تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ١٠

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٩٥

والصواب (١) أن يكون مقيما فيما دان (٢) به من التوحيد.

وذكر علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ أنه مر بعجوز وهي تدعو فتقول : «اللهم اجعلني من أهل شفاعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم» فقال لها : قولي : «اللهم اجعلني من رفقاء محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الجنة ؛ فإن شفاعته لأهل الكبائر من أمته».

قال ـ رضي الله عنه ـ : وبهذا الفصل (٣) تعارضنا المعتزلة ، فتقول : إذا قلتم : اللهم [اجعل لنا](٤) من شفاعة محمد نصيبا ، فقد قلتم : اللهم اجعلنا ممن يرتكب الكبائر ؛ إذ شفاعته في زعمكم لأهل الكبائر.

فالجواب عن هذا أن الذي ابتلي بارتكاب الكبائر دون الشرك إنما ينال الشفاعة بما سبق منه من الخيرات من التوحيد وتعظيمه ربه ـ عزوجل ـ فمحاسنه (٥) التي سبقت منه هي التي تجعله محلا للشفاعة ، ولولاها ما نالها ، فإذا قال : اللهم اجعل لي من شفاعة نبيك نصيبا ، فهو يقول : اللهم وفقني على فعل الخيرات ، واجعلني ممن يعظمك ويتقرب إليك بالطاعة حتى أنال بها الشفاعة ، لا أن يقصد بدعائه جعله من أهل الكبائر ، والذي يدل على صحة ما ذكرنا قوله : (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ. لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [الصافات : ١٤٣ ، ١٤٤] فأخبر الله تعالى أن تسبيحه ما أنقذه من بطن الحوت ، ولو لم يكن مسبحا لم يستوجب الخلاص ، وكذلك صاحب الكبيرة يستوجب الشفاعة ، ويرجى له الخلاص بما سبق منه من الحسنات دون أن يستوجبها لارتكاب الكبيرة.

ثم من قول المعتزلة : أنهم يرون الصغائر مغفورة لأربابها إذا اجتنبوا الكبائر ؛ فيقال لهم : إن من دعا الله تعالى ، وسأله المغفرة ، فكأنه يدعو ، فيقول : اللهم ابتلني بالصغائر حتى تغفرها [لي](٦) ، فإن قلتم بأن دعاءه بالمغفرة لا يقتضي ما عارضناكم به ، فقولوا كذلك فيمن يقول : «اللهم اجعل لي من شفاعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم نصيبا» : إنه لا يقتضي أن يجعله من أهل الكبائر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُ) قيل : معناه : ألا يقال في ذلك اليوم غير الحق.

وجائز أن يكون منصرفا إلى اليوم نفسه ؛ فيكون معناه : أن كونه حقا يكون لا محالة.

وقوله : (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً) ، أي : مرجعا ؛ تأويله : أن الله تعالى بين للخلق

__________________

(١) في ب : فالصواب.

(٢) في أ : نال.

(٣) في ب : الفضل.

(٤) في ب : اجعلنا.

(٥) في ب : فمحاسبته.

(٦) سقط في ب.

٤٠١

سبيل الضلال والهدى ، ولم يصد أحدا عن سبيل [الضلال و](١) الهدى ، وبين أن من سلك سبيل الضلال فمآبه إلى النار ، ومن سلك سبيل الرشد والهدى ، فمآبه إلى الجنة ، وذلك مآبه إلى الله تعالى ، واتخاذ السبيل إليه تعالى.

وقوله : (إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً) ، أي : العذاب الذي أوعدهم به قريب مأتاه ، وإن استبعدتموه في أوهامكم ؛ قال الله ـ تعالى ـ : (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) [النحل : ١].

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) ، فجائز أن يكون هذا منصرفا إلى الخلائق أجمع مؤمنهم وكافرهم.

ثم تخصيص الأيدي بالذكر هو أن التقديم والتأخير في الشاهد يقع بالأيدي ؛ فأضيف إليها ، وإن احتمل ألا يكون للأيدي صنع (٢) فيما ارتكب من الآثام ، أو فيما فعل من الخيرات ، وهو كالمطر يسمى : رحمة الله ، وإن لم يكن ذلك من أوصافه ؛ لأنه برحمة الله ما ينزل من السماء ، وسمي الكلام : لسانا وإن لم يكن هو لسانا ؛ لأنه باللسان ما يتكلم ؛ فكذلك (٣) التقديم أضيف إلى الأيدي ؛ لما بها يقع التقديم في الشاهد وإن لم يكن للأيدي صنع (٤).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) ، ذكر هذا التمني في الكافر دون المؤمن ؛ لأن المؤمن يرى حسناته متقبلة وسيئاته مغفورة ؛ فيأمن من عقاب الله تعالى ، والكافر يرى نفسه مؤاخذة بالسيئات ، ولا يرى لها حسنات متقبلة ؛ فيتمنى أن يكون ترابا ؛ ليتخلص عن عذاب الله.

وقال بعضهم (٥) : إن الوحوش تحشر والطيور كلها ، ثم (٦) يقول الله ـ تعالى ـ : «كوني ترابا» ؛ فيتمنى الكافر في ذلك الوقت أن يكون ترابا ، والله أعلم [بالصواب](٧).

* * *

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : صنيع.

(٣) في ب : فذلك.

(٤) في ب : صنيع.

(٥) قاله أبو هريرة أخرجه ابن جرير (٣٦١٦١) ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في البعث والنشور عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٠٧) وهو قول عبد الله بن عمرو ، وقتادة ، وسفيان ، وغيرهم.

(٦) في ب : و.

(٧) سقط في ب.

٤٠٢

[سورة النازعات ، وهي مكية](١)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (١) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (٢) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (٣) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (٤) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (٥) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٧) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (٨) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (٩) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (١٠) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (١١) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (١٢) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (١٣) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ)(١٤)

قوله ـ عزوجل ـ : (وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً. وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً) ، اختلف في تأويله :

فمنهم من حمل ذلك كله على الملائكة ، فقال : (وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً) هم الملائكة الذين ينزعون أرواح الكفرة ، ويغرقون إغراقا ؛ أي : يشددون في النزع كما يغرق النازع في القوس ، أو يشتد عليه شدة الأمر على الغريق ، أو تنزع أرواح الكفرة فتغرق في النار.

قوله ـ عزوجل ـ : (وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً) ، قيل (٢) : أي : ينشط أرواح الكفرة نشطا عنيفا ، أي : تنزع ملائكة العذاب أرواح الكفرة من أجوافهم نزعا شديدا.

