تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٩٥

وصلاحهم ؛ ولذلك قال في وقت أذاهم إياه : «اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون».

ويحتمل أن يكون هجره إياهم (١) هجرا جميلا هو ألا يكافئهم بالسيئة السيئة ، بل يدفع السيئة بالحسنة ؛ كقوله تعالى : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) [المؤمنون : ٩٦] ؛ إذ ذاك أدعى للخلق إلى إجابة من يفعل ذلك بهم عند المعاملة ، والله أعلم.

ثم من الناس من يقول بأن هذه الآية نسختها آية السيف.

ومنهم من قال بأنها لم تنسخ ، وصرفوا تأويل الآية إلى جهة لا يعمل عليها النسخ ، وذلك أن في قوله : (وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) منع المكافأة لأجل ما آذوه ، ولم يفرض عليه (٢) القتال ؛ ليكافئهم بأذاهم ، وينتقم منهم بذلك ؛ بل رجع قتاله إلى نصرة الدين ؛ ولتكون كلمة الله تعالى هي العليا ؛ لذلك لم يكن في آية السيف ما يوجب نسخ هذا ، ولا نسخ العمل بقوله : (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) [البقرة : ١٠٩].

الثاني : أنه ليس في قتالهم انتقام منهم ، بل فيه ما يدعوهم إلى الإيمان بالله تعالى ورسوله ، وإذا آمنوا بذلك نجوا من العقاب ، وفازوا بعظيم الثواب ؛ فيصير القتال رحمة لهم لا عقوبة.

ووجه جعله رحمة : هو أنهم إذا رأوا غلبة المسلمين عليهم مع قلة عددهم والضعف الذي حل بأبدانهم ؛ لاشتغالهم (٣) بعبادتهم ربهم ، وكثرة عدد المشركين مع قوة أبدانهم ـ أيقنوا أنهم لم ينالوا الغلبة بالحيل والأسباب ؛ بل الله تعالى هو الذي قواهم عليهم ، وقام بنصرهم ؛ فيتقرر عندهم كون (٤) أهل الإسلام على الحق ، وإذا أيقنوا بالحق التزموه فيحرزون به جزيل الثواب ، وكريم المآب ؛ فصار القتال رحمة لهم ، لا أن يكون عقوبة عليهم ؛ لسوء صنيعهم ، وإذا كان كذلك ، بقي العمل بقوله ـ عزوجل ـ : (وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) ثابتا باقيا ، وبهذا يجاب من سأل فقال : إن الله تعالى يقول لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [لأنبياء : ١٠٧] ، وفي القتال ترك الرحمة ؛ فكيف فرض عليه؟

فيقال أن ليس في القتال ترك الرحمة ؛ بل هو من أبلغ الرحمة وتمامها ؛ إذ يحملهم على الإيمان ، وترك التكذيب ؛ فتعلو منزلتهم ، ويشرف قدرهم في الدنيا والآخرة ، والله أعلم.

__________________

(١) في ب : إياه.

(٢) في أ : عليهم.

(٣) في أ : لاستثقاله.

(٤) في ب : بكون.

٢٨١

وجواب آخر : أن يقال بأن الحجة في القتال ليس في القتل ؛ لأنهم إذا خافوا القتال ، تركوا التكذيب ، وأقبلوا على الداعي ؛ ألا ترى أنه ذكر أن القوم قبل أن يفرض عليهم القتال ، كان يدخل الواحد منهم بعد الواحد في هذا الدين ؛ فلما شرع القتال ، جعلوا يدخلون فيه فوجا فوجا ، وقبيلة قبيلة.

ثم إباحة القتل يكون بالضرورة ؛ لأنهم إذا علموا [أنهم] لا يقتلون ، لم يقع لهم الخوف بالقتال ، وإذا لم يخافوا تركوا الإجابة ؛ فشرع القتل فيه ؛ لتحقيق الخوف ؛ فلم يكن فيه ترك الرحمة ، وهو كقوله : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ) [البقرة : ١٧٩] ، وفي إقامة القصاص تلف النفس ، وليس فيه إحياء ، ولكن وجه الإحياء فيه : هو أن القاتل إذا فكر [في] قتل نفسه بقتل صاحبه ، ردعه ذلك عن القتل ؛ فيكون فيه إحياء النفسين جميعا ؛ فيصير إيجاب القصاص سببا للإحياء في الحقيقة ، وإن كان في الظاهر سببا للإتلاف ؛ فكذلك هؤلاء إذا أيقنوا بالقتل بامتناعهم عن الإجابة ، تركوا الامتناع ، وأقبلوا على الإجابة ؛ فيكون موضوع القتل للرحمة في التحقيق ، وإن كان في الظاهر خارجا مخرج ترك الرحمة ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ) ففيه أن أهل الخصب والرغد هم الذين اشتغلوا بالتكذيب ، وهم الذين كانوا يصدون الناس عن سبيل الله (١) ؛ كما قال : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها) [الأنعام : ١٢٣] ، وقال : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها) [سبأ : ٣٤] ؛ فخص أولي (٢) النعمة بالذكر لهذا.

ثم في قوله : (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ) إيهام بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبق منه المنع ، ولم يوجد من رسول الله حيلولة ومنع ، ولكن مثل هذا الخطاب موجود في كتاب الله تعالى في غير آي من كتابه ، وهو أن يخرج مخرجا يوهم أن هناك مقدمة ، وإن لم يكن فيها مقدمة في التحقيق ؛ قال الله تعالى : (وَالسَّماءَ رَفَعَها) [الرحمن ٧] ، ولم يكن فيه تحقيق الوضع ، وإن كان الرفع يستعمل في الشيء الموضوع ؛ فكان تأويل الرفع هاهنا بأنها خلقت مرفوعة.

وقال : (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) [الرحمن : ١٠] ، ولم تكن مرفوعة فوضعها ، وكان معناه : أنها خلقت موضوعة.

وقال يوسف ـ عليه‌السلام ـ : (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) [يوسف : ٣٧] ، ولم يسبق منه دخول في دين أولئك ؛ فيكون تاركا له بعد ما دخل فيه.

وقال الله تعالى : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا

__________________

(١) في ب : سبيل الهدى.

(٢) في ب : أهل.

٢٨٢

أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ) [البقرة : ٢٥٧] ، ولم يقتض قوله : (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) كونهم في الظلمات ، ولا اقتضى قوله : (يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ) كونهم في النور ، فيخرجهم منه ، وإن كان في الظاهر يؤدي ذلك ؛ فعلى ذلك قوله : (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ) وإن كان في الظاهر يقتضى حيلولة ومنعا ، فليس في الحقيقة إثبات منع.

ويذكر غير هذا في سورة المدثر.

ثم قوله : (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ) معناه : لا تجازهم بصنيعهم ، ولا تستعجل عليهم بالدعاء ؛ بل أمهلهم قليلا (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ) [البقرة : ١٣٧].

وقيل في الفرق بين النّعم (١) والنّعمة : إن النّعمة ما يعطى للعبد إرادة استدراجه فيها وهلاكه ، كقوله ـ عزوجل ـ : (وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ) [الدخان : ٢٧] ، والنعم هي منة الله تعالى على عباده ؛ تفضلا عليهم ، كقوله ، (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) [لقمان : ٢٠] ، والله أعلم.

قوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً. وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً).

قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : الأنكال هي السلاسل والقيود (٢).

وقال أبو بكر الأصم : الأنكال : ما ينكل به ويعتبر به غيره ؛ قال الله تعالى : (فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً) [البقرة : ٦٦] تأويله ما بين يديها من القرى (٣) وما خلفها من القرى أيضا.

فإن كان على ما ذكره أبو بكر الأصم فقد يكون في الدنيا ، ويكون منصرفا إلى يوم بدر [وكأن الأول أشبه.

والجحيم : هو معظم النار.

ثم في هذه الآية دلالة نبوة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وآية رسالته](٤) لأن قوله : (إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً) راجع إلى قوله : (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ) ، فإن لهم لدينا أنكالا وجحيما ، وإنما ينكلون ويعذبون بالجحيم إذا ماتوا على الكفر ؛ ففيه إبانة أنهم يموتون وهم كفار ، وعلى ذلك ماتوا ، وختم أمرهم ، ولم يسلم منهم أحد ؛ فيخرج ما أخبر عن غيب كما أخبر ، وذلك لا يعلم إلا بالله ـ تعالى ـ فثبت أنه لم يخترعه من تلقاء نفسه ، بل علم

__________________

(١) في ب : النعمة.

(٢) وهو قول عكرمة أيضا أخرجه ابن جرير (٣٥٢٥٤ ، ٣٥٢٥٧) وابن أبي شيبة وعبد بن حميد عنه ، كما في الدر المنثور (٦ / ٤٤٦) وعن قتادة ومجاهد وحماد وطاوس والحسن مثله.

(٣) في أ : قرى.

(٤) سقط في أ.

٢٨٣

بالله تعالى ، وعلم الغيب من أعظم آيات رسالته.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً) فالذي يغص ، ولا يقدر على ابتلاعه ليس بطعام في الحقيقة ، وقال : (لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ) [يونس : ٤] والحميم ليس بشراب في التحقيق ؛ ولكن سمي الأول : طعاما ؛ لأنه يمضغ مضغ الطعام ، والصديد والحميم يسيلان سيل الشراب ، فذكر في الأول طعاما ، وفي الثاني شرابا لهذا.

ولأن الطعام اسم لما يطعم ؛ فهو مطعوم ، وإن كان كريها ، والحميم مشروب وإن كان في نفسه كريها.

ثم الأصل أن الكفرة بكفرهم تركوا شكر نعم الله ـ تعالى ذكره ـ وقابلوها بالكفران ؛ فأبدل الله تعالى لهم في الآخرة مكان كل نعمة نقمة ؛ ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا) [الإسراء : ٩٧] ، فأبدلهم مكان البصر عمى ، ومكان السمع صمما ؛ لتركهم شكر ما أنعموا من البصر والسمع واللسان ، وأبدلهم مكان اللباس قطرانا ، ومكان المراكب : السحب إلى النار على أقدامهم ووجوههم ؛ فكذلك أبدلهم مكان الطعام والشراب زقوما وحميما ؛ لتركهم شكر نعم الله تعالى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً).

قد ذكرنا الرجفة في غير موضع.

وقوله : (كَثِيباً مَهِيلاً) ، أي : رملا سائلا ؛ ففيه إخبار عن شدة هول ذلك اليوم ؛ لأن الجبال من أصلب الأشياء وأشدها في أنفسها ، ثم يبلغ هول ذلك اليوم مبلغا لا يحتمله الجبال مع شدتها وصلابتها ، فالإنسان (١) الضعيف المهين أنى يقوم لشدته وهوله؟ فذكرهم حال ذلك اليوم ؛ ليرتدعوا ، وينتهوا عما هم عليه في التكذيب والضلال.

قوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (١٥) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (١٦) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (١٧) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (١٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً)(١٩)

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً).

قوله : (شاهِداً عَلَيْكُمْ) قال أبو بكر الأصم : تأويله : مبينا لكم ما لله تعالى عليكم من الحق.

وجائز أن يكون (شاهِداً عَلَيْكُمْ) ، أي : لكم وعليكم جميعا ؛ فيكون على الكفرة شاهدا بقوله : (وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ) [النحل : ٨٩] ، ويكون للمؤمنين شاهدا ، وقد

__________________

(١) في أ : فإن الإنسان.

٢٨٤

يذكر «عليكم» ويراد به «لكم» كقوله : (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) [المائدة : ٣] ، أي : للنصب ؛ لأنهم كانوا يذبحون لها ، لا عليها.

وخص ذكر موسى ـ عليه‌السلام ـ وفرعون من بين الجملة ؛ ففائدة ذكر التخصيص هو ـ والله أعلم ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان منشؤه (١) بين ظهراني الذين كذبوه ، ولم يكن وقفوا منه على كذبة قط ؛ بل كانوا عرفوه بالصيانة والعدالة ، وكان بمحل يرونه أهلا للشهادة ؛ فكيف ينسبونه إلى الكذب ، ولم يعهدوا ذلك منه ، وكذلك موسى ـ عليه‌السلام ـ كان نشأ بين ظهراني (٢) أولئك الذين أرسل إليهم ، وكانوا عرفوه بالصيانة والعدالة ، وعرفوا أنه يصلح للشهادة.

ومنهم من يقول بأنهم ازدروا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واستصغروه ؛ اعتبارا بما شهدوا من حاله عند الصغر ؛ إذ كان نشوؤه فيهم ؛ وكذلك ازدروا بموسى ـ عليه‌السلام ـ حين (٣) بعث إليهم ، واستخفوا به استخفافهم به في حال الصغر ، حتى قالوا : (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ) [الشعراء : ١٨] ، فنزل بهم ما نزل بأولئك من الاستئصال بتكذيبهم إياه ، وازدرائهم به ، فذكرهم حال مكذبي موسى ـ عليه‌السلام ـ وما نزل بهم من مقت الله تعالى بتكذيبهم وازدرائهم به ليعتبروا به ؛ فينقلعوا عن الازدراء ؛ لئلا يحل بهم ما حل بأولئك.

ولئلا يغتروا بقواهم ، وكثرة عددهم وأموالهم ؛ فإن مكذبي موسى ـ عليه‌السلام ـ كانوا أكثر أموالا وأولادا وأعدادا ، وأشد بطشا ؛ فلم يغنهم ذلك من الله ـ تعالى ـ شيئا.

وجائز أن يكون خص ذكر موسى ـ عليه‌السلام ـ وفرعون ونبأهما ؛ لأن خبره كان منتشرا فيما بين أهل مكة ؛ لأنهم كانوا جيرة اليهود الذين عندهم نبأ موسى ـ عليه‌السلام ـ وفرعون ، فكانوا يخبرونهم بما حل بفرعون وقومه بتكذيبهم الرسول ؛ فذكرهم نبأ موسى ـ عليه‌السلام ـ لينتهوا عما هم عليه من التكذيب.

ولأن لله تعالى أن يحتج عليهم بآحاد الحجج ، وله أن يحتج عليهم بجملتها ؛ إذ في ذلك قطع الشبه ، وإزاحة العذر.

