تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٩٥

١
٢

سورة الجمعة وهي كلها مدنية

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)(٤)

قوله ـ عزوجل ـ : (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ).

قال : (يُسَبِّحُ لِلَّهِ) ، ولم يقل : يسبح الله ، وقد جرت العادة في الناس التسبيح بالإله ؛ كقولهم : سبحان الله ، وسبحان ربي العظيم ، فكان حق هذا القول على ما جرت به العادة في اللسان أن يقول : يسبح الله ما في السموات وما في الأرض ، ولكنه يجوز أن يكون هذا من نوع ما يجري فيه اللفظان جميعا ؛ كما يقال : شكره وشكر له ، ونصحه ونصح له.

والتسبيح يحتمل أوجها ثلاثة :

أحدها : تسبيح الخلقة : أنك إذا نظرت إلى كل شيء على الإشارة إليه والتعيين ، دلك جوهره وخلقته على وحدانية الله تعالى ، وعلى تعاليه عن الأشباه وبراءته عن جميع العيوب والآفات ؛ فذلك من كل شيء تسبيحه.

والثاني : تسبيح المعرفة ، ووجه ذلك : أن يجعل الله تعالى بلطفه في كل شيء حقيقة المعرفة ؛ ليعرف الله تعالى وينزهه ، وإن كان لا يبلغه عقولنا ؛ ألا ترى إلى قوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء : ٤٤].

ولكن عندنا بواسطة إحداث نوع حياة فيه ؛ إذ المعرفة بدون الحياة لا تتحقق.

والوجه الثالث : هو أن يكون التسبيح تسبيح ضرورة وتلقين ، ووجهه : أن الله تعالى يجري التسبيح على ذلك الجوهر من غير أن يكون له حقيقة المعرفة ، كما أظهر من آياته وأعلامه على عصا موسى ، وكما أجرى السفينة على وجه الماء ، وإن لم يكن لها حقيقة المعرفة ؛ وذلك تسبيح كل شيء ، والله أعلم.

وقوله : (الْمَلِكِ).

يعني : الملك الذي له ملك الملوك ، أو الذي له الملك في الحقيقة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (الْقُدُّوسِ) ، له تأويلان :

أحدهما : الطاهر من كل عيب وآفة وحاجة ، أو الطاهر مما يحتمله غيره.

٣

والثاني : المبارك ، يعني : به ينال كل بركة وخير.

ويجوز أن يجمع في المبارك معنى التنزيه من العيوب ومعنى البركة ؛ لأنك إذا وصفته بالبركة فقد وصفته بالبراءة من كل عيب وأضفت إليه كل بركة ويمن ؛ كما روي في الخبر أن قول : «سبحان الله نصف الميزان ، والحمد لله تملأ الميزان» (١) ، وكان معناهما عندنا أن قول : «سبحان الله» يختص بتبرئته من العيوب ، «والحمد لله» ينتظم معنى التنزيه من العيوب ، ومعنى إضافة النعم كلها إليه ، فإذا كان فيه هذان المعنيان جميعا ، جاز أن يمتلئ به الميزان ، ولما اختص «سبحان الله» بتطهيره من العيوب ، ولم يتعده إلى غيره ، أخذ نصف الميزان ، والله أعلم.

وكذلك هذا الاختلاف في تأويل قوله : (الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ) [المائدة : ٢١].

وقوله ـ عزوجل ـ : (الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ).

العزيز : يعني : الغالب القاهر ، لا يعجزه شيء.

أو يجوز أن يكون العزيز مقابل الذليل ، والذليل ينتظم كل فقر وحاجة وضعف ؛ فالواجب : أن ينتظم العزيز ـ إذا كان ضدّا ومقابلا ـ كل شرف ومكرمة وغناء وقوة ، والله الموفق.

والحكيم : قالوا : هو الذي يضع الأشياء مواضعها ، فالله تعالى حكيم حيث وضع الأشياء مواضعها التي جعلها الله تعالى مواضع لها ، أو الحكيم : هو الذي لا يلحقه الخطأ في التدبير ، وهو معنى المصيب أيضا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ).

احتج أهل الكتاب علينا أن الله تعالى إنما بعث محمدا رسولا إلى الأميين خاصة بهذه الآية ، وفهموا منها تخصيص الأميين بإرسال الرسول إليهم ، فيقتضي نفيه عن غيرهم.

ولكن نقول : لا يجب أن يفهم من الآية نفي ما ذكر في ظاهرها ، بل يفهم منها ظاهرها دون النفي ، والتخصيص بالذكر لا يحتمل على النفي ؛ لأنه إذا حمل التخصيص بالذكر على نفي غيره ، أدى إلى ما لا يستقيم ولا يحل ؛ ألا ترى إلى قوله : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) [العنكبوت : ٤٨] حيث لم يفهم أنه لم يخطه بيمينه أن كان خطه بشماله ، ولا من قوله : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا) [العنكبوت : ٤٨] أنه كان يتلى عليه ،

__________________

(١) أخرجه مسلم (١ / ٢٠٣) كتاب الإيمان ، باب : الطهارة ؛ باب : فضل الوضوء (١ / ٢٢٣) من حديث أبي مالك الأشعري ، بلفظ : «الطهور شطر الإيمان ، والحمد لله تملأ الميزان ، وسبحان الله والحمد لله تملئان (أو تملأ) ما بين السموات والأرض ...» الحديث.

٤

ولكن المعنى من ذلك كله والله أعلم : أن الله بعث رسوله أميّا في قوم أميين لا يعلمون الحكمة وماهيتها ، وجعل ذلك آية لرسالته وحجة لنبوته ؛ لأنه إذا كان أميّا لا يكتب ولا يقرأ الكتب ، ثم آتاهم الكتاب مؤلفا منظوما يوافق كتب أهل الكتاب دل أنه إنما علم ذلك بالوحي ، وأنه لم يختلقه من عند نفسه ، والله أعلم.

