تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٩٥

نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى رأى الجن على صورتهم.

وجائز أن يكون الله تعالى صور الجن على صورة الإنس حتى رآهم ، وشعر بمجيئهم ، والله أعلم.

ثم ما ذكرنا من السببين في أمر مجيء الجن إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أول السورة من قول أهل التأويل لا نقطع القول بذلك ، وإن كان في حد الإمكان والجواز ؛ لأنهم تكلفوا استخراج ذلك بالتدبر والاجتهاد ، وما كان سبيل معرفته الاجتهاد ، لم يجز أن نقطع القول فيه بالشهادة.

وقد يجوز أن يكون الذي حملهم على المجيء غير ذينك الوجهين ، وهو أن يكون النفر من منذري الجن ؛ لأنه ذكر أن من الجن نذرا ، وأن الرسل من الإنس دون الجن ، فتفرقوا في الأرض على رجاء أن يظفروا برسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيتلقفوا منه ما يقومون (١) به بالنذارة فيما بين قومهم إذ كانوا يصعدون إلى السماء فيستمعون الأخبار ، وينذرون قومهم بها ، ثم انقطع علم ذلك عنهم حيث لم يجدوا مسلكا إلى الصعود ؛ لأنها قد ملئت حرسا ، وعلموا أن الله ـ عزوجل ـ لا يبقيهم حيارى ويقطع عنهم وجه المعرفة ، فتفرقوا في الأرض رجاء أن يظفروا بمن يزيل عنهم الشبه ، ويوضح لهم الحجج والبراهين ، فوصلوا إلى مقصودهم من جهة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ويجوز (٢) أن يكون عندهم أن لا أحد في الأرض من جني أو إنسي يكذب على الله ؛ كما حكى الله عنهم بقوله : (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً) ، فلما تحقق عندهم الكذب خافوا على أنفسهم أن يبتلوا به ، وأن يشتبه عليهم الصراط السوي ؛ فتفرقوا في الأرض على رجاء أن يظفروا بمن يدلهم على الطريقة المثلى ، حتى وجدوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ويجوز أن يكونوا لما صعدوا إلى السماء ، فرأوها مملوءة من الحرس والشهب ، أيقنوا أن ذلك لحادث خبر أو خافوا حلول نقمة بأهل الأرض ؛ فتفرقوا في البلاد لما لعلهم يصلون إلى علم ذلك.

ثم الذي تحقق كون هذا الخبر وهو أن السماء ملئت حرسا شديدا وشهبا في حق الكفرة ـ انقطاع الكهنة بعد ذلك ، ولو كان الأمر على خلاف هذا ، لكانوا لا ينقطعون ؛ لأن الشياطين كانوا يصعدون إلى السماء فيأتون الكهنة بما يستمعون من الأخبار ، ويلقونها

__________________

(١) في ب : يقوموا.

(٢) في ب : أو يجوز.

٢٤١

إليهم ؛ فيضلون بها الخلق ، فلو لم يمنعوا عن السماء لكانوا لا ينقطعون ، ومن ادعى الكهانة اليوم فلا تجد عنده خبرا حادثا سوى ما تلقفوه من ألسن الرسل عليهم‌السلام ، وكان أمر الشهاب أمرا ظاهرا ، عرفته الكفرة فيما بينهم ؛ فكانت (١) هذه حجة سماوية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقررة عند الكفرة رسالته ؛ إذ لم يدع أحد منهم بكون الشهاب قبل أن يبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فصار انقطاع الكهنة دليلا على صدقه في مقالته ، والله المستعان.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ).

أي : إلى الحق ، على ما ذكرنا بيانه في سورة الأحقاف في قوله ـ عزوجل ـ : (يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) [الأحقاف : ٣٠].

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً).

قال أبو بكر الأصم : إنهم كانوا من مشركي العرب ، فتبرءوا من الشرك لما (٢) استمعوا وسمعوا [من](٣) القرآن بقولهم : (وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) ، وقد يحتمل هذا الذي قالوا.

ويحتمل أنه لم يسبق منهم الإشراك ؛ بل كانوا من جملة الموحدين ، ولكنهم أحدثوا إيمانا بما سمعوا من القرآن ، وأحدثوا تبرؤا من الشرك ، وقد يتبرأ المرء من الشرك عند ما يحدث له زيادة إيقان وإن لم يسبق منه الإشراك ؛ كما قال موسى ـ عليه‌السلام ـ : (قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) [الأعراف : ١٤٣].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا).

اختلف في تأويل الجد :

فمنهم من يقول بأن هذه الكلمة يتكلم بها فيمن يظفر بكل ما يريده ، فيوصف بأنه ذو جد ، [فجائز](٤) أن يكونوا أرادوا بهذا أن ربنا هو الظافر بكل ما يريده ، فلا يستقبله خلاف ، ولا تمسه حاجة ، وعلى هذا التأويل قوله : «ولا ينفع ذا الجد منك الجد» أي : من كان له الجد في الدنيا ، فإذا كان في تقدير الله تعالى على خلاف ذلك ، لم يغنه (٥) ذلك من عذاب الله شيئا.

فإن كان هذا هو المراد ، فمعناه : أن من هذا وصفه يتعالى عن أن يكون له شريك ، أو

__________________

(١) في ب : وكانت.

(٢) في أ : بما.

(٣) سقط في ب.

(٤) سقط في ب.

(٥) في أ : ينفعه.

٢٤٢

يحتاج إلى صاحبة ، أو إلى اتخاذ ولد ؛ لأن هذه الأشياء كلها أمارات الحاجة ، ومن ظفر بكل ما يريده لم تقع [له] حاجة.

وجائز أن يكون الجد صلة ، ومعناه : تعالى ربنا.

وجائز أن يكون الجد عبارة عن العظمة والرفعة ؛ يقال : «فلان جد في قومه» : إذا عظم وشرف فيهم.

وقال الحسن : (تَعالى جَدُّ رَبِّنا) ، أي : غنى ربنا (١) ؛ ألا ترى كيف ذكر الله تعالى عند ما نزه نفسه عن اتخاذ الأولاد بقوله : (قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُ) [يونس : ٦٨] ، وقد ذكر اتخاذ الولد هاهنا على أثر قوله ـ عزوجل ـ : (جَدُّ رَبِّنا).

ومنهم من يقول تأويله : ملك ربنا.

وجائز أن يكون أريد به : قوة ربنا ، فتعالى ربنا عن كل ما لو نسب إليه كان فيه [نسبته] إلى فعل الرذالة والتسفل.

ثم الحق ألا يتكلف تفسير قوله : (جَدُّ رَبِّنا) هاهنا ؛ لأنه حكاية عن مقالة الجن ، فمراد هذه الكلمة إنما يعرف بإخبار الجن.

ثم الشرك فيما جرى به الكتاب على أوجه أربعة :

مرة على العبادة بقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) [الكهف : ١١٠].

وشرك في الخلق بقوله ـ عزوجل ـ : (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ) [الرعد : ١٦].

