تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٩٥

الطريق التي لا يعقل ، ثبت أن الذي قاله ليس بشيء يعتمد عليه.

[ثم](١) الأصل أن قوله : (يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) من صفات الربوبية ، وفيه امتداح الرب ـ تعالى ـ بالفعل لما يريد ، فلو لم يكن مريدا منهم ما قد كان ، ولم يرد كون ما علم أنه يكون ، سقط الامتداح ، وخرج عن أن يكون من صفات الربوبية ؛ فثبت أن الله تعالى شاء لكل فريق ما علم أن يكون منهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) :

فالجنود (٢) هو اسم للجماعة التي ينتقم بها ، وينتصر بها.

وجائز أن يكون قوله تعالى : (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ) منصرفا إلى الملائكة ، التي هي (٣) أصحاب النار ، ليس ما جعله من خزنة النار عددا قليلا ؛ لقلة جنوده ، (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) ، أي : [لا يعلم] مقادير قواهم وأحوالهم إلا الله ؛ فمعناه : لا يعلم جنود ربك ، أي : لا يعلم قوة هؤلاء الجنود وبطشهم وهيبتهم إلا هو.

ثم يجوز أن يكونوا سلطوا على تعذيب أهل النار ؛ على جهة الامتحان (٤) للملائكة ؛ كما امتحن بعضهم بإيصال التحف والكرامات إلى أهل الجنة ، وكما امتحن بعضهم في الدنيا بقبض الأرواح ، وبعضهم باستنزال الأمطار ، وغير ذلك.

وجائز أن يكون تسليطهم على أهل النار على جهة الثواب والجزاء لهم ؛ لأنهم يتلذذون بما يعذبون أهل النار ، وينتقمون من أعداء الله تعالى ؛ لأن المرء في الشاهد إذا وصل إلى الانتقام من عدوه ، تلذذ به وتنعم.

ويحتمل أن يكون قوله ـ عزوجل ـ : (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) ، أي : وما يعلم كثرة جنود ربك إلا هو.

ويحتمل : وما يعلم السبب الذي به يجعل الجنود ، ويصلحون للانتقام إلا هو ؛ إذ هو القادر على أن يجعل أضعف شيء من خلقه جندا ينتقم به من أعدائه ، كما في قصة البعوض في زمن نمرود ، وغير ذلك من إرسال الطير إلى أصحاب الفيل ، وإمطار الحجارة على قوم لوط ، ونحو ذلك.

ويحتمل أن يكون قوله ـ عزوجل ـ : (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ) ، أي : لا يعلم ما الذي يتخذ الله تعالى جندا للانتقام من الأعداء إلا هو ؛ ألا ترى أن الله ـ تعالى ـ انتقم من بعض

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : فالجند.

(٣) في أ : هم.

(٤) في أ : الاستحسان.

٣٢١

الأعداء بالغرق ، وهم قوم فرعون وقوم نوح ـ عليه‌السلام ـ وأهلك بعضا منهم بالرياح ، واتخذها جنودا عليهم ، وأهلك بعضهم (١) بالخسف ؛ فيكون في هذا إيجاب المراقبة من حلول النقمة والسخطة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ) :

جائز أن يكون منصرفا إلى السقر أنها ذكرى للبشر ، أي : موعظة وتذكيرا لهم ما إليه مرجع أمورهم.

وجائز أن يكون منصرفا إلى عدة الملائكة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (كَلَّا) :

قيل : حقّا.

وقيل : هو على الردع والتنبيه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالْقَمَرِ. وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ. وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ)

فهذا في موضع القسم ؛ وقد ذكرنا أن القسم ؛ لتأكيد ما قصد إليه بالذكر ، وإدبار الليل بمجيء النهار ، فجائز أن يكون ذكر آخر الليل يقتضي ذكر أوله ، وذكر أول النهار يقتضي ذكر النهار كله ؛ فيكون القسم بهما قسما بالليل كله ، والنهار كله.

ثم الليل إذا أقبل عملت ظلمته في ستر الأشياء كلها بساعة لطيفة ، وكذلك النهار إذا أقبل عمل في دفع الظلمة عن الخلائق جملة بساعة لطيفة ما لو اجتهد المرء في جميع عمره ـ وإن طال ـ على عد تلك الأشياء ؛ ليحيط علما بجملتها ، لم يتمكن منه ، وإذا كان لليل من السلطان ما ذكرنا ، ولإقبال النهار من الأمر ما ذكرنا ، وكان الذي ذكرنا أمرا مشاهدا معاينا ، ولو أريد معرفة ما فيهما من الحكمة : أنه لأي معنى ما صلح أن يكون الليل ساترا عن درك أعين الأشياء ، واستقام أن يكون النهار مزيلا للستر؟ لم يقدر عليه ؛ فيكون فيه إبانة أنه لا يجب إنكار كل ما لا يوصل إلى درك الحكمة فيه بالعقول والآراء ؛ فيكون فيه إيجاب التصديق بالأنباء التي يأتي بها الرسل ، وإن كان فيها ما لا يوقف على الحكمة المجعولة فيها بالآراء.

وفيه أن منشئ الليل والنهار واحد ، وأن الخلائق بجملتهم تحت سلطانه وتدبيره ، يحكم فيهم ما يشاء ، ويفعل ما يريد.

وجائز أن يكون القسم منصرفا إلى الوقتين اللذين وقع عليهما الذكر ، وهما إدبار الليل ، وإسفار الصبح ؛ فيكون فيهما ما في الأول.

__________________

(١) زاد في ب : منهم.

٣٢٢

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَسْفَرَ) ، أي : أضاء ، وانتشر.

وقوله : (إِذْ أَدْبَرَ) ، أي : ذهب.

وحكي عن الكسائي أنه قال : إن «دبر» لغة قرشية ، يقولون : ذهب كالأمس الدابر ، أي : الذاهب ، فيقولون : دبر في الأيام والشهور والسنين ، ولا يقولون في غير ذلك : لا يقولون : دبر الرجل ، ودبر الأمر ؛ ولكن يقال : أدبر.

وفي حرف ابن مسعود إذ ادبر ، وفي الحروف إذا أدبر ، والمعروف إذ أدبر كما قلنا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ) قيل : يعني : السقر.

ثم عذاب أهل النار ألوان ، وفي جهنم دركات ، والسقر : إحدى دركاتها ؛ إذ هي لون من ألوان العذاب ؛ فصارت هي من إحدى الكبر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (نَذِيراً لِلْبَشَرِ)

فمنهم من صرف النذارة إلى السقر ، ومنهم من صرفها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو كقوله تعالى : (وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) [الأحقاف : ١٢] ، فمنهم من قرأ لتنذر بالتاء ، وصرف النذارة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ومنهم من قرأ بالياء ، وصرفها إلى القرآن.

