تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٩٥

فكان في ذكره بالعيوب التي هي فيه (١) زجر الناس عن طاعته ؛ فذكرها لإثبات هذا الوجه ، لا أن يكون فائدتها تحصيل الشتم والهجاء ؛ وكذلك ذكر أبا لهب بالتب والخسار وما هو عليه من الفواحش ؛ ليزجر الناس عن اتباعه.

وفي هذه الآيات (٢) دلالة نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الوجه الذي نذكره في سورة «تبت» إن شاء الله تعالى.

ثم قيل : المهين من المهانة ، ومن المهنة ، ومن [الوهن ، وهو الضعف](٣).

ثم قوله : (هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ. مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) جائز أن يكون استوجب المهانة ؛ لكونه همازا مشاء بالنميم وبمنعه الخير واعتدائه ؛ فيكون هذا كله تفسير (مَهِينٍ) ، فإن كان هكذا فقوله : (مَهِينٍ) من المهانة هاهنا.

ثم لا يجوز أن يكون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخشى عليه طاعة من هذا وصفه ، وأن يميل قلبه إليه ، ولكن النهي لمكان غيره وإن كان هو المشار إليه بالذكر.

وجائز أن يكون قوله : (كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) تمام الكلام ، ويكون قوله : (هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) على الابتداء ؛ فكأنه يقول : لا تطع كل حلاف مهين ، وكل هماز مشاء بنميم ، وكل معتد أثيم ، وكل عتل زنيم.

وتفسير الهمز يذكر في [تفسير](٤) سورة الهمزة ، إن شاء الله تعالى.

والمشاء بالنميم : هو الذي يسعى في الفرقة بين الإخوان ، ويقوم فيما بينهم بالقطيعة.

والمناع للخير : قال بعضهم : إنه كان يمنع أهل الآفاق من كان بحضرته عن اتباع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويقول : إنه ضال مضل ، فقيل : مناع للخير ؛ لهذا.

ومنهم من ذكر : أنه كان يمنع ولده من الاختلاف إلى مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وجائز أن يكون منعه للخير هو امتناعه عن أداء [الحقوق التي لله](٥) تعالى الواجبة في ماله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (مُعْتَدٍ).

أي : معتد حدود الله تعالى ، أو ظالم لنفسه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَثِيمٍ).

__________________

(١) في أ : ذكرها.

(٢) في أ : الآية.

(٣) في أ : الوهم.

(٤) سقط في ب.

(٥) في أ : حقوق الله.

١٤١

الأثيم : هو المرتكب لما يأثم به.

وقوله ـ عزوجل ـ : (عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ).

العتل : الفظ الغليظ ، والشديد الظلوم.

وقيل (١) : هو الفاحش اللئيم الضريبة.

وقال مجاهد : العتل : الشديد (٢) الأشر ، أي : الخلق ، وقد روي في الخبر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا يدخل الجنة جواظ ولا جعظري [ولا العتل الزنيم» ، فقال رجل من المسلمين : يا رسول الله ، وما الجواظ](٣) والجعظري والعتل الزنيم؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما الجواظ فالذي جمع ومنع تدعوه لظى نزاعة للشوى ، وأما الجعظري : فالفظ الغليظ ؛ قال الله تعالى : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران : ١٥٩] ، وأما العتل الزنيم : هو الشديد الخلق ، الرحيب الجوف المصحّح ، الأكول الشروب ، الواجد للطعام والشراب ، الظلوم للناس» (٤) ، وأما الزنيم :

هو الدعي الملصق (٥) بالقوم الملحق (٦) في النسب.

واستدلوا على ذلك بقول الشاعر :

زنيم ليس يعرف من أبوه؟

بغىّ الأمّ ذو حسب لئيم

ويقول آخر :

زنيم تداعاه الرجال زيادة

كما زيد في عرض الأديم الأكارع (٧)

ومنهم من قال (٨) : إنه كانت به زنمة في أصل أذنه يعرف بها.

ومنهم من يقول : الزنيم : هو العلم في الشر.

ولقائل أن يقول : إذا كان تأويل العتل ما ذكر في الخبر ، ومعنى الزنيم : الدعيّ أو ما

__________________

(١) روي في معناه حديث عن القاسم وموسى بن عقبة قالا : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن العتل الزنيم قال : «هو الفاحش اللئيم» أخرجه ابن جرير (٣٤٥٩٨) و (٣٤٥٩٩) وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٣٩٣) ، وهو قول الحسن وقتادة ومجاهد وغيرهم.

(٢) أخرجه ابن جرير (٣٤٦٠٨) وعبد بن حميد وابن المنذر عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٣٩٢).

(٣) سقط في ب.

(٤) أخرجه أحمد وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن عساكر عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم كما في الدر المنثور (٦ / ٣٩٣).

(٥) في ب : الملحق.

(٦) في ب : الملصق.

(٧) البيت للخطيم التميمي في لسان العرب (زنم) ولحسان بن ثابت في ديوانه ، وتاج العروس (زنم).

(٨) قاله الضحاك أخرجه ابن جرير عنه (٣٤٦١٧).

١٤٢

ذكر من العلامة ، فكيف عير بهذه الأشياء ، ولم يكن له في ذلك صنع ، والمرء إنما يعير بما له فيه صنع لا بما لا صنع له فيه؟!

فيجاب عن هذا من وجهين :

أحدهما : ما ذكرنا : أن ذكره بما فيه من العيوب ليس لمكان المذكور نفسه ، ولكن لزجر الناس عن اتباعه ؛ لأن من اشتمل على العيوب التي ذكرها ، وكان مع ذلك عتلا زنيما ، فأنفس الخلق تأبى عن اتباعه ، ففائدة تعييره بما أنشئ عليها ما ذكرنا من الحكمة لا تعييره.

والثاني : أن ذكر أصله كناية عن سوء فعله ؛ ليعلم أن خبث الأصل يدعو الإنسان إلى تعاطي الأفعال الذميمة ، وصحة الأصل و [حسنه ونقاوته](١) يدعو صاحبه إلى محاسن الأخلاق وإلى الأفعال المرضية.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ).

فيخبر أن من يتبعه ، يتبعه لكثرة أمواله وبنيه ؛ وذلك لأن كثرة المال للإنسان من أحد ما يستدعي قلوب الخلق إلى تعظيمه ، فذكر ما فيه من العيوب والمساوى ؛ لئلا يستميل قلوب الضعفة إلى نفسه بماله ، فيقول : كيف تتبعونه وهو بهذا الوصف الذي وصفه الله تعالى؟!

