تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٩٥

تعالى ـ عليهم (١) ما ناله من صبر من تقدمهم من السلف.

وكذلك ذكر سحرة فرعون ، وأحسن الثناء عليهم بصبرهم على تعذيب فرعون ، فقالوا : (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا) [طه : ٧٢] ؛ ليكون ذلك عونا لهم على الصبر بما يلقون من الكفرة من التعذيب ، ثم أكد الأمر بالقسم ؛ لأنه لا كل مسلم يبتلى بتعذيبهم يبلغ يقينه مبلغا لا يعتريه الشك ، ولا يتخالجه شبهة في ذلك ؛ فأكد الأمر بالقسم ؛ لرفع الريب والإشكال.

وقال ـ تعالى ـ : (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) ، وفي بعض القراءات : (قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) ، (فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا) [آل عمران : ١٤٦] ، فذكّر المؤمنين ما لقي السلف من الكفرة ، وابتلوا بقتل الرسل وثباتهم على الدين ؛ ليستعينوا به على ما يصيبهم في سبيل الله ، ولا ينقلبوا على أعقابهم إذا أخبروا بقتل الرسول.

وفي ذكر هذه الأنباء دلالة أن قول الرسول ـ عليه‌السلام ـ لعمار رضي الله عنه : «إن عادوا فعد» حين أكره على إجراء كلمة الكفر على لسانه ، فأجرى وقلبه مطمئن بالإيمان ـ ليس على الأمر به والإيجاب عليه ، والتحصيل بطريق العزم ؛ بل معناه : إن عادوا فلك العود ؛ على سبيل الرخصة ؛ لأنه لو كان على الأمر ، لم يكن في ذكر نبأ أصحاب الأخدود وسحرة فرعون فائدة ، سوى أن يترك العمل بهما ، ومعلوم أن تلك الأنباء إنما ذكرت ؛ ليعمل بها لا ليترك (٢) بها العمل ؛ لذلك حمل قوله : «فعد» على الرخصة ، لا على الأمر به ، ويكون المراد من قوله ـ عليه‌السلام ـ أيضا : «من لم يقبل رخصنا كما يقبل عزائمنا فليس منا» ، أي : لم ير العمل به موسعا بل استنكره ، وأبى قبوله ، لا أن يكون فيه أمر بترك العزيمة وإيجاب العمل بالرخصة ، والله أعلم.

ثم نرجع (٣) إلى قوله ـ تعالى ـ : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ).

فقال بعضهم : هي البروج المعروفة ، وهي أطراف البناء ، وإذا بني بناء اتخذ على طرفه برج ؛ ليشدد بناؤه به.

ومنهم (٤) من قال : البروج : القصور.

ومنهم (٥) من قال : البروج : النجوم ؛ لقوله : (جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ)

__________________

(١) في ب : لهم.

(٢) في ب : يترك.

(٣) في ب : رجع.

(٤) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير عنه (٣٦٨٢٦).

(٥) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير (٣٦٨٢٨) ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٥٢) وهو قول قتادة أيضا.

٤٨١

[الحجر : ١٦] ، وزينة السماء هي الكواكب بقوله : (بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ. وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ) [الصافات : ٦ ، ٧].

ومنهم من قال : هي مجاري الشمس والقمر والكواكب ، فمنازلها هي البروج.

ثم ذكر السماء بالبروج ؛ ليعرف حدثها ودخولها تحت تدبير الغير ؛ إذ ذكرها بالمنافع المجعولة (١) فيها ؛ ليعلم الخلق أنها سخرت للمنافع ؛ فيعرفوا بها حدثها ؛ إذ المسخر لمنافع الغير داخل تحت قدرة من سخره ، والمقدور محدث ، وهم لم يشهدوا بدأها ؛ ليعرفوا به حدثها ، ولا كل أحد يعرف حدثية الشيء ؛ لكونه محدودا في نفسه إذا لم يشاهدوا بدأه ، فذكرها حيث ذكرها بما فيها من المنافع المجعولة للخلق ؛ إذ ذلك أظهر وجوه الدلالة على الحدثية ؛ ليعلموا بها حدثها ؛ ألا ترى أن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ احتج على قومه بنفي الإلهية عن الكواكب بأفولها ؛ إذ ذلك أظهر وجوه الحدثية ، ولم يحتج عليهم بانتقالها من موضع إلى موضع ، ولا بكونها محدودة في نفسها ؛ بل احتج عليهم بما ذكرنا ؛ ليتحقق عندهم حدوثها ودخولها تحت سلطان الغير.

وقوله : (وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) قيل (٢) : هو يوم القيامة ؛ فسمي : موعودا ؛ لما وعد من جميع الأولين والآخرين في ذلك اليوم ، ثم أقسم بذلك اليوم وإن كانوا منكرين له ؛ لما قرره عليهم بالحجج ، وألزمهم القول به.

وقيل : اليوم الموعود ، هو كل يوم يأتي ، فيأتي بما وعد فيه من الرزق وغيره ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) اختلف في تأويله :

فمنهم من قال : الشاهد هو الله تعالى ، والمشهود هو الخلق ، واستدل على ذلك بقوله : (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [المائدة : ١١٧].

وقيل : الشاهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمشهود أمته ؛ قال الله ـ تعالى ـ : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ) [النحل : ٨٩].

ومنهم من يقول : الشاهد هو الكاتبان اللذان يكتبان على بني آدم أعمالهم ، والمشهود هو الإنسان الذي يكتب عليه.

__________________

(١) في ب : المجعول.

(٢) عن أبي هريرة مرفوعا أخرجه عبد بن حميد ، والترمذي ، وابن أبي الدنيا في الأصول ، وابن جرير (٣٦٨٣٢ ، ٣٦٨٣٣) ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه ، وعنه موقوفا أخرجه ابن جرير (٣٦٨٣٤) ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٥٢) ، وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد وغيرهم.

٤٨٢

ومنهم من يقول : الشاهد والمشهود هو الإنسان نفسه ؛ أي : جعل عليه من نفسه شهودا بقوله : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [النور : ٢٤].

ومنهم من يقول : الشاهد يوم الجمعة ، والمشهود يوم عرفة ؛ فسمي يوم الجمعة شاهدا ؛ لأنه هو الذي يشهدهم ويأتيهم ، وسمي يوم عرفة : مشهودا ؛ لأن عرفة اسم مكان ، والناس يأتونها ويشهدونها ، ولا يأتيهم ؛ فعظم شأن عرفة لما يعظمها أهل الأديان (١) كلها ، وعظم يوم الجمعة ؛ لأنه يوم عيد المسلمين ، ولكل أهل دين يوم يعظمونه ، فأكرم الله ـ تعالى ـ المؤمنين بهذا اليوم ؛ ليعظموه مكان اليوم الذي يعظمه غيرهم من أهل الأديان ، فأقسم بهما.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) اختلف في تأويله :

فمنهم من صرفه إلى المعذّبين.

