تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٩٥

ثم منهم من يختار الشكر له ، ومنهم من يختار الكفران له ، ثم بين ما أعد للكفور منهم ، وما أعد للشكور ، وهو ما قال : (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً).

ثم قوله : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) إن كان المراد منه الطريق ؛ فكأنه قال : إنا بينا كلا الطريقين (١) ، فإن سلك طريق كذا واختاره يكون شاكرا ، وإن سلك طريق كذا واختاره يكون كفورا.

ثم بين لكل طريق سلكه جزاء وثوابا.

ثم قوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً) :

ففيه إنباء أن أيديهم تغل ، ويشدون بالسلاسل ، فلا يتهيأ لهم أن يقوا العذاب عن وجههم (٢).

ثم قرئ سلسلا ؛ لأنها غير منصرفة ، وقرئ سلاسل وصرفوه ؛ بناء على أن الأسماء كلها منصرفة إلا نوعا واحدا.

وقال الزجاج : السلاسل لا تنصرف ؛ لأنه لا فعل لها ، لكن صرفها هاهنا لأنها من رءوس الآيات.

وقيل : لأنه جعله رأس الآية.

قوله تعالى : (إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (٥) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (٦) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (٧) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (٨) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (٩) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (١٠) فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (١١) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (١٢) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (١٣) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (١٤) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (١٥) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (١٦) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (١٧) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (١٨) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (١٩) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (٢٠) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (٢١) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً)(٢٢)

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً) :

فمنهم من ذكر أن الكافور شيء أعده الله تعالى لأهل كرامته ، لم يطلع عباده على ذلك في الدنيا.

__________________

(١) في ب : الطريق.

(٢) في ب : أوجههم.

٣٦١

ومنهم من ذكر أن الكافور شيء جرى ذكره في الكتب المتقدمة ، فذكر كذلك في القرآن.

ومنهم من قال : إنه عين من عيون الجنة.

ومنهم من صرفه إلى الكافور المعروف.

لكن قيل : إنه كناية عن طيب الشراب.

وقيل : إنه كناية عن برودة الشراب ؛ لأنه ذكر أن ذلك الشراب في طبعه كالكافور ؛ لأن ألذ الشراب عند الناس البارد منه ، لا أن يكون في نفسه باردا.

وذكروا أن الكأس لا تسمى : كأسا حتى يكون فيها خمر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ).

ومعناه : منها ، لا أن يقع شربهم بها.

وسميت العين : عينا ؛ لوقوع العين عليها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) :

فيه إخبار أن ماء العيون جارية يفجرونها من حيث شاءوا.

ثم المراد من ذكر العباد هاهنا هم الذين أطاعوا الله ـ تعالى ـ وقاموا بوفاء ما عليهم ، وهم الذين قال الله تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) [الحجر : ٤٢].

وقوله ـ عزوجل ـ : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) :

النذر هو العهد ؛ فجائز أن يكون أراد به الوفاء بكل ما أوجب الله تعالى من الفرائض والحقوق ؛ فتكون فرائضه عهده ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) [البقرة : ٤٠].

وجائز أن يكون أراد بالنذر ما أوجبوا على أنفسهم من القرب سوى ما أوجبها الله تعالى عليهم ؛ فيكون فيه إخبار أنهم قاموا بأداء الفرائض ، وتقربوا إلى الله تعالى مع ذلك بقرب أخر ؛ فاستوجبوا المدح بوفائهم بما أوجبوا على أنفسهم.

وقال : (ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) [الحديد : ٢٧] ، فلحقهم الذم ؛ لما لم يقوموا برعاية حقه ، ليس بإيجابهم على أنفسهم ما لم يوجبه الله تعالى عليهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً) قيل (١) : استطار شر ذلك اليوم ،

__________________

(١) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٣٥٧٧٦) وعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٤٨٣).

٣٦٢

فملأ السموات والأرضين وكل شيء ؛ حتى انشقت السموات ، وتناثرت النجوم ، وبست الجبال.

ومعناه : أن هول ذلك اليوم قد عم وفشا في أهل السموات والأرض ؛ حتى خافوا على أنفسهم.

وقيل : سمي : مستطيرا ، أي : طويلا ، ويقال : استطار الرجل ؛ إذا اشتد غضبه ، واستطار الأمر ؛ أي : اشتد ؛ فسمي : مستطيرا ، أي : شديدا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) :

فالحب يتوجه إلى معان : يتوجه إلى الإيثار مرة ، وإلى ميل النفس وركون القلب أخرى ، ومرة يعبر به عن الشهوة ؛ فالمراد من الحب هاهنا : الشهوة ؛ فيكون قوله ـ عزوجل ـ : (عَلى حُبِّهِ) ، أي : على شهوتهم وحاجتهم إليه.

وقيل : ويطعمون في حال عزة (١) الطعام.

وقيل (٢) : أي : يطعمون الطعام على حبهم لها وحرصهم عليها ، ليس أن يطعموا عند الإياس من الحياة ، على ما روي في الخبر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أفضل الصدقة أن تتصدق وأنت صحيح شحيح ، تأمل العيش ، وتخشى الفقر».

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) :

[قيل : إنهم لم يتكلموا بهذا اللفظ ، أعني : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ)](٣)(لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً) الآية ، ولكن علم الله تعالى ذلك من قلوبهم ؛ فأثنى عليهم بذلك ؛ ليرغب في ذلك الراغبون ؛ ألا ترى أنهم كانوا يطعمون الأسارى ، ولا يطمع من الأسارى المجازاة والشكر ؛ ليعلم أنهم لم يقصدوا بها إلا وجه الله تعالى والتقرب إليه ، والمجازاة : هي المكافأة لما أسدي إليه ، والشكر : هو الثناء عليه والبشر عنه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً) :

فمنهم من جعل هذا نعتا لذلك اليوم ؛ فيكون معناه : أن هذا اليوم ـ وهو يوم القيامة ـ من بين سائر الأيام كالإنسان العبوس من بين غيره.