أو ذكرهم نبأ موسى ـ عليه‌السلام ـ وقومه ؛ لأن العهد بهم (٤) كان أقرب ؛ إذ قومه كانوا آخر قوم استؤصلوا في الدنيا.

وقوله : (فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً) ، أي : شديدا : ومنه : المطر الشديد

__________________

(١) في ب : نشوءه.

(٢) في أ : ظهر.

(٣) في أ : حيث.

(٤) في ب : به.

٢٨٥

يسمى الوابل.

وقال أبو بكر : اسم لكل معضلة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً) ، فهو يحتمل أوجها :

أحدها : أي : كيف تتقون النار في الآخرة إذا سلكتم في الدنيا سبيلها ـ وهو الكفر ـ وأنتم تعلمون أن من سلك طريقا لشيء ولا منفذ لذلك الطريق إلا إلى ذلك الشيء ؛ فإنه يرد عليه لا محالة.

أو كيف تتقون النار في الآخرة ، وقد تركتم القيام بما عليكم من شكر النعم.

أو كيف تتقون العذاب في الآخرة وأنتم تدفعون إليها ، وتضطرون بقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) [لقمان : ٢٤] ، وبقوله : (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ) [القمر : ٤٨] ، وبقوله : (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ) [الدخان : ٤٧] ، وقد مكنتم في الدنيا من الإيمان بالله تعالى ، ومكنتم من الانتهاء عن الكفر ، ثم لم تنقلعوا عنه ، فأنى يتهيأ لكم المخلص من عذابه ، وأنتم تدفعون إليه.

أو كيف تنتفعون بإيمانكم في الآخرة ، ولم تؤمنوا في الدنيا ، وقد مكنتم به.

والأصل أن دار الآخرة ليست بدار لاستحداث الأسباب ، وإنما هي دار وقوع المسببات ؛ فهم إذا لم يستحدثوا الأسباب التي جعلت لدفع العذاب في الدنيا ، لم يمكنوا من استحداثها في الآخرة فينتفعوا بها ، ولم يكونوا أهلا لوقوع المسببات ؛ لما لم يستحدثوا الأسباب في الدنيا ، وإنما قلنا : إنها ليست بدار محنة وابتلاء ؛ لأن المحنة ؛ لاستظهار الخفيات ، والثواب والعقاب قد شوهد وعوين ؛ فإذا قيل : إذا فعلت كذا ، دخلت (١) النار وهو يعاين النار ، ويراها ، فهو يمتنع عن الإقدام على ذلك الفعل ، وإذا قيل له : إذا آمنت بالله تعالى أكرمت بالجنة ، وهو يشاهد الجنة ، ويراها ، فهو يؤمن لا محالة ؛ فلا وجه للابتلاء في الآخرة ؛ بل هي دار وقوع المسببات يعني : الثواب والعقاب ؛ والذي يدل على هذا قوله : (يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً) ، فأخبر أنهم يشيبون لا بسبب (٢) المشيب ، والمشيب في الدنيا لا يوجد إلا بعد وجود سببه ، وهو الكبر ليعلم أن الدار الآخرة ليست بدار استحداث الأسباب ؛ فما يستحدثون من الإيمان بالله تعالى لا ينفعهم في ذلك اليوم ، ولا يقيهم من عذاب الله تعالى.

__________________

(١) في ب : ودخلت.

(٢) في ب : بشيب.

٢٨٦

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً) جائز أن يكون هذا على التحقيق ، فيشيب الولدان لهول ذلك اليوم ، ويصير الشيب سكارى ؛ لشدة هوله ؛ كما قال تعالى : (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى) [الحج : ٢].

وجائز أن يكون على التمثيل ، لا على [تحقيق الشيب](١) ، فمثله به ؛ لعظم ذلك اليوم ، وشدة هوله ، وقد يجوز أن يمثل الشيء بما يبعد عن الأوهام تحقيقه ؛ على تعظيم ذلك الشيء ، كقوله : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا. أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) [مريم : ٩٠ ، ٩١] ، فذكر هذا على التمثيل ؛ لعظم ما قيل فيه ، لا على تحقيق الانفطار والانشقاق.

وجائز أن يكون معناه : أنه لو لا أن الله ـ تعالى ـ بعثهم للإبقاء وألا يتغيروا ، ولا يتفانوا ، وإلا كان هول ذلك اليوم يبلغ مبلغا يشيب به الولدان.

وقوله ـ عزوجل ـ : (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) :

أي : بما يجعل الولدان شيبا ، وهو هول ذلك اليوم ، وشدة فزعه.

أو منفطر بالغمام.

وقيل : منفطر بالله ، أي : بقضائه وحكمه ، والله أعلم.

ثم قال : (مُنْفَطِرٌ بِهِ) ، ولم يقل : «منفطرة» ، والسماء مؤنث ؛ فذكر الزجاج : أن معنى قوله : (مُنْفَطِرٌ بِهِ) ، أي : ذات انفطار ، فعبر بها كما يعبر عن الذكور ؛ كما يقال : امرأة مرضع ، أي : ذات إرضاع.

وقوله ـ عزوجل ـ : (كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً) :

أي : الذي وقع به الوعد مفعول ، لا أن يكون الوعد هو المفعول ، وكذا قوله : (إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) [مريم : ٦١] ، والوعد لا يؤتى ، بل الموعود هو الذي يؤتى ، ولكن نسب الموعود إلى الوعد ؛ لأنه من آثاره ، وهذا كما يقال : المطر رحمة الله ، أي : برحمة الله ما أمطروا ، لا أن يكون المطر رحمته ، ويقال : الصلاة أمر الله ، أي : بأمر الله ما تقام ، لا أن تكون أمره الذي يوصف به ؛ فكذلك الموعود نسب إلى الوعد ؛ إذ بالوعد ما استوجبوا ، لا أن يكون الوعد هو المفعول وهو المأتي.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ) :

جائز أن يكون قوله : (هذِهِ) منصرفا إلى الأهوال التي ذكرها فيكون ذكرها تذكرة.

__________________

(١) في أ : التحقيق.

٢٨٧

ويحتمل أن ينصرف إلى الرسالة ، أي : رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم تذكرة.

ويحتمل : أي : هذه السورة ، أو الآيات كلها تذكرة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) :

قال بعضهم : من شاء اتخذ عند ربه جاها ومنزلة لنفسه.

أو (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً).

[أي](١) إلى ما دعاه إليه ربه ، وذلك يكون بالإجابة فيما دعاه إليه.

أو من شاء اتخذ إلى ما وعد له ربه في الآخرة سبيلا في أن يقبل على طاعته ، ويشغل نفسه بعبادته.

قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٢٠)

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ) :

قال أبو عبيد : الصواب أن يقرأ : ونصفه وثلثه بالخفض ؛ على معنى إضافة (أَدْنى) إليها ، فكأنه يقول : إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ، وأدنى من نصفه ، وأدنى من ثلثه ، و (أَدْنى) يكون على الزيادة والنقصان جميعا ؛ لأن (٢) فضل ما بين الثلث ، إلى النصف هو السدس ؛ فإذا زاد على الثلث أقل من نصف السدس ، فهو إلى الثلث أدنى ، وكذلك (٣) إذا نقص من الثلث شيئا قليلا ، فهو إلى الثلث قريب ؛ فيكون إليه أدنى ، وكذلك الفضل فيما بين النصف إلى الثلثين هو السدس ، فإذا زاد على النصف أكثر من نصف السدس ، فهو إلى الثلثين أدنى ، وإذا نقص من نصف السدس فهو إلى النصف أدنى وأقرب.