ومنهم من صرفه إلى المعذّبين.

فمن صرف إلى المعذّبين حمل قوله : (قُتِلَ) على اللعن ؛ أي : لعنوا ؛ كقوله تعالى : (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) [الذاريات : ١٠] ، أي : لعنوا.

ومن صرفه [إلى](٢) الذين عذبوا ، حمله على القتل المعروف.

ثم اختلف في قصة أولئك الذين عذبوا ؛ فإن كان القسم في الكفرة ، فما ينبغي أن يفسر على وجه من ذلك ما لم يتواتر فيه الخبر عن المصطفى عليه الصلاة والسلام ، بل حقه أن يقتصر على ما جاء به الكتاب ؛ لأن هذه الأنباء حجة لرسالة نبيه ـ عليه‌السلام ـ لأنهم وجدوها موافقة للأنباء المذكورة في كتبهم ، وقد علموا أنه لم يصل إلى تعرفها إلا بالله تعالى ؛ إذ لم يروه يختلف إلى من عنده علم الأنباء ؛ ليصل إلى معرفتها بهم ، فإذا فسرت على وجه أمكن أن يقع فيها زيادة أو نقصان على ما ذكر في الكتاب ؛ فيجدوا به موضع الطعن والقدح ؛ لذلك لم يسع أن يزاد على القدر الذي جرى ذكره في الكتاب إلا من الوجه الذي ذكرنا.

وإن كان القسم في المؤمنين ، وسع القول بحمل التأويلات التي ذكرها أصحاب التفسير ؛ لارتفاع المعنى الذي ذكرنا في الكفرة ، والله أعلم.

[ثم في ذكر هذه الأنباء](٣) تقرير رسالته ونبوته ـ عليه‌السلام ـ عند الكفرة ؛ لما ذكرنا

__________________

(١) في ب : الأوثان.

(٢) سقط في ب.

(٣) في أ : ثم ذكر هذه النبأ.

٤٨٣

أنه لم يختلف (١) ، إلى من عنده علم هذه الأنباء ؛ ليعلم بها ، فإذا أنبأهم [بها] على وجهها (٢) ، تيقنوا أنه بالله تعالى علم.

وفيه تصبير لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتخفيف الأمر عليه ؛ لأنه يخبره أن قومك ليسوا بأول من آذوك وعاندوك ، بل لم يزل سلفهم تلك عادتهم بأهل الإسلام.

وفائدة أخرى : ما ذكرنا أن في ذكره بعض ما يستعين به من ابتلي (٣) بأذى الكفرة.

وفيه أن أولئك الكفرة بلغ من ضنهم بدينهم ما يقاتلون عليه من أظهر مخالفتهم في الدين ؛ ليعلموا أن القتال لمكان الدين ليس بأمر شاق خارج من الطباع ؛ بل الطباع جبلت على القتال مع من عاداهم في الدين ؛ فيكون فيه ترغيب للمسلمين على القتال مع الكفرة إذا امتحنوا به ، والله أعلم.

وقوله : (النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ) منهم من جعل الوقود من ألقي فيها من المؤمنين.

ومنهم من جعل الوقود صفة تلك النار التي عذبوا بها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ) ، أي : عظماؤهم وكبراؤهم جلوس عند الأخدود ؛ ففيه أن أتباعهم هم الذين كانوا يتولون إلقاء المؤمنين في النار ، وكبراؤهم جلوس هنالك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ) ، يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون الشهود هم العظماء والفراعنة.

أو يكون منصرفا إلى الأتباع ، وهو أن الأتباع كانوا يلقون المؤمنين في النار ، ويشهدون أنهم على الضلال ، وأنهم ورؤساؤهم على الهدى والحق ، وهو كما قال في موضع آخر : (وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً) [النساء : ٥١].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) : ذكر (الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) ليعلم أنه لا يلحقه ذل بما يحل من الذل بأوليائه وأهل طاعته ، ولا في حمده قصور بقهر أوليائه ، خلافا لما عليه ملوك الدنيا ، وذلك أن ملوك الدنيا إذا حل بأولياء واحد منهم ذل ، كان الذل حالا فيه أيضا ، وإذا قهر بعض أتباعه فترك نصرهم وهو قادر على نصرهم واستنقاذهم لم يحمد ذلك منه ، ولحقته المذمة ؛ وذلك لأن الملك إنما استفاد العز بأتباعه وأنصاره ، فإذا استذل أتباعه ، زال ما به نال العز ؛ فلحقه الذل ، ونال

__________________

(١) في ب : يخلف.

(٢) في ب : وجهه.

(٣) زاد في ب : بأذى.

٤٨٤

الحمد ـ أيضا ـ بالإحسان إلى مملكته ، فإذا ترك نصرهم وهو ممكن من ذلك ، فقد ترك إحسانه إليهم ؛ فصار به غير ممدوح ولا محمود ، والله ـ تعالى ـ استحق العز والحمد بذاته لا بأحد من خلائقه ؛ فلم يكن في إذلال أوليائه ما يوجب النقص في وصف الحمد ، ولا ما يوجب قصورا في العز.

والثاني : [أن](١) الدنيا وما فيها أنشئت للإهلاك ، ولعل الإهلاك بما ذكر أيسر عليهم من هلاكهم حتف أنفهم ، وكان في ذلك النوع من الهلاك نيل درجة الشهداء ، وهي التي ذكرها الله ـ تعالى ـ في قوله : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ ..). الآية [آل عمران : ١٦٩] ، ولا ينال تلك الدرجة بموتهم حتف أنفهم (٢) ، فهذا أبلغ نصرا منه إياهم.

ثم للجزاء والعقاب دار أخرى فيها يظهر تعزيز الأولياء وقمع الأعداء ؛ فلم يكن [في](٣) ترك النصر في الدنيا ما يوجب وهنا ولا ذلا ، وأما ملوك الدنيا إذا تركوا نصرهم وقت ملكهم لأوليائهم ، لم يتوقع منهم النصر بعد ذلك ؛ إذ ليست في أيديهم إلا المنافع الحاضرة ؛ لذلك لحقتهم المذمة بترك النصر ، والله أعلم.