وشرك في الحكم بقوله تعالى : (وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً) [الكهف : ٢٦].

وشرك في الملك بقوله : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) [الإسراء : ١١١] فثبت أن الشرك يقع مرة في العبادة ، ومرة في الخلق ، ومرة في الملك ، ومرة في الحكم ؛ فهو بقولهم : (وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) تبرءوا عن الشرك من هذه الأوجه الأربعة.

ثم إذا كان الجد عبارة عن الذي يظفر بكل ما يريده (٢) ، ففيه ما ينقض على المعتزلة قولهم ؛ لأنهم يزعمون أن الله تعالى أراد من كل كافر الإيمان ، فإذا لم يؤمنوا ، فهو غير ظافر بما يريد على قولهم.

ويدخل عليهم النقض من وجه آخر ، وهو أنا قد بينا أن الشرك قد يقع مرة في الخلق ، وهم ينفون خلق الأفعال عن الله تعالى ، وإذا نفوا ذلك ، فقد جعلوا له في الخلق شركاء ، وقد أخبر ـ عزوجل ـ أنه هو المتفرد بخلق الخلائق ؛ فثبت أن الأفعال من حيث الخلق

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٣٥٠٥٧ ، ٣٥٠٥٩) ، وعبد بن حميد ، كما في الدر المنثور (٦ / ٤٣٠).

(٢) في ب : يريد.

٢٤٣

والإنشاء من الله تعالى ، ومن جهة الكسب والفعل للخلق ؛ فمن الوجه الذي تضاف إلى الله تعالى لا يجوز أن تضاف من ذلك الوجه إلى الخلق عندنا ؛ فلا يقع في الخلق تشابه ؛ لأنه لا يتحقق من العباد الفعل من الوجه الذي تحقق من الله تعالى ؛ ألا ترى أنه يضاف الملك إلى الله تعالى ، وإلى الخلق ، ثم لا يقع في ذلك إشراك ؛ لأنه من الوجه الذي يضاف إلى الله تعالى لا يتحقق ذلك الوجه في الخلق ؛ لأن الإضافة إلى الخلق على جهة المجاز والإضافة إلى الله تعالى على جهة التحقيق ؛ فكذلك إضافة الأفعال إلى الله تعالى وإلى الخلق ، لا توجب (١) الشرك ؛ لاختلاف الجهتين ، والله الموفق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً) ؛ لأن اتخاذ الصاحبة من الخلق ؛ لغلبة الشهوة ، وهو منشئ الشهوات ؛ فلا يجوز أن يغلبه ما هو خلقه ، فيبعثه ذلك على اتخاذ الصاحبة ، وبهذا يرد على من زعم أن الملائكة بنات الله تعالى ، والبنات يحدثن من الصاحبة (٢) ، وهو تعالى لم يتخذ صاحبة ؛ فأنى يكون له بنات.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا وَلَداً) فالأصل أن الأولاد يرغب فيهم المرء ؛ لإحدى خصال : إما لما يناله من الوحشة ؛ فيطلب الولد ؛ ليستأنس بهم.

أو يرغب فيهم ؛ لما حل به من الضعف ، فيريد أن يستنصر بهم (٣).

أو لما يخاف زوال ملكه ؛ فيطلب الولد ؛ ليأمن من زواله.

وجل الله سبحانه وتعالى عن أن تلحقه وحشة ، أو يصيبه ضعف ، أو يخاف زوال الملك ؛ فإذا كانت الطرق التي بها يرغب [في اكتساب الأولاد](٤) منقطعة في حقه ، لزم تنزيهه عن اتخاذ الأولاد ؛ ولهذا ما ذكر عند ما نسبته الملاحدة (٥) إلى اتخاذ الأولاد ـ غناه بقوله (سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُ) [يونس : ٦٨] ، أي : غني عن كل الوجوه التي تتوجه إلى اتخاذ الأولاد ، وبالله التوفيق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً).

فمنهم من ذكر أن سفيههم إبليس (٦) ، وليس هذا براجع إلى الواحد على الإشارة إليه ،

__________________

(١) في أ : يجب.

(٢) في أ : الصحابة.

(٣) في أ : يستنصرهم.

(٤) في ب : في الاكتساب في الأولاد.

(٥) في ب : الملحدة.

(٦) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير (٣٥٠٦٣) ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٦ / ٤٣٠) ، وروي في ذلك حديث مرفوع عن أبي موسى بسند واه ذكره السيوطي في المصدر السابق.

٢٤٤

بل هو راجع إلى كل من يوجد منه فعل السفه ؛ ألا ترى أنه إذا قيل : «كان يقول مسيئنا كذا» ، و «كان يقول فاسقنا كذا» ، لم يعن به فاسق ولا مسيء واحد على الإشارة (١) ؛ بل يراد به كل معروف بالإساءة والفسق ؛ فعلى ذلك قوله (وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا) ليس بمقتصر على الواحد ، بل هو راجع إلى كل من يوجد منه ذلك.

ثم في هذه الآية دلالة أن النفر الذين استمعوا كانوا مؤمنين ، ولم يكونوا من أهل الكفر ؛ لأنهم لو كانوا أهل شرك ، لكانوا لا يضيفون فعل السفه إلى غيرهم ، ويخرجون أنفسهم منه ، وقد وجد منهم فعل السفه.

ولو كانوا مشركين ـ أيضا ـ لكانوا يقولون مكان هذه الكلمة : «وإنا كنا نقول على الله شططا» ؛ ليكون ذلك منهم توبة ورجوعا عما كانوا فيه من الشرك والكفر ؛ شكرا (٢) بما أنعم الله عليهم من عظيم (٣) النعمة بأن هداهم للإيمان ، لا أن يضيفوا ذلك إلى سفهائهم ؛ فثبت أنهم كانوا مؤمنين.

والشطط : الجور.

وقال بعضهم : هو الكذب.

وقال بعضهم (٤) : الظلم.

والشطط هاهنا الجور ، والجور ما أتوا به من القول الفاحش ، وهو الشرك بالله تعالى ، وهذا يبين أن الجور قبيح في كل الألسن وفيما بين أهل الأديان ؛ ألا ترى كيف سفهوا من يقول على الله تعالى بالجور.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً).

ذكر أبو بكر الأصم أنهم كانوا اعتقدوا أن لله تعالى صاحبة وولدا ؛ بما سمعوا [الجن والإنس](٥) يقولون ذلك ، وكان عندهم أنهم في ذلك صادقون ؛ فذلك المعنى هو الذي حملهم على القول بأن لله تعالى ولدا وصاحبة ؛ فلما ظهر عندهم كذب من يدعي اتخاذ الولد والصاحبة تبرءوا عمن يقول ذلك ؛ فثبت بهذا أنهم كانوا أهل شرك إلى ذلك الوقت ؛ فلما استمعوا إلى قراءة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولاحت لهم الحجج ، وارتفعت عنهم الشبه (٦) ،

__________________

(١) في أ : الإساءة.