ومنهم من اختار النصب (٤) فيهما ، والوجهان جميعا محتملان ؛ لأن قوله : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ) ليس فيه إيجاب حكم مبتدأ ؛ وإنما فيه إخبار عن القيام

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في أ : أن.

(٣) في ب : فكذلك.

(٤) في ب : النصف.

٢٨٨

الذي وجد من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فجائز أن يكون وجد منه [ذلك كله ، وهو أن يكون قريبا من الثلثين ، وقريبا من النصف ، وأدنى من الثلث ؛ على ما ذكره أهل المقالة الأولى ، ويكون قد قام](١) أدنى من ثلثي الليل ، وقام نصفه وثلثه ، وأدنى من نصفه وأدنى من ثلثه ، فذكر في الثلثين الأدنى ؛ لما وجد منه الأدنى من جهة الزيادة والنقصان ، ولم يوجد موافقة الثلثين ، وأخبر بالنصف والثلث بالأمرين جميعا ؛ لوجود الموافقة ، وهو أن يكون قام نصف الليل ، وقام ثلثه ، وقام أدنى من النصف ، وأدنى من الثلث ، وإذا كان هذا كله محتملا ، لم يجز أن يدفع أحد الوجهين ، ويتمسك بالوجه الآخر ؛ وهذا كقوله تعالى : (قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ) [الإسراء : ١٠٢] ، فقرئ برفع التاء ونصبه جميعا ؛ لما وجد الأمران جميعا ، وهو أن يكون موسى ـ عليه‌السلام ـ وفرعون علما بها أي : بالآيات جميعا.

وكذلك قال في سورة سبأ : (رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) [١٩] ، وقرئ : ربنا باعد بين أسفارنا ؛ لوجود الأمرين جميعا وهو الدعاء والإجابة ؛ فقوله ـ عزوجل ـ : (رَبَّنا باعِدْ) دعاء ، وقوله (رَبَّنا باعِدْ) على الإجابة ، ففرق بينهما بالإعراب ؛ فكذلك هاهنا لما استقام وجود الوجهين من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، استقام أن يقرأ بالنصب والخفض جميعا ، ويفرق بينهما بالإعراب ، والله أعلم.

ثم يجوز أن يكون المفروض من القيام قدر ثلث الليل ، ويكون الزيادة بحكم النافلة.

ويجوز أن يكون كله مفروضا ، وإن طال ، وزاد على الثلث والنصف والثلثين ، وإن كان يجوز له الاقتصار على ثلث الليل ؛ ألا ترى أن فرض الركوع والسجود يقضى بإدراك جزء منه ، وكذلك فرض القيام [يقضى] بالجزء منه ، ثم إن الركوع وإن طال فهو من أوله إلى آخره فرض حتى لو أن داخلا شاركه في أول الركوع ، ثم رفع رأسه ، وشاركه ثالث في آخر ركوعه ، ثم رفع رأسه مع الإمام ، صار كل واحد منهم مدركا لفرض الركوع ، وإن كان الإمام لو اقتصر على جزء منه ، كفاه ذلك عن فرضه ؛ فكذلك الفرض لما انصرف إلى قيام الليل فصار جميع ما يؤتى من القيام في الليل وإن طال فرضا ، وإن كان قد يجوز الاجتزاء ببعضه (٢).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) :

في هذه الآية ، وفي قوله ـ عزوجل ـ : (فَتابَ عَلَيْكُمْ) ـ دليل على أن فرض القيام كان على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعلى من تبعه من المؤمنين ، وإن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو المخصوص

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : بنقصه.

٢٨٩

بالخطاب بقوله : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) [المزمل : ١] ؛ لأنه لو لم يكن الفرض شاملا لهم ، لم يكن لقوله : (فَتابَ عَلَيْكُمْ) معنى ؛ ألا ترى أنه إذا لم يفرض علينا قيام الليل في يومنا هذا ، لم نحتج في ترك القيام إلى أن يتوب الله علينا.

ثم إن الله تعالى ذكر في التوبة وفيما فيه التبع (١) خطابا يجمع الجميع بقوله : (فَتابَ عَلَيْكُمْ) ، وبقوله : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) وذكر فيما فيه الأمر خطابا يقتضى الآحاد ، وهو قوله : (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً. نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً) [المزمل : ٢ ، ٣] ؛ ففي هذا أنه قد يجوز أن يخاطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على إدخال غيره فيه تبعا له ، ولا يجوز أن يخاطب غير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويراد به إشراك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذكر الخطاب ؛ لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو المتبوع ؛ فجاز إلحاق غيره به ، وغيره لا يكون متبوعا حتى يلحق به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ) :

فيه أن الليل والنهار ليسا يمضيان على الجزاف ؛ ولكن بتقدير سبق من الله ـ عزوجل ـ وآية ذلك ظاهرة ؛ لأنهما يجريان مذ خلقهما (٢) على تقدير واحد ، لم يتقدما ، ولم يتأخرا ، ولم ينتقصا ولم يزادا (٣) ؛ فيكون فيه إبانة أن مدبرهما واحد ، وأن الذي قدرهما هكذا ممن لا يبيد ملكه ، ولا ينفذ سلطانه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) :

قال بعضهم (٤) : علم أن لن تطيقوه.

قال أبو بكر الأصم : هذا لا يستقيم ؛ لأنه لا جائز أن يكلفهم الله تعالى ما لا يطيقونه ؛ ألا ترى إلى قوله : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [البقرة : ٢٨٦].

وليس فيما ذكره أبو بكر ما يدفع هذا التأويل ؛ لأنه يقال للأمر إذا اشتد وتعسر : لا يطاق هذا الأمر ، وإن لم يكن ذلك خارجا من الوسع ؛ ألا (٥) ترى إلى [قوله تعالى](٦) : (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) [البقرة : ٢٨٦] ، وتأويله : لا تحملنا أمرا يشتد علينا عمله ، ليس أنهم خافوا أن يحملهم أمرا لا يحتمله وسعهم ؛ فيكون قوله : (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) ـ إن كان تأويله : أن لن تطيقوه ـ على ذلك ، والله أعلم.

وجائز أن يكون قوله : (ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) أي : لا تحملنا أمرا تهلك فيه طاقتنا ، لا أن

__________________

(١) غير واضحة في أ.

(٢) في ب : خلقا.

(٣) في ب : يزدا.

(٤) قاله الحسن أخرجه ابن جرير عنه (٣٥٢٩٢ ، ٣٥٢٩٣) ، وهو قول سعيد بن جبير وسفيان أيضا.

(٥) في ب : إلى.

(٦) في ب : قول.

٢٩٠

تحملوا أمرا لا يطيقونه ؛ ألا ترى الإنسان يحتمل القتل ، ولكن قتله يهلك طاقته.