ثم الدليل على أنه كان رسولا إليهم جميعا قوله : (كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً) [سبأ : ٢٨] ، وما روي عنه ـ عليه‌السلام ـ أنه قال : «بعثت إلى الأحمر والأسود» (١) يعني : إلى الإنس والجن ، ولأجل أنه لما بعث إلى طائفة ليدعوهم إلى طاعة الله تعالى وعبادته ، علم أنه رسول إلى غيرهم ؛ إذا لم يكن لهم رسول آخر ؛ لأن الطائفة الأخرى إذ لم يكن لهم رسول آخر ، واحتاجوا إلى معرفة الأمر والنهي وإلى طاعة الرحمن حاجة الطائفة التي بعث إليهم ؛ دل أنه رسول إليهم جميعا ، والله أعلم.

وقوله : (بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ).

معناه : أنه بعث صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوم أميين لا يعرفون عبادة الله ولا يقرءون الكتاب ، بل كانت عادتهم عبادة الأصنام.

وقيل في تأويل الأميين : هم الذين لم يؤمنوا بالكتب ، ولكن هذا فاسد ؛ لأن الله تعالى سمى نبيه ـ عليه‌السلام ـ أميّا بقوله : (النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) [الأعراف : ١٥٧].

وقيل (٢) : سماهم : أميين ؛ لأنهم لا يقرءون الكتاب ولا يكتبون على الأعم الأغلب ، وإن كان فيهم القليل ممن يقرأ ويكتب ، ومن هذا سمي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أميّا ؛ لأنه كان لا يكتب ولا يقرأ في كتاب ولم يعلم ذلك ؛ قال الله تعالى : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) [العنكبوت : ٤٨] ، وعلى ذلك روي عن النبي ـ عليه‌السلام ـ : «الشهر هكذا وهكذا» وأشار بأصبعه ، وقال : «إنما نحن أمة أمية لا تحسب ولا تكتب» (٣).

وقال الزجاج : الأمي هو الذي لا يحسن القراءة والكتابة ولم يتعلم ، ويكون على ما

__________________

(١) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (٨ / ٢٦١ ـ ٢٦٢) من حديث ابن عباس ، وقال : رواه أحمد والبزار والطبراني بنحوه ... ورجال أحمد رجال الصحيح غير يزيد بن أبي زياد ، وهو حسن الحديث ؛ وذكره أيضا من حديث أبي موسى وأبي ذر وابن عمر.

(٢) قاله قتادة أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير (٣٤٠٧٤) و (٣٤٠٧٥) وابن المنذر عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٣٢١).

(٣) أخرجه البخاري (٤ / ٦٢٣) كتاب الصوم ، باب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا نكتب ولا نحسب» (١٩١٣) ومسلم (٢ / ٧٦١) كتاب الصيام ، باب : وجوب صوم رمضان (١٥ / ١٠٨٠) من حديث ابن عمر بلفظ : «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ، الشهر هكذا وهكذا».

٥

سقط من أمّه فنسب إلى حال ولادته التي سقط من أمه ؛ لأن ذلك إنما يكون بالتعليم دون الحال التي يجري فيها المولود.

ثم وجه الحكمة في جعل النبوة في الأمي أن يكون ذلك سبب معرفة نبوته وعلامة رسالته ، بحيث يعلم أنه ما اخترع ذلك من لدن نفسه ؛ إذ لم يعرف الكتابة والقراءة ولا اختلف إلى أحد ؛ ليتعلم منه ، ثم أحوج جميع الحكماء إلى حكمته ، وجميع أهل الكتاب إلى معرفة كتابه ؛ لحسن نظمه وتأليفه ؛ ليعلم أنه إنما ناله بالوحي والرسالة ، والله أعلم.

وقوله : (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ).

الآيات : الأعلام ، فكأنه يقول : يتلو عليهم في كتابه أعلاما تبين رسالته وتظهر نبوته.

أو يجوز أن يكون الآيات : الحلال والحرام وما أشبهه.

أو الآيات : الحجج التي يستظهر بها الحق ، والله أعلم.

وقوله : (وَيُزَكِّيهِمْ).

قال بعضهم : يصلحهم ، يعني : يدعوهم إلى اتباع ما يصيرون أذكياء أتقياء.

ويجوز [أن يكون] معنى قوله : (وَيُزَكِّيهِمْ) أي : يطهرهم من خبث الشرك وخبث الأخلاق وخبث الأقوال ، والله أعلم.

وقوله : (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) ، اختلفوا فيه :

قال الحسن : هذا كلام مثنى ؛ الكتاب والحكمة واحد.

وقال أبو بكر : الكتاب : ما يتلى من الآيات ، والحكمة : هي الفرائض.

وقال بعضهم (١) : الحكمة : هي السنة ؛ لأنه كان يتلو عليهم آياته ، ويعلمهم سنته ؛ إما بلطف من الله تعالى وإلهامه إياه أو بالوحي.

ومنهم من قال : الكتاب : ما يتلى من الآيات نصّا ، والحكمة : ما أودع فيها من المعاني ؛ [والله أعلم] أي ذلك كان؟

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ).

أي : أنهم كانوا عن الكتاب والحكمة لفي ضلال بين ظاهر ؛ لأنهم كانوا مشركين عبدة الأصنام ، ليس عندهم كتاب ، ولا يعرفون الحكمة.

ويحتمل أن يكون معنى قوله : (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي : في الشرك وعبادة الأصنام ، فدعاهم الرسول إلى توحيده وترك ما هم فيه من عبادة الأصنام.

قال الفقيه ـ رحمه‌الله ـ في قوله : (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) : إن الله تعالى قد

__________________

(١) قاله قتادة أخرجه ابن جرير عنه (٣٤٠٧٧).

٦

جعلهم أتقياء أذكياء علماء بعد ما كانوا أميين جهالا سفهاء ؛ آية ودلالة على حقية دينه ـ عليه‌السلام ـ على سائر الأديان ؛ حيث لم يكن أهلها كذلك ، ويكون فيه ترغيب للآخرين ؛ ليصيروا علماء حكماء.

وقوله : (وَيُعَلِّمُهُمُ).

