تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٩٥

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى) ، أي : مقبل عليه بوجهك (١).

وقوله : (وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى) أي : ليس عليك غير التذكير (٢) إذا أعرض عنك وعاداك لم يمكن منه إلحاق ضرر بك ؛ [بل](٣) الله يعصمك ، ويدفع عنك شره.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى. وَهُوَ يَخْشى) ، أي : يعمل لله ـ تعالى ـ ويخشاه ، فجائز أن تكون الخشية علة للسعي ؛ فيكون معناه : أن خشيته هي التي حملته إلى السعي.

وقد يجوز أن يخرج الكلام مخرج العطف على جعل أحدهما علة للآخر [ودليلا للسعي ؛ فيكون معناه : أن خشيته هي التي حملته إلى السعي.

وقد يجوز أن يخرج الكلام مخرج العطف على جعل أحدهما علة للآخر](٤) ودليلا له ، قال الله ـ تعالى ـ : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) [البقرة : ٢٨] ، فكان الإحياء الأول دليلا للإحياء الثاني في موضع العطف والترتيب على الكلام الأول.

أو [أن](٥) يكون ابتداء ، فقوله (٦) : (جاءَكَ يَسْعى. وَهُوَ يَخْشى) لله تعالى ، ويخاف التبعة وحلول النقمة.

وقوله ـ تعالى ـ : (كَلَّا) قال الحسن : معناه : أن الذي فعلته من التولى عن المؤمنين والإقبال على الكفرة ، ليس من حكمي.

وذكر أبو بكر الأصم : لما نزل قوله : (عَبَسَ وَتَوَلَّى) إلى قوله : (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) تغير وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وخاف زوال الرسالة ، وأن يمحى اسمه منها ، فلما نزل قوله : (كَلَّا) علم أنه لم يودعه ربه ؛ حيث نهاه عن العود إلى مثله.

وقال المفسرون : (كَلَّا) ، أي : لا تعد إلى مثل هذا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّها تَذْكِرَةٌ) :

جائز أن يكون هذا منصرفا إلى السور كلها.

وجائز أن يكون منصرفا إلى هذه السورة ؛ لأن فيها إثبات التوحيد وإثبات الرسالة من

__________________

(١) في أ : بوجهه.

(٢) في ب : التذكر.

(٣) سقط في ب.

(٤) ما بين المعقوفين سقط في ب.

(٥) سقط في ب.

(٦) في ب : فقولك.

٤٢١

الوجه الذي ذكرنا ، ودلالة البعث وآياته أن خلق البشر ليس على العبث ، [فهي تذكرة لمن يذكر بها](١).

أو جائز أن يكون منصرفا إلى الآيات التي قبل هذا في هذه السورة ، وهو أن فيما تقدم في هذه السورة من الآيات تثبيت رسالته بما تقدم ذكرنا له.

وجائز أن يقال : إن هذه تذكرة ؛ أي : هذه المعاتبة تذكرة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولجميع المؤمنين ؛ ليعرفوا من يستوجب التعظيم والتبجيل ، ومن يستوجب إهانته والاستخفاف.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) ، جائز أن يكون معناه : من شاء الله أن يذكره ، أو ما شاء ذكره ؛ أي : قد مكن كل من التذكير ، وأنه ليس أحد بممنوع ولا مجبور على الفعل ، فمن ترك التذكر (٢) ، فهو الذي ضيع ذلك ؛ حيث آثر واختار ضده ، واشتغل بغيره ، وأعرض عن ذكره.

وجائز أن يكون على تحقيق الفعل ؛ أي : من تذكر به فهو ذكر له ؛ فكنى بالمشيئة عن الفعل ؛ لما ذكرنا أنها تقترن بالفعل ولا تزايله ؛ فيكون في ذكرها ذكر الفعل.

أو يكون على إرادة الفعل قبل وجوده.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ) قيل : هي (٣) الصحف المتقدمة ؛ كقوله : (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى. صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) [الأعلى : ١٨ ، ١٩].

وقوله : (فِي صُحُفٍ) أي : في أيدي الملائكة.

وقوله : (مُكَرَّمَةٍ) ، أي : مكرمة بما يكرمها أهل الكرامة ، وهم السفرة البررة.

أو مكرمة على الله تعالى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (مَرْفُوعَةٍ) ، أي : مرفوعة القدر ، مطهرة من التناقض والاختلاف.

أو مطهرة من أن ينالها أيدي العصاة.

أو مطهرة من الأقذار والأدناس.

وقوله ـ عزوجل ـ : (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ) السفرة : الكتبة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (كِرامٍ بَرَرَةٍ) أي : كرام على الله تعالى ، بررة في أعمالهم ؛ كما وصفهم الله ـ تعالى ـ بقوله : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [التحريم : ٦].

__________________

(١) في ب : فهي تذكر فيها.

(٢) في ب : التذكير.

(٣) في أ : هو.

٤٢٢

قوله تعالى : (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (٢٣) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (٢٤) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (٢٧) وَعِنَباً وَقَضْباً (٢٨) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (٢٩) وَحَدائِقَ غُلْباً (٣٠) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (٣١) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ)(٣٢)

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) ، قالوا : تأويله : لعن الإنسان.

وذكر الحسن والمعتزلة : أن هذا من الله ـ تعالى ـ على الشتم والتسمية له بذلك ، واستجازوا الشتم منه.

والأصل أن ليس في الشتم إلا ظهور سفه الشاتم وعبثه ؛ إذ لا ضرر يلحق بالمشتوم من جهة الشتم ، وإنما ضرر ذلك الشتم على الشاتم خاصة ، وأما المشتوم فإنما يصير مشتوما بفعله لا بشتم الشاتم ، وجل الله ـ تعالى ـ من أن ينسب إليه فعل السفه ؛ فلذلك (١) قلنا : إنه لا يتحقق معنى الشتم في الكلمة التي (٢) عرفت شتما فيما بين الخلق إذا (٣) جاءت من الله ـ تعالى ـ كما لا يحقق من الكلمة التي عرفت اغتيابا فيما بين الخلق إذا جاءت من الله ـ تعالى ـ معنى الاغتياب ، بل يحمل ذلك على الردع والتنبيه ؛ فيكون في ذكرها تخويف من خوطب بها ، وتذكر للخلق سفهه وجهله ؛ ألا ترى أن المرء في الشاهد قد يتكلم بما فيه هتك الستر على المخاطب ثم لا يعد ذلك منه اغتيابا ؛ إذا قصد به وعظه وزجره عما هو [فيه](٤) ، وأرشده إلى ما فيه صلاح آخرته وأولاه ، فكذلك الله ـ تعالى ـ إذا جاء منه ما يعد شتما من غيره واغتيابا ، لم يلحقه وصف الشتم والغيبة ؛ إذ ذلك منه على التذكير (٥) والتنبيه للخلق ، وعلى التخويف والتهويل لمن نسب إليه ذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ما أَكْفَرَهُ) ، أي : ما أقبح كفره ، وأوحشه ، وأشنعه ؛ لأنه علم أن جميع ما أنعم به من النعيم فمن الله ـ تعالى ـ ثم هو لم يشكر نعمه ، ولا أطاعه فيما دعاه إليه ؛ بل وجه شكر نعمه إلى من لا ينفعه ولا يضره ، وعند من لا يسمع ، ولا يبصر ، ولا يغني عنه شيئا ، [و] ما هذا إلا غاية الفحش ونهاية القبح.