ومنهم من صرفه إلى الخلائق ؛ فيكون معنى قوله تعالى : (يَوْماً عَبُوساً) ، أي : يوما تعبس فيه وجوه الخلائق ؛ لا أن يكون اليوم بنفسه عبوسا ، وهو كقوله تعالى : (وَالنَّهارَ

__________________

(١) في ب : غيرة.

(٢) قاله مقاتل بن سليمان أخرجه ابن جرير (٣٥٧٧٨).

(٣) سقط في ب.

٣٦٣

مُبْصِراً) [يونس : ٦٧] ، أي : يبصر فيه ، وتقول العرب : «ما زال الطريق (١) يمر منذ اليوم» ؛ على معنى : يمر الناس فيه ؛ فيرجع هذا إلى وصف ما يكون عليه ذلك اليوم ، على ما ذكرنا : أن الله تعالى ذكر اليوم بالأحوال التي يكون عليها (٢) حال ذلك اليوم ، فمرة قال : (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى) [الحج : ٢] ، ومرة قال : (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) [القارعة : ٤] ، وغير ذلك من الآيات.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قَمْطَرِيراً) ، قيل : شديدا.

وقيل (٣) : القمطرير : الذي يقبض الوجه بالبسور والعبوسة ، ويزوي ما بين العينين.

وقيل : القمطرير : المشوه على أهل النار.

وقيل : القمطرير : هي كلمة من كتب الأولين.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ) :

جائز أن تكون الوقاية منصرفة إلى الموعود في ذلك اليوم من العقوبة والنكال ، لا أن يكونوا وقوا من هول ذلك اليوم فلا يرون الجحيم ولا أهوالها.

وجائز أن يكون وقاهم عما كانوا يخافون من التبعة لدى الحساب ، كقوله : (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) [الحاقة : ٢٠] ؛ فكأنهم يخافون على أنفسهم المناقشة في الحساب ، فإذا رأوا سيئاتهم مغفورة ، وحسناتهم متقبلة ، سروا بذلك ، ووقوا شره.

وجائز أن يكونوا أومنوا من أهوال القيامة وأفزاعها حين نشروا من القبور ، وبلغتهم الملائكة بالبشارة ، كما قال : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) [الأنبياء : ١٠١].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً) :

فالسرور عبارة عن انتفاء الحزن عنهم ، والنضرة : أثر كل نعيم (٤).

وقيل (٥) : نضرة في وجوههم ، وسرورا في قلوبهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا) ، أي : على الطاعات ، وصبروا عن معاصي الله تعالى.

__________________

(١) في ب : الطير.

(٢) في ب : عليهم.

(٣) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير (٣٥٧٩٩).

(٤) في أ : غم.

(٥) قاله ابن عباس أخرجه ابن المنذر عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٤٨٥) وهو قول الحسن وقتادة ومجاهد.

٣٦٤

(جَنَّةً وَحَرِيراً) :

أي : جزاهم جنة ، وجزاهم حريرا ، فذكر الحرير ؛ لأن الجنان إنما تذكر في موضع التطرب والتنعم بالمآكل والمشارب دون التنعم باللباس ؛ فوعد لهم اللباس من الحرير ، مع ما جزاهم الجنة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ) ، يذكر تفسيرها بعد هذا ، إن شاء الله تعالى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) :

لأنه لا شمس فيها ولا زمهرير ؛ بل يكون ظلها دائما ممدودا ؛ فجائز أن يكون المراد منه : أن ضياء الجنة ليس بالشمس ، ولكن بما خلقت مضيئة ؛ لأن الشمس في الدنيا يقع بها الضياء ؛ فيكون ضياء النهار بالشمس.

وذكر أنهم لا يرون فيها الزمهرير ؛ ليعلم أن لذاذة شراب الجنة وبرودته بالخلقة ، لا أن تكون برودته بتغير يقع في الأحوال على ما يكون عليه شراب أهل الدنيا.

أو يكون ذكر هذا ؛ ليعلموا أنهم لا يؤذون بحرّ ولا برد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها) :

جائز أن يراد به : أنها دانية من هؤلاء الذين سبق نعتهم ، وهم الأبرار ، كقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف : ٥٦].

أو ذكر أن ظلالها دانية ؛ لأنها لو لم تكن دانية ، لكان لا يقع لهم بها انتفاع.

وقيل : هي ظلال غصون الأشجار قريبا منهم ؛ لأن للجنة نورا يتلألأ ؛ فيقع بالأشجار ظلال ؛ على ما جاء في الخبر أنه لو ألقي سوار من الجنة في الدنيا ، لأضاءت الدنيا ، ويغلب ضوؤها ضوء الشمس» ، ويجوز (١) ذلك ؛ فتقع الأشجار فيها ضلال ؛ كما يشتهونه في الدنيا ليس ذلك على شمس [ولا](٢) قمر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً) :

جائز أن يكون أريد بالتذليل : التليين ، أي : لينت ؛ فلا يرد أيديهم عنها شوك.

وقيل : إن أشجارها ليست بطوال لا تنال ثمارها إلا بعد عناء وكد ؛ بل قريبة من أربابها ، يقال : حائط ذليل ؛ إذا لم يكن عاليا في السماء.

__________________

(١) في ب : ونحوه.

(٢) في ب : أو.

٣٦٥

وقيل (١) : ذللت ، أي : سويت الأشجار ، لا يتفاوت بعضها بعضا ؛ يقول أهل المدينة إذا استوت عذوق النخلة : تذللت النخلة.

وقيل : ذللت ، أي : سخرت ؛ والتذليل : التسخير ، فيتناولون منها كيف شاءوا : إن شاءوا تناولوها وهم قيام ، وإن شاءوا تناولوها وهم جلوس ، أو نيام على الفرش.

وجائز أن يكون تسخيرها على ما ذكر عن بعض المتقدمين : أن شجر الجنة عروقها من فوق ، وفروعها من أسفل ، والثمار بين ذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ).