يجوز أن يكون هذا تعليما من الله تعالى ؛ فيجعلهم علماء بعد ما كانوا سفهاء ، وأذكياء بعد ما كانوا أنجاسا وأقذارا عبدة الأوثان ، وذلك من لطف الله تعالى بهم ؛ لأن ما أضيف من هذه الأفعال إلى الله تعالى ، فهو على حقيقة الوجود ، وما أضيف إلى الرسول فهو على الأسباب ، وذلك أنه لا يجوز أن يعلم الله تعالى أحدا فلا يصير عالما ؛ لأن تعليمه خلق العلم في المحل الذي أراد ، وما أراد وخلق يكون لا محالة ، فأما [الرسول] فيجوز أن يعلم البشر فلا يتعلم ؛ لأن تعليمه بسبب ؛ لأنه ليس له قدرة الخلق والإيجاد ؛ فثبت أنه على جهة السبب ، والله الموفق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ).

فإن كان معناه الخفض ، فهو منسوق على قوله : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ) ومن آخرين لم يلحقوا بهم ؛ فيكون فيه إخبار أن رسالته تبقى إلى آخر الدهر.

وإن كان معناه النصب فهو منسوق على قوله : (وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) ، فيكون فيه بشارة أنه يكون في الآخرين علماء أتقياء حكماء كما كان في هؤلاء.

وقال بعضهم : يحتمل أن يكون هذا في أهل النفاق ؛ فيكون معناه : فهو الذي بعث في الأميين رسولا فيصيرون علماء حكماء مؤمنين على الحقيقة في الظاهر والباطن ، وآخرين من هؤلاء الأميين في الظاهر لما يلحقوا بهم في الباطن ؛ والتأويل الأول أصح وأقرب.

وقوله : (وَهُوَ الْعَزِيزُ) حيث جعل في كل واحد من البشر أثر الذل به والفقر إليه.

وقوله : (الْحَكِيمُ).

في أمره حيث أمرهم بالحكمة.

أو الحكيم في تدبيره ؛ حيث جعل في كل مخلوقاته ما يشهد بوحدانيته وتدبيره فيه.

أو هو الحكيم في تقديره ؛ حيث خلق الأشياء المتضادة من نحو النور والظلمة والليل والنهار ؛ لأنه وضع كل شيء موضعه ، لم يخلط ظلمة بنور ولا نورا بظلمة ، ولا ليلا بنهار ولا نهارا بليل.

وقوله : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) :

٧

يعني : ذلك الفضل : ـ النبوة والرسالة ـ يؤتيه من يشاء ، يعني : يخلق من البشر من يصلح للنبوة والرسالة.

أو ذلك الفضل من تعليم الكتاب والحكمة يؤتيه من يشاء.

وفيه دلالة على كذب قول المعتزلة ؛ لأن من قولهم : إن الله لا يؤتي أحدا شيئا بفضله ، بل حق عليه أن يفعل ذلك ، فإذا كان هذا على الله فعله كان ذلك حقّا يقضيه ، ومن قضى حقّا ، فليس يوصف بالفضل ، وقد وصف الله تعالى نفسه بالفضل ، فثبت بهذا كذب قولهم ، والله الموفق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).

أي : ذو الفضل العظيم في الدنيا ؛ حيث تفضل عليهم بالكتاب والحكمة بعد ما كانوا جهالا.

أو يجوز أن يكون هذا في الآخرة أن الله يجزيهم عن أعمالهم الجنة ؛ فضلا منه عليهم.

(الْعَظِيمِ) هو الدائم الباقي ، والله أعلم.

قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥) قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٧) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٨)

وقوله : ـ عزوجل ـ : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها).

له أوجه من التأويل :

أحدها : يحتمل أن يكون هذا كناية عن العمل ، يعني : حملوا ما في التوراة فلم يعملوا بها.

والثاني : أن يقول : (لَمْ يَحْمِلُوها) ، يعني : لم يحملوها إلى من أمروا بحملها إليهم على ما أمروا ؛ لأنهم حرفوا وبدلوا.

أو يجوز أن يكون تأويله ـ والله أعلم ـ أنهم كذبوا التوراة وتلقوها بالعناد والتكذيب فلم ينتفعوا بها ، فمثلهم كمثل الحمار [يحمل] كتبا لا يعلم قدرها وخطرها كما قال : (كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) ؛ لأنهم وإن عرفوا التوراة فحين لم يعظموها حق تعظيمها ، وكذبوا بما فيها ، كانوا كأنهم لا يعرفون قدرها وخطرها ، فصار مثلهم كمثل

٨

الحمار يحمل الكتب ، لا يعلم ما قدرها وخطرها؟ وهذا التأويل أقرب ؛ لأنه قال في سياق هذه الآية : (بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) ، فثبت أن المعنى من الأول التكذيب ، والله أعلم.

قال : ثم معلوم أن هذا التكذيب والتحريف إنما كان من عمل كبرائهم ورؤسائهم ، فأخبر أنهم كذبوا ولم يعرفوا قدرها حين كذبوا ؛ ليزجر متبعيهم عن اتباعهم ، ويبين أن رؤساءهم ليسوا ممن يستحقون الاتباع.

وفيه ـ أيضا ـ زجر للمسلمين أن يستخفوا كتاب الله والعمل بما فيه ، والله أعلم.

ثم قوله : (بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يقول : بئس النعت والصفة صفة الذين بلغ كذبهم مبلغا كذبوا على الله ؛ لأن الكاذب في العباد موصوف بالشر ، فإذا بلغ كذبه مبلغا يكذب على الله تعالى ، علم أنه في النهاية في الشر ، فكأنه يقول : صفة الذين كذبوا على الله في الغاية من الشر والقبح.

أو يقول : بئس مثل الذين كذبوا بآيات الله ؛ لأن الله تعالى ضرب أمثال المشركين بكل ما يستخبث ويستقبح ، وضرب أمثال المؤمنين بكل حسن وطيب ، فقال : المثل يعني الشبه الذي شبه الله تعالى به المكذبين بآياته شبه قبيح.

ثم في هذه الآية دلالة أن الله تعالى يخلق القبيح والحسن والخبيث والطيب جميعا ؛ لأن قوله : (بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ) ، وذلك المثل الذي شبههم به ما خلقه وقد سماه : بئسا ، فثبت أن الله تعالى قد خلق الخبيث والطيب والقبيح والحسن ، وعند المعتزلة لم يخلق إلا الحسن ، فتكون الآية حجة عليهم.