ثم أخبر عن معاملته رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) ، ثم قوله : (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) ، وإن كان عامّا بظاهره ، لكن لم يرد به العموم ؛ لأن [قوله :] (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [الأنعام : ٢٥] ليس في كل الآيات ، وإنما هو في الآيات التي هي في حق الإخبار عن الأمم السالفة ، وأما إذا تليت عليه الآيات التي فيها دلالة إثبات الرسالة ودلالة التوحيد ودلالة البعث ، فقوله فيها ما قال في سورة المدثر : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ. إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) [المدثر : ٢٤ ، ٢٥] ، وهذا دليل على أنه لا يجب اعتقاد ظاهر العموم ما لم يعلم بيقين ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ).

قيل (٢) : شينا لا يفارقه ، فجائز أن يكون جعل هذا في الدنيا ؛ لكي يعلمه ويذكره من رآه فيجتنب صحبته ؛ فهو يصير شينا من هذا الوجه ؛ فيخرج هذا مخرج العقوبة لشدة تعنته

__________________

(١) في أ : وحبه وتفاوته.

(٢) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٣٤٦٢٩) وعبد الرزاق وعبد بن حميد عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٣٩٤).

١٤٣

على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعظيم أذاه له.

وجائز أن يكون هذا في الآخرة ، فيجعل الله تعالى في أنفه علما يتبين به ، ويمتاز من غيره يوم القيامة ؛ زيادة له في العقوبة ، كما جعل لآكلي الربا يوم القيامة علما يعرفون به ، وذلك قوله : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) [البقرة : ٢٧٥].

وجائز أن يكون : نسم خرطومه خصوصا له من بين الكفرة ، فيحشره ولا أنف له ؛ لأنه ذكر أن سائر الكفرة يحشرون يوم القيامة [عميا وبكما](١) وصما ، ولم يذكر في أنوفهم شيئا ، فجائز أن [يكون](٢) يحشر ولا أنف له ، وذلك هو النهاية في القبح ، والله أعلم.

قوله تعالى : (إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (١٧) وَلا يَسْتَثْنُونَ (١٨) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (١٩) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (٢٠) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (٢١) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (٢٢) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (٢٣) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (٢٤) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (٢٥) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٢٧) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ (٢٨) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٢٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (٣٠) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (٣١) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (٣٢) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)(٣٣)

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ) ، فهو يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون أهل مكة ابتلوا بالإحسان إلى أتباع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما ابتلي أصحاب الجنة بالإحسان إلى المساكين ثم أخبر أن أولئك امتنعوا عن الإحسان إلى المساكين فحل بهم من البلاء ما ذكر ؛ لامتناعهم عن الائتمار ، فيذكر أهل مكة : أنهم إن امتنعوا عن الإحسان إلى أتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حل بهم ما حل بأولئك ، وقد وجد منهم الامتناع فابتلوا بسنين كسني يوسف ـ عليه‌السلام ـ حتى اضطروا إلى أكل الجيف والأقذار.

ثم إن أصحاب الجنة لما مسهم العذاب ، وأيقنوا به أنابوا إلى الله تعالى ، وانقلعوا عن مساويهم ، فتاب الله عليهم ورفع البلاء عنهم ، وأهل مكة تمادوا في غيهم ولم يتوبوا فانتقم الله منهم بالقتل يوم بدر في الدنيا ، وسيردهم إلى العذاب في الآخرة.

وجائز أن يكون الله تعالى لما أعزهم وشرفهم وصرف وجوه الخلق إليهم ، امتحنهم

__________________

(١) في ب : بكما وعميا.

(٢) سقط في ب.

١٤٤

في الدنيا بتبجيل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتعظيمه ، فلما أساءوا صحبته عاقبهم بما ذكرنا ، ووسع على أصحاب الجنة فامتحنهم بما وسع عليهم بأن يوسعوا على غيرهم ، فلما امتنعوا عن ذلك عوقبوا بزوال النعمة عنهم ، وعوقب هؤلاء بزوال العز عنهم ، وأذاقهم الله لباس الجوع والخوف ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ).

فقوله : (مُصْبِحِينَ) أي : لأول وقت ينسب إلى الصباح ، وذلك يكون في آخر الليل ، كما يقال : ممسين ، لأول وقت ينسب إلى المساء ، وإذا كان كذلك فالانصرام يقع بالليل ؛ ألا ترى إلى قوله : (لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ) ، وهم لا يملكون بعد مضي الليل منع المساكين عن الدخول.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا يَسْتَثْنُونَ).

قيل : أي (١) : لا يقولون : إن شاء الله ، وقيل : لا يقولون : سبحان الله ، فإن كان على هذا ، ففيه أن التسبيح كان مستعملا في موضع الاستثناء ، وقد يجوز أن يؤدي معنى الاستثناء ؛ لأن في التسبيح تنزيه الرب تعالى ، وفي الاستثناء معنى التنزيه ؛ لأن فيه إقرارا أن الله تعالى هو المغير للأشياء والمبدل لها.

ثم أصحاب الجنة بقسمهم قصدوا قصدا يلحقهم العصيان فيه ، وكان عهدهم الذي عاهدوا عليه معصية (٢) وعوتبوا بتركهم الاستثناء ، ففيه دلالة أن الله تعالى يوصف بالمشيئة ، لفعل المعاصي ممن يعلم أنه يختارها ؛ لأنه لو لم يوصف به ، لم يكن لمعاتبته إياهم بتركهم الاستثناء معنى ؛ إذ لا يجوز استعمال الاستثناء فيما لا يجوز أن يوصف به الرب جل وعزّ ، ألا ترى [أنه] لا يستقيم أن يقال : إن شاء الله جار وإن لم يشأ لم يجر ، وإن شاء ضل وإن شاء لم يضل ، وإن شاء أكل وإن شاء لم يأكل ، فلو لم يوصف أيضا بإضلال من يعلم منه أنه يؤثر الضلالة ، لم يجز أن يلاموا على ترك الاستثناء ، ولا مدخل للاستثناء فيه ، والذي يدل على صحة ما ذكرنا قوله : (مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الأنعام : ٣٦] ؛ فتبين أنه يشاء إضلال من ذكرنا.

وفيه دلالة أن خلق الشيء غير ذلك الشيء ؛ لأنه يستقيم أن يوصف الله تعالى بالإضلال ، ولا [يجوز أن](٣) يوصف بالضلال وإن كان الإضلال خلقا له ، ويوصف أنه

__________________

(١) في ب : يعني.

(٢) في ب : معصيته.

(٣) سقط في ب.

١٤٥

المحيي والمميت ، ولا يستقيم أن يقال : إن شاء حيا وإن شاء مات ، وإن كان هو الذي خلقهما.