(٢) في ب : وشكروا.

(٣) في ب : عظم.

(٤) قاله ابن زيد أخرجه ابن جرير عنه (٣٥٠٦٥).

(٥) في ب : الإنس والجن.

(٦) في أ : الشبهة.

٢٤٥

آمنوا به ، وتبرءوا عن (١) مقالتهم المتقدمة.

وقد يحتمل غير ما ذكره عنهم أبو بكر من التأويل ، وهو أن القوم كانوا أنشئوا على الهدى والإيمان ؛ فكانوا يظنون أن الجن والإنس على الهدى ، وأنهم لا يكذبون على الله تعالى حتى ظهر عندهم كذب [الإنس والجن](٢) بقولهم : إن لله ولدا وصاحبة.

وجائز أن يكون معناه : إنا كنا نظن ألا تسخو نفس أحد من الممتحنين بالكذب على الله تعالى بما أراهم الله تعالى قبح الكذب ، وقرر عندهم بالحجج والأدلة تنزيهه عن اتخاذ الأولاد والصاحبة ؛ حتى ظهر عندهم ذلك بما أظهروه بألسنتهم.

ثم الذي يدل على أن التأويل الذي ذكره أبو بكر ليس بمحكم : أنه قد كان في الجن والإنس مصدق يصف الله تعالى بالتنزيه ، وقد كان فيهم من يقول بالولد والصاحبة ؛ ألا ترى إلى قوله حكاية عنهم : (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ) [الجن : ١٤] ، وإلى قوله : (وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ) [الجن : ١١] ، ولا يحتمل أن يقع عندهم أن الفريقين جميعا على الصواب ، ولكن كان في ظنونهم أن القوم جميعا على الهدى على ما هم عليه ، فلما (٣) تبين عندهم الكذب من أولئك قالوا هذا القول والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً).

[ذكر أن الإنس](٤) ، هم قوم من العرب كانت إذا نزلت بواد استجارت بسيد الوادي ، وقالت : نعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه.

ثم اختلف بعد هذا :

فمنهم من ذكر أنهم [كانوا](٥) يجيرونهم.

ومنهم من زعم أنهم كانوا لا يجيرونهم (٦) ، وكان ذلك يزيد في رهق الإنس من الجن.

وقالوا : الرهق : هو الخوف ، والفرق (٧) ؛ كذلك (٨) روي عن أبي رءوف.

ومنهم من يقول : هو الذلة والضعف ، [فكانوا يزدادون الضعف](٩) والذلة والخوف

__________________

(١) في ب : من.

(٢) في ب : الجن والإنس.

(٣) في ب : فإذ.

(٤) سقط في ب.

(٥) سقط في ب.

(٦) في أ : يخبرونهم.

(٧) هو قول الربيع بن أنس وابن زيد ، أخرجه ابن جرير عنهما (٣٥٠٨١ ، ٣٥٠٨٢).

(٨) في ب : كذا.

(٩) سقط في ب.

٢٤٦

[والفرق](١) بامتناعهم عن الإعاذة.

ومنهم من يقول بأنهم كانوا يجيرون من استجارهم ، ولكن مع هذا كانوا يفرقون منهم ، ومن كيدهم في الأماكن التي [لم](٢) يستجيروا فيها إليهم ، وفي غير الأوقات التي وقعت فيها الإجارة.

وعلى اختلافهم اتفقوا أن الجن هي التي كانت تزيد الإنس رهقا.

وقيل بأن هذا الفعل من الإنس ـ وهو الاستجارة بهم ـ شرك ؛ لأن الله تعالى هو المجير ؛ فكان الحق عليهم أن يستجيروا بالله تعالى ؛ ليدفع عنهم مكايد الجن ، وألا يروا لأنفسهم ناصرا غير الله تعالى ، فإذا فزعوا في الاستجارة إلى الجن ، فقد رأوا غير الله تعالى يقوم عنهم بالذب والنصر ؛ فكان ذلك منهم شركا (٣).

ولأن الجن أضعف من الإنس ؛ ألا ترى أنها تختفي من الإنس وتتصور بغير صورتها ؛ فرقا ؛ لئلا يشعر بها الإنس ، وبلغ في ضعفها : أنها لا تقدر على إتلاف أحد من البشر ، ولا تقدر على سلب أموالهم ، ولا إفساد طعامهم وشرابهم ، واستنصار القوي بالضعيف أداة (٤) الذلة ؛ فيخرج تأويل [من قال](٥) بأن الرهق هو الذلة والضعف على هذا.

ومنهم من يقول بأن الإنس هي التي كانت تزيد الجن رهقا ، وقال : الرهق : التجبر ، والتكبر.

وقيل : هو السفه والجهل.

وقيل : هي (٦) المآثم.

وقال القتبي : هو العبث والظلم ؛ يقال : فلان مرهق في دينه ؛ إذا كان مفسدا.

ووجه زيادة الرهق : هو أن الرؤساء من الجن كانوا يرون لأنفسهم الفضل على أتباعهم من الجن وعلى الإنس جميعا بما رأوا من افتقار الإنس إليهم حتى احتاجوا إلى الاستعاذة بهم ؛ فكان يتداخلهم الكبر من ذلك ، ويزدادون به تجبرا وتعظما ؛ فكان ذلك يمنعهم عن النظر في حجج الرسل ، وكذلك أكابر الكفرة من الإنس كانوا يمتنعون عن الإجابة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما يرون لأنفسهم من الفضل على من سواهم ؛ ألا ترى إلى قوله تعالى :

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : إشراكا.

(٤) في أ : إرادة.

(٥) في ب : الآية.

(٦) في ب : هو.

٢٤٧

(وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها ...). الآية [الأنعام : ١٢٣].

فمن زعم أن الرهق : هو الإثم ، أو السفه ، أو الجور والظلم ، أو العبث (١) ـ يرجع كله إلى هذا المعنى الذي ذكرنا ؛ لأن سفههم هو الذي كان يحملهم على التجبر والتكبر ؛ لأنه كان لا يستعيذ بهم إلا الجاهل السفيه ، وليس في إعاذة الجاهل السفيه منقبة ما (٢) يتكبر لأجلها ، وهم بتكبرهم ازدادوا إثما (٣) وبعدا من رحمة الله تعالى ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً).

فجائز أن يكونوا نفوا القدرة عن الله تعالى بالبعث ؛ لما لم يشاهدوا البعث ، ورأوه أمرا خارجا عن طوقهم وقواهم ؛ فظنوا أن القدرة لا تنتهي إلى هذا ، لا أن يكونوا أرادوا به خروج البعث عن حد الحكمة ؛ لأنهم لو أرادوا به نفي البعث ، لكانوا يقتصرون على قولهم : [(لَنْ يَبْعَثَ اللهُ)](٤) ؛ فلما وصلوا به الكلام الذي يتكلم به للتأكيد ، وهو قوله : (أَحَدٌ أَ) ، دل أنهم نفوا القدرة.