وقوله : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) ، له تأويلان :

أحدهما : أنه لا يهدي القوم الظالمين لوقت اختيارهم الظلم والفسق ، أو لا يهديهم بظلمهم الآيات ومكابرتهم وعنادهم إياها ؛ فهو لا يهدي هؤلاء ، وأما من ظلم عن جهل أو فسق ثم استرشد ، فإنه يهديه ويرشده ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ؛ وقال في موضع آخر : (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [البقرة : ٩٤] ؛ فكان في هذا بيان أن من كان من أوليائه فله الدار الآخرة عند الله خالصة ، ومن كانت له الدار الآخرة فهو من أوليائه.

٩

ويجوز أن يكون مآلهما جميعا ، والله أعلم.

ثم المباهلة في المتعارف إنما هي المحاجة في بلوغ العناد والتمرد غايته ، فكأنه لما قررت عندهم جميع الحجج فلم يقبلوها أمره بالمباهلة ؛ فلم يباهله اليهود والنصارى ؛ لأنه يجوز أن قد كان في كتابهم هذا أن المباهلة من غاية المحاجة وأن من باهل ، نزل عليه العذاب واللعنة إن لم يكن محقّا ؛ فلذلك امتنعوا من المباهلة ، وأما العرب من المشركين فلم يكن لهم كتاب يعرفون به حكم المباهلة فباهلوا ، وذلك أنه روي أن أبا جهل كان يقول : «اللهم انصر أحبنا إليك وأقرانا للضيف وأوصلنا للرحم» (١) فنصر الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأبو جهل باهله ؛ لأنه لم يكن له كتاب ، ولم يباهله اليهود والنصارى ؛ لما كانت لهم كتب عرفوا فيها حكم المباهلة ، والله أعلم.

وقوله : (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ).

هذه الآية تدل على رسالة رسولنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه لو كان يقوله من نفسه ، لكانوا يبادرون فيتمنون الموت للحال ؛ ليظهر كذبه فيه ، فلما أخبر أنه لا يتمنونه أبدا ، ولم يتمنوا ، تبين أنه قال من الوحي ، وأنهم علموا ذلك حتى امتنعوا عن التمني ؛ خوفا للهلاك على أنفسهم ؛ لعلمهم أنهم لو تمنوا لماتوا ، والله أعلم.

وقوله : (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ).

أي : من تحريف التوراة والإنجيل ؛ لأن قول النصارى : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة : ١٨] لم يكن في الإنجيل ، وقول اليهود : (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً) [البقرة : ١١١] لم يكن في التوراة ، ولكنهم غيروا وبدلوا ؛ فلا يتمنون الموت بما قدمت أيديهم من تحريف هذه الآيات وتبديلها وتغيير نعت محمد ، عليه الصلاة والسلام.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ).

يعني : بظلمهم الآيات ، وعنادهم لها ، ومكابرتهم إياها.

وقوله : (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ).

أي : الموت الذي تفرون منه بما قدمت أيديكم من تحريف التوراة والإنجيل يلقاكم لا محالة وإن فررتم منه ؛ فيكون فيه تذكيرهم إن رجعوا عما يهربون منه ، يعني : الموت.

وقوله : (ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ).

يعني : إلى عالم ما أشهدتم الخلق من التوراة والإنجيل ، وعالم ما غيبتم عن الخلق من

__________________

(١) تقدم.

١٠

نعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغير ذلك.

أو عالم ما غيبتم في أنفسكم وأسررتم من تكذيبكم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما أشهدتم عليه ضعفتكم وأتباعكم من نهيكم إياهم عن اتباعه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

إما عيانا تقرءونه في كتابكم يوم القيامة ، أو ينبئكم بما كنتم تعملون بالجزاء إن خيرا فخير وإن شرّا فشر ، والله المستعان.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)(١١)

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) ، هذا السعي يحتمل وجهين :

أحدهما : أن أقبلوا على العمل الذي أمرتم به وامضوا فيه.

والثاني : واسعوا في المشي وأسرعوا ، لأن السعي في المشي هو السرعة فيه ، والسعي في الأعمال هو الإقبال عليها والمبادرة إليها ، فإن كان المراد من هذا السعي في المشي فخروج الآية مخرج الترهيب والتضييق ؛ ألا ترى إلى قوله : (وَذَرُوا الْبَيْعَ) كيف أمرك بترك البيع وقد يمكن البيع في حال المشي ، وإلى قوله : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) كيف أمر بالانتشار في الأرض بعد الفراغ من الفريضة دون أن يذكر هنالك شيئا في أدائها ، ولو كان المراد منه الترغيب ، لكان يأمره بالعدو إليها ؛ فدلت هذه المعاني أن تخرج الآية على الترهيب والتضييق ، وإن كان السعي في سائر الصلاة المفروضة غير مندوب إليه ؛ على ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إذا أتيتم الصلاة فأتوها وأنتم تمشون ، ولا تأتوها وأنتم تسعون ، عليكم بالسكينة والوقار ، وما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا» (١) فاختص الجمعة به ؛ لما ذكرنا من التضييق هاهنا والتوسيع في سائر الصلاة ، ولكن الأشبه أن المراد من السعي هو الإقبال على أدائها والتأهب لها والمبادرة إليها ، والسعي مستعمل في هذا ؛ قال الله تعالى : (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ)

__________________

(١) أخرجه البخاري (٢ / ٣٩٠) كتاب الجمعة ، باب : المشي إلى المساجد (٩٠٨) ومسلم (١ / ٤٢٠ ـ ٤٢١) كتاب المساجد ، باب : استحباب إتيان الصلاة بوقار وسكينة (٢٥١ / ٦٠٢) من حديث أبي هريرة بلفظ : «إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون وأتوها تمشون ، عليكم السكينة ، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا».