أو ما أوحش كفره وأقبحه بما سوى بين الشكور والكفور ، وبين المفسد والمصلح ،

__________________

(١) في ب : فكذلك.

(٢) زاد في ب : هي.

(٣) في ب : إذ.

(٤) سقط في ب.

(٥) في ب : التذكر.

٤٢٣

وبين الولي والعدو ، والعقل يوجب التفرقة بينهما ، فهو بإنكاره البعث كابر عقله وعانده ، فما أشد كفر من هذا وصفه.

ثم قوله ـ تعالى ـ : (ما أَكْفَرَهُ) أي : أي شيء أكفره؟ فيكون في ذكره تعجيب لمن آمن من الخلائق وتذكير لهم عن سوء من هذا فعله وسوء معاملته مع ربه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ. مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ) فكأنه قال : إن الذي كفر قد علم أنه خلق من نطفة ، وتلك النطفة موات ، لا سمع فيها ولا عقل ، ولا شيء من الجوارح ، ثم الله تعالى بلطفه وعجيب حكمته دبر فيها بصرا يرى بفتحة واحدة ، وفي أدنى وهلة مسيرة خمسمائة عام ، وقدر فيها عقلا يرى به ملكوت السموات والأرض ، وقدر فيها السمع ، والبصر ، وغيرهما من الجوارح ، أفترى أن من بلغت قدرته هذا يعجز عن إحياء من أماته وعن بعثه بأقل من لحظة.

أو يكون قوله : (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ) تعريفا منه أنه خلقه من نطفة ، ويكون في ذكره ما ذكرنا من الفوائد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَقَدَّرَهُ) ، أي : سواه على وجه يكون فيه دلالة ربوبيته وشهادة وحدانيته.

أو قدره على ما فيه صلاحه ومنفعته.

أو قدره على [ما يشاء](١) من القصر والطول ، والدمامة والملاحة ، وغير ذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) يحتمل أن يكون المراد من السبيل الدين ، فكأنه يقول : يسر له سبيل درك ذلك السبيل إلى الله ـ تعالى ـ على ما ذكرنا أن الدين إذا أطلق أريد به دين الله تعالى ، وكذلك الكتاب المطلق يراد به كتاب الله تعالى ؛ فعلى ذلك : السبيل إذا ذكر مطلقا كان منصرفا إلى سبيل الله تعالى.

أو يسر له السبيل : سبيل الهدى ، وسبيل الضلال ، والسبيل الذي لو سلكه نفعه ، والسبيل الذي يضره.

أو يسر له السبيل الذي علم الله أنه يختاره ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى. وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى. وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى ..). [الليل : ٥ ـ ١١].

أو يسر عليه سبيل الخروج من بطن أمه على ضيق ذلك الموضع وكبر جثته ؛ ليعلموا أن من بلغت قوته هذا فهو قادر على ما أراد ، لا يعجزه شيء ، ولا يخفى عليه أمر.

__________________

(١) في أ : منشأ.

٤٢٤

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ) ، ففي ذكر هذا ذكر النعم ، وهو أن الله ـ تعالى ـ جعل لما يخبث ويتغير كنا يكن فيه ؛ فيستره عن (١) الخلق ؛ لئلا يعافوه ويستقذروه ، لم يجعل ذلك لغيرهم ، وجعل لأنفسهم إذا هم تغيرت [أجسادهم](٢) بالموت ، وصارت بحيث تستخبث وتستقذر ـ كنا تستتر فيها ؛ لتغيب عن الخلق ؛ فلا يتأذوا بها ، فذكرهم هذا ؛ ليشكروه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ) معناه ـ والله أعلم ـ : كذلك إذا شاء أنشره ؛ لأن هذا كله إخبار في موضع الاحتجاج ، فكأنه قال : إن الذي خلقه من نطفة وقدره ، ثم أماته فأقبره ، فهو كذلك ينشره إذا شاء ، وكذلك هذا في قوله : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) [البقرة : ٢٨] ، أي : إن الذي أحياكم ، ثم أماتكم ، فكذلك هو الذي يحييكم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) :

منهم من ذكر أن هذا الخطاب في كل أحد ، لا ترى إنسانا قضى جميع ما عليه من الأمر على حد ما أمر حتى لا يغفل عنه ولا يقصر فيه ؛ بل من الله ـ تعالى ـ على كل أحد في كل طرفة عين نعمة ، لا يتهيأ لأحد أن يقوم بكنه شكرها حتى لا يقع منه في ذلك جفاء ولا تقصير.

ومنهم من يقول : هذا في الكفار خاصة ، لا يقضون ما أمروا به من التوحيد.

فإن كان على هذا فهو منصرف إلى ابتداء الأمر.

وإن كان على الوجه [الأول](٣) ، فهو منصرف إلى كنه الأمر ، ويستقيم توجيهه إلى الكافر ، على ما ذكروا ؛ لأن [إيمان المؤمن له حكم](٤) التجدد في كل وقت ؛ إذ هو في كل وقت مأمور باجتناب الكفر ، فهو يجتنبه ، فذلك يكون (٥) ، وإذا كان كذلك ، ثبت (٦) أنه في كل وقت مؤمن ؛ لما أمر به هو مجتنب عما نهي عنه ، فهو بإيمانه راجع عن الزلات في كل حال ، معتقد للوفاء بما أمر به ؛ لذلك كان صرفه إلى الكافر أوجه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ) كيف قدر له حيث استعمل فيه

__________________

(١) في ب : على.

(٢) سقط في ب.

(٣) في أ : الذي ذكرنا.

(٤) في ب : لإيمان المؤمن حكم.

(٥) هكذا في الأصول.

(٦) في ب : يثبت.