وجائز أن يكونوا ظنوا أن [لا بعث](٥) ؛ لأنه أمر خارج من الحكمة ؛ إذ [ليس](٦) من الحكمة أن يهلك ثم يعاد ، بل إذا أريد الإبقاء لن (٧) يفنى ؛ حتى لا يحوج إلى الإعادة.

ثم هذا الكلام ليس بحكاية عن الجن (٨) ؛ بل الله تعالى أخبر أن الجن ظنت أن لا بعث كما ظننتم أنتم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ظَنَنْتُمْ) في الظاهر إشارة إلى الإنس جملة ، مسلمهم وكافرهم ، ومعلوم بأن المسلمين لم يكونوا يظنون ذلك ، بل قد أيقنوا بالبعث ، ولكن معناه : أن الكفرة من الجن ظنت أن لا بعث كما ظنت الكفرة منكم أيها الإنس.

ثم في هذه الآية إبانة أنهم كانوا يقولون : لا بعث بالظن ، ليس بالعلم ، والذي حملهم على الظن إعراضهم عن السبب الذي يوجب القول بالبعث ، وكل يأنف بطبعه أن يلزم الظنون ، ففيه دعاء وترغيب إلى النظر في حجج البعث وترك الاعتماد على الظنون.

ثم ذكر النحويون أن ما كان ابتداؤه بالكسر في هذه السورة ـ أعني : حرف «إن» ، فهو

__________________

(١) في ب : العيب.

(٢) في ب : فما.

(٣) في ب : مأثما.

(٤) في ب : لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً.

(٥) في أ : لن يبعث الله.

(٦) سقط في ب.

(٧) في ب : لمن.

(٨) في أ : الحق.

٢٤٨

حكاية عن الجن ؛ نحو قوله : (فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً) ، وما كان فيه من الحكاية لا عن الجن ، فحقه أن يقرأ بالنصب ؛ فاختاروا النصب في قوله ـ عزوجل ـ (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ) ؛ لما ليس هو بحكاية عن قول الجن ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً).

جائز أن يكون لمسهم السماء : ليجدوا أبوابها ؛ فيدخلوا فيها للاستماع ؛ إذ أخبارها ليست في جملة آفاق السماء ، ولا أبوابها محيطة بجملة السماء ، فكانوا يلمسونها ؛ ليظفروا بأبوابها فيدخلوا فيها.

وجائز (١) أن يكون أريد من لمس السماء : لمس أبوابها ؛ فكانوا يلمسون أبوابها ؛ ليفتحوها ؛ فيدخلوا فيها ؛ [فيستمعوا إلى](٢) الأخبار.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً) جائز أن يكون بعض الأبواب ملئت من الحرس ، وبعضها من الشهب ؛ فإن أتوا [إلى الأبواب](٣) التي ملئت من الحرس دفعتهم الحرس ، وطردتهم ، وإن أتوا إلى الأبواب التي فيها الشهب ، تبعتهم الشهب ؛ كما قال ـ عزوجل ـ : (وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ. دُحُوراً) [الصافات : ٨ ، ٩].

وجائز أن تكون الأبواب كلها مملوءة من الحرس والشهب جميعا ؛ لأن الحرس لم يمتحنوا بالحراسة خاصة ؛ بل امتحنوا بها وبغيرها من الأعمال ؛ فجائز أن يكون اشتغالهم بتلك الأعمال يمنعهم عن الحرس ؛ فإذا رأوا استراق السمع في وقت شغلهم ، تبعهم الشهاب الثاقب ، وقذفهم عن مرادهم.

وجائز أن يصعد الجن إلى المكان الذي لا يراهم الملائكة ، ويسمع الجن كلامهم ؛ لأن المرء قد يتكلم بكلام فينتهي صوته إلى حيث لا يراه البصر ، فتكون الشهب تحت الحرس ؛ فيقذفون عنها بالشهب ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً).

قيل : الشهاب من الكواكب ، والرصد من الملائكة.

الأصل في ذلك أن الجن قد حبسوا (٤) وقت مبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن خبر السماء ،

__________________

(١) في ب : فجائز.

(٢) في ب : فيستمعون فيها.

(٣) سقط في ب.

(٤) في أ : حسبوا.

٢٤٩

وكانوا يسترقون السمع قبل ذلك حتى انقطع أمر الكهنة ؛ إذ لا يجوز أن يأتوا بخبر السماء وقت مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى كان يختلط أمر الكهنة بأمره عليه‌السلام ؛ فحبسوا عن الصعود إلى السماء وإتيان الخبر عنها ؛ حتى انقطع أمر الكهنة ، فجاءهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ذلك ؛ ليعلموا أن ذلك ليس بكهانة ، وإنما هو وحي يأتيه من السماء ؛ إذ لو كان كهانة كان غيره لا يمنع عن مثله ، كما في سالف الزمان ؛ فهذه الآية كأنها (١) حكاية عن قول الجن لما رجعوا إلى قومهم منذرين قالوا هذا كله لقومهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) فهو يحتمل وجهين :

أحدهما : لا ندري بما قطعت بالحرس والشهب أخبار السماء عن أهل الأرض ، وحبس الذين يصعدون السماء عن أخبار السماء ، ويقذفون من كل جانب ، أريد بأهل الأرض الشر ، وهو إنزال العذاب عليهم ، أو أريد بهم أن يرسل إليهم رسول يرشدهم.

وجائز أن يكونوا أيقنوا أن أخبار السماء إنما انقطعت عن أهل الأرض بما يرسل إليهم من الرسول ؛ فيكون الرسول هو الذي يخبرهم بما لهم إليه من حاجة ، ولكنهم لم يدروا أنه أريد بهم الرشد بإرسال الرسول أو الشر ؛ لأنهم كانوا علموا أن من آمن بالرسول المبعوث ، ونظر إليه بعين الاستهداء والإرشاد فقد رشد ، ومن نظر إليه بعين الاستخفاف والاستهزاء استؤصل ؛ فلم يدروا أيكذبون الرسول ؛ فيحل بهم الهلاك في العاقبة ، أو يصدقونه فيرشدوا به؟ وهذا يبين أن العواقب في الأشياء هي (٢) المقصودة ، وأن الحكيم ما يفعل من الأمر يفعله للعواقب ، وفي هذا إبانة أن الجن من المسلمين لم يكونوا معتزلة ؛ إذ من قول المعتزلة : أن الله تعالى لا يفعل بعباده إلا ما هو أصلح لهم في الدين والدنيا في حقهم ، والجن قد أيقنوا أن الله تعالى قد يريد الشر بمن يعلم أنه يؤثر فعل الشر على فعل الخير ، ويريد الخير بمن يعلم أنه يؤثره على فعل الشر.

قوله تعالى : (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (١١) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (١٢) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (١٣) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (١٤) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (١٥) وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (١٦) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (١٧) وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً (١٨) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ

__________________

(١) في ب : كأنه.

(٢) في ب : هو.

٢٥٠

اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً)(١٩)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ).