١١

[الإسراء : ٩] ، وقوله : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى. وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) [النجم : ٣٩ ، ٤٠] ، وإنما أراد العمل ، وكذلك روي عن عمر (١) وابن مسعود (٢) وأبي وابن الزبير (٣) ـ رضي الله عنهم ـ أنهم قرءوا : فامضوا إلى ذكر حتى قال عبد الله : «لو كانت القراءة (فَاسْعَوْا) لسعيت ، ولو سقط ردائي لم ألتفت إليه» (٤) ؛ خوفا من تضييع حقها ؛ فذلك يدل على أن تأويل الأول عندهم على الإقبال والمبادرة إليها دون السرعة والمشي ، ولأن هذا موافق لسائر الصلوات في أن العدو غير مستحب ، والله أعلم.

والحديث الوارد في السكينة الوقار مطلق ليس فيه فصل بين الجمعة وغيرها ، وعليه إجماع الفقهاء أنه يمشي إلى الجمعة على هينته ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَذَرُوا الْبَيْعَ) قال بعض الناس بأنه إذا باع في وقت الجمعة ، لم يجز بيعه ؛ لهذه الآية.

وعندنا أن البيع جائز ، لكنه مكروه.

والذي يدل على جوازه أن النهي عن البيع في هذه الآية ليس لمكان البيع ، ولكن لمكان الجمعة ، فالفساد إذا ورد فإنما يرد في الجمعة لا في البيع ؛ لأنه إذا باع في الصلاة فالبيع يفسد الصلاة ؛ لأن الصلاة تفسد البيع ، ولأن الأصل عندنا أن كل عقد نهي لأجل غيره ، فالنقصان إذا ورد من النهي فإنما يرد في ذلك الغير لا في العقد ، وعلى هذا ما روي عنه ـ عليه‌السلام ـ أنه قال : «المحرم لا ينكح ولا ينكح» (٥) إذ النهي عن النكاح إنما هو لمكان الإحرام ليس لمكان النكاح ؛ ولذلك نقول بجواز نكاح المحرم وبفساد الحج إذا جامع بذلك النكاح ؛ لأن النهي إذا لم يكن لنفس العقد لم يستقم فساد العقد والنهي ليس من أجله ، والله أعلم.

ثم لما قال : (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) لم يقل : إلى الجمعة ، ولا : لها ؛ دل أنه قبل الجمعة

__________________

(١) أخرجه الشافعي في الأم وعبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير (٣٤١٠٣) ـ (٣٤١٠٨) وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف والبيهقي في سننه عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٣٢٨) وذكر له طرقا أخرى فانظرها.

(٢) انظر ما يأتي.

(٣) أخرجه ابن المنذر عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٣٢٨).

(٤) أخرجه عبد الرزاق والفريابي وأبو عبيد وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير (٣٤١٠٩) و (٣٤١١٠) وابن المنذر ، وابن الأنباري والطبراني من طرق عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٣٢٨) وذكر له طرقا أخرى فانظرها.

(٥) أخرجه مسلم (٢ / ١٠٣٠) كتاب تحريم نكاح المحرم (٤١ / ١٤٠٩) وأبو داود (١ / ٥٧٠) كتاب المناسك ، باب : المحرم يتزوج (١٨٤١) و (١٨٤٢) والترمذي (٢ / ١٨٩) أبواب الحج ، باب : ما جاء في كراهية تزويج المحرم (٨٤٠) ، وابن ماجه (٣ / ٣٨٩) كتاب النكاح (١٩٦٦) من حديث عثمان بن عفان.

١٢

ذكر يجب الاستماع إليه والسعي إليه ؛ فدل هذا على فرضية الخطبة ، ولما ثبت أن المعنى من قوله : (إِلى ذِكْرِ اللهِ) أن المراد بالذكر الخطبة ، ثم أمر بترك البيع للسعي إلى هذا الذكر والاستماع له ـ ثبت أن الكلام في وقت الخطبة مكروه ، وفي وقت خروج الإمام إلى الخطبة مكروه أيضا ؛ لأن البيع في ذلك الوقت مكروه ، والبيع كلام ؛ فيدل على كراهية كل كلام ؛ فيدل على صحة مذهب أبي حنيفة ـ رحمه‌الله ـ في أنه يلزم السكوت إذا خرج الإمام حتى يفرغ من الصلاة ، وعلى ذلك ورد الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من أتى الجمعة ثم صلى ما شاء أن يصلي ، ثم إذا خرج الإمام سكت إلى أن يفرغ من صلاته ـ كان ذلك كفارة له من الجمعة إلى الجمعة وزيادة ثلاثة أيام بعده» (١) ، فلما ألزمه السكوت من حين يخرج الإمام إلى أن يفرغ من الصلاة ، ثبت أن الكلام في ذلك الوقت مكروه ، والله أعلم.

قال : وفي هذه الآية دلالة على كذب من قال : إن الصلاة إنما تفترض في آخر الوقت ، وأن من أدى فرضا في أول وقت فإنما يؤدي تطوعا ؛ لأنه أمره بالسعي وفرض عليه إذا نودي ، ومعلوم أنه إذا تهيأ للإمام تأخير الصلاة في ذلك الوقت نص عليه مع ذلك ؛ فدل هذا على كذب مقالتهم ، والله أعلم.

وأقبح من هذا أنهم قالوا : إن الصلوات مفروضات على الكفرة في حال كفرهم وعلى المسلمين تطوع مع أنه يجيء على قولهم : إنه ليس أحد من الأمة أدى فرضا البتة ؛ لأنه لم يذكر عن أحد منهم أنه فرط في أداء الصلاة حتى خاف خروج وقتها ، فهذا قول قبيح يجب أن يستتاب عنه صاحبه وعن أمثاله ، والله أعلم.

وفي هذه الآية دلالة على أن الجمعة لا تجب على من بعد من الإمام بفرسخين ؛ لأنه أمره بالسعي بعد النداء ، ومن بعد فرسخين ، قد يخرج وقت الجمعة ولا يدركها ؛ فثبت أنه على ما دونه وهو أن يكون في حد الأمصار ، والله أعلم.

ثم الوقت الذي نهي عن البيع فيه يوم الجمعة : عن مسروق وجماعة : هو وقت الزوال إلى أن يفرغ الإمام من الجمعة.