فتأويل الأكواب يذكر في سورة : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) [الغاشية : ١].

ثم أخبر أن تلك الأكواب قوارير من فضة ، قيل (٢) : هي من فضة ، ولها صفاء القوارير ، يرى ما فيها من الشراب من خارجها ؛ لصفائها.

ثم الآنية من الفضة في أعين أهلها أرفع وأشرف من الإناء المتخذ من التراب ؛ فكذلك الصفاء الذي يكون بالفضة أبلغ وأرفع في أعين أهلها من الصفاء الذي يقع بالقوارير.

(قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ) على الأصل المعهود : أنه لا ينصرف ، وقرئ قوله : قواريرا على الوقف عليه موافقا لآخر سائر الآيات ، وقرئ (قَوارِيرَا) ، بالتنوين عند الوصل أيضا ؛ لأنه رأس الآية.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قَدَّرُوها تَقْدِيراً) :

أي : جعلت على قدر ريهم.

وقيل : يسقون على القدر الذي قدروه في أنفسهم ، وحدثت به أنفسهم ؛ فلا يقدرون في قلوبهم مقدارا إلا أتوا بها على ذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً) :

منهم من زعم أن العرب كانوا إذا أعجبهم شراب نعتوه ، وقالوا : كالزنجبيل ؛ فخرجت البشارة من الوجه الذي ترغب في مثله الأنفس.

ومنهم من ذكر أن الزنجبيل والسلسبيل واحد ، وهما اسم العين.

__________________

(١) قاله البراء بن عازب أخرجه الفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وهناد بن السري وعبد بن حميد وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في البعث عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٤٨٦) ، وهو قول مجاهد وسفيان وغيرهما.

(٢) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي في البعث عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٤٨٧) وهو قول الحسن ، وقتادة ، ومجاهد.

٣٦٦

ومنهم من ذكر في السلسبيل ، أي : سل سبيلا إلى تلك العين.

وقال قتادة : أي : سلسلة السبيل ، مستعذب ماؤها. وقيل : سلسبيلا : شديد الجرية.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) :

ذكر الولدان لا أن يكون فيها ولاد ؛ ولكنهم أنشئوا ولدانا ، فيخلدون كذلك ، لا يكبرون ، ولا يهرمون.

وجائز أن يكون الولدان ولدان الكفرة الذين ماتوا في الدنيا صغارا ؛ فلا يكون لهم في الجنة آباء ؛ ليرفعوا إلى درجة الآباء ؛ فيجعلهم الله تعالى خدما لأهل الجنة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً) :

منهم من يقول : إن الله تعالى شبه حسنهم بحسن اللؤلؤ المنثور ؛ إذ أحسن ما يكون اللؤلؤ إذا كان منثورا ؛ فجائز أن يكون هؤلاء الولدان فضلوا في الحسن على سائر الجواهر التي تكون في الجنة ؛ كما فضل الدر في الدنيا على سائر الجواهر.

ومنهم من يقول : إنهم ما لم يطوفوا فمن رآهم حسبهم لؤلؤا منثورا ، وإذا طافوا ، وتحركوا ، فحينئذ يعلمون أنهم ولدان.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً) :

قيل : هما اللذان لا نعت لهما ولا وصف.

وقيل (١) : الملك : استئذان الملائكة عليهم ، وملوك الدنيا وإن علت رتبتهم لم يملكوا الاحتجاب من دخول الملائكة عليهم بغير استئذان ، والملك : هو الذي له نفاذ الأمور.

وجائز أن يكون ذكر النعيم والملك الكبير على معنى أنه لا ينقطع عنهم ؛ بل إذا رأيتهم أبدا رأيتهم في نعيم وملك كبير.

وقوله ـ عزوجل ـ : (عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ) :

جائز أن يكون أراد بالعالي ما علا من المكان الذي هم فيه ، فيخبر أن في أعلى أماكنهم ثياب خضر من سندس كما هو في المكان الذي أسفل (٢) موضع جلوسهم ؛ لأنهم يكونون على الأرائك والأحجال ؛ فيكون ما تحت الأحجال والأرائك من الأماكن زرابي مبثوثة ؛ ونمارق مصفوفة ، ويكون عاليها كذلك.

فإن كان على هذا ، فلا فرق بين أن يكون فرش ذلك المكان من حرير وديباج غليظ ـ

__________________

(١) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير (٣٥٨٥٣) ، وعبد بن حميد ، والبيهقي عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٤٨٨) وهو قول سفيان أيضا.

(٢) في ب : سفل.

٣٦٧

إن أريد بالإستبرق الديباج الغليظ ـ وبين أن يكون من ديباج رقيق ؛ إذ كل ذلك مما يرغب في مثله ، والله أعلم.

وقيل : عليهم ، أي : أعلى ثيابهم سندس خضر وإستبرق.

وقال بعضهم : عالي أنفسهم ثياب سندس.

ومنهم من صرف السندس إلى اللباس والإستبرق إلى ما بسط ؛ لأن الديباج الغليظ مما لا ترغب الأنفس إلى لبس مثله ؛ فجمع بين ما يلبس وبين ما يفرش ، وبيّن الفعل في أحدهما ، ولم يذكر في الآخر.

ومنهم من قال : (عالِيَهُمْ) هم الولدان يطوفون من أعاليهم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ) :

بشرهم بالأساور من فضة (١) ؛ لأن الفضة مستحسنة بنفسها ؛ لبياضها ، والذهب استحسانه لقدره وعزته ، ليس لنفسه ؛ لأنه أصفر ، والأعين لا تستحسن (٢) هذا اللون ؛ فجرت البشارة بالفضة لا بالذهب.