قال بعضهم : (الصَّالِحُونَ) هم المؤمنون و (دُونَ ذلِكَ) هم الكافرون.

ويشبه أن يكون (الصَّالِحُونَ) ، و (دُونَ ذلِكَ) ليس على الإيمان والكفر ؛ لأن هذا قد ذكر فيما تقدم من الآيات بقوله : (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ) ، ولو كان التأويل على ما ذكروا ، لكان يقع موقع التكرار ؛ ولكن تأويله عندنا : (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ) ، أي : منا من عرف بالصلاح والستر ، (وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ) وهم الفسقة ؛ فيكون فيه إبانة أن كل أهل دين فيهم الصالح المرضي ، وفيهم الفاسق المفسد في دينه ؛ قال الله تعالى : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ) [النور : ٣٢] ، ولو لم يكن منا غير صالح ، لم يكن لاشتراط الصالحين معنى ، وكقوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) [الطلاق : ٢] ، فلو لم يكن منا أهل فسق ، لما قال (١) هذا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً).

أي : أهواء متفرقة ، ولم يذكروا في الأهواء المتفرقة الأصلح والأدون ، وذكروا ذلك عند ذكر الفاسق والصالح ؛ لأن أهل الأهواء كلّ [يظن] في نفسه : أنه هو المحق ، وغيره على الباطل ، وأما الفاسق فهو يعرف أنه يتعاطى بفسقه ما لا يحل له ، ويرتكب ما نهي عنه ، وكذلك كل من شاهد فسقه يعرف أنه على الباطل ؛ وإن كان كذلك ، ظهر الدون فيه ، وظهر الصالح ، ولم يظهر ذلك في اعتقاد المذاهب ؛ فلم يتكلم فيه بالدون والصالح.

ثم الطرائق هي المذاهب والأهواء ، والقدد : القطع ، يقال : قدّه ، أي : قطعه ، فمعناه : أنا كنا على مذاهب متفرقة ، وأهواء متشتتة ، ففي الآية أن في الجن أهواء متفرقة ، كما [أن](٢) ذلك في الإنس ، والأصل فيه أن طريق معرفة المذهب والدين الفكر والاجتهاد [ليتوصل به](٣) إلى الحق ، والمجتهد قد يصيب الطريق مرة ، ويزيغ عنه أخرى ؛ فلهذا ما أصاب البعض من الخلائق الطريق المستقيم ، ومنهم من زاغ عنه.

ويعلم بهذا أن سبيل الجن في التوحيد وسبيل الإنس واحد ، وهو الفكر ، وله الاجتهاد ، وأن فيهم آيات متشابهة كما في الإنس ؛ إذ عن المتشابه يتولد الزيغ ؛ لذلك تفرقوا على أهواء [متفرقة](٤) مختلفة ، وأما أسباب الفسق مجتمعة ، فتعرف بالمعاينة ، فيظهر الأدون والأرفع في الدين.

__________________

(١) في أ : لم يقل.

(٢) سقط في ب.

(٣) في أ : المتوصل.

(٤) سقط في ب.

٢٥١

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً) : ذكر أبو بكر الأصم أنه على كفرهم ظنوا ألا يعجزوا الله تعالى.

ولكن أكثر أهل التأويل ذكروا أن الظن هاهنا في موضع العلم ، ويؤيد تأويلهم قراءة حفصة ـ رضي الله عنها ـ فإنها كانت تقرأ : وأنا علمنا أن لن نعجز الله في الأرض فررة ولن نسبقه هربا.

فقوله : (لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ) أي : لن نفوته ، ولا يتهيأ لنا أن نعجز الله بأهل الأرض عن إيصال نقمته وعذابه إلينا.

ويخرج قوله : (فررة) على ذلك ، أي : لو فررنا من عذابه ، لن نعجزه ألا يعذبنا.

والفرار قد يكون بدون الطلب ؛ قال الله ـ عزوجل ـ : (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) [الذاريات : ٥٠] ، ولم يرد به الفرار من الطلب ، وأما الهرب فإنه لا يكون إلا عن طلب ؛ فكأنهم قالوا : لا يتهيأ لنا الفرار عن عذاب الله تعالى ؛ لكثرة الأعوان والأنصار ، ولا يعجزه هربنا عن طلب.

أو أن يكون قوله عزوجل : (لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ) وإن دخلنا تحت تخوم الأرضين ، ولن نعجزه بالهرب على وجه الأرض ، فيكون فيه إقرار بأنا لا نقدر بالحيل والأسباب أن نحترز من عذاب الله تعالى ، كما يتهيأ الاحتراز عن ملوك الأرض بالحيل والأسباب.

ثم مثل هذا الكلام يصدر عن أهل الإسلام ؛ لأن مثل هذا الكلام إنما يتكلم به من يخاف حلول نقم الله تعالى عليه ، والذي أيقن بالبعث ، ويذكر مقامه بين يدي ربه (١) ، وأما أهل الكفر : فلم يؤمنوا بالبعث حتى يحملهم خوف العاقبة على النظر في مثل هذا ؛ فثبت أن هذه المقالة صدرت عن أهل الإسلام ، ليس عن أهل الكفر ؛ كما ذكره أبو بكر الأصم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ).

فالهدى هو الدعاء إلى الحق ، فيحتمل أن يكون لما دعينا إلى الحق ـ وهو القرآن ـ آمنا به ؛ ألا ترى إلى قوله ـ عزوجل ـ : (يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) [يونس : ٣٥] ، أي : يدعو إليه ، وقال [الله تعالى](٢) في أول السورة : (يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) [الجن : ٢].

ويجوز أن يكون الهدى هو الاهتداء ، أي : لما سمعنا ما به اهتدينا.

__________________

(١) في ب : الله.

(٢) سقط في ب.

٢٥٢

وظن أبو بكر الأصم أنهم كانوا كفرة إلى أن سمعوا الهدى فآمنوا به ؛ لأنه لو كانوا على الهدى من قبل لكان الإيمان منهم سابقا ؛ فلا يكون لقوله : (آمَنَّا بِهِ) وقد آمنوا من قبل ـ معنى ، وليس يثبت كفرهم بما ذكر ؛ لأنه قد يجوز أن يكونوا على الإيمان فلما سمعوا الهدى ، أحدثوا إيمانا بهذا الهدى على ما سبق منهم من الإيمان بالجملة ؛ ألا ترى إلى قوله ـ عزوجل ـ : (فَزادَتْهُمْ إِيماناً) [التوبة : ١٢٤] ، وقال : (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) [الفتح : ٤] ، أي : زادوا إيمانا ؛ [بالتفسير على](١) ما سبق منهم من الإيمان بالجملة لأنهم لم يكونوا من قبل مؤمنين ، فأحدثوه للحال ، وكذلك قال : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة : ٦] ، وقد هدوا الصراط (٢) المستقيم ، ولكنهم يريدون بهذا الدعاء أن اهدنا بالإشارة والتعيين إليه الصراط [المستقيم](٣) على ما هديتنا في الجملة ؛ فكذلك إحداثهم الإيمان بما سمعوا من الهدى لا ينفي عنهم الإيمان فيما سبق من الأوقات ، بل يجوز أن يكونوا مؤمنين من قبل ، ثم يحدثوا الإيمان بكل أمر يجيئهم من عند الله ـ عزوجل ـ ، ولا يدل إيمانهم [به](٤) على أنهم لم يكونوا من قبل مسلمين ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً).