وعن مجاهد والزهري : أنه ينهى عن البيع بعد النداء ؛ عملا بظاهر الآية : (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) ، والأول أشبه ؛ لأنه إنما يجب الحضور إلى الجمعة عند دخول الوقت وهو زوال الشمس وإن تأخر النداء ؛ ولأن النداء بعد الزوال غير معتبر فكان وجوده وعدمه سواء.

__________________

(١) أخرجه مسلم (٢ / ٥٨٧) كتاب الجمعة ، باب : فضل من استمع وأنصت في الخطبة (٢٦ / ٨٥٧) من حديث أبي هريرة بنحوه.

١٣

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ).

أي : رحمة الله ؛ هذا خرج في الظاهر مخرج الأمر ، ولكنه في حكم الإباحة عندنا ؛ لأن هذا أمر خرج على أثر الحظر ، والأصل المجمع عليه عندهم : أن كل أمر خرج على أثر الحظر فهو في حكم الإباحة ، وما خرج مخرج الإباحة فإن الحكم فيه يتصرف على تصرف الأحوال ، فإن كانت الحالة توجب فرضيته كان فرضا ، وإن كانت توجب واجبا فواجب ، وإن أدبا فأدب.

والدليل على أن كل أمر خرج على أثر الحظر ، فهو في حق الإباحة ـ قوله تعالى : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) [المائدة : ٢] ، وقوله : (فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) [البقرة : ٢٢] ، ولم يكن ذلك محمولا على الفرض والحتم الذي لا يجوز تركه ، ولكن على إباحة الاصطياد ، أي : اصطادوا [إن] شئتم ، وأتوهن إن أردتم ، فكذلك يجوز أن يكون المعنى من قوله : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) على ذلك الوجه ، وإذا كان الأمر على هذا السبيل صار كأنه قال : فإذا قضيت الصلاة التي نودي لها ، فانتشروا في الأرض إن أردتم أو إن شئتم ، والله المستعان.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ).

يعني : التجارة والكسب ، قال : البيع ؛ كأنه ينتظم ابتغاء فضل الله ، لكن قال فيما خرج [مخرج] الإذن والإطلاق : (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) ، وقال فيما نهى عن ذلك : (وَذَرُوا الْبَيْعَ) ، وإن كان المراد منهما جميعا البيع ؛ لأن كان يقبح أن يقول : وذروا ابتغاء فضل الله ؛ ولأن ابتغاء الفضل يتضمن البيع وغيره ؛ فلا يستقيم أن يقال : «وذروا ابتغاء فضل الله» ، فقال هاهنا (وَذَرُوا الْبَيْعَ) ؛ ليلحقه النهي خاصة ، وأما الإطلاق والإذن ، فإنه يستقيم في البيع وغيره ، فقال : (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) ، والله المستعان.

وقوله : (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً) ، يحتمل وجهين :

أحدهما : اذكروا الله كثيرا بألسنتكم وقلوبكم.

والثاني : اذكروا الله بالإقبال على الطاعات التي فيها تحقق ذكر الله.

وقوله : (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ، له أوجه :

أحدها : على رجاء الفلاح.

والثاني : أي : لكي تفلحوا.

والثالث : على قطع وجوب الفلاح إذا فعل ذلك ؛ بما قالوا : إن (لعل) و (عسى) من الله تعالى واجب.

وقوله : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً).

١٤

التجارة واللهو لا يريان في الحقيقة ، وإنما يرى اللاهي والتاجر ، ولكنه ذكر فيه الرؤية ؛ لقرب اللهو من اللاهي والتجارة من التاجر ، كما قال تعالى : (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) [التوبة : ٦] وكما يقال : سمعت كلام فلان ، والكلام ليس بمسموع في الحقيقة ، وإنما المسموع في ذلك الصوت الذي به يفهم كلامه ، ولكن أطلق لفظ السماع في ذلك لتقاربهما ، والله أعلم.

وبعد ، فإن المعنى من هذا ـ والله أعلم ـ ليس نفس الرؤية ؛ وإنما المعنى منه عندنا : كأنه قال : (وإذا علموا) ؛ وذلك أنهم كانوا لا يرون التجارة ، ولكن ينهى إليهم خبرها فيعلمون بها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (انْفَضُّوا إِلَيْها).

ولم يقل : (إليهما) وقد ذكر شيئين ، ولم يلحق ما بعدهما من الكناية بهما ، بل بأحدهما ، ويجوز مثل ذلك ؛ كقوله : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها) [التوبة : ٣٤] ، ولم يقل : (ولا ينفقونهما) لرجع الكناية إلى جميع ما سبق ذكره ، وكما قال : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) [البقرة : ٤٥] وقد رجعت الكناية إلى أحد المذكورين لا إليهما ، وكذلك هذا ، وهذا ؛ لأن المقصود من خروجهم إنما كان هو التجارة دون اللهو ، ولكنهم إنما يعلمون ما يجلب إليهم بذلك اللهو ؛ فجاز أن يكون ذكر الله لهذا المعنى ، وإنما المقصود من ذلك التجارة ، وكذلك قوله : (وَلا يُنْفِقُونَها) [التوبة : ٣٤] فذكر حق الإنفاق فيما كان الإنفاق منه أيسر وأسهل في المتعارف وذلك الفضة ، وإن كان الحق واجبا فيهما جميعا ؛ لما أن المقصود [واحد] وهو الصرف إلى الفقراء فعلى ذلك هاهنا ، وأما المعنى منه عندنا : إنما خص الصلاة برجوع الكناية إليها ؛ لأنها ثقلت على اليهود ؛ لأن القبلة كانت أولا إلى بيت المقدس فلما حولت إلى الكعبة ثقلت الصلاة إلى الكعبة على الكفار ، فقال : (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ) [التوبة : ٣٤] يعني : الصلاة إلى الكعبة ، والله أعلم.

فإن قيل : كيف جاز أن ينفر أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في الخطبة إلى اللهو والتجارة ، مع جلال قدرهم وتعظيمهم للنبي عليه‌السلام ، وكذلك السؤال عن ضحكهم حين دخل الأعمى المسجد فوقع في بئر؟!