ثم ليس في قوله : (إِذْ أَقْسَمُوا) : إبانة أن قسمهم كان بما ذا (١) : فإن كان بغير الله تعالى ، ففيه إبانة أن القسم قد يكون بغير الله تعالى ، وإن كان قسمهم بالله تعالى ، ففيه حجة لأبي يوسف على أبي حنيفة ـ رحمهما‌الله ـ أن اليمين إذا كانت مؤقتة فإن هلاك الشيء المحلوف بها قبل (٢) مضي وقتها لا يسقط اليمين ، بل تبقى بحالها ، ويلزم (٣) على صاحبها حكم الحنث إذا مضى وقتها ؛ لأن الثمر الذي حلفوا على صرمه قد هلك قبل الوقت الذي أوجب فيه الصرم ، فلو كانت اليمين تسقط عنهم بهلاك الثمر ، لم يكونوا يحتاجون إلى الاستثناء ؛ لأن الحاجة إلى الاستثناء لإسقاط المؤنة التي تلزمهم بالحنث في اليمين ، فلو كان هلاك الثمر مسقطا لليمين ومئونة الحنث لاستغنوا عن الاستثناء ، فلما لحقتهم اللائمة ؛ لتركهم (٤) الاستثناء ، دل أن المؤنة تبقى عليهم إذا عريت عن الاستثناء وإن كانت مؤقتة.

ولكن أبو حنيفة ـ رحمه‌الله ـ يسقط عنه اليمين بهلاك الشيء المحلوف عليه إذا كانت يمينه بالله تعالى ، ولا يسقطها إذا كانت بشيء من القرب والطاعات ـ أعني : الندب ـ ، وليس في الآية إبانة أن يمينهم كانت بالله تعالى ؛ فجائز أن يكون يمينهم بشيء من القرب ؛ فبقيت عليهم ؛ ولأنه عاتبهم على ترك الاستثناء ؛ لعزمهم على المعصية ، والاستثناء يسقط العزيمة ؛ لأن من عزم على المعصية ، وقال فيه : إن شاء الله ـ لم يصر آثما بمقالته ، ولا صار عازما على المعصية ، وأبو حنيفة ـ رحمه‌الله ـ ليس يخرجه عن المعصية في اليمين المؤقتة إذا عقدت على أمر من أمور المعصية.

والذي يدل على أن العتاب [في ترك](٥) الاستثناء ؛ للوجه (٦) الذي ذكرنا : أنه لم يذكر في شيء من الأخبار ، ولا ذكر في الكتاب أن أحدا منهم أمر بالتكفير ، ولو كان الحنث لازما ، لكانوا يلامون على ترك التكفير أيضا ، كما [لحقتهم اللائمة](٧) بترك الاستثناء ، والله أعلم.

__________________

(١) في ب : لما ذا.

(٢) زاد في ب : وقتها.

(٣) في ب : بحاله ولا يلزم.

(٤) في ب : بتركهم.

(٥) في أ : لترك.

(٦) في ب : الوجه.

(٧) في ب : لحقهم.

١٤٦

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ).

طائف من ربك : قيل (١) : عذاب ربك ، وسمي : طائفا لأنه أتاهم بالليل ، وكل آت بالليل [فهو](٢) طائف.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ).

قيل : أي : الجنة كأنها صرمت ، وهم أصبحوا ليصرموها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ).

قيل (٣) : يتسارّون فيما بينهم ؛ فيجوز أن تكون مسارتهم كانت في الأمر بالإسراع في المشي ؛ لئلا يشعر بهم أحد من المساكين.

أو يتعجلوا في الخروج [والمشي](٤) قبل الوقت الذي يصبح فيه المساكين.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ).

فمنهم من ذكر أن اسم جنتهم كان حردا.

وقيل (٥) : غدوا على أمر قد استثنوه فيما بينهم.

وقال الزجاج : الحرد له أوجه ثلاثة :

أحدها : القصد ، واستدل عليه بقول الشاعر :

أقبل سيل كان من أمر الله

يحرد حرد الحية المغلّه

أي : بقصد قصدها.

والثاني : هو المنع ، يقال : أحردت السنة ؛ إذا قحطت وذهبت بركتها.

والثالث : الغضب ، فغدوا على حرد قادرين ، أي : على غضب على الفقراء.

وقوله : (قادِرِينَ).

أي : قادرون عليها في أنفسهم.

ولقائل أن يقول بأن في هذه الآية دلالة تقدم القدرة على الفعل ؛ لأنه أثبت لهم القدرة قبل الفعل ، ولكن هذه القدرة ليست هذه قدرة الأفعال ، وإنما هي قدرة الأسباب والأحوال.

__________________

(١) قاله ابن جريج أخرجه ابن المنذر عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٣٩٥).

(٢) سقط في ب.

(٣) قاله ابن جرير (١٢ / ١٩١) وعن ابن عباس وقتادة بنحوه ، وانظر الدر المنثور (٦ / ٣٩٦).

(٤) في ب : في المشي.

(٥) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير (٣٤٦٤٦) و (٣٤٦٤٧) وسعيد بن منصور وعبد بن حميد عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٣٩٦) وفي الطبري : أسسوه ، بدل : استثنوه.

١٤٧

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ).

أي : قد ضللنا الطريق ، فكان عندهم أنهم قد ضلوا الطريق لذلك لم يتوصلوا إلى ثمارها ثم ظهر لهم أنهم لم يضلوا الطريق ، بل حرموا بركة الثمار بجنايتهم التي جنوها ، فتذكروا صنيعهم ، وندموا على ذلك ، فأقبلوا بالاستكانة والتضرع إلى الله تعالى ، فتاب عليهم ، فلعل الذي قال : (إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ) يخرج على هذا ، وهو أنا بلونا أصحاب الجنة ، فتذكروا ؛ فرفع عنهم العذاب ، ولم يتذكر أهل مكة فحل بهم العذاب يوم بدر ، كما قال : (فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ) [المؤمنون : ٧٦].

وقوله : (قالَ أَوْسَطُهُمْ).

أي : أعدلهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ).

جائز أن يكون معناه : لو لا تصلون الفجر ، ثم تخرجون.

وجائز أن يكون معناه : لو لا تستثنون.

وقد ذكرنا أن في الاستثناء معنى التسبيح ؛ لأن فيه إقرارا بأن الأمور كلها تنفذ بمشيئة الله تعالى ، وأنه هو المغير والمبدل دون أحد سواه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا).

فهذا منهم توحيد وتنزيه.

وفي قوله : (إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) اعتراف بما ارتكبوا من الذنوب وإنابة إلى الله تعالى ، وتمام التوبة منهم في قوله : (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ. قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ).