وجائز أن يكون قوله : (وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) [البقرة : ٢٨٦] ، أي : اعصمنا من الشهوات واللذات ؛ لئلا (١) نؤثرها ؛ فنكون مضيعين بارتكابها قوة الفعل الذي تعبدنا به ؛ فلا نصل إلى فعله ، وهذه هي القوة التي لا تزايل الفعل ، بل تطابقه ، وأما الفعل الذي هو خارج عن احتمال الوسع والطاقة ، فذلك هو الذي لا يقع بمثله التكليف.

وجائز أن يكون تأويل قوله تعالى : (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) ، أي : لن تحصوا حد ما أمركم به ، لو أخذ عليكم في أمر بتقدير الثلث والنصف ، لم يمكنكم ذلك إلا بعد جهد ؛ ففرض عليكم قيام الثلث من الليل ، وجعل لكم الإمكان في أن تزيدوا عليه فيحيط عملكم بقيام الثلث ، ولو كان على حد واحد ، لم يمكنكم حفظه إلا بعد شدة وجهد ، وفي ذلك كلفة عسيرة.

ويؤيد هذا تأويل من قال : (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) ، أي : لن تطيقوه ، وتكون الطاقة (٢) عبارة عن التعسير ، واشتداد الأمر.

ثم في هذه الآية دلالة على إباحة تعليق الحكم بالاستحسان ؛ لأنه قد فرض عليهم قيام ثلث الليل ، ولا يمكنهم تدارك الثلث بتقدير الإحاطة ، وإنما يمكنهم بالتقدير الذي يغلب على القلب ؛ فثبت أنه قد يجوز أن يكون الحكم معتبرا بما يقع في القلوب ، ويغلب على الظنون ، والاستحسان ليس إلا تعليق الحكم بما يغلب على القلوب.

والذي يدل على أن الحكم لازم بما ذكرنا : أن الله تعالى ألزم الحد على القاذف وعلى الزاني ، ولم يبين مبلغ وقوع الضرب فيه ، ولا ما يضرب به ، فقدر ذلك بما يقع (٣) في القلوب أن مثل هذا الضرب يصلح لمثل هذه الجناية ، وكذلك قيم الأشياء ، والأروش ، والنفقات ، وتسوية المكاييل ، والموازين يعتبر ذلك كله بغلبة الظنون من غير أن كان في شيء من ذلك أصل تقدر النوازل به وتنتزع منه ؛ فثبت أنه يجوز أن يحكم بالذي يغلب على القلوب ، وأن المجتهد يرجع إلى وجهين : مرة ينظر غيره فيتمثل بها ؛ فيسمى ذلك : قياسا ، ومرة يحكم فيها بما يغلب على الظنون ؛ فيسمى ذلك : استحسانا.

وفي هذه الآية دلالة أن سؤال من يسأل أبا حنيفة ـ رحمه‌الله ـ أن الوتر لو كان له مشابه في الفرض ، لكان لا يختلف لعدده ـ سؤال غير مستقيم ؛ لأنه قد فرض على القوم أن

__________________

(١) في ب : لأن.

(٢) في أ : الطاعة.

(٣) في أ : ينفع.

٢٩١

يقوموا ثلث الليل ، وقد أخبر ـ عزوجل ـ أنهم لا يحصون حد ما أمرهم به ، وإذا لم يحصوا فلا بد أن يقع هناك زيادة ونقصان ؛ فكذلك الوتر وإن كان حد عدده غير معروف فهو لا يخرجه عن حكم الفرائض ، والله أعلم.

ثم في قوله ـ عزوجل ـ : (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ) أن الله وقتما فرض عليهم علم أنهم لا يحصونه ؛ ولكن بيّن هذا ؛ ليعلموا أن لله تعالى أن يكلفهم إقامة العبادة إلى وقت لا يتهيأ لهم إحاطة مبلغ ذلك الوقت إلا بعد جهد ؛ ليعرفوا منة الله تعالى عليهم إذا أسقط عنهم ذلك التكليف ، وهو كقوله ـ عزوجل ـ : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) [الأنفال : ٦٦] ، ولكن ذكر هذا ؛ ليعلموا أنهم يكلفون القيام للعشرة وإن كان بهم ضعف ، لكن إذا خفف عنهم ، عرفوا ما لله عليهم من عظيم المنة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَتابَ عَلَيْكُمْ) يحتمل أن تكون طائفة منهم امتنعوا عن القيام ؛ فتكون التوبة راجعة إليهم ؛ ألا ترى إلى قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) ، فهذا يبين أنهم جميعا لم يقوموا معه ؛ وإنما قامت معه طائفة ؛ فتكون التوبة راجعة إلى الطائفة التي امتنعت عن القيام.

وجائز أن تكون راجعة إليهم ، وإلى الذين قاموا معه ؛ فيكون الذين قاموا معه قصروا [في] القيام عن الحد الذي شرط عليهم ؛ فافتقروا إلى التوبة ـ أيضا ـ كما افتقر إليها من تخلف عن القيام ؛ فتاب الله عليهم جميعا ، والله أعلم.

وقوله : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) :

فمنهم (١) من ذكر أن قيام الليل صار منسوخا بهذه الآية.

ومنهم (٢) من يقول بأن النسخ وقع بقوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) ، وهي الصلاة المفروضة ، وليس بينهما فرق عندنا ؛ وإنما نسخ بهما جميعا.

ووجه النسخ : هو أن فرض القيام لو كان باقيا ، لكان لا يجوز لهم أن يكتفوا من القراءة بما تيسر عليهم ؛ لأنهم إذا قاموا إلى ثلث الليل لزمهم تبليغ القراءة إلى حدّ يتعسّر عليهم ويشتد ، فإذا أذن بالاقتصار على القدر الذي تيسّر ، علم أنه قد سقط عنهم أن يقوموا ثلث الليل. ثم هو إذا قام صلاة المغرب والعشاء قد قرأ من القرآن ما تيسر عليه ؛ فصار قاضيا لما اقتضاه قوله : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) ، فمن هذا الوجه استدلوا بهذه الآية على نسخ حكم القيام بالليل ، ثم هذه القراءة يقيمها في الصلاة ؛ فيكون النسخ واقعا بهما.

__________________

(١) قاله الحسن أخرجه عبد بن حميد عنه ، كما في الدر المنثور (٦ / ٤٤٨).

(٢) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٣٥٣٠٤) وعبد بن حميد وابن نصر عنه ، كما في الدر المنثور (٦ / ٤٤٨).

٢٩٢

ثم من الناس من يزعم أن فرض القيام سقط عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن أمته ؛ واستدل بقوله : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ) [الإسراء : ٧٩] ؛ فإن كان الفرض عليه قائما ، لم يكن التهجد به نافلة.

ومنهم من زعم أنه لم يسقط عنه فرض القيام ؛ بل دام عليه إلى أن قبض ـ عليه‌السلام ـ.

واحتج بما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «كتب عليّ قيام الليل ، ولم يكتب عليكم» ، ومعناه : بقي عليّ مكتوبا ، ورفع عنكم ؛ إذ قد دللنا [أن] القيام في الابتداء كان [واجبا] عليه وعليهم جميعا.

