تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٩٥

قال بعضهم : إذا شخص البصر نحو الداعي يوم القيامة ، وهو كقوله ـ عزوجل ـ : (لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) [إبراهيم : ٤٢] ، فيشخص ببصره إلى الداعي ؛ لأنه قد علم أن الذي حل به من بأس الله تعالى هو لامتناعه عن الإجابة للداعي في هذه الدنيا ؛ فيسارع يوم القيامة في إشخاص بصره إلى الداعي ؛ ابتدارا منه إلى إجابة الداعي.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَخَسَفَ الْقَمَرُ) ، أي ذهب ضوؤه ونوره ؛ ففيه أن العالم في ذلك اليوم يغير ويبدل ، كقوله ـ تعالى ـ : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) [إبراهيم : ٤٨] ، وقال : (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً) [الكهف : ٤٧] ، وقال : (يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً. فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً) [طه : ١٠٥ ، ١٠٦].

وقوله ـ تعالى ـ : (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) :

فيه أن سلطانهما يذهب ؛ فلا يعملان عملهما بعد ذلك.

ثم من الناس من زعم أنهما يجمعان يوم القيام كالبعيرين القرينين ، أو كالثورين القرينين ، فيلقيان في النار ، ويعذبان بها.

وذكر عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه أنكر هذا ، وقال : «إنهما خلقان لله تعالى ، طائعان له ـ عزوجل ـ ألا ترى إلى قوله ـ تعالى ـ : (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ) [إبراهيم : ٣٣] يدأبان في طاعة الله تعالى ، ومن كان هذا وصفه ؛ فلا يجوز أن يعذب».

وعندنا أن إلقاءهما إن ثبت ، فهما يلقيان في النار ؛ ليعذب بهما غيرهما ، وهم الذين عبدوهما من دون الله تعالى ، وذلك كقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) الآية [الأنبياء : ٩٨] ، ومعلوم أن (١) الأصنام التي عبدت من دون الله لا تعذب بالنار ، ولكنها تجعل حصبا ونارا يعذب بها من عبدها ، وقال [الله](٢) تعالى : (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً) [المدثر : ٣١] ، ولا يجوز أن يكون الملائكة يمسهم أذى النار ، بل هم الذين يعذّبون ؛ فعلى ذلك الشمس والقمر إن ثبت أنهما يلقيان في النار ، فهما يلقيان ؛ ليعذب بهما من عبدهما ، لا أن يعذبا بأنفسهما ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ) جائز أن يكون قوله : (أَيْنَ الْمَفَرُّ) على طلب الحيلة أن كيف أحتال إلى أن أفر؟ وإلى من ألتجئ ؛ لأتخلص من بأس الله وعذابه؟!

ويحتمل أن يكون قوله : (أَيْنَ الْمَفَرُّ) ، أي : ليس لي (٣) موضع فرار عما حل بي ؛

__________________

(١) في ب : بأن.

(٢) سقط في ب.

(٣) في أ ، ب : في.

٣٤١

لإيقانه أن ليس له مفر.

وجائز أن يكون هذا كله عند الموت على ما ذكرنا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (كَلَّا لا وَزَرَ)

ذكر أهل التأويل أن الوزر هو الجبل (١) بلغة حمير (٢).

وذكر عن الحسن قال : كانت العرب يخيف بعضها بعضا ، ويغير بعضها على بعض ؛ فكان يكون الرجلان في ماشيتهما فلا يشعران حتى يريا نواصي الخيل ، فيقول أحدهما لصاحبه : الوزر الوزر ، يعني : الجبل (٣) ؛ فكأنه يقول : ليس لهما إذ ذاك تفريج ولا تسلّ من الأحزان كما يتسلى من يأوي إلى الجبل في الدنيا عن بعض ما يحل به من الأفزاع.

وقيل : الوزر : الملجأ.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) ، فتأويله : أنه ينبأ من أول ما عمل إلى آخر ما انتهى (٤) إليه عمله ؛ كقوله : (لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) [الكهف : ٤٩].

وقال بعض أهل التأويل (٥) : بما قدم من أنواع الطاعة ، وما أخر من حق الله تعالى من اللوازم التي كانت عليه.

وقال بعضهم : بما أعلن ، وأسر.

وقال بعضهم (٦) : بما قدم في حياته من أعمال ، وما أخر ، أي : ما سن من سنة ، فاستن [بها](٧) بعد موته.

وقد ذكرنا أنه باللطف من الله تعالى ما يعلم بالذي قدم من الأعمال وأخرها ، فيتذكر بذلك حتى يصير ما كتب في الكتاب حجة عليه ؛ وإلا فالمرء في هذه الدنيا إذا كتب كتابا ، ثم أتت عليه مدة ، لم يتذكر جميع ما كتب فيه ، ولا وقف على علم ذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ. وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) :

هذا يخرج على وجهين :

__________________

(١) في ب : الخيل.

(٢) قاله الضحاك أخرجه ابن جرير عنه (٣٥٥٨٧).

(٣) أخرجه ابن جرير (٣٥٥٧٥) ، وابن المنذر عنه ، كما في الدر المنثور (٦ / ٤٦٦). وفي ب : الخيل.

(٤) في ب : ينتهي.

(٥) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٣٥٥٩٨ ، ٣٥٥٩٩) وعبد بن حميد عنه ، كما في الدر المنثور (٦ / ٤٦٦).

(٦) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٣٥٥٩١) ، وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٦ / ٤٦٦) وهو قول ابن مسعود أيضا.

(٧) سقط في ب.

٣٤٢

أحدهما : جائز أن يكون أراد بهذا في الدنيا : أن الإنسان بصير بعمل نفسه ، وإن جادل عنها : أنه لم يفعل ذلك ، وأسر ذلك عن الناس ، (وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) ، أي : أرخى الستور بما كسبت (١) نفسه ، والمعذار هو الستر.

والوجه الثاني : أن يكون في الآخرة ، وهو يحتمل وجهين :

أحدهما : أن الإنسان وإن كان يعتذر يوم القيامة بقوله : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣] ، وقال : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ) [المجادلة : ١٨] ، فيقدمون على الحلف ؛ اعتذارا منهم على العلم منهم أنهم مبطلون في جدالهم.

والثاني : أن يكون معنى البصيرة : الشاهد ، أي : أن الإنسان على نفسه شاهد يوم القيامة بسوء أفعاله ، (وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) ، أي : وإن ستر على نفسه ، شهدت عليه جوارحه ، وذلك نحو قوله ـ عزوجل ـ : (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) [يس : ٦٥] وقوله ـ عزوجل ـ : (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ ..). الآية [فصلت : ٢٠].