ثم ليس في إهلاك أولئك القوم الذين آمنوا واقتدارهم عليهم إيهام أنهم كانوا على الحق والصواب ، وأن المؤمنين كانوا على الخطأ ؛ لأن الإهلاك إنما يصير آية إذا كان على خلاف المعتاد ، وإهلاكهم لم يكن كذلك ؛ لأن عددهم كان كثيرا ، وكان في المؤمنين قلة ، وإهلاك الكثير للقليل غير مستبعد ؛ بل هو أمر معتاد ، وغلبة الفئة القليلة الفئة الكثيرة هي التي تخرج من حد الاعتياد ؛ فيكون فيها آية : أن الفئة القليلة على الحق والأخرى على الباطل ، وذلك نحو غلبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر بمن (٤) معه من المسلمين مع قلة أعدادهم وضعفهم في أنفسهم ، وكثرة أتباع الكفرة وقوتهم وجلادتهم في أنفسهم ، والله أعلم.

ثم قوله ـ عزوجل ـ : (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ) ، أي : لم يكن من المؤمنين بمكانهم جرم لينتقم منهم بالإحراق سوى أن آمنوا بالله تعالى.

وقيل : ما عابوا عليهم ، وما أنكروا منهم سوى أن آمنوا بالله تعالى ، وفي هذا تبيين سفههم وعتوهم ؛ لأنهم علموا أن ما لهم من النعم كلها من الله تعالى ، وكان الذي يحق

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : أنفسهم.

(٣) سقط في ب.

(٤) في ب : من.

٤٨٥

عليهم أن يؤمنوا بالله ـ تعالى ـ ويشكروه بما خولهم من النعم ، ويدعوا غيرهم إلى الإيمان به ، لا أن يقتلوا ويعذبوا من آمن به.

ثم قوله ـ عزوجل ـ : (الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) العزيز : هو الذي لا وجود له ، أو هو عزيز لا يلحقه ذل ؛ فيكون العز (١) مقابل الذل.

وقال أهل التفسير : العزيز : المنيع ، والعزيز هو الذي لا يعجزه شيء ، وهو الحميد المستوجب للحمد من كل أحد بذاته.

وقوله ـ عزوجل ـ : (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ..). [الآية](٢).

ذكر هذا ؛ ليعلم أنه لا يدخل في ملكه قصور بقتل أوليائه وأنصار دينه ؛ لأن الخلق كلهم عبيد لله ـ تعالى ـ وإماؤه ، والسيد إذا قتل بعض مماليكه بعضا (٣) ، لم يلحق السيد بذلك ذل ولا نقص ، وإنما يدخل عليه الذل إذا قتلهم غير مماليكه ، فإذا كان الخلق بأجمعهم عبيدا لله ـ تعالى ـ لم يكن في قتل بعض بعضا نقص يدخل في ملكه.

وقوله : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) ، أي : يحفظ عليهم أعمالهم ؛ فيجازيهم بها ، لا يعزب عنه شيء.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) الفتنة : المحنة ، وهي مأخوذة من فتن الذهب إذا أذابه ؛ لأنه يذيبه ؛ ليميز به بين ما خبث منه وبين ما صفا ، وبين الذهب وبين ما ليس بذهب ؛ فاستعملت في موضع المحنة (٤) ؛ لأن المحنة هي الابتلاء ؛ ليتبين بها الصادق من الكاذب ، والمحق من المبطل ، وذلك يكون بالأمر والنهي ؛ فسمي الأمر والنهي من الله ـ تعالى ـ امتحانا لهذا ، وإن كان الله ـ تعالى ـ لا يخفى عليه شيء.

ثم وجه فتنتهم : أنهم اتخذوا الأخاديد وأوقدوا فيها النيران ؛ ليلقوا فيها من ثبت على الإيمان ودام عليه ، ويتركوا إلقاء من رجع عن دينه ، فقيل : فتنوا ؛ لهذا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا) : فيه أنهم لو تابوا لكان يعفى عنهم ، ولا يعاقبون مع عظم (٥) جرمهم بربهم في ذات الله ـ تعالى ـ فيكون فيه إظهار كرمه وعطفه على خلقه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) : منهم من صرف قوله :

__________________

(١) في ب : المعز.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : بغضا.

(٤) في أ : الفتنة.

(٥) في ب : عظيم.

٤٨٦

(وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) إلى الدنيا ، فقال بأن تلك النار التي عذبوا بها المؤمنين سلطت عليهم حتى أحرقتهم.

وجائز أن يكون ذلك في جهنم أيضا ؛ فيكون فيه إخبار [بأن](١) نار جهنم تدوم عليهم بالإحراق ، ولا تفتر عنهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) : منهم من صرف هذا الخطاب إلى الذين عذبوا من المؤمنين.

ومنهم من صرفه إلى المعذبين ، وهو أنهم لو آمنوا مع عظم جرمهم وإساءتهم بأولياء الله ـ تعالى ـ لكان يعفو عنهم ، وتسعهم رحمته.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) فقوله : (مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) يحتمل وجهين :

أحدهما : من تحت أهلها.

والثاني : من تحت أشجارها.

والجنة : اسم للمكان الذي فيه الأشجار الملتفة ؛ فيخبر أن الماء يجري من تحت ما به صار جنة وهي الأشجار ، وليس يراد بقوله : تحت الجنة ، أي : تحت تربتها ؛ لأن تحتها تكون قناة أو بئرا ، وليس بهما كثير (٢) نزهة.

وقوله : (ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) الفائز هو الذي يظفر بما يأمل ، وينجو عما يخاف ، ويحذر ، ووصف أنه كبير ؛ لأنه ليس لما أنعم زوال ولا انقطاع.

قوله تعالى : (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (١٣) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (١٤) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (١٥) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٦) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (١٧) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (١٨) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (١٩) وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (٢٠) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ)(٢٢)

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) ، أي : أخذه للانتقام شديد ، يشتد على الذي يعذب ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود : ١٠٢].

وقوله : (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ).

قال بعضهم (٣) : يبدئ العذاب ، ثم يعيده.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : كبير.

(٣) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير عنه (٣٦٨٨٧).

٤٨٧

وقال بعضهم (١) : يبدئ الخلق ، ثم يعيده بعد ما أماته.

وقوله : (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ) الغفور (٢) : هو الستور يستر على المذنب ذنبه إذا تاب حتى لا يذكر به ، ولو لا ذلك لم يكن يصفو له نعيم الآخرة عن التنغيص.

[وقوله](٣) : (الْوَدُودُ) : الذي يتودد إلى خلقه فيما ينعم عليهم ويحسن إليهم ؛ قال [النبي](٤) ـ عليه‌السلام ـ : «جبلت القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها» ؛ فجعل الإحسان سبب التودد.

والثاني : أن كل من واد آخر ، فالحق عليه أن يوده في الله ـ تعالى ـ لأنه به نال ما به يتودد ؛ قال الله ـ تعالى ـ : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) [مريم : ٩٦] ، فكأنه يقول : هو المستوجب للمودة من الخلق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) منهم من جعل المجيد نعتا للعرش.