وقد قال بعض الناس : إن صلاة الليل ، لم تكن فرضا على أمته بهذا الحديث ، وما ذكرناه عليهم.

ثم الجواب عن التعلق [أن قوله :] (فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ) معناه : غنيمة لك ، لا أن يكون القيام منه تطوعا.

ووجه صرفه إلى الغنيمة : هو أن العبادة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تخرج مخرج الشكر لله تعالى ؛ فيصير بها مكتسبا للفضيلة ، وليس يقع ذلك موقع التكفير للسيئات ؛ لأنه تعالى قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ؛ فلم يكن يحتاج إلى إتيان الحسنات ؛ ليكفر عنه السيئات ؛ فثبت أن الفعل منه يقع موقع اكتساب الفضيلة ؛ فتدوم له بذلك الفضيلة ويستوجب بها جزيل الثواب ، وذلك من أعظم الغنائم.

والذي يدل على أن فعله يخرج مخرج الشكر : ما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [أنه قام] حتى تورمت قدماه ؛ فقيل له : يا رسول الله ، ألم يغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال ـ عليه‌السلام ـ : «أفلا أكون عبدا شكورا؟» ، وأما غيره فإن الحسنات منهم مكفرة لسيئاتهم ، ومطهرة لزلاتهم ؛ قال الله تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) [هود : ١١٤] ؛ فهم بحسناتهم لم يصيروا مكتسبين الفضيلة في مستأنف الأوقات ، فيصيروا بها مغتنمين ، بل رفعوا زلاتهم ، وطهروا أنفسهم من المآثم ؛ فلم تصر القربة منهم ، والله أعلم.

فلهذا ما سمى تهجده : نافلة ، لا أن يكون قيامه نفلا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ).

فمنهم من زعم أن هذه السورة كلها مكية ، ومنهم من زعم أن أولها مكية ، وآخرها مدنية ، ويحتج هؤلاء بقوله تعالى : (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ) ، وبقوله : (يُجاهِدُونَ فِي

٢٩٣

سَبِيلِ اللهِ) [المائدة : ٥٤] ؛ وذلك لأن الجهاد فرض على المسلمين بعد الهجرة إلى المدينة ، ولم يوجد منهم الضرب في الأرض في حال كونهم بمكة ، وفي هذا إخبار عن جهاد طائفة ، وعن ضرب بعض في الأرض ؛ فثبت أن نزول هذه الآيات كانت بالمدينة.

واحتجوا ـ أيضا ـ بقوله : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) ، قالوا : إن الزكاة إنما فرضت عليهم بعد ما هاجروا إلى المدينة ، وفي هذا أمر بإيتاء الزكاة ؛ فثبت أن نزولها كان بالمدينة ، وأما أول السورة فهي في موضع المحاجة على أهل الشرك ، ولم يكن بالمدينة مشرك ؛ بل كانوا أهل كتاب.

ومن ذكر أنها كلها مكية ، فهو يحمل قوله : (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) على الوعد والبشارة ، ليس على الإيجاب والوجوب ؛ ألا ترى إلى قوله ـ عزوجل ـ : (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى) ، فأخبر أنه سيكون منكم مرضى ، لا أن كانوا مرضى في ذلك الوقت ؛ فلم يكن فيما ذكر دلالة كونها مدنية.

ثم الآية إن كانت على الوعد ؛ ففيه أنهم كانوا في ضيق من العيش ، وكانوا من القوم في خوف ؛ فيكون فيه بشارة أنه يرفع عنهم الضيق بما يضربون في الأرض ، ويوسع عليهم العيش ، وأنه يفتح لهم الفتوح ، ويكثر أنصارهم حتى يقهروا العدو ، ويقع لهم من ناحيتهم الأمن ، وقد آل الأمر إلى ما بشروا به ، فيه](١) آية رسالته ـ عليه‌السلام ـ إذ أخبرهم عن علم الغيب ، وكان الأمر على ما أخبر.

ثم قوله ـ عزوجل ـ : (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى) في موضع الاعتلال ، أنه إنما خفف عليهم الأمر بما ذكر من الأعذار من المرض ، والضرب في الأرض ، والمجاهدة في سبيل الله تعالى ، والتخفيف إذا وجب لعذر مما لم يلاق العذر حالة الفعل ، لم يخفف ؛ فكيف خفف عنهم قبل وقوع الأعذار ، ولكن هذه الأعذار وإن تحققت [هي لا تلاقي الفعل](٢) ؛ بل تتقدمه ؛ لأن المجاهدة تكون بالنهار (٣) ، لا بالليل ، وكذلك الضرب في الأرض وقت النهار لا الليل ، والقيام كان بالليل ليس بالنهار ، ثم قد وضع عنهم قيام الليل وإن لم يكن العذر ملاقيا للقيام ؛ فعلى ذلك جائز أن يرفع عنهم القيام بالليل وإن لم يأت بعد وقت المجاهدة ، ولا كان الضرب موجودا ؛ إذ ليس في ذلك كله إلا عدم ملاقاة العذر حالة القيام.

__________________

(١) من أول قوله : «الفعل ، بل تطابقه» إلى هنا سقط في ب.

(٢) في ب : وهي تلاقي الفعل.

(٣) زاد في ب : و.

٢٩٤

ثم وجه رفع قيام الليل عنهم بالمجاهدة والضرب في الأرض وإن كانا يحصلان في النهار لا في الليل : هو أن المجاهدة بالنهار تضعفهم ، وتوهن قواهم ؛ فيتعذر عليهم قيام الليل ، وكذلك الضرب في الأرض ؛ فمن الله تعالى عليهم بأن رفع عنهم قيام الليل ، وإن لم يوجد منهم الاشتغال بالجهاد بالليالي ، والله أعلم.

ثم الضرب في الأرض يكون للتجارة ، ولغيرها من الوجوه : لطلب العلم ، وغيره (١) من الأسباب ؛ فلا يحصل أمر الضرب على التجارة خاصة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ).

قال أبو بكر في قوله : (وَآتُوا الزَّكاةَ) دلالة أن هذه الآية مدنية ؛ لأن الزكاة إنما فرضت عليهم بالمدينة ، فإن كان الأمر على ما ذكر : أن فرضها نزل (٢) بالمدينة فذلك عندنا مصروف إلى زكاة المواشي خاصة ؛ لأن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لم يكن لهم بمكة سوائم ؛ لأنهم كانوا يخافون العدو ؛ فلم يتهيأ لهم إسامة المواشي ، وأما ما رجع من الزكوات إلى غيرها من الأموال ، فيشبه أن تكون واجبة عليهم في حال كونهم بمكة ، وبعد مفارقتهم منها ، ولا يكون في الأمر بإيتاء الزكاة دلالة نزولها بالمدينة ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) :

فالقرض ـ في لغة العرب ـ : القطع ، يقال : قرض الفأر الجراب ، أي : قطعه ؛ فسمي القرض : قرضا لهذا ؛ لأنه يقطع ذلك القدر من ماله فيدفعه إلى غيره ، وكذلك هو بالتصدق يقطع ذلك القدر ؛ فيجعله لله تعالى خالصا ؛ فسمي : إقراضا لهذا.