فإن قيل : إن الإنسان مذكر ، كيف وصف بالبصر بلفظة التأنيث بقوله : (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) ، ولم يقل «بصير»؟

فجوابه من أوجه :

أحدها : ما قيل : إن الإنسان تسمية جنس فيه الجماعة ، لا أن يكون تسمية للشخص الواحد فقط ؛ ألا ترى إلى قوله : (وَالْعَصْرِ. إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) [العصر : ٣] ، استثنى الذين آمنوا من قوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) ، ولا يستثنى الجماعة من الواحد ، وكذلك قوله ـ عزوجل ـ : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ. ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) [التين : ٤ ـ ٦] ، فاستثنى الذين آمنوا من الإنسان ؛ فثبت أن الإنسان تسمية جنس ، والجنس جماعة ، وتكون الجماعة مضمرة فيه ؛ كأنه قال : إن جماعة الناس على أنفسهم بصيرة ؛ فيكون قوله : (بَصِيرَةٌ) راجعا إلى الجماعة ، والله أعلم.

وجواب ثان قوله : (بَصِيرَةٌ) وصف للإنسان بالغاية من البصر بكل ما عمل ، حتى لا يعزب عنه شيء ، والهاء قد تدخل في خطاب المذكر عند الوصف بالمبالغة ؛ كقولك : فلان علامة ونسابة ، وراوية للشعر ، وبالغة في النحو.

والثالث : أن الإنسان تسمية ما يراه بجوارحه كلها من الأيدي والأرجل والسمع والبصر

__________________

(١) في ب : كسب.

٣٤٣

والرأس وغير ذلك ، وفيها نفس أمارة بالسوء ؛ فتصير جوارحه كلها بصيرة ، أي : شاهدة عليه بما قدم وأخر.

وجائز أن يكون هذا على الإضمار ؛ فيكون قوله : (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) ، أي : نفس الإنسان بصيرة بما عملت.

ثم من الناس من يثبت للجوارح العلم بما كسبت نفسه ؛ حتى تصير شاهدة عليه يوم القيامة بقوله : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [النور : ٢٤] ، ولو لم يكن لها العلم بما قدمت نفسه ، لكانت لا تشهد بما لا تعلم.

وليس الأمر عندنا على ما زعموا ؛ لأنها لو علمت بذلك ، لكان صاحبها يصل إلى العلم من جهتها ؛ ألا ترى أن القلب لما ثبت له المعرفة ، وقع لصاحبه العلم من جهته ، وكذلك السمع لما حصل (١) فيه السمع ، وقع لصاحبه علم المسموع به ، ولما كان بعينه يبصر الأشياء كان علم البصر واقعا من جهتها ؛ فلما لم يقع له العلم بيديه ، ولا برجليه ، ولا بشيء من جوارحه سوى القلب ـ علم أنه لا حظ لها في المعرفة ، ولكن جعلت هي شاهدة وحجة يوم القيامة تشهد على صاحبها ، بما يحدث الله تعالى فيها علما ضروريّا بذلك ، لا أن كان لها علم بالذي شهدت قبل ذلك ، كما جعلت نطوقه في ذلك الوقت ، لا أن كان النطق فيها موجودا من قبل ، والله أعلم.

قوله تعالى : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ)(١٩)

وقوله ـ عزوجل ـ : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) :

هذا كلام مبتدأ منفصل عن الأول ، وذكر أهل التأويل أن جبريل ـ عليه‌السلام ـ كان إذا أتى نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالوحي ، فكان لا يفرغ من آخر آية حتى يقول نبي الله ـ عليه‌السلام ـ في أولها ؛ مخافة النسيان ، على ما عليه عرف الخلق أنهم إذا أرادوا وعي الكلام وحفظه ، كرروها بألسنتهم ؛ كي يضبطوها ولا ينسوها ؛ فكان النبي ـ عليه‌السلام ـ يفعل ذلك (٢) ؛ خشية النسيان ؛ فنهي عن ذلك بقوله : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) ، وهو كقوله : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) [طه : ١١٤].

وهذا عندنا مما لا يجوز أن نشهد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يحرك لسانه قبل مجيء

__________________

(١) في أ : جعل.

(٢) في ب : كذلك.

٣٤٤

هذه الآية ، ويستذكره ؛ مخافة النسيان إلا بأخبار متواترة ؛ لأن هذا في حق الشهادة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [ولا تجوز الشهادة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم] أنه كان يفعل كذلك إلا بتواتر الأخبار ، فأما أن يثبت بخبر واحد فلا.

ولا يقال بأنه لو لم يتقدم منه التحريك ، لكان لا معنى للنهي ؛ فإنه ليس فيه ما يثبت (١) مقالتهم ، ويصحح تأويلهم ، ويسوغ لهم الشهادة ؛ لأنه يستقيم في الابتداء أن ينهى (٢) فيقال : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ) ، ولا تفعل كذا ، وإن لم يسبق منه ارتكاب ذلك الفعل ، ولا تقدم منه تحريك لسان ؛ فثبت أنه ليس في ضمن هذه الآية بيان ما ادعوا.

هذا إذا ثبت أن قوله : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ) ، وقوله : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) [طه : ١١٤] على النهي ؛ فكيف وهو يحتمل معنى آخر غير النهي ، وهو أن يكون هذا على البشارة له بالكفاية : أن قد كفيت مئونة الاستذكار للحفظ (٣) ، وهذا من عظيم (٤) آيات الرسالة أن السورة تلقى عليه ؛ فيحفظها كما هي ، مما يشتد على الناس حفظه وقراءته إلا أن يتكلفوا ، ويجتهدوا في ذلك ؛ فيعلم بهذا أن الله ـ عزوجل ـ هو الذي أقدره على ذلك ، وجعله آية من آياته ، والله أعلم.

ثم الأصل أن من ألقى إلى آخر كلاما متتابعا ، نظر في ذلك الكلام :

فإن كان القصد منه حفظ عين الكلام ، فإن المخاطب به لا ينتظر فراغ المتكلم عن ذلك الكلام ، بل يشتغل بالتقائه (٥) وتحفظه ساعة ما يلقى إليه ، كمن ينشد بين يدي آخر شعرا ، وأراد الآخر أن يحفظ ذلك الشعر ويعيه ، فهو لا ينتظر فراغ المنشد عن شعره ، بل هو يأخذ بالتقائه في أول ما يسمع منه ؛ إذ الغرض من الأشعار حفظ أعينها دون معانيها ؛ ألا ترى أن الألفاظ إذا حذفت منها خرجت عن أن تكون شعرا.

وأما إذا لم يكن القصد من الكلام ضبط عينه ، وإنما أريد به تفهيم ما أودع فيه من المعنى ، فالعادة في مثله الإصغاء إلى آخر الكلام ؛ ليفهم معناه ، وما يراد به ؛ ألا ترى أن من كتب إلى آخر كتابا فإن المكتوب إليه يقرأ الكتاب من أوله إلى آخره ؛ ليعرف مراد الكتاب ، لا أن يشتغل بضبط ما أودع فيه من الألفاظ ؛ إذ ليس يقصد بالكتابة إلى حفظ الألفاظ.