ومنهم من جعله نعتا لله تعالى.

فمن جعله نعتا للعرش فهو مستقيم (٥) ؛ لأنه وصفه في مكان آخر بالكريم بقوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) [المؤمنون : ١١٦] ، والمجيد يقرب معناه [من] معنى الكريم ؛ لأن الكريم هو الذي عظم قدره وشرفه (٦) ، والمجيد كذلك هو الشريف المعظم ، وعظم قدر العرش في قلوب الخلق وعلا حتى زعم بعض الناس أنه مكان الرب تعالى ، والكريم في الشاهد هو الذي يطمع عنده وجود ما يرجى ويؤمل ، ويؤمن منه ما يتقى ويحذر ، وسمى الله ـ تعالى ـ النبات : كريما بقوله : (فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) [لقمان : ١٠] ؛ لما فيه من عظم المنافع ، والكريم : هو النافع (٧) للخلق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) ، أي : ما يريد تكوينه يكونه ؛ فيكون فيه إيجاب القول بخلق أفعال العباد ، وأنه شاء لكل أحد ما علم أنه يكون منه ؛ لأنه امتدح ـ جل وعلا ـ بالفعل لما يريد ، ولو لم يثبت له صنع في أفعال العباد ، لكان لا يختص بهذا الامتداح ؛ بل يكون كل واحد مستوجبا لهذا المدح ؛ فثبت أن كون حقائق الأشياء بما

__________________

(١) قاله الضحاك أخرجه ابن جرير (٣٦٨٨٥).

(٢) في ب : والغفور.

(٣) سقط في ب.

(٤) سقط في ب.

(٥) في ب : يستقيم.

(٦) في ب : وشرف.

(٧) في ب : المنافع.

٤٨٨

لله ـ تعالى ـ فيه صنع.

والثاني : أن إحداث شيء في سلطان آخر وفي مملكته من حيث لا يشاؤه ولا يريده آية الضعف والقهر ، ومن ذلك وصفه ، لم يجز أن يكون ربّا ؛ لذلك لزم وصف الله ـ تعالى ـ بذلك.

وجائز أن يكون قوله ـ تعالى ـ : (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) ، أي : البعث ، وهو أنه أنشأ هذا الخلق للعاقبة ، وهكذا فعل كل مختار أنه يقصد بفعله العاقبة إلا أن يكون جاهلا بها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ. فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ) [الآية](١).

قد وصفنا ما في ذكر الأنباء من الفوائد ، وقد ذكرنا أن فيها إثبات رسالته ؛ على ما تقدم ذكره غير مرة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ) ، أي : كفروا أنعم الله ـ تعالى ـ فهم في تكذيب بأنعم الله تعالى.

أو لما جحدوا أنعم الله ـ تعالى ـ لم يوفقهم للإيمان به ؛ فجعلوا (٢) على التكذيب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) ، أي : من وراء تكذيبهم محيط بما ينزل بهم من العذاب ليس يوعدهم عن غفلة وخيال كما يفعله ملوك الدنيا ؛ قد يوعدون بالعذاب ، ولا يدرون أنهم يتمكنون من ذلك أم لا؟ والله ـ تعالى ـ ينزل عليهم عذابه كما أوعد.

أو يكون قوله : (مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) ، أي : عالم بما يسرون ويخفون عن الخلق ، لا يعزب عنه شيء.

وقوله ـ عزوجل ـ : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ) سماه : مجيدا ، وكريما ، وحكيما ، وهذه أوصاف من وصف بها في الشاهد فإنما استحق الوصف بفعل وجد منه ، ولا يوجد من القرآن فعل يستحق به الوصف ، فالوصف به يحتمل أوجها :

أحدها : (مَجِيدٌ) ، أي : يصير من تبعه (٣) وعمل بما فيه مجيدا حكيما كريما ؛ كقوله تعالى : (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) [يونس : ٦٧] ، أي : يبصر به أو يكون قوله : (مَجِيدٌ) ، [و] (كَرِيمٌ) [الواقعة : ٧٧] ، أي : على الله تعالى.

أو سماه : كريما ، مجيدا ، حكيما ؛ لعظم قدره.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : فحصلوا.

(٣) في ب : يتبعه.

٤٨٩

أو سماه : كريما ، حكيما ، مجيدا ؛ لما يوجد منه ما يوجد من الكرماء والحكماء والأمجاد.

وقوله : (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) : منهم من حقق اللوح والقلم ، وقد وصفه أهل التفسير.

ومنهم من جعل اللوح عبارة عما يلوح ـ أي : يظهر ـ للملك من الأمر ، لا على تحقيق اللوح ، وسمت الباطنية [القلم : المبدع](١) الأول ، واللوح : المبدع (٢) الثاني ، وجعلوا المبدع الأول علة كون المبدع الثاني ، وزعموا أن المبدع (٣) الأول بذل له إنشاء المبدع الثاني ، فهو المنشئ له ، وسمت المبدع (٤) الأول : بارئا ، والمبدع (٥) الثاني : خالقا ورحمانا ، وسمت الفلاسفة المبدع الأول : عقلا والثاني : نفسا ، ثم حدث التوالد من الأنفس.

فأما جعلهم الأول أصلا وعلة ليس كما ذكروا ، فذلك يحتمل أن يجعل الأول أصلا للثاني وعلة كما استقام أن تجعل (٦) النطفة أصلا لخلق البشر ، ولكنه لا يجوز أن يسمى بواحد من الاسمين اللذين ذكرتهما الباطنية والفلاسفة ؛ لأنه لا يجوز إنشاء الأسماء لهذه (٧) الأشياء اختراعا ، بل تسميهما بما جاءت بهما التسمية من عند الحجة ، وإنما جاءت التسمية من عند الحجة باللوح والقلم ؛ فلا تسميهما بغيرهما.

وقوله ـ عزوجل ـ : (مَحْفُوظٍ) ، أي : عن أعدائه ؛ فلا يتمكنون من تغييره وتبديله.

وأخبر أنه أنزل إليه على يدي رسول قوي ؛ فلا يقدر أحد أن يغلبه ؛ فيحرف ما فيه.

ووصفه بالأمانة في نفسه بقوله : (ذِي قُوَّةٍ ..). إلى قوله : (أَمِينٍ) [التكوير : ٢٠ ، ٢١] ؛ ليؤمن تغييره بنفسه ، والله الهادي للعباد والموفق للرشاد ، [ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم](٨).

* * *

__________________

(١) في ب : العلم المبتدع.

(٢) في ب : المبتدع.

(٣) في ب : المبتدع.

(٤) في ب : المبتدع.

(٥) في ب : المبتدع.