فذكر (١) المفسرون في قوله : (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ) ، أي : أقبل بعضهم على بعض باللوم يقول : أنت أمرتنا أن نصرمها ليلا ، وقال هذا لهذا : بل هو عملك أنت. وهذا لا معنى له ؛ لأن هذا يوجب تبرئة (٢) كل واحد منهم عن ارتكاب الذنوب ، وقد سبق منهم الإقرار بالذنب بقولهم : (قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) ، وبقولهم (يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ) ، فكيف يبرءون أنفسهم عن الذنوب وقد اعترفوا بها؟! فهذا تأويل لا معنى له ، بل معناه ـ والله أعلم ـ فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون على إدخال كل منهم نفسه في ذلك [القول ، فأقبل](٣) كل واحد منهم باللائمة على نفسه حتى يكون [هذا](٤) موافقا لقوله :

__________________

(١) في ب : وذكر.

(٢) في ب : تنزيه.

(٣) في ب : القوم ، أو أقبل.

(٤) سقط في ب.

١٤٨

إِنَّا كُنَّا طاغِينَ).

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ).

ففي هذا إتمام التوبة ، ففيه أنهم أظهروا الندامة على ما سبق منهم من أوجه ثلاثة :

مرة بما وصفوا أنفسهم بالظلم.

ومرة بما لاموا أنفسهم.

ومرة بما وصفوا أنفسهم بالطغيان.

وقوله ـ عزوجل ـ : (عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها).

أي : يبدلنا خيرا منها إذا تبنا ، وأنبنا إلى ربنا ؛ لأنه لا يجوز أن يتوقعوا خيرا منها وهم مصرون على ذنوبهم ؛ إذ قد عرفوا أنهم إنما حرموا بركة الثمار بما ارتكبوا من الذنوب ؛ فثبت أن معناه ما ذكرنا.

ويحتمل أن يكون هذا في الآخرة يقولون : (عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها) في الآخرة إذا تبنا وأنبنا إليه ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ).

إلى ما عند ربنا من العطايا والمنن لراغبون.

أو إلى ما وعد ربنا للتائبين من الذنوب لراغبون.

وقوله ـ عزوجل ـ : (كَذلِكَ الْعَذابُ).

كأنه يخاطب أهل مكة أن كذلك العذاب في الدنيا في أن يأخذ أهله آمن ما كانوا ، أو أغفل ما كانوا ، كما أخذ أصحاب الجنة عند الأمن ؛ إذ كان عندهم أنهم يقدرون على صرم تلك الثمار ولا يأخذهم (١).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ).

ففي هذا إيجاب العذاب على من لم يعلم بالعذاب ولم يؤمن به ؛ لأنهم لم يؤمنوا بعذاب الآخرة ولا علموا به ، ثم أوجب لهم العذاب وإن لم يعلموا ولم يعذروا بالجهل ؛ لأنهم قد وقفوا على السبب الذي لو تفكروا لعلموا بالعذاب ولأيقنوا به ، وفي هذا حجة لأن (٢) لا عذر لمن تخلف عن التوحيد والإيمان بالله تعالى وإن جهل ، إلا أن يكون جهله (٣) جهل خلقة ؛ لأن الذي أفضى به إلى الجهل هو التقصير في الطلب ، وإلا لو لم

__________________

(١) في أ : يفوتها.

(٢) في ب : أن.

(٣) في ب : يجهله.

١٤٩

يقصر في الطلب لوجد من يدله على معرفة الصانع ووحدانية الرب ـ تعالى ـ.

قوله تعالى : (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٣٤) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٦) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (٣٨) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (٣٩) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (٤٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٤١) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ)(٤٣)

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ).

فيه ترغيب لمن لزم التقوى ، وهو الإسلام.

وقوله : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ).

أي : أفنجعل من جعل كل شيء سوى الله تعالى لله سالما لا يشرك فيه أحدا ، كالذي أجرم فجعل في كل شيء سالم لله شركاء في العبادة والتسمية.

أو (١) بين الله تعالى أنه ولي المؤمنين وعدو المجرمين ، فيقول : أفيزعم أعدائي أن أسوي بينهم وبين الأخيار ، والجمع بينهم ، لا يفعل ذلك ؛ لأن فيه تضييع الحكمة ؛ لأن الحكمة توجب التفرقة بين العدو والولي ، وفي الجمع بينهما تضييعها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ).

في أن أجعل عدوي بمنزلة وليي أو وليي بمنزلة عدوي ، أو أي شيء حملكم على حكمكم هذا ولم يأتكم بهذا الحكم كتاب ولا معقول يوجب ذلك ، فكيف تطمعون ذلك (٢).

أو كيف تحكمون بالجور على ربكم ؛ لأن من الجور أن يجمع بين الولي [والعدو](٣) في دار الكرامة.

ثم قوله : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ).

يستقيم أن يجعل هذا جوابا للفريقين : لمن ينكر البعث ، ولمن يزعم أنه شريك أهل الإسلام في الدار الآخرة فيما يكرمون من النعيم.

فمن أنكر البعث ، فالاحتجاج عليه بهذه الآية هو أن العقل يوجب التفرقة بين الولي

__________________

(١) في ب : و.

(٢) في ب : بذلك.

(٣) في ب : وبين العدو.

١٥٠

وبين العدو [والكفور] والشكور ، فأنتم إذا أنكرتم البعث ، فقد زعمتم على [الله تعالى أنه](١) يجعل المسلمين كالمجرمين والكفور كالشكور والعدو كالولي ، ومن فعل هذا فهو سفيه لا يصلح أن يكون حكيما ، ففي إنكار البعث تحقيق السفه وإثبات الجور ؛ لأن من الجور أن يجمع بين الولي وبين العدو في الجزاء.

ومن ادعى الوجه الآخر ، وهو التسوية بين الفريقين ؛ لما تساويا في منافع الدنيا ومضارها وفي لذاتها وشدائدها وبلياتها ، فعلى ذلك يكون أمرهم في الآخرة.

فجوابهم في ذلك أن الدنيا هي دار يظهر فيها العدو من الولي والشكور من الكفور ، والآخرة دار جزاء العداوة والولاية.