__________________

(١) في ب : ثبت.

(٢) في ب : ينتهي.

(٣) في ب : للتحفظ.

(٤) في ب : عظم.

(٥) في أ : بإتقانه.

٣٤٥

فإذا كان المراد يتوجه من الكلام إلى ما ذكرنا ، ثم القرآن قصد به الوجهان جميعا : ضبط حروفه ونظمه ، وتعرف ما أودع فيه من المعاني ؛ إذ صار حجة بنظمه ولفظه ، وبالمعاني المودعة فيه ـ فقيل : لا تعجل بتحريك اللسان كما يفعل من يريد التقاء الكلام الذي يلقى إليه ؛ فإنك وإن أحوجت إلى حفظ نظمه وحروفه ، فقد كفيت حفظه بدون تحريك اللسان.

وجائز أن يكون نهي عن تحريك اللسان والمبادرة إلى حفظه قبل أن يقضى إليه بالوحي ؛ لما فيه من ترك التعظيم لمن يأتيه بالوحي ، فأمر أن يصغي إليه سمعه ، ويستمع إلى آخره ؛ تعظيما للذي أتاه بالوحي ، وتوقيرا له.

ثم هذه الآية تنقض على الباطنية قولهم ؛ لأن من قولهم : إن القرآن لم ينزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مؤلفا منظوما ؛ بل أنزل على قلبه كالخيال ، فصوره بقلبه ، وألفه بلسانه ؛ فأتى بتأليف ، عجز الآخرون عن أن يؤلفوا مثله.

ونحن نقول : بل أنزل هذا القرآن مؤلفا منظوما على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يكن التأليف من فعله ؛ والذي يدل على صحة مقالتنا قوله تعالى : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ) ؛ لأن التأليف لو (١) كان من فعله ـ عليه‌السلام ـ لكان لا يوجد منه تحريك اللسان وقتما نزل عليه ؛ لأنه إذا كان كالخيال فهو يحتاج إلى أن يصوره في قلبه ، ثم يصل إلى التأليف بعد التصوير ، وتتأتى له العبارة باللسان (٢) ، وإنما يقع التحريك من مؤلّف منظوم ؛ ثبت أنه أنزل هذا مؤلف منظوم.

والثاني : أنه قال : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) [النحل : ١٠٣] ، فهذه الآية نفت طعن أولئك الكفرة الذين زعموا (٣) أن هذا ليس بقرآن ، بل إنما علمه فلان ، وكان لسان ذلك البشر أعجميا ، وهذا القرآن عربي ؛ فكيف يستقيم أن يعلمه ذلك البشر ، ولسانه غير هذا اللسان ، ولو كان هذا القرآن وقتما أنزل كالخيال ، لكان ذلك الطعن قائما ؛ لأنه كان يؤلفه ، ويجمعه باللسان العربي ، وإن علم بالأعجمية لما قدر أن يؤلفه ، وينظمه بعد أن كان خيالا باللسان العربي.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) :

__________________

(١) في ب : و.

(٢) في ب : وباللسان.

(٣) في أ : يزعمون.

٣٤٦

فقوله : (عَلَيْنا) يخرج على أوجه ثلاثة :

أحدها : أن علينا في حق الوعد جمعه وقرآنه ؛ لأنه قد سبق منا الوعد في الكتب المتقدمة بإنزال هذا القرآن وإرسال هذا الرسول ؛ فعلينا إنجاز ذلك الوعد ووفاؤه.

أو علينا في حق الحكمة جمعه ؛ لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بتبليغ الرسالة ، ولا يتهيأ له ذلك إلا بعد أن يجمع له فيؤديه إلى الخلق.

ولأن الله تعالى حكيم في فعله ؛ ففعله موصوف بالحكمة ، وإن لم نعرف نحن وجه الحكمة في فعله.

وجائز أن يكون قوله : (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ) في حق الرحمة والرأفة على الخلق ، لا أن يكون ذلك حقا لهم قبله تعالى ، وهو كقوله ـ تعالى ـ : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ..). إلى قوله : (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) [الإسراء : ٨٦ ، ٨٧] ، فأخبر أنه أبقى القرآن ، ولم يذهب به ؛ رحمة منه على عباده وفضلا.

وقوله ـ عزوجل ـ (وَقُرْآنَهُ) ، أي : قراءته ، وتسميته : قرآنا ؛ كما قيل في تأويل قوله : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ) [الإسراء : ١٠٦] ، أي : جعلناه فرقانا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) :

أي : جمعناه في قلبك ، أو جمعنا حدوده (١) ، وما أودع فيه من المعاني.

أو جمعناه بعد أن فرقناه في التنزيل.

وقوله : (فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) اتباعه يكون بأوجه : في أن يبلغه إلى الخلق ، ويعلم أمته ، ويتبع حلاله ، ويجتنب حرامه ، وغير ذلك.

وقوله : (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) :

جائز أن يكون قوله : (عَلَيْنا بَيانَهُ) ، أي : بيان ما أنزلناه إليك مجملا ؛ فيكون بيانه في تعريف ما هو بحق الائتمار ، وما هو في حق الجواز ، وما هو في حق التحسين والتزيين ؛ لأن الفرائض لها شعب وأركان وحواش.

أو نقول : فيها (٢) فرائض ، ولوازم ، وآداب ، وأركان.

على هذا ففيه منع تعليق الحكم بظاهر المخرج ؛ لأنه لو كان متعلقا به ، لكان البيان منقضيا بنفس المنزل ؛ فلا يحتاج إلى أن يبين ، وفيه دلالة تأخير البيان عن وقت وقوع الخطاب في السمع.

__________________

(١) في ب : حدوثه.

(٢) في ب : منها.

٣٤٧

ويحتمل أن يكون قوله ـ عزوجل ـ : (عَلَيْنا بَيانَهُ) أي : بيان ما هو بحق الكنايات (١) والنتائج منها ، ما هو بحق الأصول والفروع ، وما هو بحق المقصود ، فبين لرسوله ـ عليه‌السلام ـ معنى الأصول والكنايات ؛ ليتعرف به فروعها ونتائجها ، ويبين لمن بعده ممن جاهد في الله حق جهاده ، ويهديه لذلك ، قال الله تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) [العنكبوت : ٦٩].

أو يكون قوله : (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) في أن نحفظك ونعصمك من الناس ؛ لتمكن من تبليغ ما أنزل إليك إلى الخلق ، وتبين لهم ، والله أعلم.