(٦) في ب : تجعله.

(٧) في أ : بهذه.

(٨) سقط في ب.

٤٩٠

[سورة الطارق ، وهي مكية](١)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (١) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (٢) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (٤) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (٧) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (٨) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (٩) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ) (١٠)

قوله ـ عزوجل ـ : (وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ) :

إن الله ـ جل وعلا ـ عظم قدر السماء في أعين الخلق ؛ لما جعلها معدن رزقهم ومسكن أولي القدر من خلقه ، وهم الملائكة ، وفيها خلق الجنة ، وخلقها بغير عمد ترى ، فأقسم بها ؛ لما عظم من شأنها ، وجعل مصالح الأغذية بزينتها ، وهي الشمس والقمر ، وأقسم بالنجم الثاقب ، وهو المتلألئ من النجوم المضيء الذي (٢) يثقب الشيطان ، [أي : يخرقه](٣) ، ولما فيها ـ أيضا ـ من عظيم البركات ، وبركاتها أنها (٤) جعلت بحيث يهتدى بها في البر والبحر ، ويوصل بها إلى لطائف التدبير إلى أن ظن بعض الناس أن الأنجم السبعة (٥) هي المدبرات ، وبها ما منع الشياطين عن الصعود إلى السماء لينتفي بها التلبيس عن الوحي ؛ لأنهم لو لم يحفظوا عنها ، لكانوا إذا وقفوا على أخبارها أسرعوا بحملها إلى الكهنة ؛ فيؤدي ذلك إلى التلبيس.

ومن عظيم قدرها أنها تقطع في الليلة الواحدة مسيرة ألف شهر ، فأقسم بها أيضا.

ويجوز أن يكون هذا من الله ـ تعالى ـ تعليما لرسوله ـ عليه‌السلام ـ بأن يقسم به دون أن يكون ذلك قسما منه تعالى ؛ لأنهم لم يكونوا يرتابون في ألوهيته وربوبيته وصدق أخباره ؛ فيزال عنهم الريب بالقسم ، وإنما كانوا يرتابون في رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فعلمه القسم بما ذكر (٦) ؛ ليؤكد أمره ؛ فيحملهم ذلك على النظر في أمره.

ويجوز أن يكون القسم بعين هذه الأشياء ؛ لكونها معظمة عند الكفرة ، وليس للمسلمين أن يقسموا بها فيما بينهم.

__________________

(١) في ب : سورة : (والسّماء والطّارق).

(٢) في ب : والذي.

(٣) في ب : أو بحرقه.

(٤) في ب : أنه.

(٥) في ب : التسعة.

(٦) في ب : ذكرنا.

٤٩١

أو يكون القسم بهذه الأشياء هو القسم بخالقها ؛ فكأنه أمره بالقسم بخالق هذه الأشياء على الإضمار ، والله أعلم.

واختلف في تأويل (وَالطَّارِقِ) :

فقال بعضهم : ما يجيء به الليل ؛ يقال : طرقته بالليل ؛ إذا أتيته.

وقال الزجاج : (وَالطَّارِقِ) : هو الساكن ؛ يقال : أطرق في الكلام مليا ؛ إذا وقف ، وسكن.

وقال بعضهم (١) : هو النجم يطرق بالليل ، ويخفى بالنهار ، وهو النجم الثاقب ، ذكره تفسيرا للطارق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) ، اختلف في قوله : (إِنْ) :

قال بعضهم (٢) : أريد به هاهنا : «ما».

وقوله : (لَمَّا) صلة في الكلام ، فمعناه : ما كل نفس عليها حافظ ، وإنما الحافظ على بعض دون بعض.

والثاني : أن يكون الحافظ على بعض ما في النفس دون بعض ، وذلك البعض هو الذي يظهره ، فأما الذي يخفيه فإنه لا يشهده كاتباه.

ومنهم من حمل [قوله تعالى](٣)(لَمَّا) على الاستثناء ، فقال : معناه : ما من نفس إلا عليها حافظ.

قال الزجاج : حرف (لَمَّا) استعمل في موضع الاستثناء ، يقال في اللغة : «أقسمت عليك لما فعلت كذا» : أي : إلا فعلت كذا.

فإن كان معناه ما ذكروا ، ففيه إلزام التيقظ والتبصر ، والنفس من طبعها : أنه إذا سلط عليها من يراقبها ويحفظها ، احتشمت من وقتها وخافته ، وتكون متيقظة ، ولا ترتكب من الأمور إلا ما تعلم أنه لا يلحقها التبعة فيه من الحفاظ ؛ فسلط عليه الملكان ـ أيضا ـ ليكون متيقظا في كل قول وفعل ، فلا يقبل إلا على ما فيه نفع العاجل والآجل.

وسمى الله ـ تعالى ـ الملكين : (كِراماً كاتِبِينَ) [الانفطار : ١١] ، ومن صحب المكرم من الخلائق احتشم منه ، وتوقى عن إتيان ما يستحيا من مثله ، ومن أراد أن يكتب

__________________

(١) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٣٦٨٩٧) ، وعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٦٠).

(٢) انظر تفسير ابن جرير (١٢ / ٥٣٣).

(٣) في ب : قول.

٤٩٢

إلى أحد كتابا ، لم يثبت في كتابه شيئا يؤخذ عليه ، ويذم به ، بل يحكم الأمر ، ويصلحه غاية ما يحتمله الوسع ؛ فكان في ذكر الحفاظ (١) على الأنفس إلزام التيقظ والتبصر من الوجوه التي ذكرنا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (حافِظٌ) : قال بعضهم (٢) : يحفظ عليها رزقها حتى تستوفيه (٣) ؛ فإن كان على هذا ، فالحفظ (٤) يكون لها لا عليها.

وقال بعضهم : يحفظ عليها عملها خيرها وشرها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ. خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ) : الأصل أن إمعان النظر فيما خلق منه الإنسان مما يوصل المنكرين للبعث والمنكرين للرسالة إلى القول بهما ، وذلك أن النطفة التي خلق منها الإنسان لو رئيت موضوعة على طبق ، ثم رام أحد أن يعرف وأن ينتزع منها المعنى الذي به صلح أن ينشأ منها العلقة والمضغة وخلق منها الإنسان ـ لم يدرك ، ولو اجتمع الإنس والجن على أن يركبوا عليها جارحة من جوارح الإنسان ، لم يتهيأ لهم تركيبها ، أو تعرّف المعنى الذي صلح أن ينشأ منه السمع والبصر ، لم يوقفوا عليه ؛ فتبين أن الذي بلغت قدرته هذا لا يخفى عليه أمر ، ولا يعجزه شيء ، وتبين لهم حكمته ، وإذا عرفوا حكمته أداهم ذلك إلى القول بالبعث ؛ لأنه لو لا البعث وإلا كان يخرج إنشاء الخلق عبثا باطلا ؛ فيخرج عن أن يكون حكيما ، ولزمهم أن يصدقوا الرسل بجميع ما أخبرتهم به.