وقيل (٣) : هذا في حق المؤمنين أن الملائكة تنشط أرواح المؤمنين (٤) ؛ أي : تحلها حلا رقيقا ، كما ينشط من العقال ؛ فيخبر بهذا عن خفة ذلك على المؤمنين ، ويخبر بالأول عن شدته على الكافر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً) قيل : إن الملائكة يسلون أرواح الصالحين (٥) سلا رقيقا.

وقيل (٦) : الملائكة يسبحون (٧) بين السماء والأرض.

قوله ـ عزوجل ـ : (فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً) ، أي : تسبق الملائكة إلى أرواح المؤمنين.

وقيل : (فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً) الملائكة الذين يسبقون بالوحي إلى الأنبياء ، عليهم‌السلام.

وقيل : هم الكروبيّون ، الذين لا يفترون عن تسبيح رب العالمين.

__________________

(١) في ب : سورة والنازعات.

(٢) قاله علي ، أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٠٨).

(٣) انظر تفسير ابن جرير (١٢ / ٤٢١).

(٤) في ب : المسلمين.

(٥) في أ : المسلمين.

(٦) قاله علي ، أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٠٨).

(٧) في ب : تسبح.

٤٠٣

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) : هم الملائكة الموكلون بأمور الخلائق وأرزاقهم.

ومنهم (١) : من صرف تأويل الآيات إلى النجوم : أنهن النجوم اللاتي يطلعن من مطالعهن لحوائج الخلق ، ولأمور جعلت لها ، ويغربن في مغاربهن ، ثم ينشطن إلى مطالعهن ، فيطلعن منها ؛ أي : لا يطلعن كرها ؛ بل ناشطات لأمر الله ـ تعالى ـ إلى ما سخرن له.

(وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً) : النجوم أيضا ، وسبحهن : دورانهن في الأفق لأمور ، خفي ذلك على الخلق ؛ لقوله : (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [الأنبياء : ٣٣].

وقوله : (فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً) أي : يسبق بعضها بعضا ، أو تسبقن الشياطين بالرجم والطرد ، لا تدعهن يقربون إلى السماء ، وبه قال الحسن ، والله أعلم.

ومنهم (٢) : من صرف تأويل الآيات إلى مختلف الأشياء ، فقال : (وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً) هي القسي ينزعها الإنسان ، فيغرق في نزعها ، (وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً) هي الأوهاق تنشط بها الدابة تكون منه في جهة.

(وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً) : هن السفن.

(فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً) : هن الخيل.

(فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) : هي الملائكة ، وبه قال عطاء.

ومنهم (٣) : من صرفها إلى أنفس المؤمنين وأرواحهم ، فقال : (وَالنَّازِعاتِ) : هي الأنفس التي تغرق في الصدر ، (وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً) حين تنشط من القدمين.

وقيل : إن أنفس المؤمنين ينشطن إلى الخروج عن الأبدان إذا عاينوا ما أعد لهم في (٤) الجنة.

(وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً) : هي أرواح المؤمنين ، سميت : سابحات ؛ لسهولة الأمر عليها ، كما يسهل الخروج من الماء لمن يعلم السباحة.

وقوله : (فَالسَّابِقاتِ) ـ أيضا ـ : هي أرواح المؤمنين ، سميت : سابقات ؛ لما تكاد تسبق

__________________

(١) قاله قتادة أخرجه ابن جرير عنه (٣٦١٧٥ ، ٣٦١٨٤ ، ٣٦١٨٩) وهو قول الحسن أيضا.

(٢) قاله عطاء أخرجه ابن جرير (٣٦١٧٦) ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٠٩).

(٣) قاله السدي أخرجه ابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٠٩).

(٤) في أ : من.

٤٠٤

فتخرج قبل وقتها ؛ لما تعاين من كرامات الله تعالى وما ينتشر (١) من الخير ؛ يؤيد هذا ما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «الدنيا سجن المؤمن ، وجنة الكافر» (٢).

وقيل : ذلك عند موتة المؤمن إذا حضره الموت صار في ذلك الوقت كالمسجون الذي يتمنى الراحة والخلاص منه ؛ لأنه يرى ما أعد له من الثواب ؛ فتتهوع نفسه تود لو خرجت حتى تصل إلى ما أعد لها من الكرامة ، والكافر إذا رأى عند ما حضر جعل يبتلع نفسه ؛ كراهة أن يخرج ، فتصير الدنيا في ذلك الوقت كالجنة له فيما لا يحب مفارقتها من شدة ما يرى من عذاب الله تعالى.

وعلى هذا قيل في تأويل قوله ـ عليه‌السلام ـ : «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه» (٣) : إن ذلك عند الموت [أن المؤمن إذا حضره الموت](٤) ورأى ثوابه من الجنة ، ود أن تخرج نفسه ؛ فيحب لقاء الله تعالى ، ويحب الله لقاءه ، والكافر يكره في ذلك الوقت أن تخرج نفسه ، فذلك حين كره لقاء الله ، وكره الله لقاءه ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) ، قالوا جميعا : المراد منها الملائكة الموكلون بأمور الخلق وأرزاقهم ، ونحو ذلك ، والله أعلم.

ثم اختلف في الذي قصد إليه باليمين والقسم :

فمنهم من ذكر أن الذي وقع عليه (٥) القسم قوله ـ عزوجل ـ : (أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ) على معنى : إنكم مبعوثون ، وأن القيامة حق ، فكأنه أقسم بهذه الأشياء أنهم لمبعوثون ، وأضمر الجواب هاهنا ؛ لما دل عليه المعنى ؛ فاكتفى به.

ومنهم من ذكر أن القصد من اليمين قوله : (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ. تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) ، فأقسم بما ذكر أن النفختين كائنتان : فالنفخة الأولى يموت بها الخلق ، والنفخة الثانية ؛ لإحياء الأموات ، والراجفة (٦) هي النفخة ، فجائز أن يكون على حقيقة النفخة ؛ فتكون النفخة علامة الموت والحياة ، لا أن تكون علة (٧) الإماتة والإحياء.

__________________

(١) في ب : يتسير.

(٢) أخرجه مسلم (٤ / ٢٢٧٢) كتاب الزهد (١ / ٢٩٥٦).

(٣) تقدم.

(٤) في ب : إن الموت إذا حضر.

(٥) في ب : عليهم.

(٦) في ب : والرجفة.

(٧) في أ : علامة.

٤٠٥

ثم اختلفوا بعد هذا :

فمنهم (١) : من يحمله على التحقيق ؛ فيزعم أن النفخة الأولى يهلك بها الخلق ، والنفخة الثانية يحيا بها الخلق.