ووجه آخر : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث إلى كل من كان شاهدا من الخلائق إلى يوم التناد ، ثم لم يمكن من تبليغ الرسالة إلى كل أحد مما ذكرنا بنفسه ؛ فكأنه ضمن عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم التبليغ إلى الخلائق كافة بما شاء ـ جل جلاله ـ بتسخير الرواة والحفاظ والعلماء ليبلغوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أدى إليهم.

أو يكون قوله : (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) ، أي : بيان المحق من المبطل ، والولي من العدو ، وذلك يكون يوم القيامة ؛ فيعرف الأولياء بما يجنون من الكرامات ، ويبين للأعداء والمبطلين ما (٢) يحل بهم من الحساب وأنواع العذاب.

قوله تعالى : (كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (٢٠) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (٢١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ)(٢٥)

وقوله ـ عزوجل ـ : (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ)

فقوله : (كَلَّا) ردع ومنع عما سبق منهم.

وفي قوله : (بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) إبانة أن الذي حملهم على ما هم فيه من الحسبان : أن العظام لا تجمع ، وأن البعث ليس بشيء ـ حبهم العاجلة ، وذلك أنهم أولعوا بالعاجلة ، وأحبوها حبا أنساهم عن الإيمان بالآخرة ، أو عن النظر في الحجج والبراهين التي لو أمعنوا النظر فيها أدتهم إلى القول بالبعث ، وحتى صاروا إلى ألا يرجوا الآخرة كقوله : (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا ..). الآية [يونس : ٧].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ. إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ. وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ. تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) :

__________________

(١) في أ : الكتابات.

(٢) في ب : بما.

٣٤٨

ففيه بيان ما ينتهي إليه عواقب من التزم طاعة الله تعالى ، وآمن بالبعث والحساب ، وبيان ما ينتهي إليه عواقب من تولى عن طاعته ؛ فقوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) جائز أن يكون أريد بها نفس الوجوه.

وجائز أن يكون أريد بها الأنفس ، وتكون الوجوه كناية عنها ، والذي يدل على أنه أريد بها الأنفس لا أعينها قوله : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ. تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) ، والوجوه لا تظن ذلك ، ولا تعلم به ، فثبت أن ذكر الوجوه على الكناية ، لا أن أريد بها أعينها ، فهذا التأويل أوفق بما يقتضيه ظاهر اللفظ ، وإنما صلح أن تكون الوجوه كناية عن الأنفس ؛ وذلك أن النفس إذا تلذذت بأمر ، ونالت شهوتها ، ظهر سرور ذلك في وجهه ، وإذا تألمت بأمر فاعتراها الحزن ، ظهر أثر الحزن في وجهه ؛ فيكون في قوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) وصف لهم بما هم عليه من غاية السرور بالكرامات التي أكرموا بها حتى نضرت وجوههم بذلك.

وإذا ثبت أنهم قد نالوا الكرامات ، ووصلوا إلى أنواع اللذات ، لم يبق لقوله : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) موضع ، إلا أن يصرف إلى حقيقة النظر ؛ فيكون في هذا إثبات القول بالرؤية.

والثاني : أن الملوك الذين من عادتهم الاحتجاب عن الخلق ، إذا قربوا إنسانا لم يحتجبوا عنه ، ويكون تركهم (١) الاحتجاب آثر إلى ذلك الذي أكرم بالتقريب من سائر ما يكرمه به ؛ فجائز أن يكون الله تعالى يكرم أولياءه بالنظر إليه ، ويتفضل عليهم بذلك.

وجائز أن يكون قوله : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) منصرفا إلى انتظار الثواب ؛ كما قاله بعض أهل التأويل (٢) ، فتنتظر ما يأتيها من التحف والكرامات حتى وصفوا بنضارة الوجوه ؛ فجائز أن يكون بعد تلك الكرامات [كرامات](٣) وتحف أخر لم تأتهم بعد ؛ ألا ترى إلى قوله : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ. تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) والبسور من أدنى أحوال التغير ، وغاية التغير أن تسود الوجوه وتكلح ؛ فإذا لم يحل بهؤلاء بعد غاية ما أوعدوا من العذاب ، فجائز أن يكون الذين وعد لهم الكرامات لم ينتهوا بعد إلى أقصاها ، ولم ينالوا بعد أرفعها ؛ وإنما أكرموا ببعضها ، وهم منتظرون لما يأتيهم من بعد.

وجائز أن يكون قوله : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) ، أي : نجعل نظرها فيما أكرمت إلى الله تعالى ، ولا ترى ذلك الفضل مستوجبا من جهتها كما قد يرى المرء في الشاهد بعض ما خول من المال بحيله وسعيه ، والله أعلم.

وجائز أن يكون قوله : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) ، أن ليس كل الكرامات في نفسه خاصة وإلى ما

__________________

(١) في أ : بركة.

(٢) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير (٣٥٦٥٦ ، ٣٥٦٦٠).

(٣) سقط في ب.

٣٤٩

ينتهي إليه نظره ؛ بل يكون وراء ذلك كرامات أخر ، فينصرف قوله : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) إلى ذلك.

ويحتمل : أي : إلى أمر ربها ناظرة.

وإذا كان قوله : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) محتملا أن يصرف إلى حقيقة النظر ، ويصرف إلى الكرامات من الوجوه التي بيناها ـ لم يكن لأحد أن يجعل الأمر على الكرامات ، فينفي عنه حقيقة الرؤية للأبد ؛ لا بل ظاهره يحيل القول بالرؤية ؛ فيدفع هذا التأويل بتلك الدلائل.

فأما إذا لم يمكنه إقامة الدلائل على إحالة الرؤية ، فليس له قطع هذا التأويل ، وصرف (١) التأويل إلى انتظار الكرامات ؛ فيكون الآية حجة في جواز الرؤية ، [و] إن لم تكن حجة في الوجوب ، والخلاف فيهما واحد.

واحتج من نفى صرف التأويل إلى حقيقة الرؤية بأن قوله : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ) هو مقابل قوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) ، وقوله : (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) مقابل قوله : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) ثم لم يكن قوله : (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) على فقد الرؤية ، ولكن على العقاب نفسه ؛ فكذلك قوله : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) ليس هو على حقيقة الرؤية ووجودها ؛ ولكن واقع على الثواب نفسه.

وجواب هذا الفصل من وجهين :

أحدهما : أن أهل العقاب بعد لم ينزل بهم جميع ما أوعدوا في هذه الدنيا من العقاب ، لما ذكرنا أن نهاية العذاب في تسود الوجوه وتكلحها ، ليس في بسورها ؛ فلذلك استقام أن يكون قوله : (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) على نفس العذاب ، وأهل الجنة قد وصلوا إلى رفيع الدرجات وعظيم الكرامات بما وصفوا بنضارة الوجوه ؛ فاستقام أن يكون قوله : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) منصرفا إلى حقيقة النظر ، لا إلى غيره من الكرامات.