ثم الأصل أن ما خرج مخرج الأفعال مضافا (١) إلى الأشياء اللاتي ليست لهن أفعال ، فهو يقتضي أمرين :

أحدهما : ذكر الأحوال التي تقع لديها مما لو لم يكن ذلك سببا لم تحدث تلك الأحوال من غير أن يكون علة لها ؛ فنسبت إليها إذا صارت سببا ؛ لحدوث تلك الأحوال ، وهو كقوله ـ عزوجل ـ : (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) [الأنعام : ١٣٠] ، وحياة الدنيا لا تغر أحدا ، ولكنهم اغتروا بزينتها ، فنسب إليها الغرور لما كانت سببا لتغريرهم.

والثاني : أنها أنشئت على هيئة لو كانت من أهل التغرير ، لكانت تغر ، فنسب إليها الغرور لذلك.

وقال في قصة إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) [إبراهيم : ٣٦] ، والأصنام ليست ممن ينسب إليها الإضلال ؛ لأنه لا فعل لها ، ولكن عبادها (٢) لما ضلوا بها ، نسب الإضلال إليها ، وهي ـ أيضا ـ على صورة لو كانت لها

__________________

(١) في أ : معناه.

(٢) في ب : عبادتها.

٣٢٣

أفعال لكان يقع منها الإضلال ؛ فنسب (١) إليها الإضلال ؛ للوجهين اللذين ذكرناهما ؛ فكذلك النذارة أضيفت إلى النار هاهنا ؛ لأنه عند ذكرها تقع النذارة ؛ فأضيفت إليها لذلك.

أو خلقها على هيئة لو كانت من أهل النذارة ، لكانت نذيرة ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) :

قيل : هو على التهديد كقوله : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف : ٢٩] ، وذلك إنما يكون على إثر المبالغة في العظات ، وتذكير عواقب (٢) الأمور ، وقد بالغ [في] ذلك في هذه السورة وبين عواقب أمور العباد.

ثم قوله ـ عزوجل ـ : (أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) قيل : أن يتقدم إلى طاعة الله ، أو يتأخر إلى معصية الله تعالى.

والأصل : أن المرء جبل على حب المنافع لنفسه والخيرات ، وعلى بغض الشر والمضار ، ومن أحب شيئا طلبه ، ومن أبغض شيئا اجتنبه ، وهرب منه ، وإذا طلب [شيئا] تقدم إليه ، وإذا هرب من شيء تأخر عنه ؛ فكنى عن الطلب بالتقدم وعن الهروب (٣) بالتأخر ؛ فقيل في تأويل قوله ـ عزوجل ـ : (يَتَقَدَّمَ) أي : [إلى] طاعة الله ، تجدي إليه المنافع في الآخرة ، وتجلب إليه المحاسن أو يتأخر عن طاعته ؛ إذ في الإعراض عن طاعته إيقاع النفس في المهالك وأنواع الشدائد.

وجائز أن يكون قوله : (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) ، معناه : يتقدم ، ويتأخر بتخليق الله تعالى فعل التقدم والتأخر منه ؛ فيكون فعلا له وكسبا ؛ لوجوده في حيز قدرته ، وخلقا لله تعالى ؛ فيكون مثل قولنا ، لا حجة علينا ، في إضافته التقدم والتأخر إلينا ، والله الموفق.

قوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (٣٩) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (٤٧) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ)(٤٨)

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ. فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ) :

أصحاب اليمين هم الذين وصفهم الله تعالى في موضع آخر في كتابه ، وهو قوله ـ عزوجل ـ : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) [الحاقة : ١٩] ، فاستثنى أصحاب اليمين من جملة

__________________

(١) في ب : فنسبت.

(٢) في أ : العواقب فيه.

(٣) في ب : الهرب.

٣٢٤

المرتهنين ؛ لأنه ذكر الرهون بلفظ يعبر بها عن الجمع ، وهو قوله : (كُلُّ نَفْسٍ) ، فاستقام استثناء الجماعة من تلك الجملة ، أي : أصحاب اليمين قد سبقت منهم الأعمال التي يستوجبون بها الإطلاق عن الحبس (١) ؛ لأن المجرمين صاروا مرهونين بإجرامهم ، وأصحاب اليمين قد اكتسبوا الخيرات ، وعملوا الصالحات ، والأعمال الصالحة جعلها الله تعالى مكفرة للمساوى والإجرام ؛ كقوله : (لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) [العنكبوت : ٧].

وقوله ـ عزوجل ـ : (فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ. عَنِ الْمُجْرِمِينَ. ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ. قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) :

فظاهر هذا يؤدي إلى أن التساؤل كان من أهل الجنة بعضهم بعضا ، وإذا صدر السؤال عن بعضهم بعضا فحقه أن يقال : «ما سلكهم في سقر» ؛ لأن أهل السقر لم يسألوا ، بل سئل عنهم غيرهم ؛ ألا ترى أنه قال : (عَنِ الْمُجْرِمِينَ) ، ولم يقل : «يتساءلون المجرمون» ؛ فثبت أن الظاهر يقتضي أن يكون المخاطبون غير المجرمين ؛ لذلك قلنا : إن حق مثله أن يقال : «ما سلكهم في سقر» ، لكنه يحتمل أن يكون قوله : (عَنِ) زيادة في الكلام ، وحقه الحذف والإسقاط ، وإذا (٢) حذف ارتفع الريب والإشكال ؛ كأنه قال : في جنات يتساءلون المجرمين ؛ فيكون فيه تثبيت أن أهل السقر هم الذين خوطبوا بالسؤال.

وجائز أن يكون أهل الجنة يسأل بعضهم بعضا عن مكان المجرمين ، أين مكانهم؟ وأين هم؟ فيطلعون عليهم فيسألونهم : (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ)؟ فيقولون إذ ذاك : (لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ..). إلى آخر الآية ؛ ألا ترى إلى قوله ـ عزوجل ـ : (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) [الصافات : ٥٥] ؛ فثبت أنهم (٣) يطلعون على أماكنهم ، فإذا رأوهم سألوهم عن ذلك بقوله : (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) ، فأجابوا بما أخبر الله تعالى عنهم بقوله : (لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ..). إلى قوله : (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ).

والأصل : أن الأفعال التي يتعلق جوازها بالإيمان إذا أضيفت إلى من ليس من أهل الإيمان ، أريد بها القبول ، وإذا أضيفت إلى أهل الإيمان ، أريد بها أعين تلك الأفعال.

والذي يدل على هذا هو أن الكافر يسلك به إلى سقر إذا كان مكذبا بيوم الدين ، وإن أقام الصلاة ، وأطعم المسكين ، لم ينفعه ذلك حتى يوجد منه الإيمان ؛ فثبت أنه لم يرد بذكر هذه الأفعال إتيان أعينها ؛ وإنما (٤) أريد بها القبول والإقرار بها ؛ والذي يدل على

__________________

(١) في ب : الجنس.

(٢) في ب : فإذا.

(٣) في ب : أنه.

(٤) زاد في ب : يريد.