وقال بعضهم : يحلى الرجال بأسورة من فضة ؛ على ما أبيح لهم التحلي بخاتم الفضة في الدنيا ، وتحلي النساء بأساور الذهب على ما أبيح لهن التحلي بخاتم الذهب في الدنيا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) :

قيل : هو الخمر تطهر من الآفات ومن كل مكروه ، وتطهر قلوبهم من الغل ؛ فيعمل ذلك الشراب في تطهير الظاهر والباطن ، وشراب الدنيا يطهر ظاهر البدن ، وباطن البدن ينجس الشراب.

وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن الرجل من أهل الجنة ليعطى قوة مائة رجل في الأكل والشرب والجماع» ، فقال يهودي : إن الذي يأكل ويشرب يكون له الحاجة ؛ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حاجة أحدهم عرق يفيض من جسده ؛ فتضمر لذلك بطنه».

والأصل أنك قد ترى الطعام الذي يطعمه الإنسان في الدنيا تبقى قوته في البدن حتى يظهر ذلك في كل جارحة من جوارحه ، وكذلك شهوته تبقى فيها ، ثم يخرج الثفل منها والفضل ؛ فجائز أن يرفع الله تعالى عن ذلك الطعام الفضل الذي يزايل البدن ؛ فيكون (٣)

__________________

(١) في ب : الفضة.

(٢) زاد في ب : إلا.

(٣) في ب : ويكون.

٣٦٨

طعامهم ذلك اللطيف الذي يبقى في النفس.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً) :

فجائز أن تكون هذه البشارة خرجت لأهلها في الدنيا.

وجائز أن تكون لهم في الآخرة : أن هذا الذي أكرمتم به من الكرامات جزاء لعملكم وسعيكم في الدنيا.

قوله تعالى :

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (٢٣) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (٢٤) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٢٥) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (٢٦) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (٢٧) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (٢٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٢٩) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٣٠) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً)(٣١)

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً) :

قيل : فرقنا عليك القرآن تفريقا ، والحكمة في التفريق ما ذكر في آية أخرى في القرآن ، وهو قوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) [الفرقان : ٣٢] ، فأخبر أن في التفريق تثبيتا ؛ فيكون الناس له أوعى وأعرف بمواقع النوازل منه من أن ينزل جملة واحدة.

ثم أضاف التنزيل إلى نفسه هاهنا ، وأضاف إلى جبريل ـ عليه‌السلام ـ في قوله ـ عزوجل ـ : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ) [الشعراء : ١٩٣ ، ١٩٤] ، وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) [الحاقة : ٤٠] ، وقال في آية أخرى : (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) [التوبة : ٦] ، فأضافه إلى نفسه ، وقال : (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) [البروج : ٢٢].

فهذا كله على مجاز الكلام ليس على الحقيقة ؛ فحق كل من ذلك أن يصرف إلى ما إليه أوجه ، وإلى ما يستجيز الناس من التعامل فيما بينهم بذلك الكلام ، فإذا قيل : هذا في اللوح ، فهم به ، وأريد منه : أنه مكتوب فيه ، وقوله ـ عزوجل ـ : (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) [التوبة : ٦] معناه : حتى يسمع كلاما يدله على كلام الله تعالى لا أن يكون ذلك كلامه.

وأضافه إلى جبريل ـ عليه‌السلام ـ لأنه من فيه تلقاه ، لا أن يكون ذلك كلام جبريل ، عليه‌السلام.

ثم قد ذكرنا الحكمة في إنزال القرآن مفرقا قبل هذا الفصل الكافي منه.

ثم جائز أن يكون التفريق ؛ لمكان أتباع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، [ليس](١) لمكانه ؛ لأن الله ـ

__________________

(١) سقط في ب.

٣٦٩

تعالى ـ يسر على نبيه حفظه ؛ حتى كان يعي جميع ما ينزل إليه [جبريل](١) ـ عليه‌السلام ـ بما يقرؤه (٢) عليه مرة واحدة.

وقيل له : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) الآية [القيامة : ١٦] ؛ فضمن له الحفظ ؛ فأمن النسيان ، فأما غيره فإنه يشتد عليه أن لو كلفه حفظه بدفعة واحدة ؛ فأنزل مفرقا ، ليكونوا أقدر على حفظه ؛ ولهذا ما كثر حفاظ القرآن في هذه الأمة ، وكثر قراؤها ، وكثر فقهاء هذه الأمة ؛ لأن القرآن أنزل مفرقا على أثر النوازل ؛ فعرفوا مواقع النوازل ؛ فوقفوا على معرفة ما أودع في الآيات ؛ لمعرفتهم مواقع النوازل والمنسوخ ، ولو نزل جملة واحدة اشتبه عليهم الناسخ و (٣) المنسوخ ؛ فأنزله الله ـ تعالى ـ مفرقا ؛ ليكونوا بعلم الناسخ والمنسوخ والله أعلم.

ولأنه إذا أنزل مفرقا ، كانوا إليه أشوق ، وأرغب منه إذا أنزل جملة واحدة ؛ ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ ..). الآية [محمد : ٢٠] ، فأخبر أنهم يرغبون إلى أن تنزل عليهم سورة ، وإن كانوا قد أنزلت إليهم سورة من قبل.

وفيه ـ أيضا ـ تخويف للمنافقين ؛ كما قال الله ـ تعالى : ـ (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ) [التوبة : ٦٤] ؛ فكان في إنزاله مفرقا ما ذكرنا من الفوائد والمنافع للمؤمنين ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ).

فيه أنه ابتلاه (٤) بما تكرهه نفسه ، ويشتد عليها ، حتى دعاه إلى الصبر ؛ لأن المرء لا يدعى إلى الصبر على النعم واللذات ، وإنما يدعى إليه إذا ابتلي بالمكاره البليّات ، وقد صبر ـ عليه‌السلام ـ على المكاره ؛ لأنه أمر بمضادة الجن والإنس ؛ فانتصب لهم حتى آذوه كل الأذى ، وهموا بقتله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) :

كأنه قال : ولا تطع من دعاك إلى ما تأثم فيه ، أو يكون كفورا.

أو لا تجب الآثم أو الكفور إلى ما يدعوك إليه.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) :

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : يقرأ.