فجائز أن يقع فيما فيه ظهور الولاية والعداوة اتفاق ، ولا يجوز وقوع الاتفاق فيما فيه الجزاء ؛ لأن الجزاء لعداوة سبقت ولولاية سبقت ، والحكمة توجب التفرقة بين الجزاءين ؛ فلا يجوز أن يجعل المسلم فيه كالمجرم ؛ لما فيه من تضييع الحكمة ، وليس قبل المحنة معنى يوجب التفرقة بينهما في المحنة [فجاز أن يقع بينهما الاتفاق في ذلك ، ولأنه لو كان يفرق بينهما في الدنيا ، لكانت المحنة تخرج عن حدها ، والدنيا هي دار المحنة](٢) ، وإنما قلنا : إن فيه إخراج المحنة عن حدها ؛ لأن المحنة تكون على الرجاء والخوف ، والرغبة والرهبة ، فلو فرق بين [العدو والولي](٣) في الدنيا ؛ فوسع على الأولياء ، وضيق على الأعداء لوقع اختيار وجه الولاية على الضرورة ؛ لأن من علم أنه يضيق عليه إذا اختار وجه العداوة ، ويتعجل (٤) عليه العذاب ، ترك ذلك الوجه ، ومال إلى الولاية ؛ فيرتفع وجه المحنة ؛ فلذلك جاز أن يجمع بين الولي والعدو في دار المحنة ؛ ليبقى وجه المحنة بحاله ، ولم يجز أن يجمع بينهما في الآخرة ؛ لأنها دار جزاء ، والعقل يوجب تفرقة جزائهما ، والله الموفق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) ، في أحكم الحكماء بالسفه ؛ حيث تزعمون (٥) أنه يجمع بين الولي والعدو في الجزاء ، وذلك من أعلام السفه.

أو كيف تحكمون في أحكم الحاكمين وأعدل العادلين بالجور ؛ إذ تزعمون أنه يجمع

__________________

(١) في ب : أن الله له أن.

(٢) ما بين المعقوفين سقط في أ.

(٣) في ب : الولي والعدو.

(٤) في ب : وتعجل.

(٥) في ب : زعموا.

١٥١

بين الفريقين في دار الكرامة ، ومن الجور أن يجمع (١) بينهما ، وهم كانوا يقرون أن الله ـ تعالى ـ أحكم الحاكمين.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ).

فحاجهم أولا بما توجبه الحكمة ، وهو أنكم تعلمون أن الحكمة توجب التفرقة بينهما ، فإن كنتم تدعون الجمع فيما بينهما بالحكمة ، فأنتم تعلمون أن الحكمة توجب التفرقة بينهما ، وإن كنتم تدعون ذلك من كتاب الله ـ تعالى ـ فأي كتاب من عند الله جاءكم فيوجب التسوية بينكم وبين الأولياء؟! وأي رسول أخبركم أنكم تساوون الأولياء في نعيم الآخرة؟!.

ثم وجه المحاجة بالكتاب هو أن مشركي العرب لم يكونوا يؤمنون بالكتاب ولا بالرسل ، ولو كانوا يؤمنون بهما ، لكانوا يقدرون أن يقولوا : إن لنا كتابا درسناه ، فوجدنا فيه ما نذكر وندعي ، ورسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أخبرنا بذلك ، ولكنهم إذا كانوا لا يؤمنون بهما صار هذا الوجه الذي ذكره الله ـ تعالى ـ نفي حجة لازمة عليهم ، والله أعلم.

وقوله : (إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ).

أي : وفي ذلك الكتاب تجدون أن لكم فيه لما تخيرون.

وقوله : (أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ).

وهذا أيضا صلة الأول ، أي : هل شهدتم الله تعالى أقسم لكم (٢) أنه هكذا كما تحكمون ؛ وهذا كقوله تعالى : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) [البقرة : ١٣٣] وقوله : (إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا) [الأنعام : ١٤٤] ، فأخذهم بالمقايسة أولا ؛ وهو كقوله (٣) تعالى : (قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ) [الأنعام : ١٤٦] ، فلما لم يتهيأ لهم تثبيت ذلك بالقياس والمعقول ، احتج عليهم بقوله : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا) [الأنعام : ١٤٤] ، وقد عرفوا أنهم لم يشهدوا ، وما ادعوه لا ثبات له إلا من الوجوه التي ذكرها ، وإذا لم يثبتوا بشيء من ذلك تبين عندهم فساد دعواهم ، فهذا أيضا مثله ، وهو أنه سألهم عن إيراد الحجة : إما من جهة الحكمة ، أو من جهة الكتاب ، أو من جهة الشهادة ، فإذا لم يثبت لهم واحد من هذه الأوجه فبأي وجه يشهدون على الله تعالى أنه يفعل ذلك.

وقوله : (بالِغَةٌ) أي : وكيدة ، أو بلغت إليكم عن الله تعالى.

__________________

(١) في أ : يقع.

(٢) زاد في ب : الله تعالى.

(٣) في ب : قوله.

١٥٢

وقوله ـ عزوجل ـ (سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ).

يقول [: فإن هم تعنتوا](١) مع هذا كله في أن يدوموا على دعواهم من غير حجة تشهد لهم ، فسلهم ـ أي : اطلبهم ـ بالزعيم ، أي : من يكفل لهم أن الأمر كما يزعمون.

وقوله ـ عزوجل ـ (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ).

أي : شركاء يشفعون (٢) لهم يوم القيامة.

وقال بعضهم : أم لهم شهداء ممن (٣) عندهم كتاب يشهدون لهم بما يذكرون.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ).

أي : يكشف عن موضع الوعيد بالشدائد والأهوال ، والساق : الشدة ، وسمي الساق : ساقا لهذا ؛ لأن الناس شدتهم في سوقهم ؛ إذ بها يحملون الأحمال ؛ فكنى بالساق عن الشدة.

وقيل ـ أيضا ـ بأنهم كانوا إذا ابتلوا بشدة وبلاء كشفوا عن أسوقهم ، فكنى بذكره عن الشدة ، لا أن يراد بذكر الساق تحقيق الساق ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ (وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ).

يحتمل أن يكون هذا على دعاء الحال ، ويحتمل أن يكون على دعاء الأمر :

فأما دعاء الحال فهو أن من عادات الخلق أنه إذا اشتد بهم الأمر وضاق فزعوا إلى السجود ، فجائز أن يكون ما حل بهم من الأهوال والشدائد يدعوهم إلى السجود ، فيهمون بذلك فلا يستطيعون ؛ فيكون قوله : (وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) ، أي : تدعوهم الحالة إلى السجود ؛ فهذا دعاء الحال ، وجائز أن يؤمروا بالسجود ، ويمتحنوا به.

ثم إن كان التأويل على الأمر فيحتمل أن يكون ذلك يوم القيامة ، وجائز أن يكون وقت الموت.

وإن كان على دعاء الحال فذلك يكون عند الموت.

ثم الأمر بالسجود يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون على حقيقة الفعل ، ويحتمل أن يكون على الاستسلام والخضوع ؛ إذ السجود في الحقيقة هو الخضوع والاستسلام ، وكل سجود ذكر في القرآن وأريد به عين السجود ، فليس يجب بتلاوته السجود. وكل ما أريد منه الاستسلام والخضوع فهو الذي

__________________

(١) في أ : فإنهم تفننوا.

(٢) في ب : يشفعوا.

(٣) في ب : من.

١٥٣

يجب بتلاوته السجود.