٣٢٥

صحة ما ذكرنا قوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) [يس : ٤٧] ؛ فثبت أنهم جحدوا أن يكون عليهم إطعام ؛ فدل أنه أريد بذكر الإقامة قبولها ، لا وجود عينها ، وعليهم أن يقبلوا إقامة الصلاة ، ويقروا بإيتاء الزكاة ، وقد يجوز أن يذكر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، ويراد به القبول ؛ قال الله تعالى : (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) [التوبة : ٥] ، ولم يكن إيجاد (١) الإقامة وإيجاد (٢) الإيتاء من شرط (٣) التخلية ؛ بل كان معناه على القبول ، فإذا أقروا بالصلاة وقبلوا إقامتها ، وأقروا بالزكاة ، لزم تخلية سبيلهم وإن لم يوجد منهم الفعل بعد ؛ فلذلك صلح حمل التأويل على القبول ، ولم يحمل على وجود حقيقة الفعل ؛ لما ذكرناه.

هذا إذا ثبت أن تأويل قوله : (لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) منصرف إلى الصلاة المعروفة ، فكيف وقد يجوز أن يكون أريد بالمصلين : الموحدين هاهنا ؛ لأن أهل الصلاة هم المسلمون ، يقال : «أجمع أهل الصلاة على هذا» ، ويعني به المسلمون.

ثم الله ـ عزوجل ـ جمع في الذكر بين التكذيب بيوم الدين وبين ترك الصلاة وترك الإطعام ، وهذا ـ والله أعلم ـ يحتمل وجهين :

أحدهما : أن الذي يقر بالصلاة والإطعام وإيتاء الزكاة هو الذي يقر بيوم الدين ؛ لأن المرء إنما يرغب في فعل هذه الأشياء ؛ لما يطمع من المنافع في العواقب ، ويتقي بتركها مخافة التبعة في العواقب ؛ فإذا لم يقر بيوم الدين ، لم يرج المنافع ، ولا خاف المضار ؛ فيحمله ذلك على ترك الإطعام وتضييع الصلاة ، وعلى ترك إيتاء الزكوات ، وعلى جحدها كلها وعدم قبولها ، وهو كقوله ـ عزوجل ـ : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ. فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ. وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) [الماعون : ١ ـ ٣] ؛ لعدم رجاء العواقب ؛ فإذا لم ير لفعله عاقبة ، لم يقم بالانتصار لليتيم ، ولا قام بالإحسان للمسكين ، بل تكذيبه بيوم الدين يحمله على الجور على اليتيم ، وترك الإحسان إلى المسكين ؛ فلذلك جمع في الذكر بين [تكذيب](٤) يوم الدين وبين ترك الصلاة ، وإيتاء الزكاة وترك الإطعام.

وجائز أن يكون الذي حملهم على التكذيب بيوم الدين هذه الوظائف التي وظفت عليهم بالإسلام ؛ لأنهم إذا آمنوا بيوم الدين ، لزمهم تحمل هذه الأحمال من إقامة

__________________

(١) في ب : اتخاذ.

(٢) في ب : اتخاذ.

(٣) في ب : شرائط.

(٤) سقط في ب.

٣٢٦

الأفعال ؛ والصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وإطعام المساكين ، وصيام شهر رمضان ، وغير ذلك من العبادات ؛ فاشتد عليهم [ذلك] ؛ فتركوا الإيمان بها ؛ لئلا يلزمهم تحمل هذه الأفعال التي حملها أهل الإيمان.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ) :

فالخائض هو الذي يخوض في الباطل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ) :

أي : حتى أيقنا أنا كنا على باطل فيما كنا نخوض فيه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) معناه : أن لا شفيع لهم ؛ والأصل : أن الشفاعة إذا أضيفت إلى أهل الكفر ، فقيل : ليس لهم شفعاء ، أو لا تنفعهم شفاعة الشافعين ، اقتضى نفي الشفاعة ، أي : لا شفيع لهم.

وإذا أضيفت إلى أهل الإيمان اقتضى نفي الانتفاع بشفاعة الشفعاء ، ولم يقتض نفي الشفاعة ؛ كما ذكرنا : أن الأفعال التي يكون قوامها بالإيمان إذا أضيفت إلى الكفار فهي تقتضي نفي القبول ، وإذا أضيفت إلى أهل الإيمان فهي [تقتضي](١) نفي الفعل.

وقولنا بأنه إذا قيل : «لا شفيع له» ، وأريد به أهل الإسلام ، فهو يقتضي نفي الانتفاع ، ولا يقتضي نفي الشفاعة ـ فذلك ينصرف عندنا إلى أهل الاعتزال والخوارج ؛ لأنا نرى أصحاب الكبائر من أهل الإسلام مستوجبين للشفاعة ، وهم يقولون : لا يجوز في حكم الله تعالى أن يعفو عن أصحاب الكبائر ، بل يخلدهم في النار ؛ لأن الله تعالى أوعد النار لمن ارتكب الكبائر ، وأخبر أنهم يخلدون فيها ؛ فلا يجوز أن يقع في وعده خلف ، أو يتحقق في خبره كذب ، ولو استوجبوا الشفاعة ، ونالوا بها المغفرة من رب العزة ، لصار فيما وعد مخلفا ، وفيما أخبر كذوبا ؛ فمثل هؤلاء إذا ارتكبوا الكبائر لا يرجى لهم الخلاص بالشفاعة أبدا ؛ بل يحكم عليهم بالخلود في النار ؛ فيرتفع ما يثبت الكذب وينتفي [ما يوجب](٢) خلف الوعد.

ولأنهم لما اعتقدوا التخليد في النار لمن ارتكب الكبائر ، وجب أن يكون نفيهم الشفاعة بزعمهم على ذلك ؛ لأن الله تعالى يقول : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ. فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) [الأعراف : ٢٩ ، ٣٠] ؛ فلا يجوز أن يحق عليهم العذاب ثم لا ينالهم العذاب إذا بعثوا.

ثم احتج فريق منهم بنفي الشفاعة في الآخرة بقوله : (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ)

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في أ : بوجوب.

٣٢٧

[الشعراء : ١٠٠] ، وبقوله : (أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ) [البقرة : ٢٥٤] ، وبقوله : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ) [البقرة : ١٢٣] ، وزعموا أن شفيع كل امرئ منهم عمله يومئذ ؛ فمن حسن عمله نجا به ، ومن ساء عمله حق عليه العذاب ، ولم يكن له شافع ، ولو وجب نفي الشفاعة بما ذكر من هذه الآيات الظاهرة ، لوجب تحقيقها بقوله : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) [الأنبياء : ٢٨] ، وبقوله : (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) [طه : ١٠٩] ؛ إذ في هاتين الآيتين أن الله تعالى قد يأذن بالشفاعة يومئذ للبعض ؛ فثبت أن ما ذكرتم من نفي الشفاعة ، لم يقتض نفيا على الإطلاق ، بل النفي انصرف إلى بعض الخلائق ، ووجب القول بثبوتها لبعضهم.