(٣) في ب : من.

(٤) في ب : ابتلاء.

٣٧٠

يحتمل : واذكر باسم ربك.

أو صل باسم ربك ؛ كقوله : (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) [الأعلى : ١٥].

أو يقول : اذكر اسم ربك ، أي : كن ذاكرا له في كل وقت.

وقوله ـ عزوجل ـ : (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) :

البكرة : تحتمل صلاة الصبح ، والأصيل : يحتمل صلاة الظهر والعصر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً) :

تحتمل صلاة الليل النوافل إن كان قوله : (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) في صلاة (١) الفرائض ، وإن لم يكن في ذلك ؛ فيكون كأنه قال : واذكر ربك في كل وقت بالليل والنهار.

أو يقول : فليكن اسم ربك مذكورا ؛ حتى لا تخلو ساعة من هذه الساعات إلا وهو مذكور فيها ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً) :

حب العاجلة مما طبع به الخلائق ؛ لأن كل طبع على حب الانتفاع والتمتع بالشيء ؛ فلا يلحقهم الذم بحب ما طبعوا عليه وأنشئوا ، ولكن إنما يلحق الذم من أحب الدنيا واختارها وآثرها على غير الذي جعلت الدنيا وأسست ؛ فالدنيا إنما أسست ، وجعلت ؛ ليكتسب بها نعيم الآخرة والحياة الدائمة اللذيذة ؛ فمن أحب لهذا ، فهو لا يلحقه بذلك ذم ، ولا تعيير ؛ ومن أحبها وآثرها لها ، واكتسبها لها ، فهو المذموم ، وأولئك كانوا مختلفين في ذلك ، لم يكونوا على فن واحد.

منهم من حمله حبه الدنيا على إنكار وحدانية الله ـ تعالى ـ وألوهيته.

ومنهم من حمله حبه إياها على تكذيب الرسل والتعادي لهم ، ومكابرة الحق.

ومنهم من حمله حبه إياها على إنكار البعث والجزاء لما عملوا.

ومنهم من حمله حبه الدنيا على التفريق بين الرسل ، أنكروا بعضا ، وصدقوا بعضا.

تولد من حبهم إياها ما ذكرنا ؛ فلحقهم الذم لذلك ، وكذلك ما ذكر من الإنفاق في الدنيا حيث قال : (مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ ..). الآية [آل عمران : ١١٧] ، فمن أنفق [من](٢) هذه الدنيا لها ؛ فتكون نفقته ما ذكر ؛ لأنه أنفق لغير ما جعلت له النفقة ؛ فكان ما ذكر ؛ فعلى ذلك من أحب الدنيا ، واختارها للدنيا

__________________

(١) في ب : صلوات.

(٢) سقط في ب.

٣٧١

لا لاكتساب ما ذكرنا من النعم (١) اللذيذة الدائمة والحياة الباقية التي لا انقطاع لها ، كان على ما ذكر.

ثم إذا ذكرت الدنيا ذكرت الآخرة وراءها ، وإذا ذكرت الآخرة على أثر ذكر الإنسان قيل : أمامه ؛ لأن الإنسان يقبل إليها ؛ فيكون ذلك أمامه وقدامه ؛ وأما عند ذكر (٢) الدنيا قيل : وراءها ؛ لأنها تخلفها ، وكل من خلف آخر يكون بعده ووراءه ؛ لأنه يكون عند فوت الآخر ؛ لذلك كان ما ذكر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ) :

رجع إلى الاحتجاج عليهم لما أنكروا ، يقول : يعلمون أنا خلقناهم بدءا ، ونحن شددنا أسرهم ، أي : قوتهم.

أو (٣) نحن : شددنا خلقتهم ، ونحن وصلنا جوارحهم المتفرقة ومفاصلهم المتشتتة بعضها إلى بعض ، ونحن نبدل أمثالهم إن شئنا ، فما بالهم ينكرون قدرتنا على البعث والإعادة بعد الموت؟! يقول : من قدر على ما ذكر لا يعجزه شيء ، وهو على البعث أقدر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً) :

يذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ) ، يحتمل (هذِهِ) ، أي : هذه السورة ؛ لأنه ذكر في أولها ابتداء إنشائهم وخلقهم ، وآخرها إعادتهم ، وفي خلال [ذلك] جزاء صنيعهم الذي صنعوا ؛ فيكون في ذلك تذكرة لهم.

ويحتمل قوله : (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ) ، أي : الأنباء التي ذكرت في القرآن ، أو هذه المواعظ تذكرة لما لهم وما عليهم ، أو تذكرة لما لله عليهم ، وما لبعضهم على بعض.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) :

هذا يخرج على وجهين :

أحدهما : يقول : قد مكن كلا أن يتخذ سبيلا إلى ربه ، أي : لا شيء يمنعه [عن اتخاذ السبيل إلى ربه إذا شاء ، لكن من لم يتخذ إنما لا يتخذ ؛ لأنه لم يشأ](٤) أن يتخذ سبيلا ؛ وإلا قد مكن له ذلك.

__________________

(١) في ب : النعيم.

(٢) في أ : ركن.

(٣) في أ : أي.

(٤) سقط في ب.

٣٧٢

والثاني : يقول : من شاء اتخاذ السبيل ، فليتخذ السبيل إلى ربه ، على ما يذكر على الاستقصاء بعد هذا ، إن شاء الله تعالى.