قال ـ رحمه‌الله ـ : إنه لا أحد من أهل الإيمان من جني ولا إنسي يخاف البخس والرهق من الله تعالى إلا المعتزلة ؛ فإنهم يخافون ذلك ؛ لأنهم ليسوا يخرجون مرتكبي الكبائر من الإيمان ، ثم يطلقون القول فيهم : إنهم يخلدون (٥) في النار ، وفي التخليد خوف البخس والرهق ، بل فيه ما يزيد على البخس ؛ لأن البخس هو النقصان ، وفي التخليد ذهاب منفعة الإيمان ومنفعة الخيرات التي سبقت منهم.

وقال تعالى : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) [البقرة : ٢٨٦] ، والمعتزلة تزعم أنه [لو](٦) آخذهم بالخطإ والنسيان ، كان جائرا.

وقال : (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) [آل عمران : ٨] وهم يزعمون أنه لو أزاغ قلوبهم بعد الهدى ، كان ذلك منه جورا وظلما ، فهم أبدا على خوف من جور ربهم.

ونحن نقول بأنه لو آخذهم به ، كان يكون ذلك منه عدلا ، وإذا عفا عنهم ، كان ذلك منه إنعاما وإفضالا ، فنحن ندعو الله تعالى ، ونتضرع إليه ألا يعاملنا بعدله فنهلك ، بل

__________________

(١) في أ : لتفسير.

(٢) في ب : للصراط.

(٣) سقط في ب.

(٤) سقط في ب.

(٥) في ب : مخلدون.

(٦) سقط في ب.

٢٥٣

يعاملنا بالإفضال والإنعام.

وعلى قول المعتزلة من ارتكب كبيرة ، ردت عليه حسناته ، وصار عدوّا لله تعالى ، وخلد في النار أبد الآبدين ، والله يقول : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها) [النساء : ٤٠] ، وأولى الحسنات التي يستوجب عليها المضاعفة هو الإيمان بالله تعالى ، فلا يجوز أن يخلد في النار ، ويذهب عنه منفعة الإيمان ، تعالى الله عما يقولون (١) علوّا كبيرا.

ثم قوله : (بَخْساً وَلا رَهَقاً) يحتمل وجهين :

أحدهما : البخس : النقصان ، أي : لا ينقص من حسناته ، والرهق : الظلم ؛ كقوله تعالى : (فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً) [طه : ١١٢] ، وأن يحمل عليه من سيئات ارتكبها غيره.

والثاني : (فَلا يَخافُ بَخْساً) ، أي : ألا تقبل حسناته إذا تاب ، (وَلا رَهَقاً) أي : ظلم ؛ فلا يحسب له من حسناته شيئا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ)

القاسط : الجائر والمقسط : العادل.

ثم في العدل ثلاث لغات ؛ يقال عدل عنه : إذا مال وجار (٢).

وعدل به : إذا جعل له شريكا وعديلا.

وعدل فيه : إذا حكم بالعدل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً) :

التحري والتوخي هو القصد ؛ فكأنه يقول : قصد (٣) الرشد بالإسلام.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً).

قال أبو بكر الأصم : دلت الآية على أن للجن لحما ودما كما للإنس (٤) ؛ [لأنه](٥) قال في الإنس : (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) [البقرة : ٢٤] ، فلو لم يكونوا لحما ودما ، لم يصيروا لجهنم حطبا.

ولكن هذا لا يدل ؛ لأن اللحم من شأنه أن يحترق وينضج ، ولا يصلح أن يكون وقودا ، ولكن الله تعالى باللطف ، صير لحمان الإنس وقودا ، ليس أن صار حطبا بما كان

__________________

(١) في ب : يقول الظالمون.

(٢) زاد في ب : إذا لذلك.

(٣) زاد في ب : أي قصد.

(٤) في أ : كالإنس.

(٥) سقط في ب.

٢٥٤

لحما ، فليس في الآية دلالة ما ذكر (١).

بل فيها أن الجن قد امتحنوا بالعبادة كما امتحن بها الإنس ، وأنهم إذا عصوا ربهم استوجبوا العقاب (٢) مثل ما يستوجبه الإنس.

ثم ذكر عن أبي حنيفة ـ رحمه‌الله ـ أنه قال : ليس للجن ثواب ، وعليهم العقاب إذا عصوا.

ومعنى قوله : ليس لهم ثواب عندنا ، ليس يريد به أن الله تعالى لا يرضى عنهم إذا عبدوه ، ولا تعظم منزلتهم عنده ، ولكنه يريد به أن الذي وعد للإنس من المآكل والمشارب والأزواج الحسان والحور في الجنة على الخلود ـ ليس لهم فيها ؛ لأن الوعد من الله تعالى بها جرى للإنس ، ولم يجر الوعد للجن ، ولا ذكر ذلك في شيء من القرآن ، والذي وعد به الإنس طريقه الإفضال والإنعام ، لا أن يكون ذلك حقّا للإنس قبله ، فإذا لم يجر لهم الوعد بذلك ، لم يجب القول لهم بالموعود.

وأما العقاب فإن الحكمة توجب التعذيب لمن كفر به ؛ فلا يجوز أن تكون الحكمة توجب تعذيب الكفرة ، ثم لا يعذب الجن إذا كفروا ؛ فلذلك وجب القول بعقابهم ، ولم يجب القول بالثواب ، والله الموفق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) ، اختلف فيه :

فمنهم من قال : طريقة الهدى.

ومنهم من قال : طريقة الكفر.

فمن قال : المراد : هو طريقة الهدى ، قالوا : إن الطريقة المعروفة المعهودة هي طريق الله تعالى ، فعند الإطلاق ، تنصرف إليه ؛ كالدين متى ذكر مطلقا ينصرف إلى دين الحق ، وكذلك : السبيل المطلق (٣) ؛ قال الله تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة : ٦] ، وهو الإسلام.

ثم يخرج هذا على وجوه :

أحدها : ينصرف إلى الكفرة أنهم : (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ) ، أي : لو أجابوا إلى ما يدعون إليه من الهدى ، (لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) ، أي : وسعنا عليهم العيش ، وكثرنا أموالهم ، ويكون ذكر الماء هاهنا كناية عن السعة ؛ لأن سعة الدنيا كلها تتصل بالماء ، والماء أصلها ؛ قال الله تعالى : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) [الذاريات : ٢٢] ، فأخبر أن رزق الخلق في السماء ، والذي ينزل من السماء الماء ، وهو المطر ، وجعل ذلك رزقا ، إذ هو

__________________

(١) في أ : الإنس.