ثم إن ذكر في أهل الكفر فإنما يراد (١) منهم الاستسلام بالاعتقاد ليس بعين الفعل ، وأهل الإسلام قد وجد منهم الاستسلام بالاعتقاد ، فيلزمهم أن يستسلموا من جهة الفعل ، فجائز أن يكون هذا لما عاين الشدائد والأفزاع ، استسلم لله ـ تعالى ـ وخضع له ؛ فلم يقبل ذلك منه ؛ لأن تلك الدار دار جزاء ، وليست بدار محنة.

والثاني : [أن السجود هو بذل](٢) النفس لما طلب منه طائعا ، وإذا أشرف المرء على الموت طلب منه في ذلك الوقت بذل روحه لا بذل نفسه ، فإذا كان كافرا بالله ـ تعالى ـ اشتد عليه بذل روحه ؛ لما يعلم أن مصيره إذا قبض إلى العذاب ، وكره ذلك أشد الكراهة ، كما قال ـ عليه‌السلام ـ «من كره لقاء الله ، كره الله لقاءه ، ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه» (٣) ، فسئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك ، فقال : «ذلك عند الموت» ؛ فهو لما يرى من المكروه يحل به بعد الموت يكره قبض روحه ، فيكون قوله : (فَلا يَسْتَطِيعُونَ) إن كان المراد من قوله : (وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) عند الموت [على ذلك](٤) ، والمؤمن إذا رأى ما أعدّ له من الكرامات ود أن يقبض روحه سريعا ليصل إلى الكرامات (٥) ، وإن كان هذا بعد البعث ، وأريد من السجود تحقيقه ، ففيه تذكير لهم أنهم لم يكونوا يمتحنون في الدنيا بالسجود ؛ لمنفعة تصل إلى الله تعالى أو لحاجة له إلى ذلك ، وإنما امتحنوا بالسجود ؛ لمكان أنفسهم ، إذ لو كان الامتحان لمنفعة تنال الله تعالى ، لما كانوا يمنعون عنه في القيامة ، والله أعلم.

وقال كثير من أهل الكلام : لا يجوز أن يمتحنهم الله تعالى بعد البعث بالسجود ؛ إذ تلك [الدار](٦) لبست بدار محنة ، وإنما الأمر بالسجود يخرج مخرج التوبيخ ؛ وكذلك زعم جعفر بن حرب أن هذا على التوبيخ ، يقال للرجل إذا كان مكثرا فذهب (٧) ماله ولم يؤد الزكاة ، ولا حج في حال يسره ـ يراد به التوبيخ ـ : حج الآن وزكّ الآن ، ليس يراد به إيجاد الفعل ، ولكن يريد به تذكيره وتوبيخه ؛ فهذا الذي قالوه يحتمل.

__________________

(١) في ب : أراد.

(٢) في ب : هو أن السجود بذل.

(٣) أخرجه البخاري (٦٥٠٧ ، ٦٥٠٨) ، وأحمد (٢ / ٤٢٠).

(٤) سقط في ب.

(٥) في ب : الكرامة.

(٦) سقط في ب.

(٧) في ب : قد ذهب.

١٥٤

ويحتمل أن يمتحنوا بالسجود للوجوه التي ذكرنا ، وهو أن يظهر عند الممتحنين أن منافع سجودهم راجعة إليهم لا إلى الله ـ تعالى ـ.

وقوله ـ عزوجل ـ (فَلا يَسْتَطِيعُونَ) فجائز أن يكون هذا على نفي استطاعة الأحوال والأسباب أو لا يستطيعون للأشغال التي حلت بهم والأفزاع التي ابتلوا بها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ).

ففيه أن الفرائض إنما تجب عند سلامة الأسباب ، والله أعلم.

قوله تعالى : (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (٤٤) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (٤٥) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٦) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤٧) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (٤٨) لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (٤٩) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٥٠) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ)(٥٢)

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ).

فجائز أن يكون الحديث هو القرآن ، وجائز أن يكون أريد البعث ، وهو الغالب أن يكون هو المراد.

وقوله : (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) قال القتبي : الاستدراج هو الاستدناء من المهلكة درجة فدرجة (١) حتى يهلك.

وقيل : (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) أي ننعم عليهم وننسيهم شكرها بالإملاء ، وينزل بهم العذاب والهلاك أينما كانوا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ).

فالأصل أن [الكيد والمكر](٢) والاستدراج يقتضي معنى واحدا ، وهو أن يأخذه من وجه أمنه ويراقب وجوه هلاكه ، وهو يستعمل في الخلق على وجه يذم أهله ، فهو ـ أيضا ـ يضاف إلى الله تعالى ، ليس على جعل ذلك اسما له ؛ إذ لا يجوز أن يسمى ماكرا كائدا مستدرجا ، وإنما يضاف إليه في حق الجزاء ، وذلك الجزاء في الحقيقة ، ليس بكيد ؛ ولكن قد يجوز أن يسمى الجزاء باسم ما له الجزاء ؛ كما يسمى [جزاء السيئة](٣) سيئة وإن

__________________

(١) في ب : درجة.

(٢) في ب : المكر والكيد.

(٣) في ب : الجزاء للسيئة.

١٥٥

لم يكن الجزاء سيئة ، كما سمى جزاء الاعتداء اعتداء ، فكذلك سمي جزاء الكيد كيدا على هذا المعنى ، لا أن يكون ذلك منه كيدا في الحقيقة.

أو نقول بأن الذم إنما يلحق الماكر والكائد إذا استعمله في وليه وصفيه ، فأما إذا مكر بعدوه وكاد به ، فذلك مما لا بأس به ، ولا يذم عليه فاعله ، وما أضيف من الكيد إلى الله تعالى ؛ فذلك حال بأعدائه ليس بأوليائه ؛ فلم يكن فيه إلحاق معنى مكروه بالله تعالى.

ثم الأصل أن ينظر في الفعل لما ذا أضيف إلى الله تعالى بحقيقة أم بمجاز؟ فإن كانت الإضافة بحكم (١) المجاز ، فلا يجعل ذلك اسما له ؛ لأنه لا يجوز أن يقال : هو كاتب ، نافخ روح ، ولا كائد ، ولا ماكر ؛ إذ لا يتحقق ذلك منه ، وما كانت إضافته لأجل التحقيق فإنه يستقيم أن يسمى به ؛ لأنه يستقيم أن نسميه : منعما مفضلا خالقا ، رحمانا ؛ إذ الإنعام والإفضال والخلق موجود منه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (مَتِينٌ) أي : قوي ثابت ، فقوله تعالى : (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) أي : كيدي لأوليائي على أعدائي ثابت ، ليس ككيد الأعداء ؛ لأن كيد الأعداء بكيد الشيطان ، وكيد الشيطان ضعيف ، كما قال ـ عزوجل ـ : (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) [النساء : ٧٦].

