجوارح : أن كيف احتمل ذلك ، وهي أموات ، والموات لا علم لها؟ فجائز أن يكون الله ـ تعالى ـ يجعل لها علما ، وينطقها بذلك ، وأن لها بذلك علما على جعلها آية.

ثم في قوله ـ تعالى ـ : (لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ) دلالة أن قوله ـ تعالى ـ : (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) [التوبة : ٦] ، وقوله : «لا تسافروا بالقرآن [إلى](٣) أرض العدو» ، وقول الناس : «نقرأ كلام رب العالمين» ، و «فى المصاحف قرآن» ألا يراد به حقيقة كون كلام الله ـ تعالى ـ في المصاحف ، ولا حقيقة كون القرآن فيها والسفر به ، ولا حقيقة سماع كلامه ، ويكون على ما أراد من سماع ما به يفهم كلامه ، أو يسمع ما يعبر به عن كلامه ، وكذلك يكون في المصاحف ما يفهم به كلامه ، أو ما يعبر به عن كلامه ؛ على ما ذكر من رؤية الأعمال ، وأعين الأعمال لا (٤) ترى ، ولكن يرى ما يدل عليها ، وهو المكتوب من أعمالهم في الكتب التي فيها أعمالهم ؛ فعلى ذلك هذا ، [والله أعلم بالصواب](٥).

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : المؤمن.

(٣) سقط في ب.

(٤) في ب : إلا.

(٥) في ب : والله الموفق والمسدد.

٥٩٩

[سورة والعاديات ، مكية](١)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (١) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (٢) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (٣) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (٤) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (٥) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (٧) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (٨) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (٩) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (١٠) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ)(١١)

قوله ـ عزوجل ـ : (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً ..). إلى آخره.

قال على ـ كرم الله وجهه ـ وعبد الله ـ رضي الله عنهما ـ : هي الإبل (٢).

وقال ابن عباس ـ رضي الله عنه (٣) ـ وغيره من أهل التأويل : هي الخيل ؛ غير أن عليا ـ رضي الله عنه ـ قال : ذلك يوم بدر.

وقال ابن مسعود (٤) ـ رضي الله عنه ـ : ذلك في الحج.

ومن قال : هي الخيل ، قال : ذلك في سرية بعثها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأبطأ عليه خبرها ؛ فاغتم لذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزل جبريل ـ عليه‌السلام ـ بخبرها على ما ذكر ووصف ؛ فسر بذلك المؤمنون.

فإن كان في أمر السرية والخيل على ما قاله ابن عباس (٥) ـ رضي الله عنهما ـ فجهة القسم بذلك تحتمل وجوها :

أحدها : أنه من علم الغيب ؛ إذ لا يعلم بحالهم وما وصف من أمر الخيل لا يكون إلا بالوحي من السماء ، أو لمن شهد ذلك ، فإذا لم يحضرهم أحد ممن شهدها ، ثم أخبر بذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم ظهر عندهم على ما أخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، علموا بذلك أنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه إنما عرف بالوحي من الله تعالى إليه ، وذلك من أعظم آيات الرسالة.

__________________

(١) في ب : ذكر أن سورة (وَالْعادِياتِ) مكية.

(٢) أخرجه ابن جرير (٣٧٧٧٧ ، ٣٧٧٨٠) ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طريق الأعمش عن إبراهيم عنهما كما في الدر المنثور (٦ / ٦٥٢).

(٣) أخرجه ابن جرير (٣٧٧٨١) ، وابن أبي حاتم ، وابن الأنباري في المصاحف ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه كما في الدر المنثور (٦ / ٦٥٢).

(٤) أخرجه ابن جرير (٣٧٧٨٣ ، ٣٧٧٨٥) ، وعبد بن حميد من طرق عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٦٥٢).

(٥) أخرجه البزار ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والدارقطني في الأفراد ، وابن مردويه من طرق عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٦٥١).

٦٠٠