ثم جاءت الأخبار مفسرة على إيجاب القول (١) بالشفاعة لأهل الكبائر ؛ فثبت أن ما ذكر من قوله ـ عزوجل ـ : (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ) [الشعراء : ١٠٠] ، وقوله : (وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ) [البقرة : ٢٥٤] منصرف إلى أهل الكفر ، وبه نقول.

ومن المعتزلة من يحقق الشفاعة ، ولكنه يراها للذين يستوجبون استغفار الملائكة في الدنيا ، وهم الذين ذكرهم الله تعالى في كتابه : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) [غافر : ٧] ، فأما أصحاب الكبائر ؛ فإنهم (٢) لا تنالهم شفاعة أحد ؛ بل يخلدون في النار.

فيقال لهم : فأية منفعة تحصل للذين تابوا واتبعوا سبيله (٣) في الشفاعة ، وهم قد استوجبوا الخلاص بتوبتهم ، واتباعهم سبيل الرشاد.

فإن قالوا : منفعتهم بها : أنه يعظم قدرهم عند الله تعالى ، ويستوجبون بها فضل الدرجات ؛ كما ترى المرء في الشاهد يذكر أخاه عند الملوك بحسن السيرة ، ويذكره بما فيه من المناقب الجميلة والمحاسن ، ويبتغي بذلك إعلاء منزلته ، وإعظام قدره عندهم ؛ ليعظموه ، ويبجلوه ، فكذلك الشفعاء في الآخرة يثنون عند الله تعالى على (٤) أوليائه خيرا ؛ ليزيد في درجاتهم ، وتعظم منزلتهم عند الله تعالى.

والجواب أن هذه الزيادة في الدرجات ليست إلا إلى الوصول إلى فضول الشهوات ، وفضول الشهوات والزيادة في اللذات لا تذكر في المنافع ؛ إذ لا حاجة [لهم](٥) إلى ما هو

__________________

(١) في ب : القبول.

(٢) في ب : فإنه.

(٣) في ب : لسبيله.

(٤) في أ : من.

(٥) سقط في ب.

٣٢٨

في حق الفضول من الشهوات ؛ فيكون في مثالها دفع الحاجة ، والوصول إلى المنفعة ، ومعلوم أنهم (١) إنما طمعوا في الشفاعة ؛ لما يحصل لهم بها من المنفعة وإنما تحصل لهم بها المنفعة إذا وقعت (٢) إليها الحاجة ، وأهل الكبائر هم الذين تمسهم الحاجة إليها ، فأما الذين تابوا وأنابوا فقد استغنوا عن الشفاعة ؛ لذلك وجب القول بتحقيق الشفاعة في أهل الكبائر.

وأما استدلالهم بما ذكروا من أمر الشهود ، فليس بمحكم من القول ؛ لأن المرء إنما يذكر أخاه بالجميل ، ويظهر ما اشتمل عليه من خلال الخير لجهل الملوك بحاله فيما هو عليه من جميل الخصال ، ومحمود الفعال ؛ ألا ترى أن الملك إذا كان عالما بحاله ، لم يقدم الإنسان على نشر الجميل منه ؛ فثبت أن الذي يحوجه (٣) إلى الثناء عليه عند الملوك جهل الملوك بحاله ؛ ولا يجوز أن يكون الله تعالى يخفى عليه حال أحد ، وما هو عليه من ظواهر أموره وبواطنها حتى يحتاج إلى معرف يعرفه ؛ فبطل أن تكون الشفاعة للوجه الذي ذكروه ، وثبت (٤) أنها للوجه الذي ذكرناه.

ثم العفو والصفح عن إحلال العقوبة بمن هموا أن يعاقبوه بجريمة سبقت منه ، ثم الشفاعة فيما بين الخلق أمر معهود أنها تكون عند زلات يستوجب بها العقوبة والمقت ؛ فيعفى عن مرتكبها بشفاعة الأخيار وأهل الرضاء ؛ [فلا ينكر أن يكون الله تعالى يعفو عمن استوجب العقاب بشفاعة الأخيار وأهل الرضاء](٥) والأبرار ، والله الموفق.

قوله تعالى : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (٥١) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (٥٢) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (٥٣) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ)(٥٦)

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) :

جائز أن يكون تأويله : ما لهم معرضين عن ذكر ما لهم ، و [ما](٦) عليهم ، وعما إليه مآلهم ومنقلبهم ؛ وذلك يكون في الرسول وفي القرآن ؛ لأن كل واحد منهما يذكر للمرء ما له وعليه ، والله أعلم.

وجائز أن يكون تأويله : فما لهم عما به يشرف قدرهم ، ويصيرون به مذكورين في

__________________

(١) في ب : بأنهم.

(٢) في أ : وقفت.

(٣) في أ : يخرجه.

(٤) في ب : فثبت.

(٥) ما بين المعقوفين سقط في ب.

(٦) سقط في ب.

٣٢٩

الملأ الأعلى ـ معرضين ؛ وذلك يكون في طاعته ، والإقبال على عبادته ، وهو كقوله تعالى : (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ) [الأنبياء : ١٠] معناه : أنكم تصيرون به مذكورين ، ويعظم قدركم لو اتبعتموه ، ولم تضيعوا حرمته.

وقوله ـ عزوجل ـ : (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ)

بنصب الفاء وخفضه.

فمن قرأ بخفض الفاء صرف الفعل إليها ، كأنه يقول : حمر نافرة ، ونفر واستنفر واحد ؛ كما يقال : استرقد القوم ، أي : رقدوا.

ومن قرأ بنصب الفاء ، فتأويله : أنه فعل بها ما يحملها على النفار ، وذلك يكون بالرمي وبالقانص من الأسد ، كما ذكره أهل التفسير في تأويل القسورة هي الأسد ، أو الرماة ، أو الصيادون.

ويقال : هي النفرة (١) ، وكان هذا تشبيها بالحمر الوحشية التي في طبعها النفار.

ووجه التقريب هو أن هؤلاء أعرضوا عما في الإقبال عليه نجاتهم وتخلصهم من العطب ، ونفروا كنفار الحمر المستنفرة من العطب والهلاك.

وفي هذه الآية تبين شدة سفههم وغاية جهلهم ؛ لأن الحمر (٢) تنفر عن القانص والرامي والأسد ؛ لتسلم من الهلاك والعطب ، وهؤلاء الكفرة نفروا عما فيه نجاتهم إلى ما فيه هلاكهم وعطبهم ؛ فهم أشر من الحمير وأضل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً).

قال بعض أهل التأويل : إن المشركين قالوا : يا محمد ، بلغنا أن الرجل في بني إسرائيل كان إذا أذنب ذنبا ، فيصبح ، وجد صحيفة معلقة على باب داره أو مكتوبا عند رأسه : إنك أذنبت كذا.

وزاد بعضهم : إنك أذنبت كذا ، وتوبتك كذا.

وسألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجعلهم كذلك ؛ فأخبر الله تعالى ذلك عنهم ، ثم آيسهم عن ذلك ، فقال : (كَلَّا) ، أي : لا تنالون ما تأملون.

وقال قتادة : قالوا : يا محمد ، إن سرّك أن نتبعك فائت كل واحد منا بصحيفة خاصة : إلى فلان بن فلان ، تأمرنا فيها باتباعك (٣).

__________________

(١) في ب : البقرة.

(٢) في ب : الحمير.

(٣) أخرجه ابن جرير (٣٥٥١٩) وعبد بن حميد وابن المنذر عنه ، كما في الدر المنثور (٦ / ٤٦١).

٣٣٠

وقيل : سألوا أن يؤتوا ببراءة بغير عمل.

ولكن لا يجب قطع الأمر على واحد من هذه التأويلات ، بل يقال بها على جهة الإمكان والاحتمال ؛ لأن هؤلاء المفسرين لم يشاهدوا أولئك القوم الذين صدرت منهم هذه الإرادة ؛ ليخبروهم ما ذا أرادوا به؟ حتى يثبت ما ذكروا من القصة والأخبار ، ولا تواترت الأخبار من عند ذي الحجّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنهم سألوه ذلك ؛ لذلك لم يستقم قطع الأمر على ما ذكروا.

وجائز أن تكون هذه الإرادة تحققت في بعض الكفرة وهم الرؤساء منهم والأكابر ، لا أن أراد كلّ في ذات نفسه أن يؤتى صحفا منشرة.

والإرادة هاهنا عبارة عن الطلب ، ثم طلبهم ما ذكر يتوجه إلى أوجه ثلاثة :

أحدها : أن يكون كل واحد من عظمائهم ود أن يكون [هو](١) المخصوص بإنزال الكتاب عليه ؛ كما قال في آية أخرى : (وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) [الأنعام : ١٢٤] ؛ فيكون في هذا إظهار استكبارهم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، على جهة التعنت والعناد ؛ ليصير ذلك آية لهم في تحقيق رسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما قال الله تعالى حكاية عنهم : (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً ..). إلى قوله : (أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) [الإسراء : ٩٠ ـ ٩٣] ، ففي هذه الآية إبانة أنهم كانوا يطلبون إنزال الكتاب عليهم ؛ ليتقرر لديهم رسالة [نبينا](٢) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان ذلك على جهة التعنت والعناد ؛ وإلا لو تفكروا في حاله أداهم ذلك إلى العلم برسالته من غير أن يحتاجوا إلى تثبيت رسالته بكتاب ينزل عليهم ، والله أعلم.

وجائز أن يكونوا رأوا أكابرهم أحق بالرسالة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأولى بإنزال الكتاب عليهم ؛ لما رأوهم أفضل من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ألا ترى إلى قوله : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١] ، وقال في آية أخرى : (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا) [ص : ٨] ، فأرادوا أن يؤتوا صحفا منشرة لهذا المعنى ؛ إذ هم أولى أن يخصوا بهذه الفضيلة.

وإنما ذكرنا هذه التأويلات في هذه الآية ؛ لأن هذه المعاني التي ذكرناها قد ظهرت منهم بمتلو القرآن ، والتأويلات التي ذكرها أهل التفسير لا يتهيأ تثبيتها من جهة الكتاب ولا من جهة الإخبار عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فصارت هذه التأويلات أمكن وأملك بالآية من غيرها ، والله أعلم.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في ب.

٣٣١

وقوله ـ عزوجل ـ : (كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ) :

إن الذي حملهم على الطلب بأن يؤتى كل منهم صحفا منشرة إعراضهم عن الإيمان بالآخرة ؛ وإلا لو آمنوا بها ، لكان إيمانهم بها يحملهم على ترك العناد والتعنت ، وعلى ترك الجسر على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويدعوهم إلى الإذعان للحق.

وقوله : (كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ. فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) سنذكر معنى هذه الآية في سورة «عبس وتولى» ، وسنذكر معنى قوله : (وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) في سورة «إذا الشمس كورت».

وقوله : (هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) :

فأهل التأويل صرفوا قوله (هُوَ أَهْلُ التَّقْوى) إلى الله تعالى.

وجائز أن يصرف إلى البشر.

فإن كان المراد من قوله ـ عزوجل ـ (هُوَ أَهْلُ التَّقْوى) : البشر ؛ فيكون معنى قوله : (هُوَ أَهْلُ التَّقْوى) ، أي : الذي يقوم بالذكر ؛ ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها) [الفتح : ٢٦] ، فجعل الذين ألزمهم كلمة التقوى من أهل التقوى ، وإن كان المراد من قوله : (هُوَ أَهْلُ التَّقْوى) ، أي : الله ـ سبحانه وتعالى ـ فتأويله أنه أهل أن يتقي الزلة والعثرة في حقوقه تعالى.

والوجه فيه أن المرء في الشاهد إنما يتقي الزلة والعثرة إلى آخر ؛ لإحدى خصال ثلاث :

إحداها : لما يرى من افتقاره وحاجته إليه ؛ فيتقي العثرة إليه ؛ تبجيلا وتعظيما.

أو يتقي زلته ؛ ذلك لما يرى من قدرته وسلطانه على الانتقام منه.

أو يتقي زلته ؛ لكثرة نعمه وأياديه ؛ استحياء منه.

وإذا كانت هذه الأشياء هي الداعية إلى الاتقاء ، فإن الخلائق بأجمعهم مفتقرون ومحتاجون إلى الله تعالى ، وله القدرة والسلطان عليهم ، وهو المنعم المتفضل على كل أحد ، فهو أهل أن يعظم ويوقر ، وأن يخاف نقمته ، ويستحيا منه ، ومن اتقى صار أهلا لأن يغفر [له].

وجائز أن يكون معنى قوله ـ عزوجل ـ : (هُوَ أَهْلُ التَّقْوى) ، أي : هو أهل لأن (١) يسأل منه ما يتقي [به] من النار بقوله تعالى : (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) [آل عمران : ١٣١] ، وبقوله : (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) [التحريم : ٦] ، ثم علمنا وجه الاتقاء

__________________

(١) في ب : بأن.

٣٣٢

بقوله : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ) [البقرة : ٢٠١] ، فبين أن الاتقاء أن يفزع إلى الله تعالى ، ويتضرع إليه ؛ ليتقي بفضله ورحمته ، وقال : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) [فاطر : ٦] ، فأمرنا ـ جل جلاله ـ بالمناصبة مع الشيطان ؛ للمحاربة ، وأخبر أن محاربته أن نفزع إلى الله ـ تعالى ـ بالاستعاذة بقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) [الأعراف : ٢٠٠] ، وقال في آية أخرى : (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ ..). الآية [المؤمنون : ٩٧] ، فهو أهل أن يطلب منه ما يتقي به ، وأهل أن يستعاذ به ؛ لدفع كيد العدو.

(وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) ، أي : أهل أن يطلب منه المغفرة ، جعلنا الله ـ تعالى ـ من أهل التقوى والذين من عليهم بالمغفرة.

وقال بعضهم (١) : (هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) ، أي : هو أهل أن يتقي عنه ، وأهل أن يغفر لمن اتقاه ، والله المستعان.

* * *

__________________

(١) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٣٥٥٢٣ ، ٣٥٥٢٤) ، وعبد بن حميد وابن المنذر عنه ، كما في الدر المنثور (٦ / ٤٦١).

٣٣٣

سورة (١) القيامة ، [وهي مكية](٢)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (١) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (٣) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (٤) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (٥) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (٦) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠) كَلاَّ لا وَزَرَ (١١) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (١٢) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (١٣) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ)(١٥)

قوله ـ عزوجل ـ : (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ. وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) ، اختلف في تأويله :

فمنهم من ذكر : أنه أقسم الله تعالى بيوم القيامة ، ولم يقسم بالنفس اللوامة ، ذكر ذلك عن الحسن (٣) ، ويكون معناه : لأقسم (٤) بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة.

لكن ذكر عنه أنه يقول في قوله تعالى : (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ. وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ. وَوالِدٍ وَما وَلَدَ) [البلد : ١ ـ ٣] : إن القسم يقع على البلد [ووالد وما ولد ، والوالد هو آدم](٥) عليه‌السلام ، وما ولد جملة أولاده عليه‌السلام ، فإذا كان القسم جائزا بالوالد والمولود جميعا ، كانت النفس اللوامة داخلة في جملة المولود فقد أقسم بالنفس اللوامة عنده ؛ فلا معنى للرد هاهنا [ثم موقع «لا» في قوله : (لا أُقْسِمُ) وتأويله ـ يذكر في قوله : (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) في سورة يذكر فيها الكبد.

ومنهم (٦) من ذكر أن القسم وقع بهما جميعا ، ولله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه.

ثم صرف بعض أهل التأويل معنى القسم إلى قوله تعالى : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) ، وجعله موضع القسم ، فإن كان على هذا ، فالإشكال عليه أن يقول قائل : كيف أكد أمر البعث ، وجمع العظام بالقسم بيوم القيامة ، وقد جرى من القوم الذين احتج عليهم بهذه الآية الإنكار بيوم القيامة ، فكأنه أكد القسم بشيء جرى به الإنكار؟

__________________

(١) زاد في ب : يذكر.

(٢) سقط في ب.

(٣) أخرجه ابن جرير عنه (٣٥٥٣٠) وفي ب : الخيل.

(٤) في ب : لا أقسم.

(٥) في ب : والوالد وهو آدم.

(٦) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٣٥٥٢٨) وابن المنذر والحاكم وصححه عنه ، كما في الدر المنثور (٦ / ٤٦٣) وهو قول قتادة أيضا.

٣٣٤

والجواب عن هذا من وجهين :

أحدهما : أن يكون القسم منصرفا إلى الحكمة التي توجب القول بالبعث ؛ إذ قد بينا في غير موضع : أنه بالبعث ما خرج خلق هذا العالم مخرج الحكمة ، ولو لا البعث ، لكان خلقه عبثا باطلا ، كقوله ـ عزوجل ـ : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون : ١١٥] ، كأنه قال : لا أقسم بحكمته الداعية إلى كون القيامة كذا أن يكون كذا.

وجائز أن يكون القسم في الحقيقة بالدلائل والبراهين التي من تفكر وأمعن النظر فيها ، حمله ذلك على القول بالبعث ، وإذا كان محتملا صح القسم بيوم القيامة وبالنفس اللوامة ؛ لأن التفكر في النفس اللوامة والاعتبار بها يدعو إلى القول بالبعث.

ثم العادة جرت على القسم بالأشياء التي عظم خطرها ، وجل قدرها في القلوب ؛ وجلالة خطرها يكون بأحد وجهين :

إما بما كثرت منافعها ؛ فيكون خطرها مشاهدا معروفا.

أو بعظم (١) خطرها بالدلائل والأخبار ، فالسّماوات والأرضون قد عرف الخلق جلالة أقدارهما بالعيان ؛ بما كثرت منافع الخلق بهما.

وعظم يوم القيامة بما جل خطره في القلوب ؛ وثبت القول بكونه بالدلالات والبراهين.

ثم قد وصفنا أن الله ـ تعالى ـ أقسم بأشياء ؛ لتأكيد ما يعرف بيانه ويجب القول به لو لا القسم لو أمعن النظر فيه ؛ وأعملت فيه الروية ؛ لذلك استقام القسم بها ، والله أعلم.

واختلف في النفس اللوامة :

قال بعضهم : النفس اللوامة هي النفس الكافرة ، تلوم ربها في الدنيا أبدا في تضييق العيش عليها ، وتشكو ربها من الفقر والإقتار عليها ، مع كثرة نعم الله عليها وإحسانه إليها.

ومنهم من صرف التأويل إلى كل نفس مؤمنة كانت أو كافرة ، فهي تلوم غيرها ؛ لتعاطيها أشياء قد تعاطت نفسه مثلها ، وامتحنت بها ، والحق على كل أحد ألا يلوم أخاه بما تعاطى فعلا قد أتى هو ذلك الفعل بعينه أو مثله ، ولكنها أنشئت كذلك لوامة ، كما قال : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً. إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً) [المعارج : ١٩ ، ٢٠].

ومنهم من ذكر أن هذا يكون في الآخرة ، فالكافر إذا أيقن بالعذاب وما حل به من نقمة الله تعالى ندم على ما فرط في جنب الله ، وأدركته الحسرة ؛ فعند ذلك يلوم نفسه ،

__________________

(١) في أ : ويعظم.

٣٣٥

والمؤمن إذا عاين الثواب يلوم نفسه لما (١) أمسك عن المعصية وتاب ، وأطال المقام في المحراب ؛ وأبصر للعاملين بالطاعة حسن المآب ، وللعاصي نفسه بما شذ منه وغاب ، عند كمال القوة وعنفوان الشباب ، وقال : كيف لم أزدد في العمل ؛ لأزداد في الثواب!

ومنهم من خص الكافر في الآخرة باللوم على نفسه ، وهذا أظهر ؛ لأن المسلم إذا أكرم بالثواب فشكره لذلك يشغله عن اللوم [على نفسه](٢) ؛ فلا يتفرغ له.