ومنهم من ذكر أن النفخات ثلاث (٢) : فالنفخة الأولى ؛ للتفزيع والتهويل ؛ قال الله ـ تعالى ـ : (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ. يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ ..). الآية [الحج : ١ ، ٢] ، والنفخة الثانية يهلك بها الخلق بقوله : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ..). الآية [النمل : ٨٧] ، والنفخة الثالثة يحيا بها الخلق بقوله : (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) [الزمر : ٦٨].

ومنهم من ذكر أن هذا ليس على تحقيق النفخ ؛ بل على التمثيل ، فمثل به إما لخفة البعث والإحياء على الله ـ تعالى ـ وسهولته كخفة النفخ على النافخ.

أو مثل به ؛ لسرعته ؛ كما قال تعالى : (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) [النحل : ٧٧].

وقالوا : الرجفة : هي الزلزلة ، والتحرك ، (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) وهي الزلزلة الأخرى.

ثم إن كان القسم على إثبات البعث ، ففيها ذكر إشارة إلى أحوال البعث وأفعالها ، وإن كان موجفة ، على قوله : (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ. تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ. قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ) فكأنهم سألوا : كيف تكون القلوب في ذلك اليوم؟ فقال : تكون واجفة ، والواجفة : الخائفة الوجلة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَبْصارُها خاشِعَةٌ) ، أي : ذليلة.

ووجه تخصيص الأبصار والقلوب ـ والله أعلم ـ : هو أنه لا يتهيأ لأحد استعمال قلبه وبصره ، بل يحدث للقلوب فكر وبدوات لا يمكنه أن يدفع (٣) عنها الفكر ، وكذلك هذا في البصر ؛ فيخبر أن ما نزل بهم من الخوف والهيبة يمنع (٤) القلوب والأبصار عن عملها ؛ فلا تنظر إلا إلى الداعي ، ولا يحدث للقلوب فكر ، بل تكون الأفئدة هواء ، لا تقر ؛ لشدة ما حل بها [من الخوف](٥) ؛ إذ (٦) المرء إذا أحزنه أمر فهو يعمل أنواعا من الحيل ويوقع

__________________

(١) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٣٦١٩٩ ، ٣٦٢٠٠) ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طريق علي عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥١٠).

(٢) روي في معناه حديث عن أبي هريرة أخرجه ابن جرير عنه (٣٦٢٠٣).

(٣) في ب : يرفع.

(٤) في ب : منع.

(٥) في ب : والثاني.

(٦) في أ : أن.

٤٠٦

بصره على شيء فشيء ؛ رجاء أن يستدرك ما فيه خلاصه وسلامته من ذلك الأمر ، ثم (١) ينقطع عنهم التدبير في ذلك اليوم ؛ فتكون القلوب هواء لا تقر في موضع ، ولا تقف على تدبير ؛ لشدة ما حل بهم ، وتكون الأبصار خاشعة ذليلة إلى ما يدعو الداعي.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ) ، أي : يقولون : أإنا لنرد إلى ما كنا عليه في الدنيا في ابتداء الأمر خلقا جديدا ؛ يقال : أتى فلان فلانا ، فرجع على حافرته ؛ يقول : على مجيئه الأول.

ويقال : النقد عند الحافرة ؛ أي : عند أول البيع والكلام ، فقالوا هذا على جهة الإنكار بالبعث والاستهزاء به.

قال أبو بكر : هذا مأخوذ من حافر الدابة ، وهو أن الفارس يمكنه أن يصرفها بحافرتها إلى الموضع (٢) الذي ابتدأ السير منه من وراء.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً) وناخرة ؛ فالناخرة : هي البالية التي لم تفتت بعد ، والنخرة هي التي صارت رفاتا ودرست حتى تنسفها الريح.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) ، قال الحسن وأبو بكر : هذا منهم تكذيب للبعث ؛ أي : لا يكون أبدا.

وقال غيرهما : معناه : أن لو كانت كرة كما يزعمها المسلمون فهي كرة خاسرة على المسلمين ؛ لأنهم ظنوا أنهم إذا كانوا في الدنيا أنعم حالا وأرغد عيشا ، وكان المسلمون في ضيق من العيش وشدة من الحال ـ أن يكونوا كذلك في الآخرة ؛ ألا ترى إلى قوله ـ تعالى ـ : (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) [الكهف : ٣٦] فكانوا يظنون أنهم بما أنعم الله ـ تعالى ـ عليهم إنما أنعم ؛ لأنهم أقرب منزلة ، وأعظم درجة من المؤمنين ؛ إذ لا يجوز أن يضيق على أوليائه ، ويوسع على أعدائه ، فإذا وسع عليهم ظنوا أنهم هم المفضلون في الدنيا والآخرة ، وأن من خالفهم هم الأخسرون.

ومنهم من قطع هذا الكلام عن مقالة الكفرة ، وزعم أن هذا الوصف راجع إلى الكفرة ، فقيل : خاسرة ؛ لما خسروا أنفسهم وأموالهم وأهليهم ، وخاسرة ، أي : مخسرة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) ، ففيه إخبار عن سرعة كون ذلك الوقت وسهولته على الله تعالى.

__________________

(١) في ب : لم.

(٢) في ب : المواضع.

٤٠٧

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) ، قيل (١) : الساهرة : هي وجه الأرض.

وجائز أن يكون أريد بهذا أن العيون تسهر في ذلك اليوم ، ولا يعتريها النوم ؛ بل تكون مهطعة إلى الداعي ذليلة.

قوله تعالى : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (١٥) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٦) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (١٧) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (١٩) فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (٢٠) فَكَذَّبَ وَعَصى (٢١) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (٢٢) فَحَشَرَ فَنادى (٢٣) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (٢٤) فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (٢٥) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (٢٦) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (٢٩) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (٣٠) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (٣١) وَالْجِبالَ أَرْساها (٣٢) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) (٣٣)

وقوله ـ عزوجل ـ : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) : منهم من يقول : قد أتاك فخوفهم به.

وقال الحسن : لم يكن أتاه ، فأتاه بهذا ؛ كما يقول الرجل لآخر : هل أتاك ما فعل فلان؟ وهو يريد أن يذكره بهذا فيعلمه مع علمه أنه لم يكن علمه من قبل.

وقد ذكرنا ما في ذكر الأنباء من الفوائد من تثبيت الرسالة والتخويف لمن أساء صحبة الرسل ـ عليهم‌السلام ـ لئلا ينزل بهم ما نزل بفرعون وأتباعه حين أساءوا صحبة الرسول موسى ، عليه‌السلام.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) قيل (٢) : طوى : اسم ذلك الوادي.