٤٢٥

السموات ، والأرضين (١) ، والهواء ، والشمس ، والقمر ، والليل ، والنهار ، فاستعمال السماء في إنزال المطر منها ، واستعمال الهواء في جعله مسلكا للمطر ، واستعمال الأرض في جعلها قرارا للمطر وأخرج منها ما فيه قوامهم ومنافعهم ؛ فيكون في ذكر هذا فوائد : إحداها : في موضع التعريف للخلائق : أن منشئ السموات والأرضين ، ومنشئ الخلق والشمس والقمر ـ واحد ؛ لاتصال منافع بعض ببعض ؛ إذ لو لم يكن كذلك ، لكان لمنشئ السماء أن يمنع منافع السماء عن خلق منشئ الأرض.

و [الثانية :] فيه تذكير قوته وعجيب حكمته ؛ ليعلموا أنه قادر على كل ما يريد فعله ؛ لا يضعف عن ذلك ، ولا يعجزه شيء ؛ لأنه جمع بين منافع ما ذكرنا مع تناقضها واختلافها في نفسها ، فجعلها من حيث المنافع متسقة متفقة ، وجعل كل واحدة منهن كالمتصلة بالأخرى ، المقترنة بها مع بعد ما بينهما ، فمن قدر على الاتساق بين الأشياء المختلفة ، وقدر على الوصل بين الأشياء المتباعدة بعضها عن بعض ـ لقادر على إحياء الأموات والبعث.

و [الثالثة :] ذكرهم هذا ليبين لهم حكمته وعلمه ؛ ليعلموا أنه لا يخلق الخلق عبثا ، ولا يتركهم سدى لا يستأدي منهم الشكر ، ولا يبعثهم ؛ بل ينشئهم ويميتهم فقط ، فيخرج خلقه على ما فيه خروج عن الحكمة ، ولأنه خلق البشر على وجه تمسه الحاجات ، وتمسه الشهوات ، وقدر الطعام على وجه إذا تناول منه دفع حاجته وسكن شهوته ، ولو أراد أحد أن يتدارك المعنى الذي يعمل في دفع الحاجة وتسكين الشهوة ما هو؟ لم يصل إلى تعرفه ؛ فيؤدي تفكره إلى دفع الشبه والاعتراضات التي تعتريه في أمر البعث وغيره ؛ إذا كانوا يقدرون الأمور على قواهم ويسوونها على ما ينتهي إليه تدبيرهم ، فإذا وجدوا في الطعام معاني هي خارجة من تدبيرهم وقواهم علموا أن ليس الأمر على ما قدروا ؛ فيرتفع عنهم الريب والإشكال ، وكذلك (٢) لو أرادوا أن يستخرجوا من الماء المعنى الذي به صلح أن تكون به حياة الأشياء كلها مع اختلاف الأشياء وتفاوتها واختلاف طعومها وألوانها ـ لم يمكنهم ذلك ؛ فيعلمون (٣) أن الذي بلغت حكمته هذا المبلغ قادر على ما يشاء ، فعال لما يريد ، ويكون في النظر فيما ذكر حاجته وافتقاره إلى غيره تبيين أن الله ـ تعالى ـ لم ينشئ الخلق لحاجة نفسه ، وإنما خلق لحاجة البشر إليه.

__________________

(١) في ب : الأرض.

(٢) في ب : ولذلك.

(٣) في ب : فعلموا.

٤٢٦

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا. ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا) ؛ ليقر الماء في شقوقها فيصل الخلق إلى الانتفاع به.

أو شققناها (١) للنبات ، فأنبتنا فيها حبا وعنبا ، فذكر الحب والعنب ، وأخبر أنه أنبتهما في الأرض ، وهما في الحقيقة غير نابتين في الأرض ، ولكن أخرجهما من أصل هو نابت في الأرض ، فأضافهما إليها لما يرجع الابتداء إليها ، وهو كقوله ـ تعالى ـ : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ) [الذاريات : ٢٢] ، ورزقنا (٢) من السماء المطر ، لكن الذي هو رزقنا من الطعام وغيره إنما ينبت في الأرض ، وخرج منها بالقطر من السماء ؛ فأضيف إليه ؛ فعلى ذلك أضيف الحب والعنب إلى ما ذكرنا ؛ للمعنى الذي وصفنا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقَضْباً) القضب : هي الرطبة ، سميت : قضبا ؛ لأنها تقضب ، وتقطع (٣) مرة بعد مرة.

(وَزَيْتُوناً) في ذكر الزيتون ما ذكرنا من الفائدة ، وهي أن الزيتون ألين الأشياء نبت (٤) أصله في الجبال التي هي أصلب الأرض ، فمن قدر على إخراج ألين الأشياء عن أصلب الأشياء لقادر على الإنشاء والبعث ؛ إذ من قدر على أن يخرج ألين الأشياء من أصلب الأشياء لقادر على أن يلين القلوب القاسية حتى تلين لذكر الله تعالى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَحَدائِقَ غُلْباً) الحدائق هي البساتين التي أحدقت بالأشجار وأحاطت بها ، والغلب : الغلاظ ؛ يقال : رجل أغلب ؛ إذا كان غليظ الرقبة ، وقوم غلب الرقاب ، أي : غلاظ ، وقالوا ـ أيضا ـ : الغلب الأشجار الكثيفة الطويلة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَفاكِهَةً وَأَبًّا) والأب : الكلأ ، فيخبر أنه أنشأ هذه الأشياء ؛ لتكون متاعا للخلق والأنعام ، لا لمنافع نفسه.

قوله تعالى : (فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (٤١) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ)(٤٢)

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ) قال الحسن : هي اسم القيامة يصخ لها كل شيء ، وبه يقول أبو بكر : إنه يصخ لمجيئها كل شيء ، أي : يخشع لها ويطأطئ رأسه

__________________

(١) في ب : أشققناها.

(٢) في ب : فرزقنا.

(٣) في ب : فتقطع.

(٤) في ب : أنبت.

٤٢٧

للداعي ، كما قال [الله](١) تعالى : (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ) [القمر : ٨].

وقال القتبي : الصاخة هي الداهية ، فذكر القيامة بالأحوال التي تكون فيها ، أو بالأفعال التي توجد فيها ؛ على ما ذكرنا.

وقال الزجاج : الصاخة : المصمة ، تصم لها الأسماع عن كل شيء إلا إلى ما يدعى إليها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ) جائز أن يكون هذا على تحقيق الفرار.