(٢) في أ : الصفات.

(٣) في ب : كذلك.

٢٥٥

أصل رزق الخلق ؛ فكذلك ذكر [الماء](١) هاهنا كناية عن السعة من الوجه الذي ذكرنا.

فإن كان على هذا ؛ فيكون الخطاب راجعا إلى الوقت الذي كانوا ابتلوا فيه بالقحط والسنين ؛ فوعد لهم أنهم لو أجابوا إلى ما دعوا إليه يرفع عنهم القحط والسنين ، ويوسع عليهم في الرزق ، وهو كقول نوح وهود وغيرهما ، ووعدهم قومهم بإرسال الأمطار ، وتكثير الأنزال (٢) والأموال والأولاد ونحوه.

ويجوز أن يكون هذا في أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فإنهم كانوا في أول (٣) الإسلام في ضيق الحال ، وشدة من العيش ، وكانوا يتفرقون في الشعاب والأودية ؛ لشدة ما حل بهم من الجوع ؛ ليصيبوا من عشبها (٤) ، وعند اشتداد الحال تخاف النفس من إهلاكها والتبديل ، فوعدوا السعة في العيش (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ) التي كانوا عليها ، أي : داموا عليها ولم يبدلوا الدين بالهوى والحق بالباطل ، كما وعد لهم النصر والظفر على الأعداء ، مع قلة أنصارهم إن داموا على الإسلام.

ويحتمل ما قال بعضهم : أن تأويل قوله : (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ) أي : لو أسلم أهل الأرض كلهم جميعا ، لوسعنا عليهم الدنيا ، وكثرنا أموالهم وأولادهم ؛ حتى يفتنوا فيها ويمتحنوا بمحن شديدة ، فيتحمل البعض منهم فيبقوا مؤمنين ، ولا يتحمل البعض فيبغون ويعودون إلى ما كانوا عليه من الكفر ؛ حتى لا يقع الخلف في وعدنا ؛ فإن الله تعالى وعد أن يملأ جهنم من الجنة والناس أجمعين ، ولا يجوز أن يقع في وعيده خلف ، وهم لو استقاموا على الطريقة ، ولم يبغوا ، أدى ذلك إلى خلف الوعيد ؛ لأنه لا يملؤه إذا داموا على الطريقة ولم يبغوا ، وتكون الحكمة في بغيهم أن يعرف الخلق أن الله ـ تعالى ـ لم يخلقهم لمنافع تحصل له ، ولكن خلقهم لأنفسهم : إن أحسنوا [أحسنوا](٥) لأنفسهم ، وإن أساءوا فعليهم ، ولو أبقاهم على الطريقة المستقيمة ، وظهرت الموالاة في الجملة ، لكان يسبق إلى الأوهام : أنه إنما خلقهم لمنافع نفسه.

وهذا من الله تعالى بيان علمه بما لا يكون أن لو كان كيف يكون ؛ إذ الله تعالى علم الإيمان من البعض ، والكفر من البعض ؛ للحكمة التي ذكرنا ، وغيرها مما يقف على بعضها الخلق دون البعض ، وحكم بذلك ، ثم أخبر أنه لو حكم بأن يستقيم الكل على

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في أ : الأمطار.

(٣) في ب : ابتداء.

(٤) في أ : عيشها.

(٥) سقط في ب.

٢٥٦

طريقة الحق ، ويؤمنوا ، لم يحكم على طريق الأبد في حق الكل ، بل حكمه أن يستقيم عليها البعض إلى مدة ، ثم يترك ، ويبدل الحق بالباطل ويدوم البعض عليها ؛ تحقيقا لما ذكرنا من الحكمة ؛ وهو كقوله تعالى : (لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ) [آل عمران : ١٥٤] ، أي : لو لم نفرض عليهم الجهاد والخروج إلى القتال ، لبرز الذين [منتهى آجالهم القتل](١) إلى حوائج أنفسهم ، فيقتلون ، بيانا منه لحكمه الذي يحكم أنه لو حكم كيف كان ؛ فكذا هذا.

وأما من قال : معناه : طريقة الكفر ، فهو أن يكون المراد من الاستقامة هاهنا : الإقامة ، ولفظة «الإقامة» يعبر بها عن الإقامة على الكفر والإسلام جميعا ، وتكون (الطَّرِيقَةِ) هاهنا إشارة إلى الطريقة التي كانوا عرفوها قبل الإسلام وهي الكفر ، وإن كانت الطريقة إذا أطلق ذكرها ، أريد بها طريقة الهدى ؛ لأن طريقة الكفر هي التي كانت معروفة فيما بينهم ، وكذلك ذكر أهل التأويل : أن الطريقة [هاهنا طريقة الكفر](٢) فقوله : (لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) ، أي : وسعنا عليهم ، وكثرنا أموالهم ؛ ليعلموا جود ربهم ؛ حيث بسط عليهم الرزق مع اختيارهم عداوته ؛ كما بسط الرزق على أوليائه ، وليعلموا أن حلمه يجاوز الحد حيث لم يؤاخذهم بذنوبهم ولم يعجل بإنزال النقمة ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) فالفتنة : المحنة التي فيها الشدة ، فإن كان هذا في أهل الكفر ، ففي بسط الرزق عليهم محنة شديدة ؛ لأن ذلك يمنعهم عن الخضوع والانقياد لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لما يروا من الفضل على من دونهم في المال والسعة ؛ ألا ترى إلى قوله : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) [سبأ : ٣٤] وكذلك قال : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها) [الأنعام : ١٢٣].

وإن كان التأويل منصرفا إلى أهل الإسلام ، ففي التوسيع عليهم محنة شديدة ؛ وكذلك جميع ما امتحنا به فيه شدة ، قال الله تعالى : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء : ٣٥] فما من حال تعترض الإنسان إلا وله فيها شدة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ) : جائز أن يكون : ومن يعرض عن طاعة ربه وعبادته ، أو يعرض عن توحيده ، أو يعرض عن القرآن ؛ إذ هو ذكر.

والإعراض هاهنا عبارة عن الإيثار والاختيار ، أي : من يختار ذكر غير الله تعالى على ذكره ، أو طاعة غيره على طاعته.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً) ، وقال في موضع آخر : (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً)

__________________

(١) في أ : كتب عليهم القتل منتهى آجالهم.

(٢) سقط في ب.

٢٥٧

[المدثر : ١٧] فجائز أن يكون الصعد ، والصعود على التحقيق ؛ كما ذكره أهل التفسير : أنهم يكلفون الصعود على جبل من نار ، فلا يقدرون إلا بعد شدة عظيمة ، ثم إذا بلغوا أعلاها يهوون فيها ، فيكون ذلك دأبهم.

وجائز أن يكون على التمثيل ؛ وذلك لأن الصعود أشد من الهبوط ؛ فيكون الصعود عبارة عن المشقة هاهنا : أنه يستقبله ما يشق عليه.

وقيل : المشقة التي عليهم هي ما يحل بهم من العذاب متتابعا عذابا بعد عذاب.