وقيل (٣) : سمي : طوى ؛ لأنه بورك مرتين ، مرة حين أتاه إبراهيم عليه‌السلام ، ومرة بإتيان موسى عليه‌السلام.

وذكر عن الزجاج أن (طُوىً) بكسر الطاء الذي بورك مرتين ، ثم أضاف ذلك الحديث مرة إلى موسى ومرة إلى نفسه إذ ناداه ؛ فظاهره : أن الله ـ تعالى ـ هو الذي كلمه ، فأضيف إلى الله تعالى ؛ لأن أصله من الله ـ تعالى ـ كما ذكرنا في قوله ـ تعالى ـ : (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) [التوبة : ٦] ، وفي قوله : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) [الحاقة : ٤٠].

وقوله ـ عزوجل ـ : (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) أي : عتا وطغى في نعمه ، فاستعملها في كفران نعمه ؛ فلم يشكر الله ـ تعالى ـ بها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى) ، أي : هل لك في إجابة من إذا أجبت

__________________

(١) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير عنه (٣٦٢٣٣) ، وهو قول عكرمة والحسن ومجاهد وغيرهم.

(٢) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير عنه (٣٦٢٤٩) وهو قول قتادة ، وابن زيد.

(٣) قاله قتادة أخرجه ابن جرير عنه (٣٦٢٥١).

٤٠٨

تزكيت ، أو هل لك رغبة إلى ما تزكو به نفسك وتنمو.

ثم في هذه الآية دلالة أن من أراد أن يدعو آخر إلى ما فيه رشده وصلاحه ، فالواجب عليه أن يدعوه أولا بالرفق واللين ؛ كما أمر موسى وهارون ـ عليهما‌السلام ـ بقوله : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) [طه : ٤٤] ، وبقوله : (هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى) ثم إذا ترك الإجابة ختم كلامه بالتعنيف ؛ كما فعل موسى ـ عليه‌السلام ـ بقوله : (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) [الإسراء : ١٠٢] بعد قوله : (لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الإسراء : ١٠٢].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى) ، أي : أهديك إلى ربك فتهتدي ، ثم تخشاه إذا اهتديت ؛ أي : عرفت عظمته وجلاله ؛ فتخشى عقوبته ؛ فيكون العلم مثمرا للخشية ؛ ألا ترى إلى قوله : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [فاطر : ٢٨]. أو (١) أهديك إلى طاعة ربك ، وأنذرك عقابه إذا عصيته ؛ فتخشى ؛ فلا تعصيه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى) : منهم من ذكر أن الآية الكبرى هي اليد ؛ سميت : كبرى ؛ لأن سحرهم عمل في الحبال (٢) والعصي ، ولم يعمل في اليد ؛ فكانت هذه الآية خارجة عن نوع سحرهم ، فسميت : كبرى ؛ لهذا المعنى.

ومنهم من ذكر أن الآية الكبرى هي العصا ؛ لأن غلبة موسى ـ عليه‌السلام ـ على السحرة كانت بالعصا ، حيث تلقفت ما أتوا به من السحر ، ولكن كل آياته كانت كبرى ، كما قال في آية أخرى : (وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها) [الزخرف : ٤٨] ، فكانت إحداهما أكبر من الأخرى عند ذوي الأحلام والنهى لمن تأمل فيها وتدبر ، والله الموفق.

وقوله : (فَكَذَّبَ وَعَصى) ، أي : كذب بآيات الله ، وعصى نبيه موسى ؛ فلم يطعه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى) ، قال الحسن : كان خفيفا طيّاشا ، وإلا فالملوك إذا دعوا إلى أمر تدبروا فيه وتفكروا : إما ليجيبوا الداعي إلى ما دعاهم ، أو ليردوا عليه ، فأما الإدبار والسعي فليس إلا من الخفة والطيش.

وقال غيره (٣) : أدبر عن طاعة الله ـ تعالى ـ وتولى عنه ، وسعى في جمع السحرة.

أو سعى في جمع من قال لموسى ـ عليه‌السلام ـ : (فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا

__________________

(١) في ب : و.

(٢) في ب : الجبال.

(٣) قاله الربيع بنحوه أخرجه ابن المنذر عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥١٣).

٤٠٩

نُخْلِفُهُ) [طه : ٥٨].

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَحَشَرَ فَنادى. فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) : ذلك اللعين قد علم أنه ليس برب السماء والأرض ، ولكن قد اتخذ لقومه أصناما فأمر العوام منهم أن يعبدوها ؛ ليقربهم ذلك إليه (١) ، لكن إذا صاروا من خاصته أذن لهم بأن يعبدوه ، وأمر الخواص منهم بعبادته ، فسمى نفسه : أعلى الأرباب ؛ لهذا.

وقوله : (فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى) : منهم من يقول (٢) : أخذه بعقوبة الكلمتين جميعا : الكلمة الأولى : قوله : (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) [القصص : ٣٨] ، والكلمة الثانية : قوله : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى).

ومنهم من يقول : أخذه بعقوبة ما تقدم من الإجرام وما تأخر إلى أن غرق.

ومنهم من يقول (٣) : أخذه بالعقوبة في الدنيا والآخرة ، فغرقه في الدنيا ، وعذب روحه بعد مماته بقوله : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) [غافر : ٤٦] ، ويدخل في النار مع أتباعه بقوله : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) [غافر : ٤٦] ؛ فاتصلت (٤) عقوبة الدنيا بعقوبة الآخرة.

وقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى) :

وفي ذلك كله عبرة ، لكن الذي يعتبر بها من يخشى العواقب ، ويخاف عقوبة الله تعالى.

وقوله : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ) :

جائز أن يكون هذا صلة قوله : (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) [النازعات : ٦] ؛ فيكون في قوله : (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ).

وفي قوله : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً) تقرير له أيضا.

ثم قوله : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ) يحتمل أوجها :

أحدها : أن إعادتهم خلقا جديدا وبعثهم أيسر في عقول منكري البعث من خلق السموات ، وقد أقروا أنه خالق السماء ، فإذا لم يتعذر عليه خلق السماء ، وإن كان خلقها أشد في عقولهم من خلق أمثالهم ، فما بالهم ينكرون بعثهم وإعادتهم إلى ما كانوا عليه ،

__________________

(١) في أ : عليه.

(٢) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٣٦٢٦٣ ، ٣٦٢٦٤) وهو قول مجاهد ، والشعبي ، والضحاك ، وغيرهم.