وفيه دلالة خلق الشيء لا من شيء ؛ إذ لا يجوز أن يكون الإنسان بكليته في النطفة مستجنا ، فظهر ؛ لأنه لا يسع في الشيء الواحد ما لا يحصى ذلك من الأضعاف ، ولا يجوز أن يكون ذلك عمل النطفة ـ أيضا ـ لأنها موات ، لا يحتمل أن تصير كذلك إلا بتدبير مدبر عليم ، فيكون فيما ذكرنا إيجاب القول بحدوث (٥) العالم.

ولأنها لو صارت مضغة وعلقة وخلقا سويا بطبعها ، لكانت لا تخلو نطفة إلا وهي تنتقل إلى ما ذكرنا ؛ ألا ترى أن النار لما كان من طبعها الإحراق ، والثلج إذ كان من طبعه التبريد ، لم يجز أن ينتقل واحد منهما عن طبعه الذي أنشئ عليه.

ثم قد وجدنا نطفا تخلو عن هذه المعاني التي ذكرنا ؛ فثبت أنها نقلت إلى ما ذكرنا

__________________

(١) في ب : الحافظ.

(٢) قاله قتادة أخرجه ابن جرير عنه (٣٦٩١٠).

(٣) في أ : تستوفي به.

(٤) في ب : فالحفيظ.

(٥) في ب : يحدث.

٤٩٣

بتدبير مدبر حكيم ، لا بطبعها.

ثم الأعجوبة فيما فيه خلق الإنسان ليست بأقل من الأعجوبة مما منه خلق ، وذلك أن الإنسان خلق في الظلمات على ما أراد الله تعالى ، وصوره كيف شاء ، ولو أراد أحد أن يعلم علم ذلك ، أو يصور مثله في حالة العيان لم يملك ، وجعل ذلك المكان فيما ينمو فيه الولد ، ويغذو فيه خصوصا من بين سائر الأماكن ، ولو أراد حكماء الإنس والجن أن يعرفوا الوجه الذي به صلح ذلك المكان للنماء والغذاء ، وأعملوا (١) فيه فنون العلم ، لم يعرفوا ، فمن تفكر فيما ذكرنا ، علم أن قدرته ذاتية لا يلحقها فناء ولا عجز ، وعلم أن علمه ذاتي ليس بمكتسب ؛ فيتوهم خفاء الأمور عليه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (مِنْ ماءٍ دافِقٍ) يعني : النطفة التي يدفقها الرجل في الرحم ، والدافق : معناه : مدفوق ؛ أي : يدفق به ؛ كقولك : «ليل نائم» ، أي : ينام فيه ، و «هم ناصب» ، أي : ينصب به.

وقال الزجاج : (ماءٍ دافِقٍ) أي : ذي اندفاق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) اختلف في تأويله :

فمنهم من يقول (٢) : بين صلب الرجل وترائب المرأة ، وهي الأضلاع الثمانية (٣) : أربع عن يمينها ، وأربع عن يسارها.

وقال بعضهم (٤) : (وَالتَّرائِبِ) هي الأطراف.

وقال بعضهم : (وَالتَّرائِبِ) موضع القلادة منها.

وقال بعضهم (٥) : (وَالتَّرائِبِ) ما دون التراقي وفوق الصدر.

ثم من الناس من صرف تأويلها إلى الرجل خاصة ، فقال : قوله : (مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) أريد به : صلب الرجل وترائبه ، وزعم أن الماء الذي يكون منه الولد ليس معدنه الصلب خاصة ؛ بل يجتمع من أطرافه كلها.

ومن حمله على المعاني الأخر صرف الأمر إليهما جميعا ، وهو أن الماء الذي يخلق منه الولد يكون منهما جميعا.

__________________

(١) في ب : وأعلموا.

(٢) قاله ابن عباس أخرجه عبد بن حميد ، وابن المنذر عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٦٠) وهو قول عكرمة ، وابن أبزى أيضا.

(٣) في ب : اليمانية.

(٤) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٣٦٩١١) ، وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٦٠).

(٥) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير عنه (٣٦٩١٩).

٤٩٤

و [كذلك](١) ذكر أبو بكر الأصم أن (الصُّلْبِ) كناية عن الرجل ، (وَالتَّرائِبِ) كناية عن المرأة ؛ فيكون هذا اسما لهما مأخوذا عن أصل ما يكون منهما ؛ ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ ..). الآية [النساء : ٢٣] ، فأضاف الأبناء إلى الأصلاب.

وفي إخراج الماء من بين الصلب والترائب لطف من الله تعالى ؛ لأنه لو اجتهد الخلائق باستخراجه من بين ما ذكر بحيلهم وقواهم ووضعه في الرحم ، لم يقدروا عليه ، ثم الله بلطفه وضع هذه الشهوة فيما بين الخلق ، واستخرج بها الماء من بين الصلب والترائب ، لا أن يكون أحد يملك إخراجها بالأسباب والحيل ، كما وضع فيهم شهوة الأكل والشراب (٢) ، [فمتى ما أكلوا وشربوا ، وقرّا قرارهما ، ظهر من قوة الطعام والشراب](٣) في (٤) كل جارحة من جوارح الأكل باللطف ، لا أن يكون ذلك العمل بالأكل والشرب خاصة ، وكذلك يرى الإنسان إذا سقى أصل شجرة ظهرت منفعة السقي في أغصانها وأوراقها وأثمارها ، ولو أراد أحد أن يعرف أنه لأي معنى صلح أن يكون الماء بالمحل الذي ذكرنا؟ وأراد أن يستخرج المعنى المجعول في الطعام من القوة التي ذكرنا ـ لم يتدارك (٥) ذلك ؛ فيكون فيما ذكرنا أبلغ حجة على الثنوية ؛ لأنهم ينكرون خلق الأشياء لا عن أشياء ، وزعموا أنا لم نشاهد كون الشيء لا من شيء ، والشاهد دليل الغائب ؛ فلزم ذلك في الذي غاب عنا ، فمن قدر على تصوير الولد في تلك الظلمات ، وفي الأماكن الضيقة وقدر أن يجعل في الماء والطعام المعاني التي يعجز الخلق عن استدراكها ـ لقادر على إنشاء الخلق لا من شيء ؛ إذ الأعجوبة فيما ذكرنا ليست بدون الأعجوبة عن إنشاء شيء لا من شيء.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ) قال بعضهم (٦) : إنه على رده إلى صلب أبيه لقادر.