والجواب عن هذا أن القوم كانوا حديثي عهد بالإسلام ، وكانوا من سوقة القوم ومن سفلتهم ، ولم يكونوا عرفوا حق الخطاب وحق الخطبة عليهم ، وكانت تلك تجارة يأملون منها منافع لو لم يبادروا إليها ذهبت عنهم ، فإنما خرجوا من المسجد ؛ جهلا منهم بحق

١٥

الخطبة والخاطب.

وبعد فإنهم لم يكونوا من أجلة القوم ، ولا صاحبوا أجلتهم ؛ ليعرفوا حق الخطبة والخاطب ، فانفلت منهم الزلة ، ومن مثلهم هذه ، فأما الذين كانوا من أجلة الصحابة ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ ومن علمائهم ، فلم ينفر واحد منهم.

وكذلك الضحك أيضا يجوز أن يكون من ضحك من أتباع القوم وسفلتهم ، ولم يكونوا من الأجلة والنجباء ، ولا يستنكر من مثل أولئك هذا الصنيع ، والله أعلم.

قال : والمعنى من ترك النبي عليه‌السلام نهيهم عن الخروج ـ وجهان :

أحدهما : أن يكون الكلام كان محرما وقت الخطبة ؛ فلم ينههم للنهي عن الكلام في ذلك الوقت.

والثاني : يجوز أن يكونوا أسرعوا الخروج ؛ فلم يبلغهم نهيه ، أو لم ينههم ؛ لما علم أنهم لم يسمعوا ، والله أعلم.

وفي الخبر أنه عد الذين ثبتوا معه بعد ما فرغ من الصلاة فوجدهم اثني عشر رجلا ، فقال : «لو لحق آخركم بأولكم لاضطرم الوادي نارا» (١) أي : المدينة ، ففي هذا دلالة على أن الجمعة تقام بدون الأربعين ؛ لأنه ـ عليه‌السلام ـ جمع باثني عشر رجلا ، والله أعلم.

وقوله : (وَتَرَكُوكَ قائِماً).

هذا يدل على [أن] الخطبة إنما تكون قائما.

وقوله : (قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ).

قال إمام الهدى : ولو لا هذا قد كان يعلم أن ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة ، ولكن المعنى من ذلك ـ والله أعلم ـ أن الدنيا كلها متجر ، وأن أهلها فيها تجار : إما تجارة الدنيا ، أو تجارة الآخرة ؛ لأن الطاعة والعبادة في الاعتبار كأنها تجارة ؛ لأنه يكتسب بها منافع الآخرة ، وتجارة الدنيا يكتسب بها منافع الدنيا ، فقال : التجارة التي عند الله في طاعته واكتساب منافع الآخرة خير من اللهو ، ومن التجارة التي يكتسب بها منافع الدنيا ، والله أعلم.

وجائز أن يكون معناه كأنه قال : اتقوا الله ؛ فإنكم إذا اتقيتموه اكتسبتم به المنافع في الرزق وغيره ، والتجارة الدنيوية لا يكتسب بها إلا منافع الدنيا ؛ ألا ترى إلى [قوله] : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) [الطلاق : ٢ ، ٣] ، وقال في

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٣٤١٤١) وعبد بن حميد عن قتادة مرسلا كما في الدر المنثور (٦ / ٣٣٢) وله شواهد موصولة ومرسلة ، فانظرها في المصدر السابق.

١٦

موضع آخر : (يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ) [التغابن : ٩] ، فإذا كانت التقوى يستفاد بها الرزق والبر في الأمور وكفارة الذنوب ، والتجارة لا يكتسب بها إلا منافع الدنيا ، فرغبهم فيما فيه جملة المنافع وهو التقوى ؛ ليمكثوا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيقول : رغبتكم فيما يكسبكم جملة المنافع إن اتقيتم ومكثتم عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خير من اللهو ومن التجارة التي تكسبكم منفعة واحدة ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ).

ليس يقتضي ذكر هذا أن هناك رازقا آخر ؛ ليكون هو خيرهم ، ولكن المعنى من هذا [كالمعنى] في قوله : و (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٤] و (أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) [هود : ٤٥] ؛ لأنه كان هو خير الرازقين ، وأحسن الخالقين ، وأحكم الحاكمين ؛ لأنه لا يحكم إلا عدلا ، ولا يخلق إلا ما فيه حكمة ؛ فكذلك قوله : (وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ).

وجائز أن يضاف الرزق والخلق والحكم إلى العبيد مجازا ، فقال : (وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) ممن يرزقكم ؛ لأن غيره من الخلق إنما يرزق غيره من رزقه ، ويعدل بحكمه ، ويفعل بتوفيقه وتسديده ، فقال : (وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) الذين يرزقون من رزقه ، والله أعلم.

* * *

١٧

سورة المنافقون مدنية

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (١) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٣) وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٤) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٥) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٦) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (٧) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ)(٨)

قوله ـ عزوجل ـ : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ).

اختلفوا في تأويل قوله تعالى : (نَشْهَدُ) :

قال بعضهم : (نَشْهَدُ) بمعنى : نقسم ونحلف.

وقال بعضهم : (نَشْهَدُ) على ابتداء الشهادة.

فمن حمله على القسم قرأه اتخذوا أيمانهم جنة يعني : حلفهم ، ومن حمله على الشهادة ابتداء قرأ : اتخذوا إيمانهم يعني : تصديقهم ، ليس أنها قراءة واحدة فقرئت بلفظين ، ولكنهما كانا جميعا فقرئت بالمعنيين جميعا ، والله أعلم.

وقوله : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ).

والإشكال أن كيف قال الله تعالى : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) ، وهم إنما قالوا : (نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) ، ومعلوم أن هذا القول منهم صدق ، ولكن المعنى من هذا ـ والله أعلم ـ أنهم طعنوا فيما أظهروا من الخلاف والتكذيب عند غير رسول الله ، فحسبوا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اطلع على صنيعهم فأتوا رسول الله يعتذرون إليه ، ويقولون : (نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) وأن ما بلغك منا من القول كذب وما قلناه ، فأخبر الله تعالى أنهم لكاذبون فيما أخبروا أنهم ما قالوه ، ألا ترى إلى قوله : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ) [التوبة : ٧٤].