وجائز ألا يكون على التحقيق ، ولكن وصف بالفرار لما يوجد منه المعنى الذي يوجد من الفار ، قال الله ـ تعالى ـ : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) [المؤمنون : ١٠١] والوجه فيه أن الأقرباء من شأنهم أنهم إذا اجتمعوا استبشر بعضهم ببعض ، وأنسوا بالاجتماع ، وإذا غابوا سألوا عن أحوالهم ، واهتموا لذلك.

ثم هم في ذلك اليوم يدعون السؤال عند الغيبة والاستبشار عند الحضرة حتى كأنه لا أنساب بينهم ، لا أن يكون بينهم في الحقيقة نسب ، ولكن ما يحل بكل واحد من الاهتمام يشغله عن السؤال بحاله والاستبشار برؤيته حتى يصير كالفرار ؛ لوقوع المعنى الذي يوجد من الفار ، لا على تحقيق الفرار ؛ لأنه قال : (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) فما (٢) يحل من الشأن يمنعه عن الفرار عن نفسه وعن أقربائه.

أو يكون على حقيقة الفرار ، وذلك أن الأقرباء لا يوجد منهم القيام بوفاء جملة ما عليهم من الحقوق حتى لا يوجد منهم التقصير ؛ فيخافون (٣) في ذلك اليوم أن يؤاخذوا بذلك فيحملهم على الفرار.

أو يفر كل واحد منهم عن تحمل ثقل الأقرباء ، كما قال : (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) [فاطر : ١٨] ، وقد كانوا يتعاونون في الدنيا في تحمل الأثقال ، فيخبر أنهم لا يتعاونون في ذلك اليوم ؛ بل يفرون.

ثم جائز أن يكون هذا في الكفرة ، وأما أهل الإسلام فإنه يجوز أن تبقى بينهم حقوق القرابة كما أبقيت المودة فيما بين الأخلاء بقوله : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [الزخرف : ٦٧].

وإن كان في المسلمين والكفرة جميعا فجائز أن يكون الفرار في بعض الأحوال ، وذلك

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : لما.

(٣) في ب : فيحتاجون.

٤٢٨

في الوقت الذي لم يتفرغ عن شغل نفسه ، فأما إذا أمن وجاءته البشارة فهو يقوم بشفاعته ، ويسأل عن أحواله ، ولا يفر منه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) قالوا : أفضى إلى كل إنسان ما يشغله عن غيره.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ) ، أي : مضيئة ، أو ناضرة ، ناعمة ، مشرقة ؛ فيكون فيه إخبار عما هم فيه من النعيم ؛ حتى يظهر ذلك في وجوههم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) ، أي : مسرورة بنعيم (١) الله ـ تعالى ـ الذي أنعم (٢) عليهم ، مستبشرة برضاء الله ـ تعالى عنها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ) قالوا : هذا أول تغير يظهر في وجوههم ، كأنما علاها الغبار ، ثم تسود ، ثم تطمس ، وترد على أدبارها ، كما قال : (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها) [النساء : ٤٧].

وقوله ـ عزوجل ـ : (تَرْهَقُها قَتَرَةٌ) قال أبو بكر : (تَرْهَقُها قَتَرَةٌ) ، أي : تغشاها الذلة ، أو تعلوها ، ثم تتلون بعد ذلك ؛ فتكون كأنما علاها الغبار ، ثم تسود على ما ذكرنا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) ، أي : الكفرة بأنعم الله تعالى ، الفجرة : المائلة عن الحقوق ، والله الموفق ، [وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين](٣).

* * *

__________________

(١) في ب : بنعم.

(٢) زاد في ب : الله.

(٣) سقط في ب.

٤٢٩

[سورة كورت وهي مكية](١)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (٤) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (٦) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (١١) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (١٣) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ)(١٤)

قوله ـ عزوجل ـ : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) هذا ليس بابتداء خطاب ، ولكنه جواب عن سؤال تقدم ؛ فيشبه أن يكون السؤال عن وقت لقاء الأنفس الأعمال ؛ فنزل قوله : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) إشارة إلى أحوال ذلك الوقت وآثارها ؛ على ما نذكر المعنى الذي له وقع لتبيين الأحوال دون تبيين الوقت في سورة (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ).

واختلف في قوله ـ تعالى ـ : (كُوِّرَتْ) :

قال بعضهم (٢) : هي فارسية ، معربة ، وهي بالعربية : غورت.

وقال بعضهم (٣) : (كُوِّرَتْ) ، أي : ذهب ضوؤها ؛ يقال : كور الليل على النهار ، أي : أذهب (٤) نوره وضياءه ؛ فالتكوير يغطي لون الشيء عن الأبصار ، فقيل : كورت الشمس ، أي : حبس ضوؤها على الأبصار بالطمس ؛ فيكون فيه إنباء أنه يطمس ظاهرها ، ثم يرد التغيير في نفسها فتتلف وتتلاشى ، ومنه يقال : كور العمامة ؛ إذا لفها على رأسه فتغطيه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) : تناثرت وتساقطت ، وهو كقوله : (وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) [الانفطار : ٢].

وقيل : ذهب ضوؤها ؛ فكأن ضوءها يذهب أولا ، ثم تتناثر بعد ذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ) ، أي : قلعت عن أماكنها وسيرت ، كما قال في آية أخرى : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) [النمل : ٨٨] ، وهي إذا قلعت تكثرت ؛ حتى لا يتبين للناظر سيرها ؛ لكثرتها ؛ فيحسبها جامدة ، وهي تسير ، فهذا

__________________

(١) في ب : سورة (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ).

(٢) قاله سعيد بن جبير أخرجه ابن جرير (٣٦٤٠٥) ، وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم من طرق عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٢٥).

(٣) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٣٦٤٠٢) ، وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٢٦).

(٤) في ب : ذهب.

٤٣٠

أول تغير يظهر منها ، ثم تصير كثيبا مهيلا ، ثم كالعهن المنفوش ، ثم هباء منثورا إلى أن تتلاشى وتتلف.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ) ، فالعشار هي النوق الحوامل التي أتى على حملها عشرة أشهر ، وهي من أنفس الأموال عند أهلها ؛ فيخبر أن أربابها يعطلونها في ذلك اليوم ولا يلتفتون إليها ؛ لشغلهم بأنفسهم في ذلك ، وهو كما قال : (يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ) إلى قوله : (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى) الآية [الحج : ٢].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) قيل (١) : جمعت ، وهو يحتمل وجهين :

أحدهما : أن تجمع كلها فتتلف وتهلك.