وقال بعضهم (٧) : إنه على بعثه لقادر ؛ هذا أشبه التأويلين ؛ لأن الآية في موضع

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : الشرب.

(٣) سقط في أ.

(٤) في ب : من.

(٥) في أ : تدارك.

(٦) قاله عكرمة أخرجه ابن جرير (٣٦٩٢٨ ، ٣٦٩٢٩) ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٦١) وهو قول ابن أبزى أيضا.

(٧) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٣٦٩٣٧) وعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٦١).

٤٩٥

الاحتجاج على الكفرة ولم يذكر عن أحد التنازع في نفى الرد إلى الصلب وإنكاره حتى يدفع المنازعة بهذا ، وكانوا أهل إنكار بالبعث ؛ فاحتج عليهم [بابتداء الخلقة ، وكذلك أكثر ما جرى به الاحتجاج في إثبات البعث في القرآن ، إنما احتج عليهم](١) بالابتداء.

وإن كان التأويل على رده إلى صلب أبيه ، فوجه الرد هو أن يرد من حالة الشيب إلى حالة الشباب ، ثم من حالة الكبر إلى حالة الصغر ، ثم إلى حالة الطفولة ، ثم يرد مضغة ، ثم يرد علقة ، ثم نطفة ، ثم ترد النطفة إلى صلب أبيه ، [لا أن](٢) يوصف الله ـ تعالى ـ بالقدرة على رده وهو على حاله نسمة عظيمة إلى صلب أبيه مع ضيق ذلك المكان.

ولأن هذا محال ، والله تعالى لا يوصف بالقدرة على المحال ، وليس فيما لا يوصف بالقدرة على المحال نفي القدرة عنه في الأزل ، وبهذا يجاب من سأل فقال : أيقدر الله ـ تعالى ـ على إدخال الدنيا في بيضة؟ فيقال [له](٣) : إن أردت إدخالها (٤) في البيضة بأن يصغر الدنيا ويضيقها حتى يجعلها أضيق من البيضة ، أو يوسع البيضة حتى تسع الدنيا ـ فهو على ذلك قادر.

وإن أردت أنه قادر على إدخالها فيها على إبقاء البيضة بحالها (٥) وبقاء الدنيا بحالها ، فهذا محال ؛ لما فيه من انقلاب البعض كلا ، والكل بعضا ؛ فكذلك (٦) يوصف الله ـ تعالى ـ [بالقدرة] على رد النسمة إلى الصلب بالوجه الذي ذكرنا ، لا أن يردها على ما هي عليه إلى الصلب ؛ لما في ذلك من الإحالة ، وكذلك إذا سألنا عن حركات أهل الجنة والسكون هل لهما غاية؟.

فنقول : لا.

فإن قالوا : هل يعلم الله ـ تعالى ـ غايتها وعددها.

فنقول له : يعلمها غير منقطعة ، لا أن يعلمها منقطعة ، ولم يكن في قولنا : إنه لم يعلمه منقطعا إثبات الجهل (٧) ولا نفي العلم عنه ؛ بل الجهل إنما يتحقق إذا وصف بالعلم بالانقطاع فيما لا ينقطع ، فكذلك ليس في نفي الوصف بالقدرة على المحال إثبات

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : لأن.

(٣) سقط في ب.

(٤) في ب : إدخاله.

(٥) في ب : بحال.

(٦) في ب : فلذلك.

(٧) في ب : جهل.

٤٩٦

عجزه (١) ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) ، أي : يظهر ما كان أخفى منها ؛ فجائز أن يكون الإظهار منصرفا إلى التي لم يطلع عليها الملائكة ؛ فتكتبها (٢) عليه ، فيذكره الله ـ تعالى ـ تلك السرائر كيف شاء ، فيقررها عليه ، أو تنطق جوارحه بها كقوله ـ تعالى ـ : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ ..). الآية [النور : ٢٤].

أو يكون إظهار القراءة ما عليه ؛ فيظهر ذلك للخلق ، وإن كان قد أسرها عنهم في الدنيا ، ثم سمى ذلك : ابتلاء ؛ لأن الابتلاء هو الاختبار ، وإنما يكون الابتلاء بالسؤال ، أو بالأمر والنهي ، فسمى ما يسأل عنه في الآخرة : ابتلاء.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ) يحتمل وجهين :

أحدهما : أن ليست له قوة في كتمان ذلك على نفسه ، ولا له قوة نفي العذاب عن نفسه لو كتم.

أو ما له من قوة يمتنع بها ، ولا ناصر يمنعه عن نزول العذاب به.

ووجهه : أن الكفار كانوا يفتخرون بقواهم (٣) وكثرة أنصارهم في الدنيا فكانوا يظنون أنهم لو أريدوا بالتعذيب ، دفعوا ذلك بأنصارهم ، وبما لهم من القوى ؛ فيخبر الله ـ تعالى ـ أن قواهم وكثرة أنصارهم لا تنفعهم في الآخرة ، ولا تدفع عنهم بأس الله تعالى ، وكانوا يعبدون الأصنام ؛ لتقربهم إلى الله ـ تعالى ـ وتنصرهم من العذاب ؛ كما قال : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ) [يس : ٧٤] ؛ فبين أنها لا تغني عنهم من الله ـ تعالى ـ شيئا.

قوله تعالى : (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (١١) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (١٢) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (١٣) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (١٤) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (١٥) وَأَكِيدُ كَيْداً (١٦) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً)(١٧)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ) قال أبو عبيدة : الرجع : هو الماء ؛ أي : السماء ذات المطر (٤).

وقال غيره : (ذاتِ الرَّجْعِ) ، أي : تعود في كل عام إلى ما كانت عليه في العام الذي قبله بالمطر ، والرجع : هو العود.

__________________

(١) في ب : عجز.

(٢) في ب : فكتبها.

(٣) في ب : بقوامهم.

(٤) انظر : مجاز القرآن (٢ / ٢٩٤).

٤٩٧

ويحتمل : (ذاتِ الرَّجْعِ) ، أي : بتكرر إدرار بركتها على الخلق استوفوا منها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ) قيل (١) : (ذاتِ الصَّدْعِ) بالنبات.

أو (ذاتِ الصَّدْعِ) ، أي : ذات أودية وأنهار يجتمع فيها الماء ، فينتفع بها الخلق لسقي (٢) أراضيهم ودوابهم ؛ فعظم أمر السماء والأرض ؛ فأقسم بهما.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ) يعني : القرآن ، وليس بالهزل.

وفي إخراج النبات من الأرض حكمة عجيبة ولطف تدبير ؛ وذلك أن النبات شيء لين ينثني بأدنى مس ، ثم إن الله ـ تعالى ـ بلطفه صدع له الأرض اليابسة الصلبة ، وأخرجه (٣) منها غير منثن ولا منكسر ؛ ليعلموا أن مدبره حكيم ؛ فيلزمهم به التوحيد.