ولأن الله ـ تعالى ـ يضاعف له من الحسنات ، ويعطيه من الدرجات زيادة على ما استوجبه بعمله ؛ فضلا منه وإنعاما ، فكيف يلوم نفسه بتقصيرها في العمل ، وهو يعلم أن ما وصل إليه من الكرامات ، لم ينل جملتها بعمله ، بل بفضل الله تعالى وبكرمه ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) :

فقوله : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ) وإن خرج مخرج الاستفهام في الظاهر فليس هو باستفهام ؛ ولكنه تحقيق حسبان من الإنسان ؛ فجائز أن يكون [ما] حمله على الحسبان هو أن القدرة لا تنتهي إلى هذا في أن تجمع العظام وتؤلف بعد تفتتها وتلاشيها ، فيدفع حسبانه هذا بقوله : (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) [يس : ٧٩] فمن تفكر في النشأة الأولى ، علم أن القدرة تنتهي إلى جمع العظام بعد أن صارت رميما ، وأن الذي قدر على إنشائها لقادر على جمعها بعد تفريقها.

وجائز أن يكون حسب أن العظام لا تجمع بعد تفريقها ؛ لأنها لو جمعت بعد التفريق ، لم تكن تفرق (٣) بعد أن وجدت مجموعة ؛ ألا ترى أن المرء في الشاهد لا يقصد إلى نقض ما بنى ؛ ليعيده مرة أخرى إلى الجهة المتقدمة ، ومن فعل ذلك كان عابثا في هدمه ، ولم يكن حكيما ، فإن كان هذا المعنى هو الذي حمله على الحسبان ، فجوابه أن يقال بأن الجمع الأول وقع لمكان المحنة والابتلاء ، والجمع بعد التفريق لمكان الجزاء ؛ فإذا كان الجمع الثاني لغير الوجه الذي وقع [له] الجمع في الابتداء ، كان مستقيما صحيحا ، وإنما يخرج عن حد الحكمة إذا لم تكن الإعادة إلا للوجه الذي وقع الابتداء [له] ؛ ألا ترى أن الذي نقض بناءه إذا أعاده لا للوجه الذي كان بني أول مرة ، لم ينكر عليه.

وفيما ذكرنا رد قول الباطنية ؛ لأنهم زعموا أن هذه الأنفس تتلاشى وتتلف ؛ فلا تبعث ،

__________________

(١) في ب : بما.

(٢) سقط في ب.

(٣) في أ : يعرف.

٣٣٦

وأن البعث يقع على الأنفس الروحانية ، ولو كان كما زعموا ، لم يكن لقوله : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) معنى ؛ لأن العظام لا تجمع على قولهم بعد ما صارت رميمة ؛ فيكون الأمر إذن على ما وقع في حسبان هذا الإنسان ؛ فلا معنى للرد عليه بقوله : (بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) ؛ ألا ترى أن الذي حمله على الإنكار لجمع العظام بعد تفريقها هو أنه لم ير هذا موجودا في الشاهد ، ولو كان الأمر على ما زعمت الباطنية ، لكان الإنكار مدفوعا ؛ إذ وجد النفس الروحانية مبعوثة في الشاهد بعد توفيها ، وقال [الله](١) تعالى : (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) [يس : ٧٩] ، فأخبر أن الأنفس التي أنشئت أول مرة هي التي تحيا ، لا غير.

وقوله ـ عزوجل ـ : (بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) :

فمنهم من حمل هذه الآية على الابتداء ، وزعم أنه ليس فيها جواب لما يقتضيه قوله ـ عزوجل ـ : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ).

ومنهم من ذكر أن قوله : (بَلى) ، جواب لقوله : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ) ، فاكتفى بقوله : (بَلى) بما سبق منه من الدلالات والحجج على القول بالبعث ؛ فاقتصر على قوله : (بَلى) على الوصل بما تقدم من الدلالات.

ومنهم من جعل جوابه في قوله : (قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) ، معنى تسوية البنان : هو الجعل من عظم واحد ، مجموعا غير متفرق ، مثل خف البعير ، وحافر الدواب (٢).

ووجه الاستدلال : أنهم أقروا بأن الله تعالى قادر على [أن يسوي](٣) البنان ؛ لما رأوا التسوية موجودة في الدواب ، ثم الجمع بعد التفريق أظهر وجودا وأيسر فعلا من تسوية البنان ؛ ألا ترى أن المرء في الشاهد قد يقدر على التأليف والجمع بين أشياء متفرقة ، ويعجز عن تسوية البنان ؛ فإذا كانت التسوية أعسر وجودا من الجمع بعد التفريق ، ثم وصفوا الله تعالى بالقدرة على تسوية البنان ، فكيف أنكروا قدرته على جمع العظام بعد تفريقها؟ تعالى الله عما يقول الظالمون علوّا كبيرا!!.

ومنهم من يقول بأن الله تعالى لما لم يسو بين بنان الإنسان ، وسوى بين بنان الدواب ؛ ليصل إلى الأخذ والإعطاء ، وإلى التقديم والتأخير ، والقبض والبسط ، وأنواع المنافع التي

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٣٥٥٣٩ ، ٣٥٥٤١) وعبد الرزاق ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٦ / ٤٦٤) وهو قول عكرمة ، ومجاهد ، والضحاك ، والحسن أيضا.

(٣) في ب : تسوية.

٣٣٧

خص بها من نحو ما يملكون بالبنان تسخير الدواب والأنعام ؛ فعلم بالتفريق بين الدواب وبينهم أن البشر هم المقصودون بالمحنة ، وألا يتركهم سدى ، لا يأمرهم ، ولا ينهاهم ، ولا يستأديهم شكر ما أنعم الله عليهم ؛ وقد ائتمر البعض وعصى البعض ؛ فلا بد من دار أخرى للمجازاة ؛ فالنظر في هذا يحمله على القول بالبعث والجزاء.

ولأن الاستواء يقع في الابتداء ، والجمع بعد التفريق يكون عند الإعادة ، والعقول تشهد على أن أمر الإعادة أيسر من أمر الابتداء ، فإذا لم يتعذر عليه الاستواء في الابتداء ؛ فأنى يعسر عليه إعادة الجمع مع قدرته على الجمع في الابتداء؟

ولأنهم لما لم يخلقوا مستوية البنان ، فليعلموا أن في ترك الاستواء حكمة ، ولو كان الأمر على ما قدروا أن لا بعث لكان ذلك يخرج عن حد الحكمة ؛ فيكون فيما ذكر تثبيت البعث والقول بالقدرة على جمع العظام بعد تفرقها ، وتفتتها ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) :

قال أهل التفسير : يؤخر التوبة ، ويقدم المعصية ، ويقول : «سوف أتوب» ، فيأتيه الموت على شر حاله.

وعندنا يخرج على وجهين :

أحدهما : جائز أن يكون ذكر الإرادة لا على تحقيقها ؛ ولكن من فعل شيئا فعله على الإرادة والاختيار ، فكنى بالإرادة عن الفعل ؛ لأنها تقترن بالفعل (١) ؛ فيكون في ذكرها ذكر الفعل ، وهو كقوله ـ عزوجل ـ : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) [ص : ٢٧] ولم يظن أحد من الكفرة أن السماء والأرض خلقتا باطلا ، ولكن خلقهما خرج على الحكمة بالبعث والجزاء ، ففي ترك القول بالبعث وصف بأن خلقهما للعب والباطل ، ويؤدي إلى هذا ؛ فيصير كأنهم قالوا ذلك ، وظنوا كذلك ؛ فعلى هذا يحمل الأمر على الظن ، لا أن وجد منهم الظن في الحقيقة ؛ فكذلك إذا فعلوا فعل الفجور ، وكان فعلهم على الإرادة والاختيار ؛ فكأنهم أرادوا أن يفجروا أمامهم ، لا أن كانت الإرادة منهم متحققة لذلك مقصودا.