والأصل أن الكيد الذي أضيف إلى الله تعالى حق ، والحق قوي ثابت لا مدفع له ، وكيد الشيطان باطل ، وليس للباطل قرار ، بل هو كما قال الله تعالى : (اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ) [إبراهيم : ٢٦].

وقوله : (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ).

الأصل أن الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ لم يكونوا يدعون الخلق إلى ما يستثقله عقل أو طبع ، بل كانوا يدعونهم إلى ما يخف ويسهل على الطبع والعقل ؛ ليكون أقرب إلى الإجابة له ؛ لأنهم كانوا يدعونهم إلى التوحيد ، وهم كانوا يعبدون غير واحد من الآلهة ، وعبادة الواحد أيسر من عبادة عدد ، وكانوا يدعونهم إلى الصدق وإلى مكارم الأخلاق ، والإجابة بمثله أمر يسير ؛ فيقول : أحملت عليهم أجرا فثقل عليهم ذلك حتى تركوا الإجابة لك مع تيسيره عليهم ، فيخرج ذكر هذا مخرج تسفيه أحلامهم.

وقوله ـ تعالى ـ : (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ).

فهذا يحتمل أوجها :

أحدها : أن عندهم علم الغيب ، فهم يكتبون ، فهذا بالذي ادعوا أنا نجعل المسلمين

__________________

(١) في أ : بحق.

١٥٦

كالمجرمين ، وذلك مكتوب عندهم ، أو عند سلفهم علم الغيب ، فوجدوه (١) في كتبهم ، ويعلم به خلفهم ليخاصموك به ، ثم هم قوم لم يكونوا يؤمنون بالكتب ولا بالرسل ، فكيف يخاصمونك ويكذبونك فيما تخبرهم؟ وإنما يوصل إلى التكذيب بما ثبت من العلم بخلافه ويتأيد بأحد الوجهين اللذين ذكرناهما.

أو يكون هذا في موضع الاحتجاج عليهم حين زعموا أنا نعبد الأصنام ؛ ليقربونا إلى الله زلفى ، ويكونوا لنا شفعاء ، فما الذي (٢) حملهم على هذه الدعوى أم عندهم علم الغيب فهم يكتبون؟!

أو أن يكون القوم قد ألزموا أنفسهم الدينونة بدين الله ـ تعالى ـ وأقروا له بالألوهية ، وذلك يلزمهم العمل بما فيه تبجيل الله تعالى ، وما به يشكر الخلائق ، وذلك لا يعرف إلا [بالرسل ـ عليهم‌السلام ـ](٣) فقد عرفوا حاجة أنفسهم إلى من يعلمهم علم الغيب ، فما لهم امتنعوا عن الإجابة [لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم](٤) مع حاجتهم إليه ، أي : ما عندهم علم الغيب ؛ فيستغنون به عن الرسول ، عليه‌السلام.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ).

إن حكم الله تعالى في الرسل ثلاث :

أحدها : ألا يدعوا على قومهم بالهلاك ، وإن اشتد أذاهم من ناحيتهم حتى يؤذن لهم.

والثاني : ألا يفارقوا قومهم وإن اشتد بهم البلاء إلا بإذن الله تعالى.

والثالث : ألا يقصروا في التبليغ وإن خافوا على أنفسهم.

ثم من وراء هذا عليهم أمران :

أحدهما : أنهم أمروا ألا يغضبوا إلا لله تعالى.

والثاني : ألا يحزنوا لمكان أنفسهم إذا آذاهم قومهم ، بل يحزنوا لمكان أولئك القوم إشفاقا عليهم منه ورحمة بما يحل عليهم من العذاب بتكذيبهم الرسل ، فهذا هو حكم ربه.

ويحتمل أن يكون قوله تعالى : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) أي : لا تجازهم بصنيعهم [ولا تستعجل](٥) عليهم ، بل اصبر لحكم ربك بما حكم عليهم من العذاب.

__________________

(١) في ب : فخلدوه.

(٢) في أ : فالذي.

(٣) في ب : بالرسول عليه‌السلام.

(٤) في ب : لرسوله عليه‌السلام.

(٥) سقط في أ.

١٥٧

وقوله ـ عزوجل ـ (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ).

قيل : نادى على قومه بالدعاء عليهم بالهلاك ، لكنه لم يظهر دعاؤه على قومه عندنا ، وإنما ظهرت منه المفارقة والمغاضبة على قومه بقوله : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً) [الأنبياء : ٨٧] ، ولم يكن له أن يفارقهم ، فيقول : اصبر بما حكم عليك ربك من ترك المفارقة عن قومك ، ولا تكن كصاحب الحوت الذي فارق قومه قبل مجيء الإذن له من الله تعالى.

والثاني : أن يونس ـ عليه‌السلام ـ لم يصبر على أذى قومه ، بل فارقهم حتى ابتلي ببطن الحوت ، ثم فزع بالدعاء إلى الله تعالى ؛ ليخلصه من بطنه ، فيقول : عليك بالصبر مع قومك ، ولا تكن كصاحب الحوت حيث لم يصبر مع قومه ؛ فابتلي بما ذكر حتى احتاج إلى أن ينادي في الظلمات : (أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء : ٨٧] ، فتبتلى أنت أيضا بمثل ما ابتلي هو به ، ثم لا يجوز أن يلحقه [اللائمة](١) ويعاتب على ما دعا في بطن الحوت ؛ لأن ذلك عذاب ابتلي به ، ولا ينبغي للمرء أن يصبر على العذاب ، بل عليه أن يبتهل إلى الله تعالى ؛ ليكشف عنه ، وإنما لحقه اللائمة بمفارقة قومه وتركه الصبر معهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ).

نعمة ربه (٢) : هو ما وفقه للتوبة والإنابة ، وما قبل منه توبته ، وكان له ألا يقبلها ؛ إذ هو إنما أتى (٣) بالتوبة بعد أن صار إلى تلك المضايق ، وابتلي بالشدائد وجاءه بأس الله تعالى ، ومن حكمه أنه لا يقبل التوبة بعد نزول العذاب والشدة ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ) إلى قوله : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) [غافر : ٨٤ ، ٨٥] ، فإذا (٤) قبل توبته ، كان فيه عظيم نعمة من الله تعالى [عليه](٥).

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَنُبِذَ بِالْعَراءِ).