والثاني : أن تحشر مرات يحييها بعد موتها ؛ فيضع الله تعالى فيها ما شاء ؛ فيكون في هذا إخبار عن عظم هول ذلك (٢) اليوم ؛ حتى يؤثر الهول في الوحوش ، والشمس ، والقمر ، والسموات.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) قيل (٣) : فجرت ، وسنذكر تأويل التفجير فيما بعد ، [إن شاء الله تعالى](٤).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) قيل (٥) : قرنت.

ثم اختلف في معنى القران :

فقال بعضهم : قرن زوجها إليها.

وقال بعضهم : يقرن كل بأهل شيعته ؛ فيقرن الكفرة بالشياطين ، وأهل الشراب بأهل الشراب ، وأهل الزنى (٦) بأهل الزنى (٧) ، وقال [الله ـ عزوجل ـ :](٨)(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) [الزخرف : ٣٦] إلى قوله : (يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ

__________________

(١) انظر : تفسير ابن جرير (١٢ / ٤٦٠).

(٢) في ب : تلك.

(٣) قاله الضحاك أخرجه ابن جرير (٣٦٤٤٠) ، وعبد بن حميد عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٢٦).

(٤) سقط في ب.

(٥) قاله عمر بن الخطاب بنحوه أخرجه ابن جرير (٣٦٤٤٦ ، ٣٦٤٥١) ، وعبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وسعيد بن منصور ، والفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في البعث وأبو نعيم في الحلية عن النعمان بن بشير عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٢٧).

(٦) في ب : الربا.

(٧) في ب : الربا.

(٨) سقط في ب.

٤٣١

الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ) [الزخرف : ٣٨] ، ففي هذا إخبار أن المعذب منهم إذا رأى عدوه يعذب عذابه ، ويكون في العذاب الذي هو فيه لم يتسل بذلك شيئا ، ولم ينل به راحة ، وإن كان المرء في الدنيا إذا رأى عدوه يعذب عذابه يتسلى بذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ) ، وقرأ بعضهم : وإذا الموؤدة سألت وهذا (١) هو الظاهر أن تكون هي السائلة ، أي : تسأل إياهم : بأي ذنب قتلت؟! وتقول : بأي ذنب قتلتموني؟!.

وكانت العرب تدفن بناتها ، يقال : وأدته : أي : دفنته (٢).

ثم القراءة المعروفة : (سُئِلَتْ) ، وهي تحتمل أوجها ثلاثة :

أحدها : ذكر أبو عبيد وقال : إن قتلتها (٣) تسأل : بأي ذنب قتلت الموءودة؟!.

و [الثاني :] يحتمل أن تسأل الموءودة عند حضرة الذين وأدوها : بأي ذنب قتلت؟! يراد بالسؤال تخويف وتهويل للذين وأدوها ، لا سؤال استخبار واستفهام ، وهو كقوله ـ تعالى ـ : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) [المائدة : ١١٦] ، وليس يسأل عن هذا سؤال استخبار واستفهام ، ولكن يسأل سؤال تخويف وتهويل لمن ادعى أن عيسى ـ عليه‌السلام ـ هو الذي أمرهم أن يتخذوه وأمه إلهين من دون الله.

و [الثالث :] جائز أن تسأل الموءودة : أتدعي أو لا تدعي؟ وما (٤) الذي تدعي عليهم؟ فيبدأ بها بالسؤال ، كما يرى المدعي في الشاهد هو الذي يبدأ بالسؤال ، فيقال له : ما تدعي على هذا؟ فقوله : (بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) كأنها إذا سئلت عن الذي ادعت ، قالت : (بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) ، أي : الكتب نشرت للحساب ، وهي التي فيها أعمال ابن آدم وقتما تدفع إليهم بأيمانهم وشمائلهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ) ، قيل : قشرت ، وذلك أن تتناثر النجوم ، وتطمس الشمس ، فتطوى كطي (٥) السجل للكتب.

وقيل : كشفت ، تكشف السماء ، كما يكشف الغطاء عن الشيء.

__________________

(١) في ب : فهذا.

(٢) في أ : وادية : أي دفينة.

(٣) في ب : قتلها.

(٤) في ب : وأما.

(٥) في ب : طي.

٤٣٢

ويقال : كشطت ؛ أي : قلعت كما يقلع السقف.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ) يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يحدث تسعيرها ؛ فيكون فيه علم الحدثيّة ، وكذلك في قوله ـ تعالى ـ : (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) يحتمل أن يبتدئ تسجيرها ، ولما تسجر من قبل.

وجائز أن يراد من التسجير والتسعير على ما كان من قبل ؛ لقوله : (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) [البقرة : ٢٤] وقد كان وقودها بغير هذين ، ثم يزاد (١) في وقودها بالناس والحجارة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ) قيل (٢) : قربت ؛ فأضيف إليها التقريب ؛ لأن أهلها إذا قربوا إليها فقد قربت هي إليهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) ، أي : ما أحضرت من خير أو شر ؛ كقوله تعالى : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً) الآية [آل عمران : ٣٠].

أو تعلم ما أحضرتها الملائكة الذين كتبوا عليها.

قوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (١٦) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (١٨) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (٢٥) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٢٧) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ)(٢٩)

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ. الْجَوارِ الْكُنَّسِ) : الأشياء التي وقع بها القسم تقتضي أحكاما ثلاثة.

أحدها : ما من شيء خلقه الله ـ تعالى ـ إلا وفيه دليل وحدانيته ، وآية ربوبيته ، إذا أنعم النظر فيه ، ويثبت علمه وحكمته ، ويدل على قدرته وسلطانه ، وفي تثبيت القدرة والسلطان إيجاب القول بالبعث ، وإيجاب القول بالرسل ، ونهي عن عبادة غير الله ، فلو أنعموا النظر فيها وتفكروا في أمرها ، لأداهم ذلك إلى القول بالبعث ، ودعاهم إلى وحدانية الرب والإقرار بالرسل ؛ فلا يدعون أن معه آلهة أخرى ، ولا كانوا ينكرون البعث ،

__________________

(١) في أ : يراد.

(٢) قاله الربيع بن خثيم أخرجه سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٢٦).

٤٣٣

ولا يكذبون الرسول ؛ فأقسم بهذه الأشياء على التأكيد لحججه (١) ؛ ليعلموا أنه رسول من عنده ، أو أن القرآن من عنده ، أو أن الأوامر (٢) من عنده ، أو الرسول من عنده.

أو يكون القسم تلقينا من الله ـ تعالى ـ لرسوله بأن يقسم لهم بهذه الأشياء ؛ ليزيل عنهم الشبه (٣) والشكوك التي اعترضت للكفرة في أمره ـ عليه‌السلام ـ ويدعوهم إلى النظر في حججه وآياته.