وجائز أن يكون ذلك على تحقيق الإرادة ، وذلك أن للشر والفجور سبلا (٢) من سلكها أفضت به إلى أن يستحق اسم الفجور ، وللخير والهدى سبلا من سلكها أفضى به الأمر إلى

__________________

(١) في أ : بالعقل.

(٢) في ب : سبيلا.

٣٣٨

أن يستحق اسم البر والتقوى ، فإنما صار إلى الفجور وإلى أنواع الشرور (١) بسلوكه ذلك السبيل ، وصار مريدا من هذه الجهة.

ثم قوله : (أَمامَهُ) ، يحتمل وجهين :

أحدهما : فيما بقي من عمره ؛ لأنه يترك الاستهداء والاسترشاد ، ويمضي على العادة التي عود نفسه على ذلك من الشرور والضلال.

ويحتمل أن يكون الأمام هو يوم القيامة ، ثم قال في موضع : (وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً) [الإنسان : ٢٧] بعد ذكر ذلك اليوم بالأمام والوراء جميعا ؛ فيكون قوله : (وَراءَهُمْ) ، أي : وراء الأوقات التي خلت ومضت ؛ فعلى اعتبار الإضافة إلى الأوقات الماضية يكون يوم القيامة وراءها ، وعلى اعتبار الإضافة إلى ذلك الفاجر يكون أماما ؛ لأنه يكون أمام هذا الفاجر ؛ فكذلك استقام الوصف بالأمام والوراء جميعا.

ثم ذكر الفجور ، ولم يذكر الكفر وإن كان الإنسان الذي يريد أن يفجر أمامه كافرا ؛ لأن في ذكر (٢) الفجور تعييرا وتشيينا ؛ إذ هو (٣) اسم للتعيير خاصة ، وليس في نفس الكفر تعيير ؛ إذ كل أحد ـ مؤمنا كان أو كافرا ـ مؤمن بشيء كافر بشيء ، فالكافر من حيث اسمه لم يصر قبيحا ؛ بل بمعناه ما قبح ؛ فكان الفجور أبلغ في التعيير من الكفر ؛ فسمي به ، والله أعلم.

وقال أبو بكر : معنى قوله : (يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) ، أي : يريد أن يعاين يوم القيامة ، ويعلم به أنه متى هو؟ تفسيره على أثره.

قوله ـ عزوجل ـ : (يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ) ، أي : يريد أن يعلمه بسؤاله متى هو؟ فأخبر أنها تقوم إذا (بَرِقَ الْبَصَرُ) ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ) سؤاله هذا سؤال تعنت واستهزاء ؛ لما ذكرنا أنه ليس في تعرف وقت كونه مزجر ولا مرغب ، وإنما يقع الزجر والرغبة بتذكير الأحوال التي تكون في ذلك اليوم ؛ فلذلك ذكر الأحوال التي تكون في ذلك اليوم ، ولم يوقفهم على ذلك الوقت متى يكون؟ إذ ليس في معرفة وقته كثير (٤) حكم ، فيجيبهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بجواب الحكماء ، لا أن يجيبهم بجواب مثلهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ) :

قيل : دهش وتحير ، ثم اختلف بعد هذا :

__________________

(١) في ب : الشر قد.

(٢) في أ : ذلك.

(٣) في أ : هم.

(٤) في ب : كبير.

٣٣٩

فمنهم (١) من صرف هذا إلى حالة الموت.

ومنهم (٢) من ذكر أن هذه الأحوال تكون يوم القيامة.

وإلى أي الحالين صرف التأويل ، فهو مستقيم ؛ لأن المنكر بالبعث إذا جاءه بأس الله تعالى ، ورأى ما حل به من الأهوال ـ أيقن بالبعث ، وعلم به.

ثم إن كان المراد به حالة الموت ؛ فقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ. وَخَسَفَ الْقَمَرُ. وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ. يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ) يخرج على التمثيل ، ليس على التحقيق ؛ لأن بصره إذا دهش وتحير ، صار بحيث لا ينتفع ببصر وجهه ، ولا ببصر قلبه ، لا يرى ضوء القمر ؛ فيصير القمر كالمنخسف ، وتصير الشمس والقمر كالمجموعين ، ولا يرى ضوء الشمس ولا نور القمر ؛ فيصير النهار عليه ليلا ، والليل نهارا ؛ شغلا بما حل به من البلايا والأهوال ، وهو كما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ، والآخرة جنة المؤمن وسجن الكافر» (٣) ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من كره لقاء الله ، كره الله لقاءه ، ومن أحب لقاء الله ، أحب الله لقاءه» (٤) فصرفوا تأويل هذين الخبرين إلى حالة الموت ؛ وذلك أن الكافر يعاين في ذلك الوقت ما أوعد من الأهوال والشدائد ؛ فكره مفارقة روحه من جسده ؛ لئلا يقع في تلك الأهوال والشدائد ، وتصير الدنيا له في ذلك الوقت كالجنة ، لا يجب مفارقتها.

والمؤمن إذا عاين ما وعد له من البشارات ، وأنواع الكرامات ، ود الخروج من الدنيا ؛ ليصل إلى ما أعد له ؛ فتصير الدنيا عليه كالسجن في ذلك الوقت ؛ فيكون هذا كله على التمثيل من الوجه الذي ذكرنا.

وإن كان ذلك على يوم القيامة ، فهو على تحقيق الخسف ، وجمع الشمس والقمر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ) :

يحتمل أن يكون قوله ـ تعالى ـ : (أَيْنَ الْمَفَرُّ) ، أي : ليس لي موضع فرار عما حل بي.

أو يقول : إلى أين أفر؟ وإلى من ألتجئ ؛ لأتخلص من العذاب؟ والله أعلم.

ثم قوله ـ عزوجل ـ : (فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ) :

__________________

(١) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير عنه (٣٥٥٦٢) وهو قول قتادة.

(٢) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير (٣٥٥٦٣) وعبد بن حميد ، وابن المنذر عنه ، كما في الدر المنثور (٦ / ٤٦٥).

(٣) أخرجه مسلم (٤ / ٢٢٧٢) كتاب الزهد (١ / ٢٩٥٦) ، والترمذي (٤ / ٤٨٦) كتاب الزهد (٢٣٢٤).

(٤) أخرجه البخاري (١١ / ٣٦٤) كتاب الرقاق (٦٥٠٧) ، ومسلم (٤ / ٢٠٦٥) كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (١٥ / ٢٦٨٤).

٣٤٠