وهو المكان الخالي ، ولو لم يتب الله تعالى عليه ، لكان يلبث في بطنه إلى يوم يبعثون ، ثم ينبذ بعد ذلك بالعراء وهو مذموم ، لكن الله تعالى تفضل عليه بقبول توبته ؛ فنبذه بالعراء ، وهو سقيم أي : محموم ؛ فقوله : (لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ) ، لو عاقبه بالنبذ ، ولكن إنما نبذ بالعراء بعد قبول التوبة ؛ فلم يصر مذموما.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في أ : ربك.

(٣) زاد في أ : به.

(٤) في ب : فإذ.

(٥) سقط في ب.

١٥٨

وقوله ـ عزوجل ـ (لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ).

فنعمته عليه كانت من ثلاثة أوجه :

أحدها : في تذكير الزلة ، وذلك كان بالتقام الحوت إياه ، وكان عنده أن مفارقته قومه لم تكن زلة ؛ لأنه إنما فارقهم لأن قومه كانوا له أعداء في الدين ، ففارقهم لينجو منهم ، وليسلم له دينه ولا يسمع المكروه منهم في الله تعالى.

والثاني : أن في مفارقته إياهم تخويفا منه لهم وتهويلا ؛ لأن القوم كان لا يفارقهم نبيهم من بين أظهرهم إلا عند ما يريد أن ينزل بهم العذاب ، وذلك مما يدعوهم إلى الإقلاع عما هم فيه ويدعوهم إلى الفزع إلى الله تعالى ، ومن خوف آخر بأمر يكون فيه دعاؤه إلى الهدى كان محمودا مصيبا ؛ ولأن مفارقته إياهم هي التي دعتهم إلى الإسلام ، فأسلموا لقوله : (فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) [الصافات : ١٤٨] ، ومن كانت مفارقته لهذه الأوجه التي ذكرناها ، لم تعد مفارقته زلة ، بل عدت من أفضل شمائله ، ولكن لحقته اللائمة مع هذا كله ؛ لما ذكرنا أن الرسل لا يسعهم أن يفارقوا قومهم وإن اشتد عليهم الأذى من جهتهم إلا بعد وجود الإذن من الله تعالى ، وكانت مفارقته تلك بغير إذن ، والله أعلم.

ثم كان في ظنه أنه ليست تلك المفارقة زلة ، ألا ترى إلى قوله ـ تعالى ـ : (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) [الأنبياء : ٨٧] ، قيل في التأويل : أي : لن نضيق عليه.

وقيل : أي : لن نعاقبه ، فلولا أن عنده أن تلك المفارقة ليست بزلة وإلا كان لا يظن هذا ؛ فتبين عنده بالتقام الحوت إياه وبما أفضى إليه من الشدائد أن تلك زلة منه ، وتذكير الزلة من إحدى النعم.

والنعمة (١) الثالثة : ما ذكرناها من توفيق الله تعالى إياه بالتوبة ، وإكرامه عليه بقبولها ، ومن حكمه ألا يقبل التوبة ممن جاءه بأس الله ، وأحاط به العذاب ، وهو إنما فزع إلى التوبة بعد ما عاين العذاب ، وجاءه بأس الله تعالى.

وجائز أن يكون حكمه هذا في الكفرة ، ليس في المؤمنين ؛ لأنه قال في آية أخرى : (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) [الأنعام : ١٥٨] ، ففيه إشارة إلى أن من سبق منه الإيمان قبل أن يأتيه آيات ربه أو سبق منه كسب الخير من بعد الإيمان ؛ فإن إيمانه في ذلك الوقت ينفعه ، وقال في أهل الكفر : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ* فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ) [غافر : ٨٤ ، ٨٥] ، فهذا حكمه في أهل الشرك ، وقال : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ

__________________

(١) زاد في أ ، ب : الثانية و.

١٥٩

يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) [النساء : ١٨] ، وقال في المؤمنين : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) [النساء : ١٧] ، فثبت أن ما ذكرنا من الحكم هو حكمه في أهل الكفر ، ليس في أهل الإيمان ، والعقل يدل على هذا ، وذلك أن المؤمن قد علم أن الذي سبق منه زلة وارتكاب معصية ؛ فهو ليس يحتاج إلى إثبات آيات فتنبهه على أن الذي فعله زلة ، فجائز أن تقبل منه التوبة في ذلك الوقت كما تقبل منه قبل تلك الحالة ، وأما الكافر فعنده أن ما سبق منه لم يكن زلة ومعصية ؛ فيحتاج إلى آيات تنبهه على غفلته ، وتذكره بأن (١) الذي فعله معصية ، فإذا نزل به البأساء والشدة ، فذلك يمنعه عن النظر والتدبر ؛ فلا يكون إيمانه عن تحقيق ويقين فلا ينفعه.

والثاني : أنه يفزع إلى التوبة والإيمان ؛ ليدفع عن نفسه البأساء ؛ لا ليدوم عليه لو كشف عنه العذاب ؛ كما قال : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا) [الأنعام : ٢٨] فهذا لا ينفعه إيمانه.

فإن قيل : إن قوم يونس ـ عليه‌السلام ـ قد نفعهم إيمانهم وهم آمنوا بعد ما أيقنوا بالعذاب.

فجوابه من وجهين :

أحدهما : أنه يجوز أن يكون عذابهم موعودا ولم يكن مشاهدا قريبا.

وجائز (٢) أن يكون الله علم صدقهم في إيمانهم لو مكثوا فكشف عنهم العذاب لما كانوا متحققين ، وغيرهم كان يفزع إلى الإيمان ؛ ليكشف عنه العذاب ، ثم يعود إلى كفره ؛ فلم يقبل منه.

وجائز أن يكون من حكم الله تعالى ألا يقبل من أحد التوبة إذا حل به العذاب ، ولكنه يقبلها من المؤمنين ؛ إفضالا وإنعاما ، ولا يتفضل على الكافرين الذين آثروا الدنيا على الآخرة ، وعلى قول المعتزلة : ليست لله تعالى عليه نعمة ولا على أحد من أهل الإسلام ؛ لأن من قولهم : إن الله تعالى إذا علم من كافر أنه يسلم يوما من الدهر وإن كان بعد ألف سنة ، فليس له أن يميته قبل أن يسلم ، وعليه أن يوفقه للتوبة ، وعليه أن يقبل منه التوبة ، فإذا كان هذا كله حقّا عليه للعبد ، لم يكن له موضع نعمة عليه في قبول التوبة ؛ لأن من قضى حقّا عليه وأوصله إلى مستحقه لم يعد ذلك منه إنعاما ؛ فلا يكون لقوله : (لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ) معنى ، وقد قال الله تعالى : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) [الحجرات : ١٧] ، ولو كانت الهداية واجبة عليه ، لم يكن [له عليهم](٣) موضع امتنان.

__________________

(١) في ب : أن.

(٢) في ب : وجاز.

(٣) في ب : لهم عليه.

١٦٠