(٣) قاله الحسن أخرجه ابن جرير (٣٦٢٧٤ ، ٣٦٢٧٥) ، وعبد بن حميد وابن المنذر عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥١٣) ، وهو قول قتادة أيضا.

(٤) في ب : فانقلب.

٤١٠

وذلك أهون في عقولهم.

ويحتمل وجها آخر : وهو أن السماء مع شدة خلقها أشفقت على نفسها ، فأبت قبول ما عرض عليها من الأمانة ، وخافت نقمة الله ـ تعالى ـ [فما بال](١) هذا الإنسان مع ضعفه يمتنع عن الإجابة إلى ما دعي إليه ؛ أفلا يشفق على نفسه ، ولا يخاف نقمة الله تعالى ، وما خلقت النار والجنة إلا لأجل الإنس ، فيذكرهم بهذا ؛ ليخوفهم ويرتدعوا عما هم فيه من الطغيان ويجيبوا إلى ما دعاهم إليه الرسول.

وجائز أن يكون هذا صلة قوله : (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) [الانفطار : ١] ، و (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) [الانشقاق : ١] ، فيخبر أن السماء مع شدتها وطواعيتها لا تقوم بذلك اليوم ؛ فكيف [يقوم الإنسان](٢) لهول ذلك اليوم مع ضعفه؟! فيرجع هذا ـ أيضا ـ إلى التخويف.

وقوله ـ عزوجل ـ : (بَناها. رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها) : (بَناها) : أي : خلقها ، (رَفَعَ سَمْكَها) : سقفها ، (فَسَوَّاها) بالأرض ، أو سواها على ما توجبه الحكمة ويدل على الوحدانية.

قال إمام الهدى أبو منصور ـ رضي الله عنه ـ : ثم لم يفهم أحد من قوله : (بَناها) ما يفهم (٣) من البناء المضاف إلى الخلق ، ولا فهم من الرفع ما يفهم من الرفع المضاف إليهم ، ولا فهم من قوله : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) ما يفهم من البسط المعروف المنسوب إلى الخلق ، فما بال [بعض](٤) الناس فهموا من المجيء الذي أضيف إلى الله تعالى ما فهموا من المجيء الذي يضاف إلى الخلق ، فلولا آفة حلت بهم حملتهم (٥) على أن يفهموا منه المعنى المكروه ، وإلا لم تنصرف أوهامهم إلى مثل ذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَغْطَشَ لَيْلَها) ، قيل (٦) : أظلم (٧) ليلها ، (وَأَخْرَجَ ضُحاها) : ففي ؛ إظلام الليل ، وإخراج الضحى ما ينفي عن منكري البعث الشبه التي تعترض لهم ، وذلك أنه يغطش في ساعة لطيفة ويغشى ظلمتها كل شيء ، ثم يتلفها في أدنى وهلة ، ويفنيها

__________________

(١) في ب : فما نال.

(٢) في أ : تقوم.

(٣) في ب : يقيمه.

(٤) سقط في ب.

(٥) في ب : حملهم.

(٦) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٣٦٢٨٤ ، ٣٦٢٨٥) ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥١٤) وهو قول مجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، وغيرهم.

(٧) في ب : وأظلم.

٤١١

كأنها لم تكن ، ثم يعيدها بعد ما أتلفها (١) حتى لو أراد [أحد أن يميز](٢) بين الأولى والثانية لم يقدر عليه ، بل وقع عنده أن الأولى هي الثانية ، والثانية هي الأولى ، وهذا بعد ما تلفت الظلمة الأولى ، وذهبت كلها حتى لم يبق منها أثر ؛ فلأن يكون قادرا على إعادتهم خلقا جديدا بعد ما أفناهم ، وقد بقي من آثار الخلق الأول بعضه ـ أولى.

ثم أضاف ذلك إلى السماء ؛ لأن بدأ هما يظهر من عندها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) قالوا : بسطها :

فمنهم من يقول : خلقها مجتمعة ، ثم بسطها بعد ما خلق السموات ؛ ألا ترى أنه قال : (دَحاها) ، ولم يقل : خلقها.

ومنهم من ذكر أنه خلق سماء الدنيا أولا ، ثم خلق الأرضين بعد ذلك ، ثم خلق السموات الست من بعد.

ومنهم من ذكر أنها كانت قبل أن تبسط تحت بيت المقدس ، ثم بسطها بعد ذلك.

قال أبو بكر : هذا لا يحتمل ؛ لأنه لا يجوز أن تكون بجملتها وسعتها تحت بيت المقدس ، والله أعلم.

ولكن معناه عندنا ـ إن كان على ما قالوا ـ [فهو] منصرف إلى الجوهر ؛ أي : الجوهر الذي خلق منه الأرض كان هنالك ، لا أن كانت بجملتها تحته ؛ كما خلق هذا الإنسان من النطفة وإن لم يكن بكليته في النطفة ، وخلق من التراب وإن لم يكن بكليته على ما هو عليه في التراب ، وكان معناه : أنه خلق من ذلك الجوهر ؛ فعلى ذلك الحكم فيما ذكره.

ومنهم من زعم أن خلقهما كان (٣) معا.

وذكر عن الحسن أن الأرضين خلقت قبل السماء بقوله : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ ..). [البقرة : ٢٩] ، وقال في موضع آخر : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) [فصلت : ١١] ، وقال : اسم السماء ما ارتفع من الشيء كما يقال للسقف : سماء ؛ لارتفاعه عن الإنسان.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها) : ذكر ما أنشأه لنا ؛ لنحمده ، وما أخرج منها للأنعام لتذكير النعم ـ أيضا ـ لنشكره ونحمده عليه ؛ إذ الدواب خلقت لنا ، فما رجع إلى منافعها فهي راجعة إلينا ، إذ بها ما نصل إلى الانتفاع بالدواب.

__________________

(١) في أ : بلغها.

(٢) في ب : إحداث تمييز.

(٣) في ب : كانا.

٤١٢

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالْجِبالَ أَرْساها) ، أثبتها ؛ لئلا تميد بأهلها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) : فيه أن ما جعله متاعا لنا قد جعل شيئا من ذلك للدواب أيضا ، والذي جعله للأنعام ، لم يجعل لنا فيه شركاء ؛ وذلك لأن الذي أنشأه لمتاع البشر منه ما يستخبث ويستقذر ، ومنه ما يستطاب ويدخر ، فجعل ما طاب منه للبشر ، وما خبث منه لمنافع الدواب ، والذي أنشأه لمنافع الدواب مما تستخبثه الطباع وتستقذره ، ففضّل أغذية (١) من فضّل منازلهم ، ففيما ذكرنا دلالة إباحة التناول من الطيبات ؛ إذ الله تعالى منّ على عباده أن جعل أغذيتهم بما طاب من الأشياء ، وفضلهم على الأنعام ، [فمن كره ذلك](٢) فقد كره الانتفاع بما أنشئ للانتفاع ، والله أعلم.