ثم القسم بما لطف من الأشياء ودق ، وبما كثف وغلظ ، وبما كبر وصغر ، وبما ظهر وخفي ، تتفق كلها في إزالة الشبهة وإثبات التوحيد والرسالة والبعث ، بل الأعجوبة فيما لطف من الأشياء أعظم منها فيما كثف وغلظ ، فأقسم مرة بالكواكب ، ومرة بظلمة الليل وما يضحى ، وبما شاء من خلقه ؛ إذ الخلائق كلها في الشهادة على وحدانيته وإثبات ربوبيته وإثبات علمه وحكمته وقدرته وسلطانه ـ متفقة.

ولأن ما لطف من الأشياء وخفي منها يتصل بما ظهر منها ، فيتضمن ذكر ما خفي منها واستتر ذكر ما ظهر منها ، وفي ذكر ما ظهر منها ذكر منشئها ؛ فيكون القسم في الحقيقة بالله تعالى.

ثم اختلف في (الخنس) و (الكنس) :

قال أبو بكر : إن (الخنس) هي النجوم تخنس بالنهار ، وتظهر بالليل.

وقال الحسن : الخنس : هي النجوم اللاتي يطلعن في مطالعها ويغبن في مغاربها ، و (الْكُنَّسِ) : هي النجوم اللاتي يطلعن في مطالعها [ثم](٤) يكنسن ويختفين إلى أن يعدن إلى مطالعهن فيطلعن.

وقيل (٥) : (بِالْخُنَّسِ. الْجَوارِ الْكُنَّسِ) هي خمس كواكب لهن مجار في السماء يظهرن بالليل ويستترن بالنهار ، وسائر الكواكب ثوابت.

ثم قيل : الخنوس والكنوس واحد ، وهو الاختفاء والغروب في مغاربها والدخول فيها.

وقيل : الخنوس : الاختفاء ، والكنوس : التأخر ، وكذا قال الفراء : هي النجوم الخمسة

__________________

(١) في ب : بحججه.

(٢) في ب : الأمر.

(٣) في ب : الشبهة.

(٤) سقط في ب.

(٥) قاله علي بن أبي طالب أخرجه ابن أبي حاتم من طريق الأصبغ بن نباتة عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٢٨).

٤٣٤

تخنس في مجراها ، وترجع.

وفي حديث كعب : «فتخنس بهم النار كما تخنس النجوم الخنس» ، أي : تحيد بهم وتتأخر ، والله أعلم.

وعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : هي الوحوش اللاتي تخنس من الإنس ، وتكنس في مكانسهن (١) ، وأيما كان فهي كلها دالة على الوجوه التي ذكرنا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ) قيل : إذا أقبل.

وقيل (٢) : إذا أقبل وإذا أدبر.

وقوله : (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) : إذا انفجر ، وإذا ارتفع ، وفي إقبال الليل وإقبال النهار تثبيت القدرة والسلطان ؛ وذلك أن ظلمة الليل إذا غشت سترت عن وجوه الأشياء وكشف [النهار] عنها الستر ، ولو أراد أحد أن يغطي الأشياء كلها بالحيل والأسباب لم يتمكن منها ، ولو أراد نزع الغطاء عنها ، لم يملك (٣) ، فذكرهم هذا ؛ ليعلموا أن من بلغت قدرته هذا لا يعجزه أمر ، ولا يتعذر عليه البعث ؛ بل هو قادر على إحيائهم وبعثهم.

وقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) فموضع القسم على هذا ، وعلى قوله ـ تعالى ـ : (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ).

ثم تأويل قوله : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) ، أي : هذا الذي أتاكم به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلقاه عن رسول كريم على ربه ، وهو جبريل ـ عليه‌السلام ـ ثم نسب هاهنا إلى الرسول ؛ لما سمع منه ، ولم يكن من قبله ، وقال في آية أخرى : (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ)(٤) [التوبة : ٦] فسماه : كلام الله ؛ على الموافقة ، أو لما أن ابتداءه يرجع إليه ، لا أن يكون المسموع كلامه ، كما يقال : هذا قول أبي حنيفة رحمه‌الله ، وهذا قول فلان الشاعر ، وليس الذي سمعته قول من نسب إليه ، ولكن نسب إليه ؛ لأن ابتداءه يرجع إليه ؛ فكذلك سمي : كلام الله ؛ لأنه يدل على كلامه ، ولما يرجع إليه ابتداؤه ، لا أن يكون هو نفس كلامه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) وفي وصفه بالقوة فائدتان :

إحداهما : ما ذكرنا أن فيه بيان الأمن عن تغيير يقع فيه من الأعداء من الجن والشياطين

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٣٦٤٨٨ ـ ٣٦٤٩١) ، وعبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، والفريابي ، وابن سعد ، وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، وابن المنذر ، والطبراني ، والحاكم وصححه من طرق عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٢٩).

(٢) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير (٣٦٥٠٦) ، وعبد بن حميد عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٣٠).

(٣) في ب : يتملك.

(٤) زاد في ب : على الموافقة.

٤٣٥

والإنس ، يحتجز عنهم بقوته ؛ فلا يتمكنون منه حتى يغيروه ويبدلوه ، ووصفه بالأمانة في نفسه ليأمن الخلق ناحيته.

أو وصفه بالقوة على التخويف والتحذير للذين عادوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيخبرهم أن معه من يدفع عنه شرهم وكيدهم إن هموا ذلك به.

وروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لجبريل ـ عليه‌السلام ـ : «إن الله تعالى وصفك بالقوة فما أثر قوتك؟ فقال : لما أمرني الله تعالى بإهلاك قوم لوط ـ عليه‌السلام ـ فقلعت قرياتهم ورفعتها بجناح واحد إلى السماء ثم قلبتها» (١).

وليس بنا إلى أن نعرف قوته حاجة ، وإنما بنا الحاجة إلى أن نعرف ما المعنى والحكمة في ذكر قوته؟!.

وقوله ـ عزوجل ـ : (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) : إن كان المراد من العرش : الملك ، فمعناه : عند ذي الملك مكين ؛ أي : ذو قدرة ومنزلة.