ويجوز أن يكون أضاف إلى نفسه لئلا يمن على الفقير فيما يتصدق عليه ؛ إذ الإقراض حصل فيما بينه وبين ربه ؛ فيصير الفقير معاونا له في تلك القربة.

ولأن المرء في الشاهد إنما يقرض ما يفضل عن حاجته ، فيدفعه إلى من يثق به ، ليسترده منه عند حاجته إليه ؛ فكذلك الصدقة أوجبت في المال الذي يفضل عن حاجاته ، فيقرضها لله تعالى فيجدها مهيأة عند ما تمسه الحاجة.

ثم المال الذي يدفعه إلى الفقير على جهة التصدق هو مال الله تعالى ، ثم جعل الله تعالى ذلك منه إقراضا له جل جلاله وأضافه إلى نفسه ؛ فتكون الفائدة في الإضافة إلى نفسه هي تفضيل عمله ؛ ليرغبه في مثل ذلك الفعل على جهة التكرم منه ، وهو كما سمى الثواب الذي يتفضل [به] على عباده أجرا بقوله : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ) [الجاثية : ١٥] ، ومن عمل لنفسه لم يستوجب الأجر على غيره ، وسمى الذي يقتل :

__________________

(١) في أ : عليه.

(٢) في أ : فرضيتها نزلت.

٢٩٥

شهيدا بائعا نفسه لله تعالى ؛ على تفضيل وترغيب للعباد (١) في مثله ؛ لقوله : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ) [التوبة : ١١١].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ) معناه : تجدوه حاصلا لكم ، وإلا فكل شيء تقدمونه من خير أو شر تجدونه حاضرا في ذلك اليوم ، ولكن الشر يكون عليهم ، قال الله تعالى : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً) [آل عمران : ٣٠] ، وقال ـ عزوجل ـ : (لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) [الكهف : ٤٩].

وقوله ـ عزوجل ـ : (هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً) ، وفي حق الكلام أن يقول : «هو خير» ؛ لأن «هو» يرفع ما بعده ، ولكن «هو» كالفصل هاهنا ، وحقه الحذف ، وإذا حذف انتصب الكلام ؛ لأن معناه (٢) : تجدونه عند الله خيرا لكم مما خلفتم ، فيكون «خيرا» مفعولا.

ثم قوله ـ عزوجل ـ : (هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً) يحتمل أوجها :

أحدها : أنه خير لكم ، وأعظم أجرا مما خلفتم لورثتكم ؛ فيكون فيه أن الذي يخلفه لورثته له فيه خير ، ولكن ما يقدم لآخرته خير له ، والذي يدل على أن له فيما يخلفه لورثته خيرا قوله ـ عليه‌السلام ـ : «إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم فقراء يتكففون الناس».

والثاني : أن المرء في الشاهد قد تسخو نفسه ببذل [الأموال] للآجلة الآجلة لما يأمل منهم من المال الثواب العاجل ، فيكون في قوله : (هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً) ترغيب للعباد في تقديم الأموال لوجه الله تعالى ؛ لأنهم إذا رغبت أنفسهم في بذل الأموال للآجلة ؛ طمعا للمنافع التي تحصل لهم ؛ فكان بذل المال لوجه الله تعالى أعظم في الأجر ، وأولى أن يقع فيه الرغبة.

ولأن النفس قد تتحمل المكروه في الشاهد لمنافع تأملها في ثاني الحال ، فإذا طمعت لما تبذل لوجه الله تعالى الثواب الجزيل والأجر العظيم خف عليها تحمل المكروه ، والذي يناله بالبذل.

ويجوز أن يكون قوله ـ عزوجل ـ : (وَأَعْظَمَ) بمعنى : عظيم ؛ إذ قد يستعمل حرف «أفعل» في موضع «فعيل» ؛ كما يقال «أكبر» (٣) بمعنى : «كبير» ، والله أعلم.

__________________

(١) في ب : العباد.

(٢) زاد في أ ، ب : أن الذي.

(٣) في ب : لكن.

٢٩٦

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) فالاستغفار : هو طلب المغفرة ، وذلك يكون باللسان مرة ، وبالأفعال ثانيا.

فطلب المغفرة من جهة الفعل : أن ينتهي عن الفعل الذي يستحق عليه العقاب ويجيب إلى ما [دعا الله إليه](١) ؛ قال الله ـ تعالى ـ : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) [الأنفال : ٣٨] فجعل انتهاءهم عن الكفر ودخولهم في الإسلام سبب مغفرتهم ، وقال الله تعالى : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) [نوح : ١٠] ، وليس استغفارهم [أن يقولوا باللسان : «اللهم اغفر لنا» ، ولكن معناه : أن انتهوا عما أنتم فيه من الكفر ، وأجيبوا ربكم فيما دعاكم إليه ، فهذا هو الاستغفار](٢) من جهة الأفعال.

وأما الاستغفار باللسان وهو طلب المغفرة ، يكون على وجهين :

أحدهما : أن تسأل ربك التجاوز عن سيئاتك.

والثاني : أن يسأل حتى يوفقه للسبب الذي إذا جاء به استوجب المغفرة (٣) ، وعلى هذا التأويل يخرج استغفار إبراهيم عليه‌السلام لأبيه ، وهو أنه طلب من ربه أن يوفقه لما فيه نجاته ، وهو الإسلام ، لا أن يسأل ربه أن يغفر له مع دوامه على الكفر ؛ ألا ترى أنه امتنع عن الاستغفار له حيث تقررت عنده عداوته لله تعالى ، وعلم أنه لم يوفق للسبب الذي يستوجب به المغفرة ؛ قال الله تعالى : (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) [التوبة : ١١٤] ؛ فثبت أنه لم يطلب منه المغفرة مع دوامه على الكفر ، ولكن للوجه الذي ذكرنا ، والله أعلم.

* * *

__________________

(١) في ب : دعى إليه.

(٢) سقط في أ.

(٣) في أ : إذا جاز به المغفرة تستوجب.

٢٩٧

سورة المدثر

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ)(٧)

قوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) :

قيل : إن الذي حمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على التدثر : أنه كان في بعض طرق مكة إذ سمع صوتا من السماء والأرض ؛ فنظر عن يمينه وعن يساره وأمامه وخلفه ، فلم ير شيئا ، فرفع رأسه فرأى شيئا ؛ ففرق منه ، فأتى بيته ، وقال : «زملوني» ، فدثروه.

فإن صح ما قالوا ، وإلا لم يسعهم أن يشهدوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الذي حمله على التدثر ما ذكروا من الفرق.

ولأن التدثر ليس مما يسكن به الروع الذي يحل بصاحبه من الصياح.

وذكروا أن أول ما نزل من الوحي قوله : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) ، فإن صح ما ذكروا ، فأول ما أوحي إليه هو الصياح الذي سمعه ؛ إذ كان ذلك متقدما على قوله : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ).

وقيل (١) : إن كفار مكة قذفوه بالسحر ، وأجمعوا رأيهم على أن ينسبوه إليه ، وفشا هذا القول فيهم له ؛ فأحزنه ذلك ؛ فدخل بيته وتدثر بثيابه ، فأمره الله ـ تعالى ـ أن يقوم فينذرهم بقوله : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ) ، وعلى هذا التأويل يكون الوحي نازلا قبل نزول هذه السورة ، حتى سموه : ساحرا ؛ لما يرون منه من الآيات ، والله أعلم.