قوله تعالى : (فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (٣٤) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (٣٥) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (٣٦) فَأَمَّا مَنْ طَغى (٣٧) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (٣٨) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (٣٩) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (٤١) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (٤٢) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (٤٣) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (٤٤) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (٤٥) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها)(٤٦)

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى) قال : الطامة : هي الصيحة ، سميت : طامة ؛ لأنها تطم الأشياء وتعمها ، وسميت : كبرى ؛ لأنها إن طمت بالعذاب فهو يدوم ولا ينقطع ، وإن أحاطت بالثواب والكرامة فهو يدوم ولا ينقطع ؛ فسميت : كبرى ؛ لدوامها.

وقوله ـ تعالى ـ : (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى) : ما عمل ، وتذكره يكون بوجهين :

أحدهما : بقراءته كتابه ؛ [كقوله تعالى](٣) : (اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) [الإسراء : ١٤] والتذكر الثاني يكون بالجزاء.

فالتذكر الأول يكون باللطف من الله تعالى ، وإلا فالمرء قد يكتب أشياء ، ثم ينساها إذا طالت المدة ، ولا يتذكر بالقراءة ، ففيما لم يتول كتابته (٤) أحق ألا يتذكر ، لكن الله ـ تعالى ـ بلطفه يذكره بالقراءة ؛ فيعرف به صدق ما كتبته الملائكة ، ويعرف أنه إذا عوقب ، عوقب جزاء ما كسبته يداه ، ويكون الجزاء أبلغ في التذكير ؛ فيتذكر في ذلك الوقت ، أيضا.

__________________

(١) في أ : منه أغذيته.

(٢) في ب : بذلك.

(٣) في ب : قال الله تعالى.

(٤) في أ : كتابة.

٤١٣

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى) وقرئ (لمن ترى) فتضيف الرؤية إلى الجحيم ؛ كقوله : (إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) [الفرقان : ١٢].

وقوله ـ عزوجل ـ : (لِمَنْ يَرى) جائز أن تكون الرؤية كناية عن الحضور والدخول ؛ فيكون قوله : (لِمَنْ يَرى) أي : لمن يدخلها ويحضرها ، وهو كقوله : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف : ٥٦] ، ومعناه : أن رحمة الله للمحسنين ، وقال تعالى : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) [الأعراف : ١٩] ، وأريد بالقرب : التناول ؛ فكنى عنه بالقرب ؛ فجائز أن تكون الرؤية هاهنا كناية عن الدخول والحضور ؛ فيكون فيه إخبار عن إحاطة العذاب بجميع أبدانهم.

وجائز أن يكون أهل الرؤية هم أهل الجنة ، فيرونها مشاهدة ؛ فيتلذذون بذلك لما نجوا وفازوا بالنعيم ، كما تألموا بذكرها عند ما كانت غائبة لا يرونها ؛ قال الله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) [المؤمنون : ٦٠] ، وقالوا : (إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ. فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا ..). الآية [الطور : ٢٦ ، ٢٧].

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَمَّا مَنْ طَغى) ، أي : عصى ، وتمرد.

أو طغى بأنعم الله ـ تعالى ـ فاستعملها في معاصيه ، أو جاوز حدود الله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا) جائز أن يكون إيثاره أن يبتغي بمحاسنه الحياة الدنيا حتى أنساه ذلك عن الآخرة ، وإذا ابتغى بها الحياة الدنيا ، لم يبق له في الآخرة نصيب ؛ لأنه قد وفي له عمله ؛ ألا ترى إلى قوله ـ تعالى ـ : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها) [هود : ١٥].

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى) ، أي : يأوي إليها.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) :

جائز أن يكون أريد بالمقام حساب ربه أو مقامه عند ربه ، فأضيف إلى الله تعالى ؛ لأن البعث مضاف إليه ، فكل أحواله أضيف إليه أيضا.

وجائز أن يكون الخوف راجعا إلى الحالة التي هو فيها ؛ فيخاف أن يكون مقامه في موضع نهى الله تعالى عن المقام فيه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى) ، ليس هذا نهي قول ، وإنما نهيه إياها أن يكفها عن شهواتها ولذاتها ، وكفها أن يشعرها عذاب الآخرة ، ويخوفها آلامها وعقابها ، فإذا فعل ذلك سهل عليها ترك الشهوات الحاضرة ، وسهل عليها العمل للآخرة ، والناس في نهي النفس عن هواها على ضربين :

٤١٤

فمنهم من يقهرها فلا يعطيها شهواتها ، فهو أبدا في جهد وعناء.

ومنهم من يذكرها العواقب ويريها ما أعد لأهل الطاعة ، ويعلمها ما يحل بالظلمة ؛ فيصير ذلك لها كالعيان ؛ فتختار لذّات الآخرة على لذات الدنيا ؛ إذ ذلك أدوم وألذ ، ويسهل (١) عليه العمل للآخرة (٢) ، والهوى هو ميل النفس إلى شهواتها ولذتها ؛ ففيه أن الأنفس جبلت على حب الشهوات والميل إليها ، ولا تنتهي عن ذلك إلا بما ذكرنا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ) :

هي القيامة ، سميت : ساعة ؛ لما يخف (٣) أمرها على من إليه تدبيرها.

أو سميت : ساعة ؛ لسرعة كونها إذا أتى وقتها.

أو سميت : لقربها إلى الحالة التي كانوا عليها ؛ كقوله تعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل : ١].

ثم إن كان هذا السؤال من المؤمنين فهو سؤال استهداء ، كأنه لما قيل لهم : (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) [الانفطار : ١] ، و (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) [الانشقاق : ١] ، قالوا : متى تكون الساعة؟ فنزلت هذه الآية.