وقيل : العرش : السرير ، فإن كان كذلك ، فتأويله : أنه مكين عند من له سرير الملك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) قيل : إن جبريل ـ عليه‌السلام ـ رسول إلى الملائكة كما هو رسول إلى الناس (٢) ، فإن كان كذلك ففيه إخبار أن الملائكة الذين يعبدها بعض الكفرة يطيعون جبريل ـ عليه‌السلام ـ فيما يأمرهم وينهاهم ، فما بالهم يتركون طاعته والائتمار بأمره؟!.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثَمَّ أَمِينٍ) ، أي : هم يأتمنونه (٣) ، ولا يتهمونه في شيء مما يجيء به إليهم ، فكيف يتهمه هؤلاء فيما يأتي إلى الرسول من الوحي؟!.

وقوله : (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) منهم من يقول بأن الكفرة نسبوه إلى الجنون حين رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جبريل على صورته فغشي عليه ، وكان يتغير في كل مرة يأتي به جبريل ـ عليه‌السلام ـ بالوحي (٤) لون وجهه ؛ فينسبونه إلى الجنون لهذا.

ومنهم من يقول : إنما نسبوه إلى الجنون ؛ لأنه أظهر المخالفة لأهل الأرض ، وكان في أهل الأرض الجبابرة والفراعنة الذين من عادتهم القتل والتعذيب لمن أظهر الخلاف لهم ؛ فكان ذلك منه مخاطرة بنفسه وروحه ؛ حيث انتصب لمعاداة من لا طاقة له بهم ، ومن قام

__________________

(١) أخرجه ابن عساكر عن معاوية بن قرة بنحوه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٣٠).

(٢) في ب : الإنس.

(٣) في ب : بالمثوبة.

(٤) في ب : الوحي.

٤٣٦

بخلاف من لا طاقة له به ، وانتصب لمعاداته ، فذلك منه حمق وجنون في الشاهد ؛ فنسبوه إلى الجنون لهذا.

ومنهم من ذكر أنهم لم ينسبوه إلى الجنون لما ذكرنا ، ولكن شدة سفههم هو الذي حملهم على هذا ؛ فنسبوه إلى الجنون مرة ، وإلى أنه ساحر أخرى ، ومرة قالوا : علمه بشر ، ومرة قالوا : (إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) [ص : ٧] ؛ فكانوا ينسبونه إلى كل ما ذكرنا ، لا عن بحث منهم في حاله ، ولكن على السفه والعناد ؛ ألا ترى أنهم نسبوه إلى الجنون مرة ، وإلى السحر ثانيا ، وهما أمران متناقضان ؛ لأن الساحر هو الذي بلغ في العلم غايته ، والجنون هو النهاية في الجهل ، ولو كانوا يقولونه عن بحث وتدبر لكانوا لا يأتون بالمختلف من القول ؛ فيظهر جهلهم لمن يريدون صده عن اتباع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بل كانوا يتفقون على كلمة واحدة ، فيصدرون عنها حتى يقع التلبيس منهم موقعه ؛ فيصلون إلى مرادهم من صد الناس عن اتباع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وكذلك فيما زعموا أنه علمه بشر ، وأنه إفك افتراه ؛ أتوا بالمختلف من القول ؛ لأن اختلافه وافتراءه يثبت أنه عالم بنفسه ، مستغن عن تعليم غيره ، وحاجته إلى أن يتعلم من غيره تثبت عجزه وجهله عن الاختلاق بنفسه ، فهذا كله يدل على أنهم لم ينسبوه إلى الجنون لأعلام ظهرت لهم منه ، ولكنهم قذفوه بكل ما حضرهم ؛ سفها منهم وعنادا.

ثم إن كانوا نسبوه إلى الجنون لما غشي عليه عند ما رأى جبريل ـ عليه‌السلام ـ على صورته فقد أتاهم بما لو تفكروا فيه لعلموا أنه ليس بصاحبهم جنة ؛ كما قال [الله](١) ـ تعالى ـ : (قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) [سبأ : ٤٦] ، وذلك أنه أتاهم بحكم عجز (٢) حكماء الإنس والجن [عن] إتيان (٣) مثله ، وأتاهم بكتاب عجز أهل الكتاب عن إتيان مثله ، فلو تفكروا فيه لعلموا أنه ليس من فعل المجانين ، ولا من علومهم ، ولكنه من عند الله أكرم به.

وإن كانوا بما نسبوه إلى الجنون لما خاطر بروحه ، فهم ـ بحمد الله تعالى ـ لم يتهيأ لهم أن يمكروا به ، ولا أن يقتلوه ؛ بل أظفره الله عليهم ، وأظهره على الدين كله ؛ فصار ذلك الوجه الذي به نسبوه إلى الجنون آية رسالته ، وعلم نبوته.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) قال الحسن : إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى ربه بقلبه ؛ أي : عظمته وسلطانه من وجه لا يقع به تشابه ، وخص بالأفق ؛ لأنه من الأفق تنزل البركات

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في أ : بحكمة أعجز.

(٣) في ب : بإتيان.

٤٣٧

وتنزل الملائكة وأنواع الخير كلها ، والمراد من ذلك الأماكن كلها.

وغيره من أهل التفسير (١) صرف الرؤية إلى جبريل ، عليه‌السلام.

وذكر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سأل جبريل ـ عليه‌السلام ـ أن يراه على صورته ، فقال له جبريل ـ عليه‌السلام ـ : «إن الأرض لا تسعني ، ولكن إذا صليت الفجر ، فانظر إلى أفق السماء ؛ فهنالك تراني» (٢) ، ففعل فرآه على صورته ، ثم دنا منه ، فكان قاب قوسين أو أدنى (٣) ، فذكر الأفق ؛ لأن الشيء من البعد لا يتهيأ أن يرى من أقطار الأرض ؛ لذلك خصت الأفق ؛ إذ كذلك تقع رؤية ما بعد ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) ، وقرئ بظنين.

قال أبو عبيد : والظنين أولى ؛ [لأن الظنين] هو المتهم ، والضنين : البخيل ، ولم ينسب أحد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى البخل حتى ينفي عنه البخل بهذه الآية ، وقد كانوا يتهمونه على الغيب ، وهو القرآن ، فكانوا يقولون : علمه بشر ، وليس من عند الله ، ويقولون ـ أيضا ـ : إن هذا إلا إفك افتراه ؛ فبرأه الله تعالى مما قالوا بقوله : وما هو على الغيب بظنين ومن قرأه (٤) بالضاد فهو يحتمل أوجها :

أحدها : ما ذكره أبو بكر الأصم ، وهو أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن يضن بشيء علمه الله ـ تعالى ـ عن أحد من أصحابه كما يفعله غيره من العلماء ؛ لأن العلماء لا يريدون أن يعلموا من اختلف إليهم كل ما عندهم من العلوم حتى يستغنى عنهم ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يود أن يعلم جميع ما علم من العلوم أصحابه ؛ فكان يقوم على تعليم كل منهم بقدر طاقته ، ولم يكن يمتنع عن التعليم بخلا منه وضنّا.