ويحتمل أن يكون معناه : إنا نشهد أن في قلوبنا إنك لرسول الله كما نظهره بألسنتنا ،

١٨

فأخبر تعالى أن المنافقين لكاذبون فيما يشهدون بالإيمان في قلوبهم ، ويعلم أن يكون المعنى من قوله : (نَشْهَدُ) أي : نعلم برسالتك في قلوبنا ، والله يشهد إن المنافقين لكاذبون فيما أخبروا أنهم يعلمون رسالته في قلوبهم ، وقد كان ألزمهم برسالته من جهة الآيات والحجج ، ولكن تعاموا عن ذلك العلم استخفافا منهم وتعنتا ؛ فصار ذلك العلم كالجهل الحقيقي ، ثم أخبروا هم عن أنفسهم وضمائرهم أنهم يعلمون ، وأخبر الله أنهم لكاذبون أنهم يعلمون برسالته ، والله أعلم.

ثم الواجب أن يعلم ما الذي أحوجهم إلى أن قالوا : (نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) ، وقد كان كثير من المؤمنين يلقون رسول الله ولا يقولون ذلك ، فكيف قال المنافقون ذلك؟! فمعناه عندنا ـ والله أعلم ـ : أنهم حيث اعتادوا مخادعة الله ورسوله امتحنهم الله تعالى بهذه المقالة. ويحتمل أن يكونوا جروا على عادتهم أنهم إذا لقوا المسلمين قالوا : بمثل ما آمنتم ، وإذا لقوا المشركين قالوا : (إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) [البقرة : ١٤] ، فإذا لقوا رسول الله قالوا : (نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) على عادتهم في كل جنس بما يليق به وبمذهبه ، والله أعلم.

ويجوز أن يكونوا يخافون أن قد بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خلافهم وتكذيبهم ؛ فكانوا إذا لقوه قالوا : (نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) ، اعتذارا عن ذلك الخلاف لو بلغه ؛ ألا ترى إلى قوله : (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) كانوا يحسبون من سوء ما يضمرون في قلوبهم من النفاق أن كل من كلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنما كلمه بسببهم ، فكذلك الأول ، والله أعلم.

ثم قال هاهنا : (نَشْهَدُ) ولم يقل (نشهد بالله) ؛ لأن المعنى من هذا الحلف ، والحلف من المؤمنين في المتعارف إنما يكون بالله تعالى ؛ فلذلك أجزئ بقوله : (نَشْهَدُ) عن قوله : (بالله) فيكون هذا دليلا لقول أصحابنا : إن قوله : (نَشْهَدُ) يكون يمينا حيث ذكر هاهنا بطريق القسم ، والمعنى ما أشير إليه ، والله أعلم.

وقوله : (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) ، له تأويلان :

أحدهما : (فَصَدُّوا) أي : أعرضوا بأنفسهم عن طاعة الله والإيمان برسوله.

والثاني : أن صدوا الضعفة عن اتباع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعن الإيمان.

وقوله : (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

أي : بئس ما كانوا يعملون من الإعراض عن الآيات والحجج ، وحيث آثروا الكفر على الإيمان.

ويحتمل : بئس ما كانوا يصنعون من صد الضعفة والأتباع عن الإيمان برسول الله ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

١٩

وقوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا) ، له تأويلان :

أحدهما : ذلك بأنهم آمنوا بلسانهم ثم كفروا بقلوبهم.

والثاني : على حقيقة الإيمان والكفر ، وذلك أنهم لما رأوا قلة المسلمين وضعفهم في أنفسهم يوم بدر ، ثم رأوهم مع هذه القلة والضعف غلبوا على الكفار مع كثرتهم ـ آمنوا برسول الله ورأوا أنهم لا يغلبون أبدا ، ثم إن المسلمين لما غلبوا يوم أحد وأصابهم [الكفار] ، اضطربوا في إيمانهم وشكوا وكفروا ؛ وذلك بمعنى قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ) [الحج : ١١] فكذلك تأويل قوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا).

وقوله : (ذلِكَ) إشارة إلى أن السبب الذي تولد منه نفاقهم وحلفهم.

وقولهم : (نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) هو أنهم آمنوا ثم كفروا.

وجائز أنه لم يكن منهم حقيقة إيمان ولا كفر ، ولكنهم كانوا أقواما همتهم الدنيا وسعتها ، وكانوا يكونون مع من يكون معه الدنيا إن رأوها مع المؤمنين أظهروا من أنفسهم أنهم مؤمنون ، وإن رأوها مع الكفار أظهروا أنهم كفار دون أن يكون منهم حقيقة إيمان أو كفر ، والله المستعان.

وقوله : (فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ).

الطبع يجوز أن يكون كناية عن ستر وظلمة في قلوبهم ؛ فلا يرون بها الحق وحججه.

قال : ويجوز أن يجعل الله تعالى الكفر ظلمة في القلب لا يبصرون به الحجج والآيات.

أو يجوز أن يجعل الكفر كنّا في قلبه ؛ ليضيق ؛ فلا يرى من بعد ذلك منافعه ومضاره إلا من ذلك الوجه فيكفر ، وأيهما كان فذلك معنى الآية ، يعني : أن اشتغالهم بالكفر وكسبهم إياه غطى قلوبهم وسترها عن أن يبصروا الحق وحججه ، والله أعلم.

قال الفقيه ـ رضي الله عنه ـ في قوله : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) أن المنافقين لم يجيئوا بأجمعهم رسول الله ، وإنما جاءه بعضهم ، وكذلك في قوله : (نَشْهَدُ) أن المعنى من قوله : (نَشْهَدُ) في بعض التأويلات : نقسم ، والقسم ليس من فعل الأتباع والسفلة ، وإنما ذلك من فعل الأجلة والرؤساء ؛ فدل أنه إنما تعاطى هذا الفعل بعض المنافقين ، ثم ذكر الله تعالى ذلك البعض بصيغة الكل ؛ فعلم أنه ليس كل ما خرج في الظاهر مخرج العموم يتناول كل من دخل تحت ذلك الاسم ، ولكنه ينظر في معنى اللفظ وحقيقته ، فإن كان الدليل يوجب تعميمه أجري على عمومه ، وإن كان يوجب

٢٠