وجائز أن يكون السؤال من الكفرة ؛ لما ذكرنا أنه ليس في تبيين وقتها كثير منفعة حتى تقع الحاجة للمسلمين إلى تبيينه بالسؤال ؛ فيسألونه سؤال استهزاء واستخفاف برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويسألونه استعجالها بقوله : (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها) [الشورى : ١٨] ؛ فكانوا يسألونه عن شيء يعلمون أنهم متعنتون في السؤال ؛ قصدا منهم للتمويه والتلبيس على الضعفة والأتباع ؛ لأنهم كانوا يعلمون أن ذلك الوقت ليس هو وقت مجيء الساعة ، فإذا طلبوا الاستعجال علموا أنه لا يتهيأ له أن يريهم في ذلك الوقت ؛ إذ ذلك يخرج مخرج خلاف الوعيد (٤) ؛ فيحتجون (٥) على الضعفة أنه لو كان صادقا في مقالته : إن الساعة تكون ، لكانوا متى طلبوا مجيئها ، يأتيهم بها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها) ، أي : لست أنت من علمها في شيء.

هذا إن ثبت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يطلع عليها [أو لست أنت من أخبارها في شيء ؛ إذا لم يثبت ، ولم يعلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يطلع عليها](٦).

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها) ، أي : منتهى علمها ؛ فيكون هذا نهيا للسائلين

__________________

(١) في أ : وسهل.

(٢) في ب : لآخرته.

(٣) في أ : إما ليخف.

(٤) في ب : الوعد.

(٥) في أ : فيحتسبون.

(٦) سقط في أ.

٤١٥

عن العود إلى السؤال.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) فهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان منذرا للعالمين جملة بقوله : (لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) [الفرقان : ١] ، لكنه ينتفع بإنذاره من يخشى الإنذار.

وقوله ـ عزوجل ـ : (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) قال أهل التأويل في هذه الآية (١) : إنهم إذا رأوا الساعة ، استقصروا هذه الأيام ، وقلت الدنيا في قلوبهم حين (٢) عاينوا الآخرة.

وجائز أن يكون تأويله : أنهم لو أرادوا الساعة للحالة التي هم فيها ، لم يلبثوا فيها إلا عشية أو ضحاها ، فلا يقع ذلك موقع التهويل والتخويف ، والله أعلم [بالصواب ، وإليه المرجع والمآب](٣).

* * *

__________________

(١) قاله قتادة بنحوه أخرجه ابن جرير (٣٦٣١٧) ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥١٦).

(٢) في أ : حتى.

(٣) سقط في ب.

٤١٦

سورة عبس ، [وهي مكية](١)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨) وَهُوَ يَخْشى (٩) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ)(١٦)

قوله ـ عزوجل ـ : (عَبَسَ وَتَوَلَّى. أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى) ذكر الحسن أن تعبس الوجه والتولي كانا بنفس المجيء على ظاهر الآية ؛ فإنه ذكر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان عنده من عظماء المشركين [قوم] يعظهم ويدعوهم إلى الإسلام ، فلما جاءه ابن أم مكتوم يسأله ، أعرض عنه ؛ لمكان أولئك القوم ، وعبس وجهه ؛ رجاء إسلامهم.

وذكر غيره من أهل التفسير : أنه عبس وتولى ؛ لما سأله ابن أم مكتوم عما فيه رشده وهداه ؛ فعبس وجهه بقطعه الحديث عليه.

ثم هذا التعبس منه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان في أمر لو التأم ، ثم وزن ذلك بخيرات أهل الأرض ، لرجح على خيراتهم ومحاسنهم ؛ لأنه ذكر أنه كان مقبلا على رؤساء الكفرة يعظهم ويحرضهم على الإسلام ؛ رجاء أن يسلموا ؛ فيكون في إسلامهم رجاء إسلام كثير من القوم ؛ لأنهم كانوا من علية القوم وعظمائهم ؛ فكان في إسلامهم رجاء إسلام من يتبعهم من قومهم ؛ فيستوجب بإسلامهم من جزيل الثواب وعظم المنزلة ما لا يبلغه آخر بجميع محاسنه ؛ فكان في سؤاله إياه منع ما قصد إليه من إحراز جزيل الثواب وكريم الخصال ، وإذا كان هكذا فتعبس (٢) الوجه في مثل هذا الحال أمر سهل لا يستبعد ، ولا يستنكر.

والثاني : أن تعبس (٣) الوجه على الأعمى ، والإعراض عنه لا يظهر للأعمى ؛ لأنه لا يراه ؛ فلا يعده جفاء ، وكان في إقباله على أولئك القوم وحسن صحبته إياهم رجاء الإسلام منهم ؛ إذ إقباله وحسن صحبته يظهر لهم ، وفي الإعراض عنهم ذهاب ذلك الرجاء وإبداء الجفاء منه إياهم ، ومن آثر الوجه الذي فيه اتقاء الجفاء والدعاء من الشرك (٤) إلى الهدى

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : فتعبيس.

(٣) في ب : تعبيس.

(٤) ثبت في حاشية ب : لعله الضلاب.

٤١٧

وصلاح الدين والدنيا ، فهو محمود عند ذوي الأحلام والنهى.

ولأن إقباله على القوم إذ كان ؛ لمكان دعائهم إلى الإسلام ، وقد أمرنا بدعاء الكفرة إلى الإسلام ، وإن كان في دعائهم إتلاف أنفسنا وأموالنا ، فلأن يسوغ الدعاء من وجه ليس فيه إلا تعبيس الوجه على واحد من المسلمين ـ أولى ، ولكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجد منه هذا النوع من الإيثار ؛ اجتهادا ورأيا ، والأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ قد جاءهم العتاب من الله ـ تعالى ـ بتعاطيهم أمورا لم يسبق من الله ـ تعالى ـ لهم الإذن في ذلك ، وإن كان الذي تعاطوه من الأمور أمورا محمودة في تدبير الخلق ؛ نحو ما عوتب يونس ـ عليه‌السلام ـ وعوقب بمفارقة قومه بغير إذن ، وإن كان مثل تلك المفارقة لو وجدت (١) من واحد من أهل الأرض ، استوجب بها الحمد ، وحسن الثناء ؛ لأن تلك المفارقة لا تخلو من أحد (٢) أمور ثلاثة :

أحدها : أن قومه كانوا أهل كفر ، وكانوا له أعداء في الدين ، ففارقهم ؛ لينجو منهم ، ويسلم له دينه ، ومثل (٣) هذا لو وجد من غير الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ عد ذلك من أفضل شمائله.

والثاني : أن في مفارقته من بين أظهرهم تخويفا لهم وتهويلا ؛ لأن القوم [من قبل](٤) كان لا يفارقهم نبيهم من بين أظهرهم إلا وقتما يريد أن ينزل بهم العذاب ؛ فكان في مفارقته إياهم تخويفهم وتهويلهم ، فيدعوهم ذلك إلى الانقلاع عما هم عليه من الضلال ، والفزع إلى الله ـ تعالى ـ ومن خوف آخر بأمر يكون فيه دعاؤه إلى الهدى وردعه عن الضلال ، فقد أبلغ في النصيحة ، واستقام على الطريقة.