وجائز أن يكون برأه الله ـ تعالى ـ من هذا ؛ لما علم أنه يكون في أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من يزعم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خص بعض أصحابه بتعليم أشياء لم يطلع عليها غيرهم ، وتخصيص بعض دون بعض بتعليم ما عنده بخل في الشاهد ؛ فكان في قوله : (وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) تكذيب أولئك الذين يدعون هذا ، وهذا كما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته» ، فكأنه قال هذا لما علم أنه يكون في أمته من يتقدم

__________________

(١) قاله ابن مسعود أخرجه عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن مردويه عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٣٠) ، وهو قول ابن عباس وعكرمة وقتادة والشعبي وغيرهم.

(٢) تقدم في سورة النجم.

(٣) في أ : لأنه.

(٤) في ب : قرأ.

٤٣٨

الشهر بالصيام ، فقال هذا ؛ ليعرف خطأ من يتقدم الشهر بالصيام على الخطأ والجهالة ، ليس على إصابة الحق ؛ فعلى ذلك الحكم فيما ذكرنا.

ثم صرفوا تأويل الغيب إلى القرآن (١) ، وهو عندنا في القرآن وفي غيره من الأشياء التي أطلع الله ـ تعالى ـ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليها.

وجائز أن يكون الضن منصرفا إلى الشفاعة التي أكرم الله ـ تعالى ـ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بها ، فهو لا يخص بعض أمته دون بعض بالشفاعة ، بل يعمهم جميعا ؛ فيكون في هذا تحريض على الاتباع له ، والانقياد لطاعته.

ويحتمل وجها آخر : وهو أنه ليس بضنين في أداء شكر ما أنعم الله ـ تعالى ـ عليه ؛ حيث غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، بل اجتهد في أداء شكره حتى ذكر أنه تورمت قدماه من طول القيام ، فقيل له : ألم يغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟!. فقال : «أفلا أكون عبدا شكورا؟!» (٢).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) يحتمل وجهين :

أحدهما : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس من شياطين الإنس ، ولا بمجنون كما ذكرتم ؛ بل هو رسول كريم.

أو الذي أتاكم به من القرآن لم يتلق من الشياطين ، ولا هو من قبلهم كما تلقته الكهنة والسحرة من أقوالهم ؛ بل هو ذكر من الله ـ تعالى ـ للعالمين أنزله إليه الروح الأمين القوي الذي لا يصل إليه الشيطان فيغيره ويبدله.

وقوله (٣) ـ عزوجل ـ : (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) ، أي : فأين تذهبون عن طاعته واتباعه والانقياد له وقد أتاكم ما يلزمكم طاعته واتباعه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) ، أي : عظة للعالمين ، يذكرهم بما يحق عليهم في حالهم ، ويبين لهم ما يؤتى وما يتقى ، وما تصير إليه عواقبهم.

أو أن يكون قوله : (ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) ، أي : شرف لهم ، يشرف قدرهم به ، ويصيرون أئمة يقتدى بهم ويختلف إليهم ؛ ليتعلم منهم ، والله أعلم.

__________________

(١) هو قول ابن مسعود أخرجه سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن مردويه عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٣١) ، وهو قول قتادة وزر بن حبيش.

(٢) أخرجه البخاري (٨ / ٥٨٤) في كتاب التفسير ، باب : ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك حديث (٤٨٣٦) ، ومسلم (٤ / ٢١٧١) في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم ، باب : إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة (٧٩ / ٢٨١٩).

(٣) في ب : فقوله.

٤٣٩

ثم قوله ـ عزوجل ـ : (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) يحتمل أوجها غير ما ذكرنا :

أحدها : أن هذا القرآن الذي جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلقاه من رسول كريم على الله ـ تعالى ـ فإذا لم تؤمنوا به ، ولم تقبلوه فما ذهبتم إلا إلى قول شيطان رجيم.

ويحتمل (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ)؟ وإلى من تفزعون إذا أتاكم بأس الله ـ عزوجل ـ ونقمته إذا لم تؤمنوا بالله تعالى ، وأنكرتم البعث ، ولم تصدقوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخبركم به؟! فإذا حل بكم ما أنذركم به فإلى من تلجئون؟! وهو كقوله ـ تعالى ـ : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) [الملك : ٢٨].

أو إذا لم تؤمنوا بالله ـ تعالى ـ ولم تتبعوا ما أتاكم به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد تقرر عندكم صدقه أنما أتاكم من الآيات المعجزة ، فبأي حديث تصدقونه بعد ذلك وتذهبون إليه؟! وهو كقوله تعالى : (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) [المرسلات : ٥٠]؟!.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ. لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) معناه ـ والله أعلم ـ : أن هذا القرآن ذكر لمن شاء أن يستقيم من العالمين ، فهو في نفسه ذكر وآيات وهدى ، ولكن ينتفع بهذا الذكر من شاء الاستقامة ، ويهتدي به من طلب الهداية ؛ قال ـ تعالى ـ : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢] وهو في نفسه هدى ، ولكن يهتدي بهداه المتقون ، ومن ليس بمتق فهو عمى عليه ورجس ، وقال : (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) [يس : ١١] ، وهو كان ينذر من اتبع ومن لم يتبع ، ولكن معناه : أنه ينتفع بالذي تنذر به من اتبع الذكر ، وقال : آيات لأولي الأبصار ، وهي في أنفسها آيات ، ولكن ينتفع بآياته أولو الأبصار.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) يحتمل وجهين :

أحدهما : أن (١) يحمل على تحقيق المشيئة ، ويكون تأويله : أن من أراد الاستقامة على أمر الله ـ تعالى ـ أو على الحق ، فهذا الذكر ـ وهو القرآن ـ يقيمه على الحق وعلى الأمر ، ويهديه إلى ذلك.

أو أن يكون هذا على تحقيق الفعل ؛ فيكون معناه : من استقام منكم على الحق والأمر فهو ذكر له.

والأصل أن المشيئة وصف فعل كل مختار ، وإذا كان هكذا ، صارت المشيئة مقترنة [بالفعل] ، فإذا فعل فقد شاء ؛ فكان في إثبات الفعل إثبات المشيئة ؛ لذلك استقام حمله على ما ذكرنا ، وهو أن يجعل أحدهما كناية عن الآخر.

__________________

(١) زاد في ب : لا.

٤٤٠