ولأن الرؤية من أعلى الكرامات وأرفعها ، وأهل العقاب لم ينالوا أدنى الكرامات ، فكيف يتوقعون أرفعها؟! أما أهل الجنة فهم قد نالوا من النعم والكرامات ما لا يحصى ؛ فجائز (٢) أن يكرموا بالرؤية أيضا.

والأصل أن القول بالرؤية عندنا واجب ، والنظر إليه ثابت ؛ كما قال ـ عزوجل ـ ولما جاء في غير خبر النظر إلى الله تعالى ، وقد قال ـ عليه‌السلام ـ : «إنكم سترون ربكم يوم

__________________

(١) في ب : نصرف.

(٢) في ب : فجاز.

٣٥٠

القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضارون في رؤيته» (١) وأهل التوحيد لم يختلفوا في صحة الأخبار التي جاءت في إثبات الرؤية ، ولكن من نفى الرؤية بالبصر صرف الأخبار إلى العلم ، وذلك غير مستقيم لوجهين :

أحدهما : أن البشارة بالرؤية خص بها أهل الجنة ، ولو كان المراد من الرؤية العلم ، لارتفع الاختصاص ؛ لأن العلم به مما يقع به الاشتراك بين الفريقين.

ولأن كلا يجمع على العلم بالله تعالى في الآخرة ، العلم الذي لا يعتريه الوسواس ولا الريب ، والعلم الذي لا يعتريه الوسواس والريب هو علم العيان والمشاهدة ، لا علم الاستدلال ؛ لأن الآيات لا تضطر أهلها إلى العلم الحقيقي ؛ ألا ترى إلى قوله : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى ..). [الأنعام : ١١١] ، وقال : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣] ، وقال : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ) [المجادلة : ١٨] ، فإذا ثبت ما ذكرنا ، فقد صاروا مثبتين للرؤية من الوجه الذي أرادوا نفيها ؛ فتثبت الرؤية على نفي جميع معاني الشبه عن الله تعالى ، ولا نصف الرؤية بالكيفية ؛ إذ الكيفية تكون لذي صورة ؛ وهو يرى بلا كيف ، والله الموفق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) جائز أن يكون الظن في موضع العلم هاهنا.

وجائز أن يكون على حقيقة الظن ، وذلك أن الظن يتولد من ظواهر الأشياء ، فالأسباب إذا كثرت ، وازدحمت ، وقع بها العلم ، وإذا قلت وخفيت ، لم يقع بها علم ؛ فجائز أن تكون أسباب الشر أحاطت به من كل جانب حتى وقع له اليأس من النجاة ، وأيقن أنه يفعل به الشر.

وجائز أن يكون الأمر بعد لم يبلغ مبلغ الإياس ؛ فيتوقع النجاة ، ولا يتيقن أن يفعل به فاقرة ، بل يكون منه على ظن ، والله أعلم.

والفاقرة : قيل (٢) : الشر ، والمنكر ، والداهية.

وقيل : الفقير : هو كسير الظهر ، والفقر : الكسر ، والفقار : عظم في الظهر يكسر ، فكأن عظم الظهر يكسر في الآخرة ويسحب في النار على وجهه.

__________________

(١) أخرجه البخاري (٢ / ٣٣) كتاب مواقيت الصلاة ، باب : فضل صلاة العصر (٥٥٤) ، ومسلم (١ / ٤٣٩) كتاب المساجد ، باب : فضل صلاتي الصبح والعصر (٢١١ / ٦٣٣).

(٢) قاله مجاهد وقتادة أخرجه ابن جرير عنهما (٣٥٦٧١ ، ٣٥٦٧٢) وذكر السيوطي في الدر المنثور (٦ / ٤٧٧) طرقا أخرى عنهما.

٣٥١

قال ـ رحمه‌الله ـ : كأن هذه السورة من أولها إلى آخرها إلا آيات منها ؛ وهي قوله : (بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ. وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ. وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ. إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) ـ نزلت في تبيين معاملة واحد من الكفرة على الإشارة إليه مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يشترك في حكم من يشاركه في معاملته ، فأمر الله تعالى نبيه ـ عليه‌السلام ـ أن يعامله ويستقبله بالذي يحق على الحكماء معاملة السفهاء ، ولم يأمره أن يعامله معاملة مثله من السفهاء ، وبين معاملته في هذه السورة ؛ ليعلم أمته ما لقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الجهد والبلاء في إظهار دين الله تعالى ، فيعلموا قدره ومنزلته ، ويعظموا دين الله تعالى بما نالوه سمحا سهلا ، وأمره أن يتعامل معه معاملة من يرجع إلى المنعة والشوكة بقوله : (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى. ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) [القيامة : ٣٤ ، ٣٥] ، والله أعلم.

قوله تعالى : (كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (٢٦) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (٢٧) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (٢٨) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (٣٠) فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (٣١) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٣٢) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (٣٣) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٤) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى)(٣٥)

وقوله ـ عزوجل ـ : (كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ) فقوله : (كَلَّا) ، يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون أريد به : حقا.

ويحتمل أن يكون على الردع والرد ؛ أي : لا تفعل مثل هذا ؛ فإنك ستندم في الوقت الذي قال : (إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ) ؛ كأنهم سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن وقت ندمه ، فبين لهم ذلك بقوله تعالى : (إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ) ، والتراقي : هي عروق العنق ، كأنه يقول (١) : حين تزول النفس ، أي : الروح عن مكانها ، وتنتهي إلى التراقي.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقِيلَ مَنْ راقٍ) جائز : أن يكون الملائكة هم الذين يقولون هذا ، فيقول بعضهم : من يرقى بروحه : أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟ من رقي يرقى ، أي : صعد. أو : من يقبض روحه؟

ويحتمل أن يقول أهله : من الذي يرقيه رقية فيشفى؟ فيكون فيه إخبار عما حل به من الضعف والشدة ؛ أنه يمتنع عن أن يقول : ادعوا لي راقيا لعلي أشفى ؛ فيكون أهله هم الذين يقولون هذا فيما بينهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ) :

جائز أن يكون الظن على الإيقان هاهنا ؛ لما وقع له اليأس (٢) من الحياة ، وكذلك روي

__________________

(١) في ب : قال.

(٢) في ب : الناس.

٣٥٢

في قراءة ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : وأيقن أنه الفراق.

وجائز أن يكون على حقيقة الظن ؛ لما لم يقع له الإياس من حياته بعد ، فهو يأملها بعد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) :

اختلفوا في تأويله :

قيل (١) : لفت ساقاه إحداهما على الأخرى ؛ فلا يفترقان ؛ كالتفاف الأشجار حتى لا يجد نفاذا فيها ولا هربا.