وجعل منافع الأرض بمنافع السماء متصلة ؛ إذ الأرض إنما تتصدع للنبات إذا أصابها المطر من السماء ؛ فيكون في ذلك إنباء ـ أيضا ـ أن مدبرهما واحد ، ولو لا ذلك لم تتصل منفعة إحداهما بالأخرى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ) أي : بيّن ، بيّن فيه الحلال والحرام ، وما يتقى عنه ، وما يؤتى ، وبيّن فيه الصواب من الخطأ ، وبيّن فيه الوعد والوعيد.

أو يكون معنى الفصل : التفريق ، وهو أن فرق الوعد من الوعيد ، والحلال من الحرام ، والحق من الباطل ؛ فوضع كل شيء موضعه ، ولم يخلط أحدهما بالآخر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما هُوَ بِالْهَزْلِ) ، أي : باللعب والباطل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً. وَأَكِيدُ كَيْداً) ، فقوله : (وَأَكِيدُ كَيْداً) يحتمل وجهين :

أحدهما : أي : أجزيهم جزاء كيدهم ؛ فسمى الجزاء باسم ما له الجزاء وإن لم يكن ذلك كيدا ، كما سمى الجزاء للسيئة : سيئة مثلها ، وإن لم يكن الجزاء سيئة ، وكما سمى جزاء الاعتداء : اعتداء ، وإن لم يكن الجزاء اعتداء بقوله : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) [البقرة : ١٩٤] ، وقال : (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) [التوبة : ٦٧] ، أي : جزاهم جزاء النسيان ، أو جعلهم كالشيء المنسي الذي [لا](٤) يعبأ به ، لا أن يكون منه

__________________

(١) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٣٦٩٥٣ ، ٣٦٩٥٤) ، وعبد الرزاق ، والفريابي ، وعبد بن حميد ، والبخاري في تاريخه ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٦١) وهو قول الحسن ، وقتادة ، والضحاك ، وغيرهم.

(٢) في ب : ليسقي.

(٣) في ب : وأخرج.

(٤) سقط في ب.

٤٩٨

في الحقيقة نسيان ؛ فكذا سمى جزاء الكيد : كيدا ، لا أن يكون الجزاء كيدا.

ووجه آخر : أن الكيد في الحقيقة والمكر هو أن يأخذه من وجه أمنه ؛ فيلحق الكائد اسم الذم ؛ لأنه أخذه من وجه لم يشعر به ، وهذا المعنى في الكيد الذي أضيف إلى الله ـ تعالى ـ غير موجود ؛ لأن الله ـ تعالى ـ قد بين له الطريق الذي إذا سلكه وقع له به الأمن من الطريق الذي إذا سلكه حل به البوار والهلاك ، فإذا سلك هذا الطريق ، كان سلوكه عن عناد منه ، أو عن ترك الإنصاف من نفسه ؛ فوجد ما يكره من الكيد [لا من الكائد](١) ؛ فلم يلحقه بذلك الوصف المعنى المكروه.

ثم كيدهم برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالمؤمنين ما ذكر في آية أخرى ، وهو قوله ـ تعالى ـ : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ) [الأنفال : ٣٠].

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ) مهل وأمهل لغتان ؛ فكأنه يقول : (أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) ، ولا تجازهم بصنيعهم ؛ فإن الله ـ تعالى ـ يجازيهم بصنيعهم عن قريب ، وقد فعل ذلك بما سلط رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقتلهم وسبيهم ؛ فيكون في هذا بشارة منه لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنصر عليهم وبغلبته إياهم ، وفي ذلك آية رسالته ؛ لأنه قال لهم هذا عند قلة أعوانه وضعفه ، ثم إن الله ـ تعالى ـ كثر أنصاره وأظهره عليهم كما قال لهم ؛ ليعلموا أنه علم ذلك بالوحي ، والله الموفق.

* * *

__________________

(١) في ب : لأن من المكائد.

٤٩٩

سورة «سبح اسم ربك الأعلى»

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (٤) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى)(٥)

قوله ـ عزوجل ـ : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) قيل فيه من أوجه :

أحدها : أن سبح ربك.

وقيل : سبح اسمه.

وقيل : سبح ربك بأسمائه.

فمن قال : سبح ربك ، فمعناه : أن نزهه عن جميع المعاني التي يحتملها غيره من الآفات والحاجات والأضداد والأنداد ؛ فيكون القول به توحيدا.

وروي عن مقاتل بن سليمان أنه قال : تأويله : وحد ربك ، وتوحيده ما ذكرنا.

وقال بعض المفسرين (١) : تأويله : أن صل لربك ؛ وهذا محتمل ؛ لأن الصلاة بنفسها تسبيح ؛ لأنه بالافتتاح يقطع وجوه المعاملات بينه وبين الخلق ، ويمنع نفسه عن حوائجها ؛ فيجعلها لله تعالى ، وهذا هو التوحيد والإيمان ؛ لأنه بالإيمان يجعل الأشياء كلها لله تعالى سالمة ؛ فصارت الصلاة تسبيحا لعينها ، لا للتسبيح المجعول فيها.

ومن حمل التسبيح على الاسم ، فقال : نزه اسمه ، فذلك يرجع إلى الأسماء الذاتية ، [و] هو ألا يشرك غيره فيسميه بها ، والأسماء الذاتية قوله : الله الذي لا إله غيره الرحمن ، وما أشبهه من الأسماء ، وتنزيهه للأسماء الصفاتية : أن ينزهها عن المعاني التي استوجب الخلق الوصف به ، كقولك : عالم ، حكيم ، رحيم ، مجيد ؛ فمن وصف بالعلم من الخلائق فإنما استوجب الوصف به بأغيار دخلن فيه ، واستوجب الوصف بالحكمة والوصف بالمدح بالأغيار (٢) ، والله ـ تعالى ـ استحق الوصف به بذاته ، لا بأغيار (٣) ، فينصرف التنزيه إلى الأغيار ؛ إذ صفاته ليست بأغيار (٤) للذات ؛ وهي لا تفارق الذات ، فالامتداح الواقع بالصفات امتداح بالذات الموصوف بها ، والله الموفق.

وقال بعضهم : معناه : سبح بالحمد والثناء ؛ وهو يرجع إلى ما ذكرنا من التأويل

__________________

(١) انظر تفسير ابن جرير (١٢ / ٥٤٣).

(٢) في أ : بالاعتبار.

(٣) في أ : بالاعتبار.

(٤) في أ : باعتبار.

٥٠٠