وذكر أن موسى [صلوات الله على نبينا وعليه](٢) قال : «أتاني ربي من طور سيناء ، وسيأتي من طور ساعورا ، وسيطلع من جبل فاران».

فإن صح هذا الخبر ، فمعنى قوله : «أتاني ربي» ، أي : أوحى إلي ، وقوله : «وسيأتي من طور ساعورا» هو الوحي إلى عيسى عليه‌السلام ، وقوله : «وسيطلع من جبل فاران» هو القرآن الذي أنزل على نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وفي هذا الخبر دلالة أن الأخبار التي ورد بها ذكر نزول الرب في كل ليلة إلى سماء الدنيا ، هي على نزول أمره إلى ملائكته ، أن قولوا : «هل من داع فيجاب؟ ، هل من

__________________

(١) قاله ابن عباس أخرجه الطبراني ، وابن مردويه عنه بسند ضعيف ، كما في الدر المنثور (٦ / ٤٥٠).

(٢) في ب : عليه‌السلام.

٢٩٨

مستغفر فيغفر له؟» ، فجائز أن يكون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أول ما أوحي إليه كان بجبل فاران ، وهو جبل من جبال مكة ، أو كان ذلك الجبل منسوبا إلى ذلك المكان.

ثم في قوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) تثبيت (١) نبوة [نبينا](٢) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآية رسالته ، وذلك أن تعريف المرء بما عليه من الثياب (٣) ونسبته إليه ، لا يخرجه مخرج التعظيم والتبجيل ، وإنما التبجيل فيما يدعى باسمه أو بكنيته ، فلو كان الأمر على ما زعمت الكفرة : أن هذا القرآن ليس من عند الله ، وأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الذي اخترعه من ذات نفسه ، لكان لا يعرف نفسه بثيابه ، بل يعرفها بما فيه تبجيلها وتعظيمها ، فإذ لم يفعل ثبت أنه كان رسولا حقا ، بلغ الرسالة على ما أوحي إليه ، وأدى كما أمر ، على ما ذكرنا في الآيات التي خرجت مخرج المعاتبة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن فيها تثبيت (٤) رسالته ؛ نحو قوله : (عَبَسَ وَتَوَلَّى) [عبس : ١] ، وغير ذلك من الآيات.

وجائز أن تكون نسبته إلى ثيابه ؛ ليعلم الخلق أن لا بأس للمرء أن يعرف أخاه بثيابه.

وجائز أن تكون نسبته إلى الثوب الذي يدثر (٥) به يخرج مخرج التعظيم لذلك الثوب ؛ لموافقته حال نزول الوحي ، وهذا كما ذكرنا : أن إضافة الأشياء إلى الله تعالى نحو الجزئيات تخرج مخرج تعظيم تلك الأشياء ، كقوله : ناقة الله ، ومسجد الله ، ورب العرش ، [على](٦) تعظيم العرش ، وتعظيم أمر الناقة ، وتشريف المسجد. وإضافة الأشياء إليه نحو الكليات ، يخرج مخرج تعظيم الله تعالى ؛ كقوله : رب العالمين ، رب السموات والأرض وما بينهما.

ثم أذن للمرء أن يسبح في ركوعه ، فيقول : «سبحان ربي العظيم» ، فيخص نفسه بقوله : «ربي» ، والحق في مثله أن يقول «سبحان ربنا» ؛ لئلا يخرج ذلك مخرج تعظيم النفس ؛ كقوله : «رب العالمين» ، و «رب السماوات والأرض وما بينهما» ؛ إذ الإضافة من الجانبين على السواء فيما ذكرنا ، لكن ذلك الذكر إذا وافق الحالة التي فيها تعظيم الرب ووصفه بالعلو ؛ وهي الركوع والسجود ، أذن له بأن يأتي بهذا الذكر ، وإن خرج ذلك مخرج تعظيم النفس.

__________________

(١) في ب : ثبتت.

(٢) سقط في ب.

(٣) في أ : الثبات.

(٤) في ب : ثبتت.

(٥) في ب : يرتد.

(٦) سقط في ب.

٢٩٩

فكذلك ذلك الثوب الذي تدثر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا وافق [حال](١) نزول الوحي عظم شأنه من ذلك الوجه ؛ فنسب إلى ذلك الثوب.

ثم المرء إنما يتدثر عند ما يريد أن ينام ، أو عند طلب الراحة ، وليست تلك الحالة حالة يستحب (٢) المرء مصاحبة الكبراء العظماء في مثل تلك الحال ، فضلا من أن يصحب الملك في مثل تلك الحال ؛ فيكون في هذا دلالة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لم يطلع على الأوقات التي كان يأتي فيها الوحي ، وإذا لم يعلم كان الأمر عليه أصعب (٣) وأشد منه إذا بين له ؛ لأنه إذا لم يبين له ، لزمه أن يصون نفسه في الحالات كلها عن أشياء يستحي مع مثلها الخلوة بالملائكة ؛ ولهذا (٤) لم يبين لأحد منتهى عمره ؛ ليكون أبدا مستعدا للموت ؛ فرقا أن يحل به ساعة بعد ساعة ، ويكون أبدا على خوف ووجل من ذلك ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُمْ فَأَنْذِرْ) خص النذارة دون البشارة ، وقد كان هو نذيرا وبشيرا ، ففي ذكر النذارة ذكر البشارة وإن أمسك عنها ؛ لأن النذارة ليست ترجع إلى نفس الخلائق ؛ وإنما النذارة هي تبيين عواقب ما ينتهي إليه حال من التزم الفعل المذموم ؛ فإذا استوجب النذارة بالتزامه ذلك الفعل ، فقد استوجب البشارة في تركه ؛ فثبت أن في النذارة بشارة ، وفي البشارة نذارة أيضا ؛ فاقتصر بذكر إحداهما عن ذكر الأخرى ، وليس في قوله : (قُمْ) إلزام [قيام](٥) ؛ ولكن معناه : قم في إنذار الخلق وبشارتهم ، على ما ينتهي إليه وسعك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) :

أي : عظم ، وتعظيمه : أن يجيبه فيما دعاه إليه ، ويطيعه فيما أمره ، وأن يتحمل ما ألزمه عمله ، فذلك هو تعظيمه لا أن يقول بلسانه : «يا عظيم» فقط.

وجائز أن يكون تأويله : أن عظمه عن المعاني التي قالت فيه الملاحدة (٦) من أن لله تعالى ولدا ، وأن له شريكا ، ونزهه عنها.

أو عظم حقه أو شكر نعمه ، وهذا كما نقول : إن محبة الله تعالى طاعته وائتمار أوامره ، لا أن تكون هي شيئا يعتري في القلب ؛ فيصعق منه المرء ، ويغشى عليه ؛ فكذلك تعظيم الله تعالى يكون بالمعاني التي ذكرنا ، لا أن يكون بالقول خاصة.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : يصحب.

(٣) في أ : أصوب.

(٤) في ب : ولهذا ما لم.

(٥) سقط في ب.

(٦) في ب : الملحدة.

٣٠٠