وقيل : إن ساقيه في القيامة لتضعف عن حمله (٢) ؛ من شدة الفزع.

وقيل (٣) : أريد بالساق : الشدة ، يقال : قامت الحرب على ساق ؛ أي : على شدة ؛ أي وصلت شدة الموت بشدة الآخرة ، واجتمعت شدة الدنيا مع شدة الآخرة عليه ؛ لأنه قد حل به سكرات الموت ، ونزلت به شدائد الآخرة ، وذلك آخر يومه من الدنيا وأول يومه من الآخرة.

وقيل : ما من ميت يموت إلا التفت ساقاه من شدة ما يقاسي من الموت.

وقال بعضهم (٤) : (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) ، معناه : أن الملائكة يجهزون روحه ، وبني آدم يجهزون بدنه ، فذلك التفاف الساق بالساق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) :

أي : إلى ما وعد ربك يومئذ يساق : إما إلى خير ، وإما إلى شر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلا صَدَّقَ) ، أي : فلا صدق بما جاء من عند الله تعالى من الأخبار ، ولا صدق رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَلا صَلَّى) يحتمل أن يكون أريد به نفس الصلاة ، وذلك أن الصلاة حببت إلى الأنفس كلها حتى لا ترى أهل دين إلا وقد حببت الصلاة إليهم ؛ فيكون في قوله : (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) إبانة سفهه وجهله.

أو يكون قوله : (وَلا صَلَّى) ، أي : ولا أتى بالمعنى الذي له الصلاة ، وهو الاستسلام

__________________

(١) قاله الحسن أخرجه ابن جرير (٣٥٧٠٥ ، ٣٥٧٠٧) ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٤٧٨) ، وهو قول الشعبي ، وأبي مالك ، وقتادة.

(٢) في ب : حمل نفسه.

(٣) قاله ابن عباس بنحوه أخرجه ابن جرير (٣٥٦٨٦ ، ٣٥٦٨٨) ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٤٧٨) ، وهو قول مجاهد والحسن وقتادة وغيرهم.

(٤) قاله الضحاك أخرجه ابن جرير (٣٥٦٩٥) وعبد بن حميد عنه ، كما في الدر المنثور (٦ / ٤٧٨).

٣٥٣

والانقياد لله تعالى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) :

أي : ولكن كذب بالأخبار التي جاءته.

(وَتَوَلَّى) ، أي : أعرض عن طاعة الله تعالى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى) ، أي : يتبختر ويتكبر (١) ، وذلك أن الاحتيال والتكبر إنما يليق بمن أتى بفعل عظيم يعجز غيره عن إتيان مثله ؛ نحو أن يهزم جندا عظيما ، أو يفتح كورة حصينة ، وهذا الذي تمطى لم يفعل سوى أن كذب بآيات الله تعالى ، وأعرض عن طاعته ، وما هذا إلا فعل السفهاء الحمقى ، فأنى يليق بمثله التمطي؟!

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى. ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) :

جائز أن يكون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قيل له : قل : أولى لك فأولى.

أو كان رسول الله قال له : أولى لك فأولى ، فبين الله تعالى ذلك في كتابه.

وقال أهل التأويل : هذا وعيد على وعيد ، كأنه قال : «ويل لك فويل ، ثم ويل لك فويل».

وذكر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذ بجميع ثيابه ، وقال له هذا ، فلم يتهيأ لذلك المسكين أن يدفع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن نفسه ، وكان يفتخر بكثرة أنصاره ، وأنه أعز من يمشي بين الجبلين ، فالله تعالى بلطفه أذله وأهانه حتى لم يتهيأ له الحراك عما نزل به ، ولا نفعه قواه وكثرة أتباعه.

وجائز أن يكون قوله : (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) أي : أجدر لك ، وأحرى ، لا أن يكون محمولا على الإبعاد ؛ فيكون قوله : (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) ، أي : الأجدر لك أن تنظر فيما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ وفي الذي كان عليه آباؤك ؛ ليظهر لك الصواب من الخطأ ، والحق من الباطل ، فتتبع الصواب من ذلك ، فتحرز به شرف الدنيا والآخرة ؛ إذ كان يفتخر بشرفه وعزه ، فإن أردت أن يدوم لك الشرف ، فالأولى لك أن تنظر إلى ما ذكرنا ، فتتبع الصواب من ذلك.

والثاني : أن العرب كانت عادتها أن تقوم بنصر قبيلتها والذب عنها ، [سواء] كانت ظالمة في ذلك أو لم تكن ظالمة ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان من قبيلة أبي جهل ـ لعنه الله ـ فلو كان على غير حق عنده ، كان الأولى به أن ينصره ، ويعينه ، على ما عليه عادة العرب ، وإن كان محقا فهو أولى ، فترك ما هو أولى به من النصر والحماية ، والله أعلم.

__________________

(١) في أ : تجبر وتكبر.

٣٥٤

قوله تعالى : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (٣٦) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (٣٧) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣٩) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى)(٤٠)

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً).

جائز أن يكون هذا الإنسان دهري المذهب ؛ فيكون قوله : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ) على حقيقة الحسبان ؛ لأنه يحسب أن لا بعث ولا حساب ، وقد كان في أهل مكة من هو دهري المذهب ، وإن كان الخطاب في قوله (١) : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) ليس على تحقيق الحسبان ، ولكن معناه : أيفعل فعل من يؤذن عن أمره ، كان فعله موافقا لفعل من يحسب أنه يترك سدى ؛ كما ذكرنا في قوله : (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) [القيامة : ٥] ، وهو لا يريد أن يكون فاجرا في الحقيقة ؛ ولكن يفعل فعل من يعقب فعله الفجور ، وهو كقوله : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) [ص : ٢٧] ، وليس على حقيقة الظن ؛ ولكن إذا لم يقل بالبعث ، ولم يؤمن به ، فقد وصف أن خلقهما إذن على باطل ، وذلك الفعل الذي ذكرنا يكون في ترك الإيمان بالبعث وفي جحد الرسالة ؛ لأن المحاسن لا بد من أن يكون لها عواقب ، وكذلك المساوئ ، ثم تمر هذه الدار على المسيء والمحسن مرّا واحدا ؛ فلا بد من أن يكون بعده دار أخرى فيها تتبين مرتبة المحسن ومذلة المسيء ، فما لم يؤمن بالبعث فهو لا يجعل للمحاسن والمساوئ عواقب ، وسوى بين مرتبة المسيء ومرتبة المحسن ، وذلك عبث.