وقال القتبي : الصعود : المشقة ، يقال : صعد عليّ هذا الأمر : يشق عليّ.

وروي عن عمر ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : «ما يصعدني أمر ما يصعدني خطبة النكاح» ، أي : ما يشق عليّ ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) :

أي : ما يسجد فيه ، وما يسجد به ، فما يسجد فيه هو البقاع ، وما يسجد به هو الجوارح ؛ فكأنه يقول بأن البقاع التي يسجد فيها والأعضاء التي يسجد بها لله تعالى ؛ لأنه هو الذي خلقها وأنشأها ، والمساجد التي بنيت فإنما تبنى لعبادة الله تعالى ، وليدعى فيها فلا (١) يشركوا غيره في العبادة والدعاء.

وقال بعضهم : أراد بالمساجد المسجد الحرام ؛ روي ذلك عن الضحاك وغيره (٢) ؛ فكأنه إنما صرف التأويل إلى المسجد الحرام ؛ لأن هذه السورة مكية ولم يكن في غيرها من البقاع مساجد.

وقال بعضهم : المساجد هاهنا البيع والكنائس ؛ لأن البيع والكنائس بنيت ؛ ليعبد الله تعالى فيها ، فنهاهم أن يعبدوا فيها غير الله تعالى ، فيخرج (٣) هذا مخرج الاحتجاج أنكم قد علمتم أن المساجد بنيت لتعبدوا (٤) الله فيها فلا تعبدوا فيها غيره ، وإذا كان الله منشئها وخالقها دون غيره ، فكيف تشركون معه غيره في العبادة والدعاء وليس هو بمنشئ لها؟

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً).

جائز أن يكون على الدعاء نفسه ، فيكون معناه : ألا تدعوا مع الله أحدا ؛ لأن الإله اسم المعبود ، [و] كان القوم إذا عبدوا شيئا سموه : إلها ؛ فيقول : لا تدعوا مع الله أحدا [إلها ؛

__________________

(١) في ب : ولا.

(٢) منهم ابن عباس أخرجه ابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٦ / ٤٣٦).

(٣) في ب : فخرج.

(٤) في ب : ليعبد.

٢٥٨

فإنه هو الإله ، وهو المستحق للعبادة](١) من كل أحد.

وجائز أن يكون أريد بالدعاء العبادة ؛ قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «الدعاء مخ العبادة» (٢) ، وقال تعالى : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) [غافر : ٦٠] ؛ فجعل دعاءهم إياه عبادة منهم له ؛ فيكون قوله : (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) ، أي : لا تشركوا غيره معه في العبادة ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) :

[منهم من يقول : إنهم (كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً)](٣) على جهة الرغبة فيه [والموالاة](٤) له ؛ فقوله (٥)(كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) ، أي : كاد يلتصق بعضهم إلى بعض مثل اللبد ليتصلوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [أو (كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ) ، أي : على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم](٦) ، كادوا يلتصقون برسول الله ؛ حبا لما سمعوا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو حرصا على حفظ ما سمعوا أو تعجبا مما سمعوا ؛ فكانوا يحرصون على حفظ ما سمعوا ؛ لأنهم كانوا من منذري الجن ؛ فحرصوا على حفظه ووعيه ؛ لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم ؛ وتعجبوا مما سمعوا ؛ لأنهم سمعوه من مكان لم يكن مكان قراءة الكتب ، وسمعوا من الأمي الذي لم يقرأ كتابا (٧) قط ، ولا عرف المكتوب ؛ فتعجبوا منه أشد التعجب.

والتلبد (٨) : التصاق الشيء بالشيء التصاقا لا يفصل بعضه عن (٩) بعض ، وسمي اللبد : لبدا من هذا ؛ لأن الصوف يلتصق بعضه ببعض حتى لا يميز.

ومنهم من زعم أنهم فعلوا [هذا ؛ لشدة](١٠) معاداتهم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فيكون على هذا منصرفا إلى الكفرة ؛ الإنس منهم والجن ، فيخبر أنهم اجتمعوا وتظاهروا ؛ ليطفئوا نور الله ، فأبى الله تعالى إلا أن يتم نوره ، فإن كان منصرفا إلى الكفرة ، فقوله : (لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ

__________________

(١) في ب : لأن الإله على الحقيقة هو الله تعالى ، وهو المستحق للعبودية.

(٢) أخرجه الترمذي (٣٣٧١) ، والطبراني في الأوسط (٣٢٢٠) وقال الترمذي : هذا حديث غريب ، يعني ضعيف.

(٣) سقط في ب.

(٤) في أ : لبدا ، وموالاتهم.

(٥) في ب : فبقول.

(٦) سقط في ب.

(٧) في ب : الكتاب.

(٨) في أ : واللبد.

(٩) في ب : من.

(١٠) في ب : هذه الشدة.

٢٥٩

يَدْعُوهُ) معناه : [أي](١) : لما قام محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم [يدعو إلى الله ويوحده](٢) ، ويدعو الخلق إلى عبادته وطاعته ـ همّ المشركون من [الإنس والجن](٣) ، وتلبدوا على هذا الأمر أن يطفئوه ؛ فأبى الله تعالى إلا أن ينصره ويمضيه.

وإن كان هذا من أهل الإسلام من الجن ، والدعاء راجع إلى العبادة ؛ فكأنه يقول : لما قام بعبادة الله تعالى وهي الصلاة ، كادوا يكونون عليه لبدا ؛ لشدة حرصهم في تحفظ ما سمعوا ، وشدة حبهم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولما سمعوا.

قوله تعالى : (قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (٢٠) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (٢١) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٢) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (٢٣) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (٢٤) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (٢٥) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (٢٧) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً)(٢٨)

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً) ، فيه إخبار عن دينه : أن دينه التوحيد ، لا الإشراك بالله تعالى ، وإخبار عما يدعو الخلق إليه ، وذلك توحيد الله تعالى والقيام بطاعته.

وجائز أن يكون هذا على أثر سؤال منهم ، ودعوتهم إلى عبادة الأصنام ؛ على ما ذكر في الأخبار أنهم قالوا : إنا نعبد إلهك يوما ، وتعبد آلهتنا يوما ، وهو كقوله ـ عزوجل ـ : (وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ* تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ ..). الآية [غافر : ٤٠ ، ٤١].

وجائز أن يكون كلاما مبتدأ يؤيسهم ، ويقنطهم ، ويقطع طمعهم عن عوده إلى ما هم عليه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً) :

أي : ضرّا في الدين ، ورشدا في الدين ، والأصل في الأسماء المشتركة أن ينظر إلى مقابلها ، فيظهر مرادها بما يقابلها ؛ قال الله تعالى : (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ) [الجن : ١٤] ، والقاسط : الجائر ، وقد يكون غير الكافر جائرا ، ثم صرف الجور إلى

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في أ : يوحد الله تعالى.

(٣) في ب : الجن والإنس.

٢٦٠