ثم [قوله ـ تعالى ـ](١) : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) :

يقول ـ والله أعلم ـ : من شاء اتخاذ السبيل إلى ربه لا يتخذ إلا أن يشاء الله أن يتخذ السبيل إلى ربه ، فعند ذلك يتخذ ، وهذا على المعتزلة لأنهم يقولون : إن الله تعالى قد شاء لجميع الخلائق أن يتخذوا إلى ربهم سبيلا ، لكنهم شاءوا ألا يتخذوا إلى ربهم سبيلا ؛ فلم يتخذوا ، وقد أخبر أنهم لا يشاءون اتخاذ السبيل إليه ، ولا يتخذون إلا أن يشاء الله لهم اتخاذ السبيل فعند ذلك يتخذون ما ذكر ، ويشاءون.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) :

إن الله ـ تعالى ـ لم يزل عليما بصنع خلقه من التكذيب له والتصديق ، [و] من الطاعة له والمعصية ، أي : على علم منه بصنيعهم أنشأهم وخلقهم ، حكيما في فعله ذلك وخلقه إياهم على ما علم منهم بكون الآية إنما خلقهم وأنشأهم ؛ لمنافع أنفسهم ولحاجتهم ، لا لمنافع ترجع إليه ، أو لمضار يدفع عن نفسه ؛ فخلقه إياهم وبعثه الرسل إليهم على علم بما يكون منهم من التكذيب والرد لا يخرج فعله عن الحكمة والحق ؛ بل يكون حكيما في ذلك ، وأما من يبعث الرسول في الشاهد ، إلى من يعلم أنه يكذبه ، ويرد رسالته وهديته ، ويستخف به ـ سفه ليس بحكمة ؛ لأنه إنما يرسل الرسل ويبعث هديته ؛ لمنافع تكون للمرسل ؛ فعلمه بما يكون منه سفه ليس بحكمة ؛ لذلك افترقا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) :

هذا على المعتزلة ـ أيضا ـ لأنه ذكر أنه يدخل من يشاء في رحمته ، وهم يقولون : قد شاء أن يدخل كلا في رحمته ؛ لأنه شاء إيمان كل منهم ، والله تعالى أخبر أنه يدخل من يشاء في رحمته ؛ دل ذلك على أنه لم يشأ أن يدخل في رحمته من علم منه (٢) أنه يختار الضلال ؛ ولكن إنما شاء أن يدخل في رحمته من علم منه أنه يختار الهدى ، فأما (٣) من علم منه اختيار غيره ، فلا يحتمل أن يشاء ذلك له ، والله أعلم (٤).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) :

أي : وشاء ـ أيضا ـ من علم منه الضلال أن يعد له عذابا أليما.

__________________

(١) في ب : قال.

(٢) في ب : منهم.

(٣) في ب : وأما.

(٤) في ب : والله الموفق.

٣٧٣

وفي حرف ابن مسعود ، وأبي وحفصة ـ رضي الله عنهم ـ : (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) ، وهذا الحرف تفسير تأويل الآية.

ويحتمل أن يكون رحمته هاهنا : هي الهدى وسبيل الله تعالى.

ويحتمل أن يكون رحمته هي جنته ؛ سميت : رحمة ؛ لأنه برحمته ما يدخلها أهل الإيمان ، [والله تعالى أعلم بالصواب](١).

* * *

__________________

(١) في ب : والله أعلم.

٣٧٤

سورة المرسلات [مكية](١)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (١) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (٢) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (٣) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (٤) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (٥) عُذْراً أَوْ نُذْراً (٦) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (٧) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (٨) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (٩) وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (١٠) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (١١) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (١٢) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (١٣) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (١٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ)(١٥)

قوله ـ عزوجل ـ : (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً. فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً. وَالنَّاشِراتِ نَشْراً* فَالْفارِقاتِ فَرْقاً. فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً) اختلفوا (٢) في تأويلها :

فمنهم من حمل تأويل هذا كله على الملائكة (٣).

ومنهم من صرفها إلى الرياح (٤).

ومنهم من صرف البعض إلى الرياح ، والبعض إلى الملائكة.

وجائز أن يجعل هذا كله في الرياح ، ويستقيم أن يصرف كله إلى الملائكة ، ويستقيم أن يجعل البعض في الملائكة والبعض في الرياح.

فإن كان في الرياح ، استقام القسم بها ؛ لأن من الرياح رياحا هن مبشرات برحمته ، سائقات (٥) للنعم إلى عباده ؛ كقوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) [الروم : ٤٦].

ومن الرياح رياح [هي](٦) منجيات ؛ قال الله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها) [يونس : ٢٢] ؛ فجعل الله تعالى الريح سببا لتسيير السفن في البحار ، كما جعل الماء سببا لذلك ، وجعل منها مهلكات مذكرات لقوته وسلطانه ؛ كما قال ـ عزوجل ـ : (فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ) الآية [الإسراء : ٦٩] ، فهي تميتهم وتهلكهم من غير أن يدركوها بأبصارهم ، وإن كانت الأبصار هي أول ما يقع بها درك الأشياء ، ولو أراد أحد أن يعرف الوجه الذي له صارت المنجيات منجيات ، أو يعرف الوجه الذي له صارت الرياح مهلكات ، أو مبشرات ـ لم يقف عليه ؛

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : اختلف الناس.

(٣) يأتي ذكر من قال ذلك.

(٤) يأتي ذكر من قال ذلك.

(٥) في ب : سابغات.

(٦) سقط في ب.

٣٧٥

فصارت الرياح مذكرات للنعم ، وفي تذكير النعم إيجاب القول بالبعث ، وبكل ما يخبرهم به الرسل ؛ لأنهم كانوا ينكرون البعث ، ورأوا فيها من لطائف الحكمة وعجائب التدبير ما لا يبلغها تدبيرهم وحكمتهم ، فعلموا أن الأمر غير مقدر (١) بعقولهم ولا بحكمتهم ؛ فيكون في ذكر ما ذكرنا إزاحة ما اعترض له من الشك والشبه في أمر البعث ؛ فأقسم بها ـ جل جلاله ـ على ما ذكرنا أن القسم جعل لتأكيد ما يقصد إليه باليمين.

فرجعنا إلى قوله : (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) قيل (٢) : هي الرياح المبشرات ؛ سميت : عرفا ؛ لأن ما تأتى به من النعم معروفة.

وقيل (٣) : العرف : المتتابع ، وسمي عرف الفرس : عرفا ؛ لتتابع بعض الشعر على بعض ؛ فجائز أن يكون منصرفا إلى الرياح المبشرة.