والثاني : أن من عرف أنه لم يخلق عبثا ، ولا يترك سدى ؛ فلا بد لمثله من أن يرغب ويرهب ، ويؤمر وينهى ؛ ولا يعرف ذلك إلا بالرسول ، فالضرورة أحوجت إلى رسول (٢) ، يبين لهم ما يأتون وما يتقون ، وما يرغبون في مثله ، وعما يحذرون ، فمن أنكر الرسالة فقد أهمل نفسه عن المرغوب والمرهوب ، وعن الأمر والنهي ، وذلك حال من خلق سدى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى) :

فالوجه فيه أن كل أحد يعلم أن نشوءه كان من نطفة ، وتلك النطفة لو رئيت موضوعة على طبق ، ثم اجتمع حكماء الأرض على أن يقدروا منها بشرا سويا كما قدره الله ـ عزوجل ـ في تلك الظلمات ، لم يصلوا إليه أبدا وإن استفرغوا مجهودهم (٣) وأنفدوا حيلهم

__________________

(١) زاد في ب : فقوله.

(٢) زاد في ب : الله.

(٣) في أ : بجحودهم.

٣٥٥

وقواهم ، ولو أرادوا أن يتعرفوا المعنى الذي لذلك المعنى صلحت النطفة على (١) أن ينشئ منها العلقة والمضغة إلى أن أنشأ منها بشرا سويا ، لم يقفوا عليه ، فيعلمون أن من بلغت قدرته هذا هو أحكم الحاكمين.

ولو كان الأمر على ما زعموا : أن لا بعث ، لم يكن هو أحكم الحاكمين ؛ بل كان واحدا من اللاعبين. [وتبين بما](٢) ذكرنا أن الذي بلغت قدرته [ذلك] لا يوصف بالعجز ، ومن زعم أن قدرته لا تنتهي إلى البعث فقد وصف الرب بالعجز ، تعالى الله عما يشركون.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) :

فقوله : (أَلَيْسَ) ، في موضع التحقيق والتقرير ، وإن كان خارجا مخرج الاستفهام على ما ذكرنا : أن ما يخرج مخرج الاستفهام من الله تعالى ، فحقه أن نصرفه إلى الوجه الذي يقتضيه ذلك الخطاب أن لو كان من مستفهم (٣) ؛ فمن قال لآخر في الشاهد : أليس الله تعالى بقادر على إحياء الموتى؟ فحقه أن يقول : بلى هو قادر على ذلك ، وكذلك ذكر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال حين تلا هذه الآية : «سبحانك ، فبلى» (٤) فقوله : (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ) أي : هو قادر على إحياء الموتى ، والله الموفق.

* * *

__________________

(١) في ب : من.

(٢) في ب : ويتبين ما.

(٣) في ب : يستفهم.

(٤) أخرجه عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير (٣٥٧٣٨) عن قتادة مرسلا ، كما في الدر المنثور (٦ / ٤٧٩).

٣٥٦

سورة الدهر ، [وهي مكية](١)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (١) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (٢) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (٣) إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً)(٤)

قوله ـ عزوجل ـ : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً)

ف «هل» و «من» و «لعل» من الله تعالى واجب ، وحقه أن ينظر أن لو كان مثل هذا الكلام من مستفهم ، ما الذي كان يقتضى من الجواب؟ فإذا قال الإنسان لآخر : من أظلم ممن افترى على الله كذبا؟ فجوابه أن يقول : لا أحد أظلم منه ، وإذا قال لآخر : هل أتاك حديث فلان؟ فحق المجيب أن يقول إن كان قد أتاه حديث فلان : قد أتاني ، وإن كان لم يأته فحقه أن يسأله : كيف كان حديثه؟ ليعرفه.

فإن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أتاه خبر الإنسان ، فمعنى قوله : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ) ، أي : قد أتى على الإنسان ، وإن لم يكن أتاه ، فحقه أن يسأل حتى يتبين له.

وقيل (٢) : الإنسان : آدم عليه‌السلام.

ثم لقائل أن يقول : أن كيف قال : قد (أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) فهو إن لم يكن شيئا مذكورا في ذلك الوقت ، لم يكن إنسانا وإذا لم يكن إنسانا لم يأت عليه حين من الدهر ، وهو إنسان ، وإن كان في ذلك الوقت مخلوقا ، فقد صار مذكورا ، وإذا صار مذكورا ، فقد أتى عليه حين من الدهر وهو مذكور ؛ فما معناه؟ قيل فيه من أوجه :

أحدها : أن يكون قوله ـ عزوجل ـ : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ) أي : على ما منه الإنسان ، وهو الأصل الذي خلق منه آدم ـ عليه‌السلام ـ وهو التراب ، فقال : (لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) على الاستصغار لذلك الأصل ؛ إذ التراب لا يذكر في الأشياء المذكورة ، إلى هذا يذهب أبو بكر الأصم.

والوجه الثاني : قيل : قد أتى على الخلق حين من الدهر ، لم يكن الإنسان فيه شيئا مذكورا في تلك الخلائق.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٣٥٧٤٠) ، وعبد الرزاق ، وابن المنذر عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٤٨١).

٣٥٧

والوجه الثالث : قد أتى عليه حين من الدهر ، ولم يكن مذكورا في الممتحنين ، وهذا في كل إنسان ؛ لأنه ما لم يبلغ ، لم يجر عليه الخطاب ، ولم يكن مذكورا في الممتحنين ؛ فالله تعالى [خلق الخلائق ليعبدوه بقوله :](١)(وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] ، فقوله : (لِيَعْبُدُونِ) إذا صاروا من أهل المحنة ، فإلى أن يبلغ قد أتى عليه حين من الدهر ، لم يكن مذكورا في جملة من خلقوا للعبادة ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ) ، والإنسان لم يكن إنسانا في النطفة ، ولا في العلقة ، ولا في المضغة ؛ ولكن المقصود من إنشاء النطفة والعلقة هذا الإنسان ، والعواقب في الأفعال هي الأوائل في القصد والمراد ؛ فاستقام إضافته إلى ما ذكرنا ؛ لما رجع إليه القصد من إنشائها.

وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إذا أردت أمرا فدبّر عاقبته ، فإن كان رشدا فأمضه ، وإن كان غيّا فانته» ؛ فألزم النظر في العواقب ؛ فثبت أن المقصود من فعل أهل التمييز العاقبة ؛ وإذا كانت العاقبة مقصودا إليها في الابتداء صارت العاقبة كالموجود في الابتداء ؛ لذلك استقام إضافة الإنسان إلى النطفة والعلقة والمضغة.

ثم قوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ) منصرف إلى أولاد آدم ـ عليه‌السلام ـ فيكون المعنى من الإنسان أولاده ، ثم ذكر لهم ابتداء أحوالهم وما تنتهي إليه عاقبتهم ـ وهو الموت ـ ليتعظوا به ، ويتذكروا.