والثالث : أنه يفارقهم ؛ ليستنصر بغيرهم [فينصرونه عليهم](٥) ، ويتقوى بهم ؛ ليكون على دعائهم إلى الإسلام أمكن وأقدر ، ومن كانت مفارقته من قومه على هذه النية ، فلنعم المفارق هو ، ثم عوتب مع هذا كله ، وذكر الله ـ تعالى ـ في الكتاب قصته للوجه الذي ذكرنا ؛ فكذلك الوجه في معاتبة نبينا محمد [عليه أفضل الصلوات وأكمل التحيات](٦).

ومنهم من ذكر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يقصد إلى تعبس الوجه على ابن أم مكتوم ، ولا تولى

__________________

(١) في ب : وجد.

(٢) في أ : إحدى.

(٣) في ب : وقيل.

(٤) سقط في ب.

(٥) في ب : فينصرونهم عليه.

(٦) بدل ما بين المعقوفين في ب : صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٤١٨

عنه عمدا لذلك ، لكن لما قطع عليه حديثه ، وكان فيه قطع رجاء إسلام أولئك القوم ، شق ذلك عليه ، واعتراه (١) من ذلك هم شديد ، أثر ذلك في وجهه ، لا أن كان منه ذلك على القصد.

[ووجه آخر](٢) أن يقال : إن الله ـ تعالى ـ جعل في قلبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الشفقة والرحمة على العالمين حتى بلغ من شفقته (٣) أن كادت نفسه تذهب على من أعرض عن دين الله ـ تعالى ـ والإيمان به حسرات عليه ، وحتى قيل له : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ٣] ، وقال : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) [النحل : ١٢٧] ، وقال : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) [فاطر : ٨].

وتأويله : ألا تحزن بمكانهم كل هذا الحزن ؛ فيكون فيه تخفيف الأمر عليه ، لا أن يكون فيه نهي عن الحزن وعن الحسرة ؛ ولذلك قال : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ) [التحريم : ١] ، ومعناه ـ والله أعلم ـ : ألا تحمل نفسك كل هذا التحميل حتى تمتنع عن الانتفاع بما أحل الله لك الانتفاع به ؛ طلبا لمرضاتهن ، لا أن ينهاه عن ابتغاء مرضاتهن ؛ بل قد ندب إلى ابتغاء مرضاتهن بقوله : (ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَ) الآية [الأحزاب : ٥١] ، فجائز أن يكون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اشتد عليه إعراض أولئك القوم عن الإيمان ، وكبر ذلك عليه حتى تغير لون وجهه ؛ فظهرت عبوسة وجهه ؛ فنزل قوله ـ تعالى ـ : (عَبَسَ وَتَوَلَّى. أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى) يبين شدة ما اعتراه من الهم حتى أثر ذلك في وجهه ، لا أن يكون فيه مذمة ومنقصة له.

ثم في هذه الآية فوائد أخر :

إحداها : جواز العمل بالاجتهاد ؛ لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعل هذا النوع من العمل اجتهادا ، لا نصا ؛ إذ لو كان الإذن بالتولي والتعبس سائغا ، لم يكن يعاتب بفعل قد أمر به.

فإن قيل : كيف لا تدل المعاتبة على النهي [عن إقدامه على](٤) مثله ؛ فيحرم عليه الاجتهاد؟

قيل له : لو كان هذا نهيا ، لم يكن يعود إلى العمل بالاجتهاد بعد ذلك ، وقد وجد منه ـ عليه‌السلام ـ العود ؛ لقوله : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) [التوبة : ٤٣] ، وبقوله :

__________________

(١) في ب : فاعتراه.

(٢) في ب : وجه أخرى.

(٣) في ب : شفقة.

(٤) في أ : على إقدامه.

٤١٩

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) [التحريم : ١] ، فثبت أنه ليس فيه نهي.

وفيه أن الكافر وإن كان مبجلا معظما في قومه ، فليس على المؤمنين أن يعظموه ويبجلوه ، بل يسترذل ويستخف به ، وأن المسلم ينبغي أن يعظم ويكرم ، وإن كان حقيرا في أعين الخلق.

وفيه آية رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودلالة نبوته ، وأنه لم يختلق هذا الكتاب من عند نفسه ؛ لأن من يتعاطى (١) فعلا حقه الستر ، فهو يستره على نفسه ، ولا يهتك عليها الستر ؛ لئلا يذم عليه ، فلو لم يكن مأمورا بتبليغ الرسالة لكان يجتهد في الستر على نفسه ، ولا يبديه للخلائق ، ولكنه كان رسولا لم يجد من تبليغه إلى الخلق بدّا ، فبلغه كما أمر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) ، «لعل» من الله ـ تعالى ـ واجب.

وقوله : (يَزَّكَّى) ، أي : يتزكى (٢) بعمله ونيته وقوله.

وفي هذه الآية قضاء بإبطال قول من زعم أن جميع ما في القرآن : (وَما يُدْرِيكَ) فهو مما لم يدره ؛ يروى ذلك عن سفيان بن عيينة ـ رضي الله عنه ـ وغيره ؛ لأنه قد أدراه هاهنا بقوله : (لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) و «لعل» من الله تعالى واجب ، وإذا جعلته واجبا فقد زكاه ، وإذا زكاه فقد علمه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى) يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون يتذكر بتذكيرك إياه ؛ فينتفع بتذكيرك.

والثاني : أن يتذكر فيما ذكرته من العواقب وما يحق (٣) عليه في حاله ؛ فينتفع به ؛ فتكون المنفعة في التأويل الأول بالتذكر (٤) بنفس تذكير الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي التأويل الثاني بتذكره فيما ذكره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى) ، أي : بما اختار هو عما جئت به من الدين.

أو استغنى بالذي زين له (٥) الشيطان عما جئت به.

أو يكون على الغناء المعروف ؛ لأن الذين أقبل عليهم بوجهه كانوا أهل ثروة وغناء ، فأقبل عليهم ؛ رجاء أن يسلموا فيتبعهم أتباعهم في الإسلام ؛ إذ كانوا من رؤسائهم وأجلتهم.

__________________

(١) في ب : تعاطى.

(٢) في ب : تزكى.

(٣) في أ : وما نحن.

(٤) في ب : بالتذكير.

(٥) في ب : به.

٤٢٠