وكذلك قوله ـ تعالى ـ : (وَالنَّاشِراتِ نَشْراً) جائز أن يحمل على الرياح ، لكن على الرياح المنشرات (٤) ، وهي الرياح السهلة الخفيفة ؛ لأن النشر مذكور في رياح الرحمة بقوله : وهو الذي يرسل الرياح نشرا بين يدي رحمته في بعض القراءات.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً) هي الرياح الشديدة التي تكسر الأشياء وتقصمها ، وهي التي ترسل للإهلاك ؛ كقوله تعالى : (فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ) [الإسراء : ٦٩].

وجائز أن يكون قوله : (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) هي اسم الرياح التي لم يظهر أنها أرسلت للهلاك أو للتبشير (٥) ؛ لأن الرياح التي ترسل للرحمة يظهر أثر رحمتها من ساعتها من إرسال السحاب ، وغير ذلك قبل أن تتتابع ، وكذلك الرياح التي هي رياح إهلاك يظهر علم الإهلاك من ساعتها ، وهو أن تكون قاصفة شديدة قبل أن تتتابع.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَالْفارِقاتِ فَرْقاً).

يحتمل الرياح ـ أيضا ـ وأنما سميت : فارقات ؛ لأنها تفرق السحاب ؛ فيصير البعض في أفق ، والبعض في أفق أخرى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً) :

__________________

(١) في أ : مقدور.

(٢) قاله ابن مسعود بنحوه أخرجه عبد بن حميد ، وابن جرير (٣٥٨٨٠ ، ٣٥٨٨٢) ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طريق أبي العبيدين عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٤٩٢) ، وهو قول ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وغيرهم.

(٣) قاله صالح بن بريدة أخرجه ابن جرير عنه (٣٥٨٩٤).

(٤) في أ : المبشرات.

(٥) في ب : للتسيير.

٣٧٦

جائز أن يصرف إلى الرياح ، وإلقاء ذكرها ما ذكرنا : أنه تظهر بها النعم ، وتتذكر ، وتبين بها النجاة ، ويقع ببعضها الهلاك ، فذلك إلقاء ذكرها ، والله أعلم.

وإن صرف الكل إلى الملائكة فيحتمل أيضا :

فقوله ـ عزوجل ـ : (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) ، أي : الملائكة الذين أرسلوا بالأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً) ، أي : الملائكة الذين يعصفون أرواح الكفار ، أي : يأخذونها على شدة وغضب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالنَّاشِراتِ نَشْراً) جائز أن يكون أريد بها السفرة من الملائكة ، سموا : ناشرات ؛ لأنهم ينشرون الصحف ، ويقرءونها.

وجائز أن يراد بها الملائكة الذين يأخذون أرواح المؤمنين على لين ورفق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَالْفارِقاتِ فَرْقاً) جائز أن يراد بها الملائكة ، وسميت : فارقات ؛ لأنهم يفرقون بين الحق والباطل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً) هم الملائكة الذين يلقون الذكر على ألسن الرسل ، عليهم‌السلام.

وإن صرف البعض إلى الملائكة والبعض إلى الرياح ، فمستقيم أيضا (١).

فتكون «المرسلات» : الذين أرسلوا بالمعروف والخير.

و «العاصفات» الريح الشديدة ، و «الناشرات» : الرياح الخفيفة السهلة.

و «الفارقات فرقا» و «الملقيات ذكرا» : هم الملائكة.

ويحتمل وجها آخر : أن يراد بقوله : (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) هم الرسل من البشر الذين بعثوا إلى الخلق ، فما من رسول بعث إلا وهو مرسل بالأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر.

وكذلك جائز أن يراد بقوله تعالى : (فَالْفارِقاتِ فَرْقاً. فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً) هم الرسل ؛ لأنهم يفرقون بين الحق والباطل ، ويلقون الذكر في مسامع الخلق.

وجائز أن يكون قوله : (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) هي الكتب المنزلة من السماء ؛ لأنها أرسلت بالمعروف وكل أنواع الخير.

وكذا قوله : (وَالنَّاشِراتِ نَشْراً) ، أي : ناشرات للحق والهدى ، وكذا قوله ـ عزوجل ـ : (فَالْفارِقاتِ فَرْقاً) ؛ لأنها تفرق بين الحق والباطل أيضا.

__________________

(١) زاد في ب : أن.

٣٧٧

وكذلك (فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً) ؛ فإنها سبب لذلك (١) ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (عُذْراً أَوْ نُذْراً) :

أي : عذرا من الله ـ تعالى ـ وهو أن الله ـ تعالى ـ أرسل الرسل ، وأنزل الكتب ، وبين الحجج ؛ حتى لم يبق لأحد على الله حجة بعد ذلك ، فهذا هو الإعذار.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَوْ نُذْراً) ، أي : أنذرهم ، ولم يعجل في إهلاكهم ؛ بل بين لهم ما يتقى ويجتنب ، وما يندب إليه ويؤتى ، فهذا هو الإنذار على تأويل الرياح ما ذكرنا : أنها مذكرات نعم الله تعالى ونقمته ؛ فيكون في ذلك إيجاب ذكر المنعم والمنتقم ؛ فيكون في ذلك إعذار وإنذار ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ).

فهذا موضع القسم بما ذكر من المرسلات إلى آخرها.

ثم إن كان الموعود هو البعث ، فمعناه : إن الذي توعدون به من البعث لكائن ، وإن كان على الجزاء والعقاب ، فتأويله : إن ما توعدون (٢) به من العذاب لنازل (٣) بكم ؛ فتكون الآية في قوم علم الله ـ تعالى ـ أنهم لا يؤمنون.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ).

فكأنه ـ والله أعلم ـ لما نزل قوله تعالى : (إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ) سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن وقت وقوعه متى يكون؟ فنزلت : (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ) ، فأشار إلى الأحوال التي تكون يومئذ ، لا إلى نفس الوقت ، فقوله : (طُمِسَتْ) ، أي : ذهب ضوؤها ونورها ، ثم تناثرت.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ) :

أي : انشقت.

(وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ).

أي : قلعت من أصلها ؛ فسويت بالأرض.

وقال الزجاج : نسفت الشيء إذا أخذته (٤) على سرعة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) ، وقرئ وقتت ، وكذلك أصله ، لكن الهمزة أبدلت مكان الواو ؛ طلبا للتخفيف ، وهو من التوقيت ، أي : جمعت لوقت.

__________________

(١) في ب : لذاك.

(٢) في أ : يدعون.

(٣) في ب : النازل.

(٤) في ب : أخذ به.

٣٧٨

وقيل : أحضرت الرسل ؛ ليشهد كل واحد منهم على قومه الذين بعث إليهم ؛ كما قال [الله](١) تعالى : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ) [النحل : ٨٩].

وقيل : (أُقِّتَتْ) أي : وعد لهم بيان حقيقة ما إليه دعوا من وقوع ما أوعدوا قومهم الذين تركوا إجابتهم من العذاب ، ووعد لهم الوصول إلى من آمن بالله تعالى وأجاب الرسل فيما دعوهم إليه من الثواب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ) :

(أُجِّلَتْ) و (أُقِّتَتْ) واحد ؛ لأن في التأجيل توقيتا ، وفي التوقيت تأجيلا ، ثم بين وقت حلول الأجل ـ أجل العذاب ـ بقوله ـ عزوجل ـ : (لِيَوْمِ الْفَصْلِ) ، أي : ليوم الحكم والقضاء ، قال الله ـ تعالى ـ : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى) [طه : ١٢٩] ، وقال : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) [فصلت : ٤٥].

فجائز أن تكون الكلمة التي سبقت منه هي تأخير الجزاء إلى يوم البعث ؛ فجعل ذلك يوم الجزاء ؛ وذلك يكون بالمعاينة ، وجعل هذه الدار دار محنة وابتلاء ، وذلك يكون بالحجج والبينات ؛ فكأنه قال : لو لا ما سبق من كلمة [الله ـ تعالى ـ من تأخير الجزاء والعذاب ، وإلا كان العذاب واقعا بهم في هذه الدنيا بالتكذيب.

ويحتمل وجها آخر : وهو أن الله ـ تعالى ـ أخر](٢) الجزاء والعقاب إلى اليوم الذي يجمع فيه الأولين والآخرين ، وقدر في هذه الدنيا خلق هذا البشر على التتابع إلى ذلك اليوم ؛ إذ ذلك اليوم هو الذي يوجد (٣) فيه الجمع ، والله أعلم.

وسمى يوم الفصل لهذا أنه يوم القضاء والحكم ، ولأنه اليوم الذي يظهر فيه مثوى أهل الشقاء وأهل السعادة ، ويفصل بين الأولياء والأعداء ويفصل بين الخصماء ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ) :

أي : لم تكن تدري ، فدراك الله تعالى ؛ ذكر هذا : إما على التعظيم والتهويل لذلك اليوم ، أو على الامتنان على رسوله ـ عليه‌السلام ـ باطلاعه عليه ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) :

في هذا دليل على أن الوعيد المذكور على الإطلاق منصرف إلى أهل التكذيب ، ثم لم

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في أ.

(٣) في ب : يؤخذ.

٣٧٩

يذكر ما للمصدقين ، وحقه أن يقال : «طوبى للمصدقين» ؛ لأن حرف «الويل» يتكلم به عند الوقوع في المهلكة ، وحرف «طوبى» يتكلم به في موضع السرور والعطية ، فإذا ذكر في أهل التكذيب حرف الهلاك ، كان من كان بخلاف حالهم مستوجبا للسرور ، ولكنه إن لم يذكرها هنا فقد ذكرها في موضع آخر بقوله : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ. فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) [الانشقاق : ٧ ، ٨] ، وقال ـ عزوجل ـ : (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الأعراف : ٨] : تقديم وتأخير.

قوله تعالى : (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (١٦) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (١٧) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (١٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٩) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٢٠) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (٢١) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢٢) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (٢٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٤) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (٢٥) أَحْياءً وَأَمْواتاً (٢٦) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (٢٧) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ)(٢٨)

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) :

جائز أن يكون ذكر هذا ؛ ليدفع عنهم الإشكال والريب الذي اعترض لهم في أمر البعث ؛ لأن الأعجوبة في الإعادة ليست بأكثر من الأعجوبة في الإنشاء والابتداء ، فذكر ابتداء خلقهم ؛ لينتفي عنهم الريب في الإعادة.

وجائز أن يكون ذكر خلقهم من الماء المهين ، وهو الماء المستعاف المستقذر ؛ ليدعوا تكبرهم وتجبرهم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وينقادوا له (١) ، ويجيبوا إلى ما دعاهم إليه.

وأخبر (٢) أنه خلقهم في الظلمات التي لا ينتهي إليها تدبير البشر ؛ ليعلموا أنه قادر على ما يشاء ، ويعرفوا أنه لا يخفى عليه شيء ؛ فيحملهم ذلك على المراقبة ، وعلى التيقظ والتبصر (٣).

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ) :

القرار المكين هو الرحم ، جعله الله ـ تعالى ـ قرارا مكينا يتمكن فيه الماء المهين ، فيخلق (٤) منه علقة ومضغة ، ويقر فيه إلى الوقت الذي قدر الله تعالى الخروج منه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَقَدَرْنا) ، قرئ : قدرنا وقدرنا ، ف قدرنا ، أي : خلقنا كل شيء منه بقدر ؛ و (فَقَدَرْنا) ، أي : سويناه على ما توجبه (٥) الحكمة على الوجوه

__________________

(١) في أ : وينقادون.

(٢) في ب : فأخبر.

(٣) في ب : والتبصير.

(٤) في ب : فخلق.

(٥) في أ : يوجب.

٣٨٠