ووجه الاتعاظ : هو أنهم إذا علموا ابتداء أحوالهم ، وعلموا ما ينتهي إليه عاقبتهم ، علموا في الحال التي هم فيها أن أنفسهم في أبدانهم ليست لهم ، بل عارية في أبدانهم ؛ إذ لم يكن منهم صنع (٢) في الابتداء ، أو أمانة ، والحق على الأمين أن يقوم بحفظ الأمانة ورعايتها ، وألا يخون صاحبها فيها ، فإن هو خانها ، ولم يتول حفظها ـ لحقته المسبة والمذمة ، وإن (٣) حفظها ورعاها حق رعايتها ، استوجب الحمد والثناء من صاحبها.

والحق على المستعير أن يتمتع بالعارية ، وينتفع بها إلى الوقت الذي أذن له ، وألا يضيعها ، فإن ضيعها لحقته الغرامة والضمان بتضييعه إياها ، وكذلك (٤) إذا علموا أنها في أبدانهم (٥) عارية وأمانة علموا أن عليهم رعايتها واستعمالها في الوجه الذي أذن لهم فيها ؛

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : صنيع.

(٣) في ب : فإن.

(٤) في ب : ولذلك.

(٥) في ب : أيدهم.

٣٥٨

لئلا تلحقهم التبعة في العاقبة ، ولا تلزمهم المسبة والمذمة في ذلك [في الدنيا والآخرة](١) ، والله أعلم.

والثاني : أن النظر في ابتداء الخلقة ، وإلى ما يصير عند انقضاء الأمر ، يدعو إلى إيجاب القول بالبعث ، وإلى التصديق بكل ما يأتي به الرسل من الأخبار ؛ وذلك لأن التأمل في ابتداء الخلقة يظهر عجيب قدرة الله تعالى ولطيف حكمته ، ويعلم أن الذي بلغت حكمته هذا المبلغ لا يجوز أن يقع قصده من إنشاء الخلق للإفناء خاصة ؛ لخروجه عن حد الحكمة ؛ فيحملهم ذلك على القول بالبعث.

ولأن النظر في ابتداء الخلقة ، والنظر إلى ما يرجع إليه بعد الوفاة مما يمنع الافتخار والتكبر ؛ لأن إنشاءه كان من نطفة تستقذرها الخلائق ، ومن علقة ومضغة يستخبثها كل أحد ، وبعد الممات يصير جيفة قذرة ، ومن كان هذا شأنه ، لم يحسن التكبر في مثله ؛ فكان في تذكير (٢) أوائل الأحوال وأواخرها (٣) موعظة لهم ؛ ليتعظوا ، ويتبصروا ، وتعريف لهم أن التكبر لا يحسن من أمثالهم ؛ فيحملهم ذلك على التواضع وترك الافتخار والتجبر ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ) :

الأمشاج : الأخلاط ، ثم الأخلاط تقع بوجهين :

أحدهما : في اختلاط ماء الرجل بماء المرأة.

والثاني : تقع في الأحوال ، وهو أن النطفة إذا حولت علقة لم تحول بدفعة واحدة ؛ بل هي تغلظ شيئا فشيئا ، حتى إذا تم غلظها صارت علقة ، وكذلك العلقة يدخل فيها التغيير (٤) شيئا فشيئا ، حتى إذا تم التغيير (٥) فيها حالت مضغة ؛ فهذا هو الاختلاط في الأحوال.

فمنهم من قال : الأخلاط : الطبائع الأربع التي عليها جبل الإنسان.

ومنهم من صرف الخلط إلى الألوان ، فذكر أن ماء الرجل أبيض يخالطه حمرة ، وماء المرأة أحمر يخالطه صفرة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (نَبْتَلِيهِ) ، أي : بالخير والشر ، والأمر والنهي ، ثم الابتلاء هو الاستظهار لما خفي من الأمور ؛ والله تعالى لا يخفى عليه أمر فيحتاج إلى استظهاره ،

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : تذكر.

(٣) في ب : وآخرها.

(٤) في ب : التغير.

(٥) في ب : التغير.

٣٥٩

ولكنه يبتليه ليظهر للمبتلي ما كان خفيا عليه بفعله وتركه ، وأما الخلق فهم يمتحنون ، ويبتلون ؛ ليظهر لهم ما كان خفيا عليهم ؛ فيكون الابتلاء منصرفا إليهم لا إلى المبتلي والممتحن.

والثاني : أن الابتلاء لما كان لاستظهار ما خفي من الأمور ، وذلك يكون بالأمر والنهي ؛ فسمي الأمر من الله تعالى والنهي لعباده : ابتلاء ؛ لمكان الأمر والنهي ، لا على تحقيق معنى الابتلاء منه.

وقال الحسن : لما صلح أن يضاف الاستخبار إلى الله تعالى وإن كان هو خبيرا عما استخبر ؛ فجائز أن يضاف إليه الابتلاء أيضا ، وإن كان هو بالذي ابتلاه عالما بصيرا ، ولأن الذي يظهر من العبد بعد الابتلاء من الفعل كان غائبا ، فالله ـ تعالى ـ يعرفه شاهدا بفعله ، وقبل ذلك كان يعرفه غائبا ؛ لأن معرفة ما يكون أن يعرف قبل كونه غائبا ، وبعد كونه شاهدا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) :

أي : جعلنا له سمعا يميز بين ما يؤدي إليه سمعه ، وجعلنا له بصرا يبصر به ما أدى بصر الوجه ؛ ليضع كل شيء موضعه ؛ وذلك هو بصر القلب وسمع القلب ؛ لأنه قد خص البشر بالابتلاء ؛ لمكان بصر الباطن والسمع الباطن ؛ ألا ترى أن البهائم لها بصر الظاهر ، وكذلك السمع.

ويحتمل : أي : جعلناه سميعا بصيرا يبصر ما له ، وما عليه ، وما ينفعه ، وما يضره ، ثم أنشأ فيه السمع والبصر ، ولا يعرف كيفية السمع والبصر الذي جعل فيه ، ولا ماهيته ، ولا ممن هو؟ لطفا منه ؛ ليعلم أنه منشئ الكيفيات والماهيات ، وأنه يتعالى عن الوصف له بالكيفية والماهية.

ثم قال تعالى : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً).

يحتمل قوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) أوجها ثلاثة :

أحدها : هديناه السبيل ؛ لإصلاح بدنه ومعاشه.

أو هديناه السبيل الذي يصلون به إلى استبقاء النسل والتوالد إلى يوم التناد.

أو (١) هديناه السبيل الذي يرجع إلى إصلاح دينهم ، وأمر آخرتهم باكتساب المحامد والمحاسن ، ثم قوله : (إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) أخبر أنه قد بين لهم السبيل وهداهم إليه ،

__________________

(١) في أ : و.

٣٦٠